الجمعة، 1 فبراير 2013

الخطاب الديني: هل حان الوقت لتطويره بنفس الجرأه والشجاعه التي ثارت بها الشعوب؟ (2)

مع منتصف القرن العشرين كان الناس يحكمون علي درجة تحضر بلد ما من خلال الطريقه التي يتعامل بها الساسه مع شعوبهم بحيث ان السياسي الذي يضع نصب عينيه القيام بمسالك تنطوي علي خدمة مارب عامه ينحاز فيها الي الضعيف والمحتاج والمظلوم–حتي قبل ان يبادر بالشكوي- هو سياسي محب لوطنه ويعيش في بيئه علي درجه عاليه من التحضر والوطنيه والثقافه الانسانيه

اليوم يحكم الناس علي درجة تحضر بلد ما من خلال الطريقه التي يتعامل بها الساسه مع الطبيعه فنجد البلدان المتحضره تضع البيئه في جدول اولوياتها فتعتني بنظافتها وصحة مخلوقاتها سواء التي يقتنيها الناس في بيوتهم ومزارعهم او تلك غير المستأنسه التي تعيش في العراء

فاصبح الحيوان والنبات-كالبشر-ينعمم اليوم في البلدان المتحضره بحياة اطول وصحه افضل فما منهم الا ويجد من يعتني به هو بمثابة صديق شخصي له يطعمه ويفحصه فيشخص له علته ويقدم له العلاج وكيفما كان المرض فان فرصته للشفاء التام اصبحت اكبر: فمع تنامي العلم اصبحنا نعيش غمار ثوره عظيمه في الطب البيطري فلا احد في البلدان المتحضره يتحدث اليوم عن العوده الي العلاج بالعسل او حليب الماعز او الحجامات او شرب بول الابل او قراءة الرقي والتمائم لطرد العفاريت وخلافه وانما اصبح السؤال الذي يدور اليوم في اذهان العلماء هو: وماذا بعد؟ هل يمكننا حقا ان نقضي قضاءا مبرما علي جميع الامراض المستعصيه ونستدعي-من ثم-احلام الخلود؟ (تذكر انه يعيش بيننا اليوم ملايين الحيوانات الضاله من كلاب وقطط (وبشر؟): وتذكر انه حتي هذه الحيوانات تحصل علي نصيب وافر من الرعايه في البلدان المتحضره)

 وبشكل عام يمكننا ان نتعرف علي ثلاثة مدارس رئيسيه للفكر السياسي: الاولي هي المدرسه الفلسفيه وهي مدرسة توماس مور وقديما فلاسفه عظماء كسقراط وافلاطون وارسطو والفارابي وغيرهم وهي المدرسه المعنيه بعلاقة السياسه بالفلسفه وبمجالات اخري كالتاريخ وعلم النفس والاجتماع والاخلاق والميتافيزيقا الخ وتقوم علي اعلاء المبادئ الفكريه والمثاليات اثناء ممارسة العمل السياسي وعيب هذه المدرسه انها قد تجنح عن الواقع حتي تنفصل عنه في نهاية المطاف ومن ثم تتفرغ لتناول امور خياليه وغير منطقيه

الثانيه هي المدرسه القانونيه وهي مدرسه جان بودان وتقوم علي اعلاء المبادئ القانونيه اثناء ممارسة العمل السياسي فتعتني تلك المدرسه اكثر بالحقوق والمساواه امام القانون فيدور البحث غالبا حول الشرعيه والسلطه والسياده ومصدرها والياتها وطبيعة العلاقه بين المؤسسات الدستوريه المتاحه وموقع المواطن وصاحب القرار السياسي فيها ومن خلال المفهوم القانوني الضيق بما يجعل السياسه–بل الدوله باسرها–تحت تأثير مجموعة من الاحكام والبروتوكولات المفروضه بقوة القانون والتي تحرك-او لا تحرك-المجتمع : وعيب هذه المدرسه ان افراد المجتمع قد لا يستغنون عن القانون في كل امور حياتهم مما يحولهم-في نهاية المطاف-الي مجموعه من الاليات اذ يأتي التعليم والتربيه وفقا لهذا الفكر في مرتبه متدنيه

واخيرا المدرسة الواقعيه والتي تعتني بالعمليه السياسيه من حيث انها تفاعل متبادل بين الفاعلين الرئيسيين في الواقع السياسي والاجتماعي علي طريق صنع القرار من مؤسسات ومنظمات علي اختلاف مشاربها كالاحزاب والنقابات وجماعات المصالح وقوي الضغط والائتلافات الثوريه والنوادي الاجتماعيه والرياضيه والمؤسسات الدينيه والاعلاميه والقضائيه والتشريعيه والتنفيذيه اضافه الي الافراد والذين يلمعون او يخفتون وفقا لدرجة مشاركة كل منهم في هذه المؤسسات والمنظمات: وبذلك تركز تلك المدرسه علي الدور الذي يقوم به كل من هؤلاء وانشطتهم من حيث التأثير والتأثر: واهم رواد هذه المدرسه هم بيجوت وولسون وبرايس وبنتلي: وعيب هذه المدرسه انها تتصف ببراجماتيه استفزازيه تؤسس-وترسي-لبيروقراطيه فاسده جافه ثابته متحجره ممله لا يتغير شكلها: وفي الدول الفاشيه الشموليه حيث يجبر السواد الاعظم من الشعب-بصوره او باخري-علي الانضمام الي حزب الحاكم (وهو الحزب الوحيد المتاح غالبا): يتخذ العمل السياسي قالبا ايدولوجيا منغلقا علي العنصر والثقافه والدين قائم علي معاداة دول بعينها (وبالتالي سياسه خارجيه-ودبلوماسيه فاشله او-ذات فاعليه محدوده) ثم حشد الجميع خلف راية السلطه والسياده والدوله المركزيه "الامن القومي" الشمول و"طغيان الاغلبيه" ليميل المجتمع-نتيجة لذلك-الي قمع-وسحق-الافراد والتنظيمات المعارضه واضطهاد الاقليات العرقيه (ولنا ان نتساءل هنا عن المقصود بالاغلبيه واذا ما كانت اغلبيه حقيقيه فقد ينتهي الامر بعزل المجتمع تماما وانطوائه بعيدا عن عملية اتخاذ القرار لتصبح قاصره علي الحاكم وعصابته فتهوي معدلات المشاركه السياسيه الي ادني حد لها وكما حدث في مصر وغيرها طوال السنوات الستين الماضيه):

وهكذا اذا كنت مهتم حقا بتعريف جامع شامل للسياسه يضع في الاعتبار جميع الجوانب (اقتصاديه واجتماعيه وتشريعيه الخ) فانه يمكنك ان نستحدث لنفسك مزيج مشتق من كل هذه المدارس مجتمعه: وبحيث يمكن للسياسي–او المشرع- ان يتصور درجة المساهمه المطلوبه لكل جانب من هذه الجوانب في البناء السياسي فلا يولي اهميه متناميه لجانب علي حساب جانب اخر او ينقضه تناقضا صارخا يقصيه ومن ثم نحصل علي التوازن المطلوب

والاهتمام بالجوانب القانونيه والاقتصاديه علي حساب القيم والمفاهيم الفكريه غالبا ما يؤدي الي انحصار السياسه-والمطالب الشعبيه-في مجملها في الامن والتشريعات ومجموعة المصالح الاقتصاديه المتداوله فينتهي الامر بان تسود القيم الاقتصاديه والقانونيه وحدها بعيدا عن القناعات العقليه وبواعث الروح الانسانيه (الي ان يظهر احد المختلين عقليا ليدعي لنفسه "سلطه تأسيسيه" محصنا قراراته من احكام القضاء)

وفي هذه الحاله قد يصبح القول بان "السياسه هي فن الممكن" ممكنا فعلا طالما انها ستكون فنا للممكن العام وليس الممكن السياسي او الاقتصادي او القانوني كل علي حده (مع الوضع في الاعتبار مقتضيات الحقبه الزمنيه التي يمر بها المجتمع وما هو مأمول مستقبلا فالمجتمع الذي يمر بثوره او عملية تغيير مثلا لا يمكن ان يتحجر بطموحاته عند حدود الممكن الواقعي: والا ستكون النتيجه ان تنفصل الفعاليات السياسيه والقانونيه عن فعاليات التغيير وتصبح بمنأي عنها واحيانا في تضاد والي ان تستقر المبادئ الجديده في صميم مكوناتها)

وهو ما قد يقودنا الي مفهوم التحضر او التمدن Civilization وهو مفهوم مرتبط اساسا بقدر ما تبذله الدوله من جهود وما توفره من فرص لبناء–وصيانة-اكبر عدد ممكن من المجتمعات المتطوره المنتجه القادره علي تحقيق اهداف التنميه: وبحيث تحفظ تلك المجتمعات لقاطنيها من الافراد حرياتهم وحقوقهم واحتياجاتهم الاساسيه من تعليم وصحه ومسكن وعمل وعدل وخبرات اتصال: ومن هنا يظهر دور الحكومه وهو التأكد من ان هذه العمليه تجري في الاتجاه الصحيح بمنأي عن ذلك الصراع الازلي بين الماضي والحاضر: الحضر والريف (او الباديه) واقناع الناس بالتحضر اكثر من مجرد نشر ثقافه لتحل محل اخري

ولقد تعرفنا من كتب التاريخ علي العديد من المدن العظيمه والتي كانت بمثابة الصخره الصلبه التي بني عليها الملوك القدامي انظمة حكمهم وحضاراتهم: مدن مثل بابل Babylon ونينوي Nineveh ودمشق وخيتنا (قطنا) ومنف Memphis واون On (هيليوبوليس Heliopolis) وطيبه Thebes واورشليم واثينا وروما اضافه طبعا الي مدن عديده ظهرت في فترات اخري لاحقه مثل الاسكندريه والقسطنطينيه وقرطاج وقرطبه وبغداد والقاهره: وبحيث ظلت تلك المدن–وما استجد منها-تتنافس في صنع الحضاره ونشرها اشبه بحجر كريم يضفي علي كل ما حوله من معادن اخري قيمته فيما يستمد وهجه هو من مكونات مادته الخام: او شجرة فتيه تتكئ علي كنز ضخم من الخصوبة فيما تستمد عافيتها من خلال قدرتها علي الاثمار والانتشار

فكان كلما استحال علي هؤلاء الملوك صيانة مكونات الحضاره القائمه او التكيف مع الافكار والمشاعر والقيم والمهارات والخبرات الطارئه اذا باهل هذه المدن انفسهم يثورون عليهم او يهجرونهم منتقلين الي اماكن اخري اكثر وفره وحداثه

ولنتصور كيف ان يمكن ان يكون الدافع الحضاري محركا جبارا لكل ثوره او حركة وطنيه وبشكل يمكن ان يفوق كل الاهداف مجتمعه سياسيه او اقتصاديه

ولعل الدافع الحضاري هو الذي دفع اخن-اتون-ويبدو انني سوف اتحدث عنه لفتره-الي ان يتنازل عن الكثير من احلامه ورغباته ويقبل بالخروج-واتباعه من عاصمة ملكه (طيبه) فاختار منطقه تتوسط المسافه بين الشمال والجنوب كانت–حتي ذلك الوقت- لا تزال ارضا بكرا خاويه من السكان وهناك شيد مدينته الجميله "اخت-اتون" (وهو المكان الذي نطلق عليه اليوم "تل العمارنه" بمحافظة المنيا ولا يخفي لماذا اختار اخن-اتون هذه البقعه بالتحديد فقد كان يرغب فيما يبدو في ان يلعب دور "العزول" الذي قد يعطل اي وحده سياسيه قد تقوم بين الشمال والجنوب في غيابه!): ولا تزال بقايا هذه المدينه شاهده علي حلم اخن-اتون: والدارس الجيد لتلك الحقبه يلاحظ كيف ان اخن-اتون جعل تخطيط مدينته مؤسسا علي الاكثار من الطرق والحدائق فيما لم يقسم المدينه الي قسمين احدهما للنبلاء والاخر للعامه بل حرص كل الحرص علي ان تتجاور المنازل الصغيره جنبا الي جنب مع القصور الشامخات في تناسق واحد فريد: في الوقت الذي جعل فيه قصره-ومعبده-مزارا وملاذا مفتوحا متصلا اتصالا وثيقا بحياة الناس فيما يشبه الاشتراكيه-الديموقراطيه بمفهومها الحديث: واكثر من ذلك لم يحصن مدينته-علي اتساع رقعتها-باسوار وابراج مراقبه كما كان رائجا في زمنه (ما يوحي ان سكان المدينه كانوا اناس سعداء مطمئنين وانهم لم يكونوا ابدا في موقف تراجع او دفاع عن النفس وانما في موقف مبادره واستقبال لمزيد من الوافدين)

ولنتأمل المشهد: جو ملبد ومشحون بكل عوامل التعصب والكراهيه في طيبه حمل عداء مرير لاخن-اتون وبحيث كان الشعار الاوحد هو طمس كل اثر لدعوته واضطهاد كل من يتجرأ علي الجهر بها متوعدين بقتله: فليس من شك ان الهوه التي نشأت بين اخن-اتون واعدائه قد اتسعت وبلغت حدا من السوء بحيث اصبحت حياتهم معا-في مكان واحد-جحيما لا يطاق جعل كل طرف يرغب في القضاء علي الاخر قضاءا مبرما بل ومحوه من الوجود  وهكذا اصبح الكهنه لا يألون جهدا من اجل تقليب الناس علي اخن-اتون ومحو اسمه والقابه الملكيه الي حد انهم كفوا تماما عن تداول اسمه في احاديثهم واستبدلوه بسباب مثل الكافر والمارق والمرتد والملحد والخائن الخ (وكان ظنهم فيما يبدو ان الفرعون الشاب (المعروف-سابقا-بحبه للترف والشهوات) سيعود حتما الي دين ابائه وانها مسألة وقت (فللقديم سحره حسب البعض!) الا ان الفيلسوف الشجاع سديد الرأي مرهف الحس خيب ظنهم واظهر عزيمه وبعد ان ضاق ذرعا بكذب الكاذبين وكبر المتكبرين ومكر الماكرين وقد قامت فلسفته اساسا علي مقت الكذب والظلم وانشاد الحق والعدل في كل شئ)

واذ يرنو اخن-اتون ببصره فاذا به يري عدد من عائلته وقد عزلوا ونهبوا وشردوا او ارتدوا وعادوا الي طيبه متعلقين بامل خلافته علي العرش وهو بعد حي: ثم يسرح ببصره مرة اخري فاذا به يري دولته المترامية وقد بدأت تضعف وتتضاءل رقعتها وتنقسم الي ممالك صغيره انفصلت عن سلطة الحكومه المركزيه في الوقت الذي اصبحت فيه خزانته شبه خاويه بعد ان انقطع ورود الجزيه من المستعمرات

ونحن اذ نتحدث عن مصر اخن-اتون فاننا نتحدث عن امبراطوريه عظيمه اخضعت العالم القديم فكانت طيبه مركزا لسياساته وتجارته: ولابد وان اوضح هنا ان العلاقه بين مصر الوادي وجيرانها كانت دوما علاقة تأثير وتأثر نتيجة الاختلاط الذي شاع قديما في تلك البقعه من العالم ولالاف السنين: اذ حرص الفراعنه المصريون علي ان يفتحوا ابوابهم لاعراق وديانات وفنون ولغات متعدده فيما كانوا يستقدمون الامراء ورؤساء العشائر من الممالك الخاضعه لسلطانهم-مع ماتم نهبه طبعا مما خف وزنه وغلا ثمنه- ليدرسوا في مدارس الوادي بغرض ان يصبحوا رسلا للثقافه المصريه اذا ما عادوا الي بلادهم فيضمنون بذلك ولاءهم (فمقولة "عمار يا مصر" لها تاريخ! وهناك ادله علي صنوف من الرقص والموسيقي والغناء والمخبوزات والخمور والزيوت والفواكه والعطاره وفدت الي وادي النيل في ذلك العصر ومكثت حتي ذابت في الثقافه المصريه بمرور الزمان فتوارثها المصريون ونقلوها الي احفادهم كابر عن كابر بصفتها جزء اصيل من التراث المصري)

وان كثير من الخلطاء ليفصلون وقائع التاريخ عن احداثيات الجغرافيا فما نلبث ان نراهم ينتهون-عند تفسيرهم للاحداث-الي استنتاجات تحتاج–في رأيي-الي مراجعه: وعلي سبيل المثال يتصور البعض ان الدوله المصريه كانت-وفي كل العصور- المساحه التي نرسمها اليوم في خرائطنا ووفقا للاسم الشعبي المتداول حاليا (مصر): والحق ان الممالك والدول القديمه انما كانت تتسمي باسماء ملوكها او عواصمها او وفقا لاسم الاتحاد الذي ينشأ بين الممالك-او الالهه -الرئيسيه برئاسة الفرعون (او الامبراطور او السلطان): فدولة الملك مينا مثلا كان اسمها الرسمي "مينا" او "نار-مر": اضافه الي "منف" و"طوي" Tawy وتعني اتحاد او مزاوجه بين مملكتين والمقصود هنا مملكتين رئيسيتين: (1) مملكة الجنوب وهي المساحه التي تجمع اليوم ما بين محافظات الاقصر واسيوط وسوهاج وغيرهم: (2) مملكة الشمال وهي المساحه التي تجمع اليوم محافظات دلتا النيل (وفي عصر الملكه حت-شب-سوت-جدة اخن-اتون-نمت الدوله وامتدت الي بلاد بونت جنوبا (اثيوبيا والصومال وكينيا حاليا): كما امتدت شرقا الي ضفاف نهر الفرات وغربا لتشمل حوض البحر المتوسط باكمله او "الساحل الفينيقي" فيما اصبحت طيبه-رغم انشائها الحديث نسبيا هي المقر الدائم للفرعون او "الباب العالي" ولم تكن قبل ذلك-اي قبل نجاح اخ-موس في طرد الهكسوس وعودة الوحده-مرة اخري-بين الشمال والجنوب-سوي احدي المدن الرئيسيه اللواتي تبادلن الحكم في مملكة الجنوب): اما اسم "مصر" فهو اسم عبراني ينسب الي انسان اسمه مصرايم بن حام تعتبره التوراه الجد الاكبر لاول من استقروا بمصر من ابناء ادم: اما كلمة "قبط" او "ايجيبتوس" فمشتقه من "كيمي" kīmi وهي كلمه اغريقيه تعني "الارض السوداء" او اللون الذي تميزت به ارض الوادي وهو نتاج الطمي الذي كان يأتي مع النهر من الجنوب وحتي منتصف القرن العشرين:

والحق ان حالة الانهيار التي اصابت السياسه المصريه في عصر اخن-اتون كانت شامله اذ لم تقتصر الانقسامات علي المستعمرات فقط وانما تعدته الي ربوع الوادي حيث تصاعدت النعرات وتنامت العصبيات ومعها اوجه الاهمال الي حد ان بعض ملوك المستعمرات تجرأوا واعتدوا اعتداء مباشر علي "الوادي المقدس" نفسه! وكثيرا ما وجدت مصر نفسها طوال قرون عديده وقد اصبح عليها ان تكافح-في كل مره-من نقطة الصفر-كيما تستعيد عافيتها: فلم يكن اخن-اتون وحده المسئول عما الت اليه الامور وانما ظروف عديده لها علاقه بارث ضخم متراكم من الظلم والطغيان: ويشهد التاريخ أن الفرعون الاب هو اول من استقبل رسائل الاستغاثه التي ارسلها اليه ملوك وامراء الميثاني وبابل واشور وسوريا وكنعان الخ طلبا للنجده (لمواجهة النزعات الانفصاليه التي تفشت في مدنهم): ويشهد التاريخ ايضا انه كان يسد اذنيه ولا يستجيب لطلباتهم! ولعله لم يعد قادرا علي ذلك: فقد شابت سياسات امون-حتب الثالث العديد من التصرفات غير المسئوله والتي دامت طوال فترة حكمه (عقود ثلاثه) بداية بالتعامل مع مصر-والمصريين-كما لو كانت "العزبه" الخاصه والبقره الحلوب التي تجلب له-ولاهله-المتع والثروات من مال وعبيد وجواري وخلافه الي حد ان سنته تلك تحولت مع زمرته من الامراء والنبلاء وقادة الجيش والكهنه الي ثقافه وبجهود ذاتيه! (بما يفسر لماذا ادخر هؤلاء كل هذه النقمه تجاه اخن-اتون اذ بدا الامر وكأنه يحاول التدخل لفرض تغيير ما علي الثقافه المصريه فكان هذا ولا شك بمثابة صفعه دنيئه او صب للماء البارد علي رؤوسهم وهم مكلفين-وفقا لقناعاتهم-بالحفاظ علي الهويه والشريعه والشرعيه الخ)

وهي ليست المره الاولي-علي اية حال-التي يحاول فيها كهان امون المتشددين التدخل في الحياه السياسيه فقد حصل مثل ذلك قبلها بعقود عندما تحدوا حت-شب-سوت وعزلوها بالتضامن مع شريكها في الحكم تحت-موس الثالث بسبب انها كانت اكثر انفتاحا علي ثقافات اجنبيه وبالقدر الذي هدد-من وجهة نظرهم-الهويه المصريه: ولابد وان اوضح هنا ان جهود كهان امون النهمه انصرفت-بداية بالاسره 18-الي توطيد سلطانهم ومضاعفة ثرواتهم حتي تمكنوا في عقود قليله من الهيمنه علي كل شئ تقريبا فاصبحت رؤيتهم هي المفسر الرئيسي  لكل من اللاهوت الديني والحياه العامه علي حد سواء: وكان علي رأس المتذمرين طبعا كهنة رع وسدنتهم في منف واون وبعد ان اهملت معابدهم وهجرت مدارسهم (وعندهم مدارس العلوم والفنون العريقه والتي تتلمذ فيها- الامراء والملوك لقرون ولديهم-ايضا-المزارات المقدسه (الاهرامات وغيرها) ذات التكريم المبجل والماضي المجيد والمجد التليد): وما غاب عن كهنه امون-او تعمدوا اغفاله- هو ان اللاهوت المصري لم يكن في يوم من الايام منفصلا عن تاريخ الفكر الانساني (وان كانت حصتة فيه اكبر): وان ديانة اتون لم تكن–في واقع الامر-سوي مزيج عصري ما بين الاجنبي والمحلي (وان كان حصه ما انتحلته من المحلي اكبر)

وعلي اية حال اختلفت الاراء حول منشأ ثورة اخن-اتون واهدافه من ورائها وهل كانت وليدة اختلاف في وجهات النظر بينه وبين الكهنه: ام ان الامر تعدي ذلك الي تنافس سياسي مع رجال القصر: ومع ذلك قد يأتي من يؤكد ان ديانة اتون لم تكن من وحي فلسفتة وانما نتيجة الهام سماوي تنزل علي نبي اخر (توراتي) تصادف ظهوره في ذلك العصر (انتحله اخن-اتون لنفسه) استنادا الي ذلك التشابه العجيب بين فقرات من انشودته وايات من مزامير داوود النبي: فاعتبر البعض اخن-اتون نبيا مزعوما واعتبره البعض الاخر فرعون موسي نفسه! وعلي الرغم من افتقار تلك الاراء الي الادله الا ان هناك ما يكفي من الاثار لكي يعتقد الانسان ان اخن-اتون قد عاش في عصر يسبق عصر داوود وبالتالي فان نشيده هو الاصل:

وبقراءه سريعه لكتاب يوشع بن نون نجد انه يخصص السفر السابع والثامن بالكامل للحديث عن معركه رئيسيه خاضها يوشع ضد مملكه وثنيه قديمه يقال لها "اي" AI وبحيث انتهت هذه المعركه-وبعد طول قتال-بانتصاره فيها قبل ان يتمكن من ابادة اهل المدينه عن بكرة ابيهم واسر عدوه وشنقه ثم دفنه بعد ذلك "حتي اذا غربت شمس ذلك اليوم امرهم ففكوا جثمانه من الشجره ودفنوه عند بوابة المدينه واقاموا فوقه ركام عال من احجار" (8:29 يوشع): ولقد عرف التاريخ "اي" ملكا مطعون في شرعيته جلس علي عرش طيبه-بعد وفاة توت مباشرة-ما يقرب من سنوات ثلاث وقبل ذلك كان مقربا من اخن-اتون ومن زمرة المتحولين الي دينه (قبل ان يعود الي القديم): فهو احد ثلاثه-الي جوار صديقيه المقربين "حور-محب" (قائد الجيش) و"رع-موسيس" (الوزير الاول)-عاشوا حياتهم يدينون بالولاء لامون-حتب الثالث: وفي كتب التاريخ اختفي اخن-اتون بصوره مفاجئه-وغامضه-دون ان نعلم ما حدث له ليخلفه علي عرش طيبه الملك توت-وانا املك مشاعر تجاه هذا الشاب-والذي كرس فترة حكمه بالكامل-او كما بدا علي الاقل-لاجهاض ثورة سلفه: والارجح ان رجال القصر (اي وحور-محب ورع-موسيس) تصوروا انهم اصبحوا في حل من ولائهم للفرعون بعد موت الاب-وثورة الابن - فارادوه حلا سريعا لتهدئة الموقف فالتجأوا الي الصبي المسكين وفي نيتهم تحريك الاحداث من وراء الستار-بالتضامن مع الكهنه طبعا-في اتجاه توريث العرش فيما بينهم وبحيث يخلف احدهم الاخر!

ومما يؤسف له ان احد لم يعثر حتي الان علي جثمان اخن-اتون بصوره قاطعه فهو لم يدفن في المقبرة التي نقرها لنفسه في اخت-اتون ولكن العلماء عثروا-وكما هو معروف-علي مقبرة خلفه واكتشفوا من خلال الفحص الدقيق انه ربما يكون قد اغتيل في حادث مدبر: ورأيي ان هذه الجريمة-اذا صح ان نسميها جريمه-حوت في جنباتها لحظه فارقه-وعصيبه-من ظروف التحول الكبري في تاريخ مصر-والعالم-والقت بظلالها-بالتالي-وبصوره محوريه-علي الشخصيه المصريه-وكل ما تلا ذلك من احداث والي اليوم (ولعل اخن-اتون استطاع في النهايه استمالة اهل الشمال الي صفه في حربه مع طيبه ولعله لم ينجح في ذلك فاغتيل وانتهي كل اثر له: ايا كان الامر فان قصة اخن-اتون-او مأساته- تذكرني كثيرا باسطوره "فايتون" اليونانيه والتي تروي كيف ان ابن "فايتون" الاله فويبوس قائد مركبة الشمس سأل اباه ان يتركه يقود المركبه مع وعد بانه سوف يصل بها الي بر الامان فلما فعل احترقت واحترق معها!) 

اما البطالمه فنحن نتحدث عن اناس حرصوا-ومنذ البدايه-علي تأسيس حضاراتهم بشكل علمي مرتب فما لبثوا ان انشأوا المدارس والمكتبات واقاموا الموانئ والاساطيل ومن ثم حرصوا علي اقامة قنوات اتصال-وتجاره-ناجحه مع الجيران فازدادت ثرواتهم ونمت علومهم وخبراتهم ومعها رغبه قويه في علاقات اكثر انفتاحا مع دول العالم خاليه من الاحقاد: وهكذا اصبحت عاصمتهم (الاسكندريه)-وبعد قرن واحد فقط-عروس البحر المتوسط ونقطة التقاء الشعوب والحضارات (ويعجبني كثيرا ذلك الوصف الذي وصف به احد المؤرخين القدماء تلك الوحده التي جمعت شعوب المتوسط خلال هذه المرحله حيث شبهها بالقيثار ذي الاوتار المشدوده بدرجه واحده اذا ما ارتخي احد الاوتار زال الانسجام فيما بينها):

ويقال علي ما ذكره البعض ان مكتبتي السيزاريوم والسيرابيوم حوتا ماده ضخمه من المؤلفات في كل مناهج العلم فكانتا مقصدا للعلماء وبحيث ركزوا جل اهتمامهم علي قراءة لفائف العلم وتدارسها والاقتباس منها ثم اعادة صياغة ما اقتبسوه في مؤلفات جديده كانوا يهيبون بالحكام في مقدماتها ان يستطلعوا رأي العلم قبل رسم السياسات واصدار الاحكام كما كانوا يستطلعون اراء المستشارين من الفلاسفه والنبيين Oracles: فلئن كانت الحقبه البطلميه الخليقه بالاعجاب تتسم بظاهره فانما في العنايه التي وجهها الناس الي التعليم والعلماء بحيث لم تقتصر الدراسه علي التراث الاغريقي فحسب بل تخطته الي مصادر التراث الانساني من كل حدب وصوب وبحريه كامله (ومنه ما كان قد اندثر كل اثر له في وطنه الام): فكان ذلك بمثابة نشوء الشراره الاولي لما نسميه اليوم ثورة المعلومات (والديموقراطيه؟): وقد كانت عملية الاطلاع نفسها تمر-في اماكن اخري-بشروط معقده للغايه بما يحيطها بالكثير من السريه والحظر: وهناك قصه طريفه تتحدث عن زيارة قام بها فيثاغورس الي مصر في عصر الملك اماسيس (حوالي 500 ق م) حيث قابل هناك كهنه من منف واون وديوسبولس املا في ان يسمحوا له بتحصيل العلوم في مدارسهم غير انهم رفضوا ان يقبلوه الا بعد امتحان وفعلا خضع فيثاغورس لامتحان مطول في المدن الثلاث لزمن غير قصير ويقال انهم بالغوا في امتحانه فسألوه اسئلة عسيره وطلبوا منه واجبات لا يعلمها الاغريق وتخالف عقائدهم كيما يمتنع ويعود الي وطنه غير انه اصر علي الاستمرار الي ان قبلوه علي امل ان يجدوا سببا لرده! وفيثاغورس–لمن لا يعرف-هو عبقري زمانه ليس في الرياضيات فحسب فقد كانت له اراء فلسفيه وطبيه بل ولاهوتيه مهمه وهو اول من قال بدوران الارض حول الشمس واول من تخيل الكون-والطبيعه-خاضعين لقوانين الرياضيات)

وقد تكون ملاحظه جديره بالتأمل ان نعلم ان الانبياء-كمعلمين اخلاقيين- اتبعوا نفس خطوات البناء الحضاري تقريبا التي اتبعها البطالمه مع فارق وهو انهم استفادوا من الافكار والقيم الروحيه الاصيله التي ابلغتها وانفردت بها الرسالات السماويه

والمفارقه انه علي الرغم من ان معظمهم سمعوا كلمة الله الحيه اثناء رحلات تأملهم في الصحاري المقفره الا انهم عندما عادوا الي المدن المكتظه بالسكان اذا بهم-في مواجهة كل الشكوك-يبشرون بمجتمعات حره متحضره: ولذلك لم تكن الاديان عند ظهورها اديان ريف وبداوه كما لم تكن اديان طبقه ثريه وانما طبقه وسطي متعلمه واجهت-وظلت تواجه-الطغاه الفاسدين المنفصلين عن شعوبهم من اولئك الذين كانوا اساري روح مغلله بالذاتيه تسعي ولفتره طويله وراء مطالب حسيه بحته لا تعبئ بضعيف ولا تنصر مظلوم ولا تعطي محروم

وهكذا لم ينفصلوا في اي وقت بافكارهم ووصاياهم-بل خوارقهم وكراماتهم-عن دوافع الروح الانسانيه ومعايير المنفعه العامه وقوانين الزمان والمكان: فكان الانبياء بذلك ابناء عصورهم من خلال الدور الذي لعبوه جميعا لصالح نمو الحضاره وتطورها ورقيها فهم-الي جوار الجانب اللاهوتي-فلاسفه وقضاه واطباء قضوا حياتهم مهتمين بعلاج النفس البشريه وتحرير العقول والضمائر وفقا لاعتبارات مرعيه اعتمدت-وبشكل اساسي-علي سبل المحاججه العقليه وبحيث لم تنحرف النصوص عن العقل بما يرهقه وانما ربطت الايمان والعلم باواصر متينه مبنيه علي تفسيرات ذات تسلسل منطقي وبحث دقيق وملاحظه حره:

ورغم ان هذا النهج كان لا يتيح للانسان انذاك مركزا متميزا الا انه لم يكن لهم من راحه ولا نصيب من المسره الا روح الشهاده المتناميه داخلهم ولهذا انتهي اغلبهم الي نهايات غير ساره علي الاطلاق بل مفجعه: اذ لم يكن من بين اهداف النبوه تحقيق اهداف ومصالح سياسيه او اقتصاديه او ان يظل فريق بعينه-وعملائه "الثقاة"- مختارا ووكيلا عن العلم والايمان والسلطه (بلا محاسبة؟) فيما يظل الاغلبيه الساحقه من السكان تحت وصايتهم مطاردون -الي مالا نهايه-  بدعاوي الجهل والكفر والخيانه (اذ ظل المغزي الاصلي من وراء الرساله حاضرا دوما في اذهانهم: فليس هناك ما يمنح الرساله-اية رساله-صفة النضج ويجعلها-في نفس الوقت-جديره باهتمام الناس الا ان تكون صادقه ومحدده الملامح وحافله بالمغزي اذ ان ذلك يهيئ لها من النضاره بحيث يستحيل ان نجدها بعد ذلك هزيله او سطحيه او ثانويه او جامده)

فمع ظهور المسيحيه خطا الانسان خطوات ابعد عن ميوله المتحدره باتجاه الطغيان والوحشيه ومن خلال روح جديده نابعه من حالة تحرر وانسجام مع تيار الحضاره المتاحه ممزوجه بمشاعر المواجهه والتطوع الايجابي القائم علي التفاني وانكار الذات: فحملت المسيحيه نداءا ثوريا عبر-الي وقتنا هذا-عن شعور متنامي بالحريه والمسئوليه فكان ثمرة ذلك ان جددت مصر من ثقتها في نفسها واكتسبت الشخصيه المصريه بعدا اكثر نضجا فاصبح المصري يتناول بجرأه اكبر-وامال اعرض-العديد من الظواهر الاجتماعيه والاستقراءات الطبيعيه والعقائديه: وبصوره فصلت العلم عن الانتماءات الدينيه فاصطبغ بلون حر سمح وبدا ان عصر جديد بدأ يبزغ ويتشكل من تاريخ مصر لم يكن في واقع الامر سوي مرحله جديده ازدهرت فيها عبقرية الفكر ورقي الخلق وتحضر الممارسه (لاحظ ان المسيحيه-بسماحتها المعروفه-هي اول من نبه الي ضرورة القضاء علي الفكر الوثني وانهاء العبوديه وتحقيق مساواه تامه بين البشر ايا كانت انواعهم والوانهم: وعلي مستوي الانسان الفرد دعت المسيحيه الي تحقيق نوع من التوازن النفسي بين اخلاط شخصية الانسان الرئيسيه-واضدادها العنيفه-العقل والجسد والضمير وبحيث ترتبط لديه النزعه الحسيه مع النزعه الحدسيه في مركب واحد يمزج الايماني بالتجريبي: والمتخصص قد يلوح متحيرا امام ذلك التحول السريع الذي احدثته المسيحيه في شخصية مصري ذلك الزمان: فمع نهاية الحكم البطلمي كان الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لاغلب المصريين وضعا مزريا للغايه وشبه منهار اذ انخفضت مكانة التعليم وفقدت العديد من القيم والمشاعر والافكار مكانتها بحيث صار الانسان يشعر بنفسه اكثر كعبد لسيد-او طاغيه متسلط-افضل من كونه انسان حر متعلم ومسئول: في الوقت الذي ارتفعت فيه مكانة التجاره والحرف اليدويه ارتفاعا ملحوظا فلم يعد من احد يتطلع لان يصبح معلما او متعلما عدا ربما قليل جدا من الناس)

شئ مماثل حدث ابان الفتح العربي وليس غريبا فكذلك كانت سنة النبي محمد فمنذ ان هاجر الي "يثرب" اصبح شغله الشاغل ان تتحول من قريه صغيره نائيه وسط الصحراء الي مدينه عصريه وبحيث استمرت مكانتها تلك لديه سنوات طويله حتي بعد ان تمكن لاحقا من العوده الي بلدته القديمه "مكه" وبسط سيطرته عليها: ونحن نعلم كيف انه احب مكه كثيرا وكيف ان اهله (قريش) عرضوا عليه الملك-شرط ان يترك ايمانه الجديد-غير انه ابي وقبل الحصار والاضطهاد حتي تمكن من ان يجد له في يثرب انصار ومقر لجوء: وهو دليل علي ان النبي محمد لم يكن في واقع الامر رسول سياسه وانما رسالته-في جوهرها-هي رسالة علم وحضاره وهو ما ابقي علي تعاليمه حيه حتي بعد وفاته بمئات السنين فانتقل العرب بفضلها حضاريا من بدو رحل الي الاتصال بالحضارات من حولهم والتفاعل معا (ولقد علمنا كيف ان اول ما فعله بني اسرائيل بعد هجرتهم ان سارعوا ببناء مدن ونظم حكم جديده: اذ لم يقتصر الهدف علي النجاه من بطش فرعون-كما هو شائع-بقدر ما ارتبط بدافع التحضر والتطور: ويقال ان انبادقليس هو نفسه لقمان الحكيم وانه عاصر ابنا من ابناء النبي سليمان الملك واقام فتره بمصر والشام وان العلم ازدهر في زمنه فبلغ مراحل تشبه تلك التي عرفها العالم في القرن 18 م)

ومع ان المصري لم يذهب الي حد التسليم المطلق بكل ما وفد اليه من ديانات وثقافات-كما شرحت-فاحتفظ  دوما بقدر من شخصيته الا ان الحضاره البطلميه ثم الرومانيه ثم العربيه تمكنت-وبشكل ملفت-من الاستحواذ علي جانب كبير من اهتمامه: فقد اصبحت اللغه الاغريقيه-ثم العربيه-لغة العالم المتمدن في هذا الزمان او ذاك-هي لغة مصر الرسميه فيما اتخذ الغالبية الساحقه من السكان اسماء اغريقيه-ثم عربيه-خالصه او مزيج ما بين هذا او ذاك وبين اسمائهم المصريه (فقد ظلت للشخصيه التي اكتسبها المصري في العصور القديمه جذور محكمه وظل المصري-رغم الام الغزو والاحتلال-مسيطرا تماما علي ثقافته وقد احرز شعورا داخليا بالكبرياء الوطني (غير المبرر احيانا :P) نابع ربما من ايمانه العميق بانه ينتمي الي حضاره عريقه ونظام اجتماعي له قيمته: ويشهد علي ذلك ابقاء المصري علي الهته القديمه-الي جوار الهة الاغريق-في معابد تلك الايام: كما تشهد الثورات العنيفه لاحقا ضد الاباطرة والسلاطين بعد انشقاق المصريين علي مذاهب المحتل وفرماناته وتحملهم في سبيل ذلك اشنع اضطهاد)

ولكن لكي نفهم تلك العلاقه الازليه بين التحضر التدين لابد وان نفهم المفاهيم المضاده مثل "التخلف" و"الدوله الدينيه" باعتبارهما الظاهرتان اللتان يسعي التحضر-والتدين-الي مواجهتها والقضاء عليها

اما (النخلف) فهو ينطوي علي حاله متعاظمه من الجمود-واحيانا الانهيار-تكتنف اسس البناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وبعد ان اصبحت العلاقات القائمه لا تمثل هدفا للتنميه والتحديث وانما علي النقيض من ذلك عقبه تعطلها عند مستوي معين سواء علي مستوي المؤسسات-والمنظمات-الكبري او العلاقات الفرديه البسيطه (اسره وجيره) كل علي حد سواء: والنتيجه ان المجتمع غالبا ما يعاني-بسبب التخلف-انواع من الانقسامات والصراعات والازمات المتلاحقه وبحيث تتشابك كل الظروف في كومه واحده مرتبكه غير مواتيه للعمل والانتاج (والحياه؟)

بمعني اننا نتحدث عن ازمات شرعيه واداره واختراق وسوء توزيع وتدني خدمات في وجود حاله تنطوي علي وضع متأرجح ما بين انفاق غير رشيد واستهلاك غير رشيد وارتفاع اسعار وندره استثمار وبدائية طرق انتاج وتقلص حجمه بالنسبه لمتوسط الدخل ومن ثم انخفاض حاد في مستوي المعيشه بين السواد الاعظم من السكان يليه ركود:

ومن المتصور والوضع كذلك ان يتسم هذا البلد بتردي ملحوظ في منظومة القيم والمشاعر والافكار في ظل اختلاف ملحوظ في المدارس الفكريه وتعددها وتنوع خلفياتها الثقافيه وعدم وجود حدود فاصله بين الرؤي وبعضها البعض نظرا لتداخلها الشديد في ادمغة البعض والخلاف الواضح بين مريديها وهو الخلاف الذي قد يتسبب بدوره في خلاف اخر مواز لدي المتخصصين والساسه الايدولوجيين (غير الناضجين) فيما يتعلق بتصورات كل منهم واهدافه وخططه تلك التي لا يشترط ابدا ان تكون علي وئام مع الصالح العام او مع الاسس والمصادر العلميه-ليصبح التوصل الي تعريف عصري جامع ومحدد-ومتفق عليه-للدوله واللسياسه والقانون والتحضر والديموقراطيه-بدون مراجعة هذه المدارس-وعلاقتها بالعلوم الاخري-كالعلوم الفقهيه والشرعيه-وهي علاقه متشابكه اساسا وتتسم بالمشاركه-من الصعوبه بمكان: في حضور ارث من المغالطات والمصطلحات التي تعالج المفهوم الواحد باكثر من معني (وبالتحديد مفهوما التنميه والتحديث والنطاق اللذان يعملان من خلاله) او تلك المرتبطه بنظريات التامر مثل التغريب والامركه الخ والتي عادة ما تندرج علي تشكك واتجاهات سلبيه بلا نهايه تجاه الاخر (وبالتحديد النموذج الذي تتطلع اليه تجارب التنميه والتحديث): تتدرج ما بين ضيق افق مبني علي سوء فهم او نقص في المعرفه او تبسيط او تعميم الي حد طرح اتهامات عريضه بالكفر والخيانه والانحلال الخلقي الامر الذي ينعكس علي الثقافه وعملية التربيه والتعليم بشكل عام (ازمة هويه؟)

اما الدوله الدينيه (الثيوقراطيه) فالتاريخ يخبرنا كيف ان تدخل رجال الدين والمؤسسات الدينيه في العلم والسياسه يمكن ان يكون له عواقب سلبيه للغايه علي العلم والدين والسياسه: والدوله الدينيه-بالمناسبه-ليست مرتبطه بتجربه سياسيه او دينيه معينه وكما هو الاعتقاد السائد وانما هي دوله تؤمن-وبشكل عام-بأن السلطه مصدرها السماء وان الله هو من اختار الحاكم لممارستها-وليس الشعب-وبناءا علي ذلك ينبغي علي الشعب ان يخضع للحاكم-وزمرته-خضوع مطلق واطاعته طاعه عمياء علي اعتبار انه منفذا لاراده الهيه (فهو القاضي بشرع الله ومصدر كل سلطان وسلطانه تعلو فوق كل قانون بل هو المفسر الاوحد للمله والاجدر بان يقرر ما هي وبذلك فلا يمكن ان يكون موضوعا للحساب بواسطة البشر: اذ انه-وحسب هذا الفكر-من طبيعه تسمو علي طبيعة البشر: فان اصبح شريرا فسوف يحاكمه الله من وجهة نظرهم في الحياه الاخره):

وقد اتخذت تلك النظريه علي مر العصور اتجاهات عده فمنها ما كانت تنسب الالوهيه الي الحاكم مباشرة ومنها ما ذهبت الي ان الحاكم مجرد مفوض من الاله-او ابن له-بصوره مباشره (وهو ادعاء سقط فيه اخن-اتون (ابن اتون) نفسه اذ نجده–عند نقطة-يفرض حكما ابويا علي رعيته فلا يقبل نقد لاوامره-غير ما اعتاد هو فعله بنفسه-بل انه حرم مجرد التبشير بدقائق ديانته-ومنها التداول العلني لانشودته-الا باذن منه باعتبار ان اتون هو ربه الشخصي وابوه السماوي: ولعل اخن-اتون لم يستطع ان يتخلص بالكامل من العديد من الامور التي سادت عصره وما استجد عليها من تقاليد)

ومنها ما نسب الي الحاكم تفويضه في الحكم من الخالق بصوره غير مباشره اي بواسطة رجال الدين من "العلماء" الاقرب من غيرهم الي الله (الموكلين بالاختيار) وهو ما اصبح الدعامه التي استند اليها انصار الدوله الدينيه في العصور الوسطي وما بعدها علي طريق تبرير الحكم المطلق لحاكم والدفاع عن "شرعيته" و"هيبته" واحكامه ضد وجهة النظر التي قضت بامكان مقاومته وتغييره

ويرجع ذلك عندما بدأ مفهوم "الشعب" في الظهور وبعد ان ذاعت فكرة فصل "السلطه الدينيه" عن "السلطه الدنيويه" (ومع ذلك وجدت فكرة تأليه الحاكم صدي في صدر العصور الحديثه وفي دول واعده مثل انجلترا وفرنسا والمانيا كما يمكن ان نستنتج من قول الملك جيمس الاول في القرن السابع عشر من انه من العدل ان يطلق علي الملوك الهه لانهم يمارسون ما يشبه سلطة الله علي وجه الارض: او مقولة لويس الرابع عشر الشهيره: "انا الدوله" واعتبار نفسه "صاحب السلطه الاصلي المحاط بهاله القداسه": وفي القرن العشرين-وقبيل الحرب العالميه الاولي-اذا بجليوم الثاني امبراطور المانيا يقرر في احدي خطبه بانه يستمد سلطته من السماء وانه مختار اختيارا الهيا وبناءا علي ذلك فانه-وكما قال-لا يحفل بالرأي العام ولا البرلمان: ونحن نعلم كيف ان اليابانيون ظلوا يقدسون اباطرتهم الي نهاية الحرب العالميه الثانيه تقريبا)

ومع ذلك يبقي اكثر الرهان منصبا علي اوروبا العصور الوسطي اذ ستظل ماثله في الاذهان كأقبح سبه في تاريخ الحماقه الانسانيه وعلي نحو اكثر ارتدادا من اي عصر-او تجربه- اخر: وكيف لا وهو العصر الذي استسلمت فيه العديد من المجتمعات الاوروبيه لذل محاكم التفتيش الرهيبه فاصبحت المؤسسه الدينيه-بفضله-لفتره-قرينا ثالثا للقصر والثروه: ومن ثم اطبقت بمخالبها بكل ما اوتيت من قوه-كلما تسني لها ذلك-علي العلماء والمفكرين في عصورها ووجهت العلم والثقافه

ولولا ان افرز عصر النهضه-ولحسن الحظ -طبقه وسطي قويه ضاقت بموات العقول وتحجرها وثارت علي طبقة الاساقفه والنبلاء الاقطاعيين وخاضت النضال الي نهايته وبذلت في سبيل ذلك التضحيات لما تمكنت من نقل ثمار نهضتها (من علوم وفنون ومخترعات) الي الطبقات الادني (ولاحقا الي العالم): فالي جوار العلماء والفلاسفه النابهين ظهر رجال صناعه واقتصاد ورجال اصلاح ديني بادروا بتجديد افكارهم ومشاعرهم فاكتشفوا معان واساليب جديده لها علاقه بالحريه والمساواه واستقلال الفرد (مهتدين باقوال عظماء مثل بن سينا وتوما الاكويني من ان الحريه لها دور في خلاص الفرد وان الخلاص يتم عن طريق الايمان وان مناط الايمان هو العقل والامل في هدي الله وبذلك فلا تناقض بين الحريه والعقل والايمان طالما انه لدي الانسان حتي الحريه ليكفر):

ولعل برونو ذلك الفيلسوف العظيم هو اكبر من وسع-في ذلك العصر-مفهوم التضحيه الي اقصي اتساع له فكانت النتيجه ان قدم حياته قربانا علي مذبح الركود والرجعيه والارهاب الفكري: اذ اتاح له ايمانه الشديد بصواب ما توصل اليه ان تحدي المحاكمة الهزليه التي اقيمت له من جانب الديوان المركزي لمحاكم التفتيش ليدفع ثمن ما اعلنوا انه "الحاد" و"هرطقه": اذ وجدت الجهاله ضالتها فيما يبدو في شخصه الضعيف فطاردته والقت القبض عليه وسجنته زهاء السبع سنين لقي فيها الامرين وتحمل الام تعذيب وحشي لا حدود له (فالي جوار الضرب بالسوط كان هناك ايضا الخازوق وتمزيق الاحشاء وختم الجبهه بقضبان الحديد المحمي بكلمة ملحد الخ): علي أمل أن يتبرأ من ارائه و"يتوب" علي ايدي رجال الدين "الاطهار" الا انه ابي وانتهي الي النهايه التي لم يكن منها مفر (الاعدام حرقا في احد ميادين روما): وقد كان جل ما فعله هو انه اجتهد بفكره وانتقد-بشجاعه-الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المزيف الذي كانت تعيشه اوروبا انذاك: فاصبح بحق مضربا للامثال في "الخلاص من سطوة البهيميه" (أحد أهم كتبه)

وعلي الرغم من التقدم النسبي في العلم والرفاهيه الذي عرفته المجتمعات الناطقه بالعربيه في العصور الوسطي-مقارنة باوروبا-الا انه لا يمكننا ان نتجاهل ان الكثير من عينة هذه الممارسات سادت تلك المجتمعات ايضا وانتهت الي نتائج مشابهه

فقد تجسدت السياسه انذاك-وبشكل عام-في حكم فردي وراثي بجميع مقوماته التاريخيه (الاسره والعرق والسياده والمذهب الديني) وكتب التاريخ حافله بممارسات فساد وطغيان وموجات خلاعه واسراف علي الملذات من جانب سلاطين العباسيين والفاطميين والايوبيين وغيرهم وما نتج عنها من تنكيل بالضعغاء واضاعة الحقوق وكبت الحريات بل ووصل الامر الي حد التردي في مجازر مروعه وبالتالي عاهات نفسيه وجسديه-عديده- دامت مع هذه المجتمعات لفتره والي مشارف العصر الحديث

ومع ذلك فاي من هؤلاء الملوك والسلاطين لم يكن-في اي وقت-ممثل للهويه الوطنيه ولا حامي حمي الدين او حتي الشعوب التي حكموها اذ طغت علي اهدافهم دوما نزعة سياسيه-عسكريه بحته واستخدموا الدين في ذلك ابشع استخدام (وباعتراف اهل ذلك الزمان)

فكثيرا ما عمرت دواوين حكمهم بثله من المستشارين الثقاة (اضافه الي الشعراء وادعياء العلم ممن يسمون انفسهم "فقهاء" دع عنك خطباء المساجد طبعا ممن كانوا يمتدحونهم ويدعون لهم بلا انقطاع) غير اللامعين من الناحيه العقليه وغير الخلاقين من الناحيه الفنيه وغير مستعدين لتقديم تضحيات او ان يواجوا العالم بروح انسانيه-واقعيه (تجريبيه) قليلة الانفعال اذ اقتصرت وظيفتهم الاساسيه علي ان يزينوا للطواغيت احكامهم واعمالهم فيبررون الصالح والطالح علي حد سواء ومن خلال نصوص دينيه مستغلين عاطفة الناس تجاه كل ما هو تراثي: فازدهرت في تلك العصور-وهي عصور انحطاط بالتأكيد-ولاول مره-صنائع "الامامه" و"الافتاء" بفتاوي الحلال والحرام: كما ظهرت نظريات "الامه" و"الولايه" و"دولة الخلافه" الخ: في الوقت الذي انطلقت فيه-مع سقوط الحكم العباسي في بغداد ودمشق والاموي في الاندلس وتصاعدت الدعوه الشعوبيه- دعوات اضافيه مثل "العوده الي صحيح الدين" و"تطبيق شرع الله" و"حماية دين الله" الخ ومن خلال نبرة الحشد والتوحد تحت راية "الاسلام" لصد العدوان القادم من الخارج (الصليبيين والمغول: والطريف ان المغول الذين دحرهم بيبرس في عين جالوت كانوا قد تحولوا الي الاسلام قبل ذلك بقليل!)

ومعلوم انه حتي ذلك العصر لم يكن المسلمون قد استطاعوا ابدا من توحيد انفسهم في دوله او ثقافه واحده تجمعهم وبصوره طوعيه (سلميه) الا ربما لاحقا في العصر الحديث ومن خلال افكار واساليب وازياء علمانيه بحته مصدرها الغرب (وقد كان جل ما يميز المسلمون افي عصور نهضتهم-اي قبل ظهور الفرق والمذاهب والحروب الطائفيه-حرصهم-في جميع اماكن تواجدهم-علي حرية الفكر والاعتقاد واكثر من ذلك لفظهم لفكرة ان رجل الدين هو الواسطه بين الفرد وربه في جميع ما يحل بالانسان من امور حياته الماديه والروحيه: اذ كان رجال الدين-حتي وقت قريب-ليسوا اكثر من اناس عاديين من اصحاب الرأي والاجتهاد لا وصاية لهم علي احد ولا حجر: وكان في وسع اي مسلم بالغ عاقل ان يدلي بدلوه في ضروب الفقه والبيان ويؤم الناس في الصلاه او يصلي بمفرده دون الاستعانه برجل دين: اضافه الي تفوقهم في علوم اخري مثل التاريخ والجغرافيا والفلسفه والنفس والاجتماع والطب والهندسه والرياضيات والفلك والموسيقي لاقطاب الفكر والفن من امثال طاليس وانبادقليس وفيثاغورس وديموقريطيس وابقراط وسقراط وافلاطون وارسطو واخليدس وارخميدس وغيرهم: وبعد ان اصبحت تلك العلوم-بفضلهم-موضوع لدراسه عميقه كامله وليس مجرد اشراقات مجمعه من عقائد قديمه: بخلاف ما كان يحدث في اوروبا اوائل القرن السادس عشر والتي كانت مشغوله-حتي ذلك الوقت- بدائرة من العنف والفقر والجهل والتشدد والتزمت الشديد في الملبس والمسلك: بما يؤكد ان التغيرات الكبيره التي وقعت في اوروبا لم تجد لها قرينا مساويا لها-بعد-في بلادنا ولو علي مستوي النظريه: علي الرغم من حرص الغرب علي الاستفاده من تجاربنا وانماطنا الحضاريه ونقلها الي بلادهم ولولا ذلك لما تمكنوا من احداث نهضتهم قط: والي اليوم يعتبر العديد من المؤرخين المعاصرين الحروب الصليبيه بمثابة الخط الفاصل بين العصور الوسطي وعصر النهضه)

وعلي المستوي الفقهي فلا وجود لفريضه اسمها ولايه او امه او دولة خلافه (وبالتحديد تلك القائمه علي التفويض الالهي وطغيان الاغلبيه والتفسير الحرفي للنصوص والانغلاق علي احكام شرعيه معينه من مذهب معين يروج لمعطيات زمنه): ولعل اللبس الحاصل اليوم قام علي اعتقاد بان اول خلافه كانت لقائدها ابو بكر صاحب النبي الكريم والذي تولي-من بعده-رئاسة المله (الحديثه نسبيا) والمؤمنين بها (علي قلتهم): الا انه اعتقاد قام-في رأيي-علي مغالطه تاريخيه فابا بكر كان-في واقع الامر-"خليفة رسول الله" وكما لقب هو نفسه: وهو لقب وكما هو واضح ليس لقبا سياسيا وفقا للمعني العصري المتداول وبالتأكيد لم يكن ايذان بسنه جديده (بعد وفاة الرسول وانقطاع الوحي): ومع ذلك فقد انتهت خلافة ابي بكر تلك رسميا-ونهائيا-بوفاته وانتشار المله وتعدد الفتوحات وظهور اول"امير للمؤمنين": فذلك كان-بلا شك-بمثابة النشوء الاول للسياسه العربيه وايذان بعهد جديد يخضع لاجتهاد البشر تحول معه-لاحقا-"امير المؤمنين" الي "امير المسلمين" الي "ملك" ثم سلطان" وهكذا في انفصال تام عن تاريخ الدعوه الدينيه تلك التي كانت-حتي ذلك الوقت-سلمية: اذ لم تنتشر المله العربيه في واقع الامر الا بجهود الدعاه الوافدين والتجار والصناع: والدليل علي ذلك هو ان السواد الاعظم من المصريين ظلوا-حتي اواخر العصر الاموي تقريبا-مسيحيين ويتحدثون اللغه الاغريقيه: في الوقت الذي ظلت الاقليات الدينيه (مسلمه ويهوديه ووثنيه) تبني دور عبادتها وفقا لنمط يميل الي الطراز القبطي (الروماني-الاغريقي) وهو المصدر الاصلي لجوامع وكنائس هذا الزمان)

والجواب علي التساؤل عن السبب الذي يجعل الايدولوجيات الفاشيه والدوله الدينيه مغريه بهذه الدرجه لمجتمعات حوض البحر المتوسط يجب البحث عنه–في رأيي-من خلال التطور الفكري لتلك المجتمعات:

فاذا كان برونو هو الانعكاس الاكبر-وكما شرحت-لروح التحرر المتوثبه من اغلال السلطه الدينيه في العصور الوسطي فقد تكفل ماكيافيللي بتقديم الوجه الاخر لتلك الروح وعلي اكمل صوره: وحينما تقلب في مأثورات ماكيافيللي تجد العجب العجاب فهو ينصح الحاكم بضرورة "ان يقترف الاساءات دفعه واحده وفي صورة عقاب جماعي وطالما ان الفرصه سانحه: اما المنافع-اذا ما اقدم عليها-فيجب ان يمنحها قطره قطره حتي يشعر الشعب بمذاقها ويتلذذ بها" حسب رأيه اذ لن يتسني لحاكم- في نظره-تحقيق مراده الا بتحطيم ارادة الطبقه المطحونه من غالبية السكان (العدو الرئيسي) واخضاعها لارادة حاكم مهيمن ومن خلال ربع او نصف اشباع اي وفقا لما يحدده الحاكم وحده من سياسات وبحيث اذا ما فارت الحاجات الاساسيه عن الحدود المسموحه تجد من هو حريص دوما علي الا يبلغها مبلغ اشباع علي امل ان يتراجع هؤلاء الافراد باحلامهم الي ادني درجه فيرضون بالقليل او ينفصلون عن الواقع فيراهم البعض مجانين يسعون وراء ضروب المستحيل

اذ تتلخص رؤية الحاكم الطاغيه ماركة ماكيافيللي عن الدوله علي اساس مبدأ الوفره ليس فقط بوصفه عامل من عوامل الكفايه وانما كدليل علي انتصار الارادة: فالعامه– في نظره- ما هم الا قطيع من البطون لا عقول لهم ولا رؤي ولا اذان ولا احلام ولا ذاكره "مكبلين تماما فيما يتكالبون عليه من مباهج الحياه وماربها الماديه" وبحيث يتحول حزب الحاكم الطاغيه ماركة ماكيافيللي -في نهاية المطاف-الي شبكه معقده من اصحاب المصالح الاقتصاديه (السريه) هدفها الوحيد حماية الشعب من "خراب" محتمل اذا ما سقط الحاكم او اصر الشعب علي تغييره: فلقد صنع كل ما في وسعه كيلا يتحرر شعبه من روابط "الاستقرار" طوال فترة حكمه وكيما يصبح هو وحزبه الدوله: حكومه وبرلمان وقضاء واعلام! (وبتفسير واحد للاستقرار هو الجمود والسكوت والتواري في البيوت: عشش الفراخ؟)

فالسياسه-في رأيه-هي السلطه والسلطه هي غايه تعلو عما سواها من غايات وهي اساس لكل علاقه (داخليه وخارجيه) وفي اطار من المنفعه وفي صورة مصلحه عليا وقرارات "سياديه" ومثل اعلي باطش يبذل كل ما في مقدوره كي يحافظ علي سلطاته (واكتساب المزيد) ودون اصلاح الاثار المترتبه وان كانت خاطئه وان كانت ضاره وان كانت غير قانونيه (وليس غريبا فماكيافيللي هو ابن النظره البراجماتيه البارده اذ لا ينبغي-في رأيه-السماح باي قدر من تحد للسلطة فالتحدي في حد ذاته "اهانه": والسلطه صاحبة السياده  غير قابله للرد او النقد: السؤال والمحاسبه والحاكم بذلك خارج اي تقييم قانوني او اخلاقي بل ومنطقي ايضا: وتلك هي طريقته في فصل الفكر والخلق القويم عن السياسه فيما يبدو: فقد يتحول الخير والنفع فجأه-وفي اي وقت-من مرتبة "المطلق" الي مرتبة "النسبي": فما هو شر من وجهة نظر المفكريين والاخلاقيين (او المهتمين بحقوق الانسان) قد يكون خيرا من وجهة نظر الحاكم الطاغيه طالما ان له دور في تعزيز السلطه: فالفكر والخلق القويم هو شئ مقدر وجميل وكل شئ ولكنه في نهاية المطاف مجرد وسيله من اجل بلوغ الهدف المنشود (السلطه؟) ودون ضجه: بمعني ان الخير لابد وان يتوائم مع السلطه ليبقي خيرا والا تحول الي شر: فان استثار الفعل رد فعل-لا سمح الله-ورأي صاحبنا ان الامور تمضي في اتجاه معاكس لاطروحاته يغدو الفعل-وهذه نقطه جوهريه-شرا ينبغي تحاشيه اذ لم يصبح الشر شرا لاكتشاف مفاجئ بانه مجافي للدين (فقد يجد له في النصوص الدينيه من الاسانيد ما يؤيده) ولكن لاخفاقه في تحقيق النتائج المرجوه: وفي اطار من اعتبارات اقل ما يمكن ان يقال عنها انها غير شريفه وغير وطنيه وطالما ان كل شئ يتم في اطار من شرع الله! اشبه بعملية استدعاء عفاريت)

وهنا يمكن للمرء ان يتساءل-وكما تساءل ماكيافيللي نفسه-عما اذا كان علي الحاكم ان يختار بين ان يكون محبوبا او مهابا: وعما اذا كان علي الشعب ان يختار بينه وبين الفوضي او بين الثوره والخضوع التام: وعلي اية حال-ومما لا شك فيه- ما من مجتمع يرضي بالخضوع لاراده حاكم فرد الا وحلت به لعنة الفرديه فيستسلم لمطالب (اقتصاديه) بحته: ومن ثم تنتشر قيم سلبيه للغايه كالذاتيه واللامبالاه والانعزاليه وانحسار المسئوليه الاجتماعيه وانقسامها في مجموعه من المسئوليات الفئويه الخاصه بكل مؤسسه علي طريق التفتت والتحلل: وهنا قد ينشغل المواطن بحياته الفرديه فيعيش فيها بذوبان كامل غير مبال بالحيوات الاخري التي لا تتلاقي ابدا معه فيما يشبه الجزر المنفصله المتضاده المتصارعه او انابيب الالعاب الدوديه بما يمثل تهديد خطير لاسس المجتمع ككل: وهنا قد يتساءل الانسان عن جدوي استقلاله بمعزل عن مجتمعه وامام عجزه عن مواجهة الحاكم منفردا فالحريه-والاستقلال-في رأيه-في هذه الحاله-من شأنها ضياع)

وعند هذه النقطه اتذكر حكايه داله للغايه حكاها ذات مره راهب فيلسوف عن حاوي خبيث كان يملك عددا من "الخرفان" ويجد متعته في خداعها: ولانه لم يشأ ان يستأجر "للخرفان" راعيا كما لم يشأ ان يبني سياجا يحجزها في مرعاها كانت "الخرفان" كثيرا ما تتجاوز المرعي وتذهب الي الغابه المجاوره بعيدا الي حد ان بعضها كان يتيه ويسقط-احيانا-في مستنقع بوسط الغابه اذ كانت تعلم انها اذا ما عادت فانها ستجد الحاوي الخبيث في انتظارها عند عودتها والذي لا يلبث ان يذبحها ويحصل علي جلودها ولحومها (وهو الامر الذي كان يغضبها كثيرا بلا شك!) واخيرا وجد الحاوي الخبيث حلا للمشكلة فقرر ان ينومها مغناطيسيا فاوحي لها بانها خالده لا تموت وان سر خلودها هو في بقائها داخل حدود مرعاها وان موضوع سلخ جلودها واكل لحومها هذا هو شئ طبيعي وضروري من اجل اتمام عملية الخلود وانه لن يؤلمها في شئ بل علي العكس سيكون مصدر سعاده بلا حدود: ثم انه وعد "الخرفان" بانه سيصبح خادم طيب ومحب ومخلص طوال فترة خلودها وانه سيكون مستعد للتضحيه باي شئ من اجل حماية-القطيع: ثم انه وعد "الخرفان" بانه سينبههم اذا بدا وان هناك خطر علي وشك ان يحيق بهم وانه سيفعل ذلك بوقت كاف  ولهذا فليس عليهم ان يقلقوا او حتي التفكير في اي شئ: واخيرا اوحي الحاوي الخبيث الي "الخرفان" بانها ليست "خرفانا" علي الاطلاق-بل لم تكن "خرفان" قط-وانما بعضها اسود والبعض نمور وذئاب وصقور وبشر من الحواه مثله! وعند هذه النقطه انتهت متاعبه مع "الخرفان" فلم يفر اي منهم خارج المرعي بعد ذلك ابدا وانما انتظروا الي صباح اليوم التالي حيث كان الحاوي الخبيث في انتظارهم يذبح الواحد بعد الاخر ويسلخ الجلود ويقطع اللحوم فيما كانوا ينظرون اليه في سعاده وصمت!

خلاصة القول: ارتبطت الرسالات السماويه في كل مراحل ظهورها-وعلي الرغم من قسوة الظروف التي نشأت فيها- ومع كل ما لاقاه الرسل من عنت في سبيل نشرها-بنزعه قويه نحو التحضر والاتصال بين الثقافات والاعراق: بحيث اصبحت الفكره الاساسيه "كيف يستقر الانسان ويعيش حياته بوفره اكثر" تتقاطع دوما مع ما يمكن ان يفعله الانسان لتأسيس نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي (دين ولغه وازياء وفنون) يحافظ علي الملمح الذي يميز الانسان عن سائر المخلوقات وهو ميله لان يصبح اكثر التصاقا باخيه الانسان ومن خلال دوافعه الانسانيه ومسئوليته الاجتماعيه وباراده حره نابعه من ضمير حي اي باختيارات علميه منظمه وباقل قدر من التشريعات: وبذلك فالخلفيه التقليديه التي تصور عالم النبوه كما لو انه محصله من عوالم متعدده كل منها منفصل عن الاخر (وبحيث ان هناك عالم يجمع الحضاره الانسانيه وعلومها في قالب واخر نبت بمنأي عنه يجمع الانبياء ورسالاتهم) انما هي في واقع الامر خلفيه تجافي المنطق وتتعارض مع كم الادله بان هناك اتصالات عديده جرت بين تجارب النبوه والحضاره الانسانيه:

فلا يخفي ان الهدف النهائي هو نقل الانسانيه من مرحله من التطور الي التي تليها ومن حالة الفرديه الي حالة تعارف واجتماع وانسجام ومسئوليه: والدرس الذي يجب ان يتعلمه المرء هنا هو ان اي محاولة لابتلاع الحضاره لصالح تفسيرات مغلقه علي مذهب او عرق او طبقه او مساحه جغرافيه او ثقافه او نظام سياسي بعينه ليست في صالح اي من الطرفين: الدين والسياسه: التدين والتحضر: وانه عندما يتوقف التحضر-والعلم-عند حدود معينه فينصرف الانسان عن البحث والابتكار والتجديد والتطوير فان الحضاره-ومعها العقيده نفسها-تتوقف وتعود به القهقري الي عهود من بدائية الفكرتنحرف معها كل الجهود-تلقائيا-عن امال واحلام الشعوب (الي ان يقوم جيل جديد حر من كل روابط الرجعيه مؤمن بحتمية بناء دوله مدنيه ديموقراطيه حديثه: جيل يدرك ان النتيجه الحتميه لمعادلة التخلف والدوله الدينيه هي دوله فاشيه مركزيه معاديه للعلم والعقل والفضيله والحقوق والحريات: دوله تقوم علي ثقافة رأسماليه احتكاريه تنتج-وتستورد-كل ما هو ثانوي وتعتبر السلطه غايه في حد ذاتها (وان هدد ذلك برامج التنميه): جيل قادر علي ان يثور ويغير ويقود وعلي نحو متصاعد باتجاه حضارة جديده يمكنها ان تحقق معادلة التوازن الواجب بين التدين والتحضر)

الا يعلمنا ذلك ان نكون شكاكين ازاء اي تناقض قد ينشأ فجأه بين العلم والايمان؟ التدين والتحضر؟ الوضعي والشرعي؟ ثم الا يعلمنا الا نأخذ ذلك التناقض بقيمته المباشره؟ ان التساؤل وحده يشبه في رأيي المزحة التي تقول بان اول من مارس الطب هو جدنا ادم بسبب عجزه عن العثور علي طبيب يعينه وزوجته علي وضع اول طفل لهما!

والخبر السعيد هو انه في حين تتسم بعض البلدان بالتخلف الاقتصادي فانها قد تخطو خطوات اوسع في معارج النمو والتقدم اذا ما توافرت لها ارادة التغيير (ثوره؟): وارادة التغيير لا تري ندرة الموارد وتزايد عدد السكان كحجر عثره وانما كاساس بناء: والنمو الاقتصادي وان كان مرتبط بحياه سياسيه واجتماعيه منظمه الا انه لا يعمل في وجود حالة جمود فالتطور-والحركه-هو سنة الكون وقانون الحياه ومن اخص خصائص المجتمعات الحره واشرف واكمل ما في الانسان من طبائع

وقديما قال الفلاسفه ان كل شئ متغير عدا التغير:

والنظام السياسي يعتمد في بقائه علي شرطين اساسيين: اولا تطوير شامل لمنظومته الاداريه عن طريق استحداث احدث السبل الاداريه والقانونيه والسياسيه تلك التي تستجيب لمستوي عال من المعايير-والتطبيقات-العلميه بشكل يضمن مكان امن وقابل للحياه-لجميع السكان علي اختلاف انواعهم واعراقهم ومعتقداتهم وطبقاتهم الاجتماعيه ومذاهبهم الفكريه علي نحو متكافئ وعلي مستوي المساحه الجغرافيه: ثم تأتي مرحلة يقوم فيها النظام بابداع عملية ديناميكيه يتم من خلالها توظيف الجهود واستثمار القدرات وانماء المؤهلات ومواءمه الموارد والقدرات والمؤهلات مع الاحتياجات فما من شك ان نجاح الوطن هو في النهايه مجموع نجاحات الافراد في جميع المحافظات: ولن يتسني ذلك في رأيي الا بتوزيع عادل للموارد والخدمات والسلطات وبشكل يضمن درجه عاليه من الاتفاق الاجتماعي والمشاركه السياسيه والتعدديه الحزبيه والتداول السلمي للسلطه والتكامل الاقتصادي والعداله الاجتماعيه: وهناك حكمة في ذلك: انه اعتراف بالحقيقة الازليه القائله: بأن الانسان لا يستطيع ان يعيش بالذات وحدها اكثر مما يستطيع ان يعيش بالخبز وحده (واعتقد انه من المهم جدا في هذه الحاله-وحتي تتم هذه العمليه بنجاح- ان يراجع النظام الوليد مراحل تطور العمل السياسي مراجعه دقيقه وشامله ليس من حيث كونها تجارب صالحه للتطبيق العملي فحسب وانما من حيث كونها نظريات علميه ايضا ومبادئ وافكار التنشئه السياسيه: وهنا يجوز للمرء ان يستفيد من ائمة مدارس الفكر الرئيسيه مثل اوجست كانت صاحب الديناميكيه الاجتماعيه وهيجل وماركس صاحبا النظريه الجدليه بشقيها الفلسفي والمادي (سياسي واقتصادي) وكذلك داروين صاحب التطور والارتقاء وبرجسون صاحب النظريه الحيويه والتي تضاعفت اهميتها مع هربرت سبنسر ودفاعه المستميت عنها وعن المفهوم البيولوجي للدول ذلك الذي برصد تطور النظم السياسيه-والاقتصاديه-كما لو كانت مخلوقات حيه تخضع لقوانين الطبيعه كالميلاد والبلوغ والاستواء والكهوله والاضمحلال)

فاذا ما فشل النظام في الوفاء بتلك الشروط: اما بسبب انه غير مؤهل لمهمته او بسبب فساده مثلا او عجزه المزمن عن تقديم حلول واستحداث افكار واساليب او بسبب فكره الرجعي غير القادر عن ملاحقة متغيرات العصر: او بسبب انه فقد شرعيته فاصبحت سلطاته-بل وجوده نفسه-مصدرا للمشكلات: او بسبب ان الحاكم بلغ مرحلة من الصلف والشك (والصمم؟ والعمي؟ والاستهبال؟) فاصبح لا يري مصلحة الشعب او يظن انه-وعصابته-ادري ربما بمصلحة الشعب افضل منه: او حتي بسبب عجز الشعب عن اقناع-الطاغيه-وعصابته- وتشجيعه-بالطرق الوديه-علي اصلاح نفسه بنفسه بما جعله يفقد الامل في هذا الاصلاح (لعيب ما في جينات الشعب-لا سمح الله-او نقص-ربما-في قدراته الاقناعيه او شحنه زائده في طاقاته وطموحاته جعلته يظن-لسبب او لاخر-انه يستحق ان يعيش حياه افضل): فان المغزي من وجود هذا الحاكم-ونظامه-يصبح محل تساؤل

بكلمات اخري: اولي خطوات الاصلاح تقتضي ان تطهر الحكومه نفسها اولا ثم تعمل وتنتج قبل ان تدعو الشعب الي العمل والانتاج (او حتي الهدايه والصلاح): وهذه مفارقه مضحكه حقا فالحكومه معنيه-وبصوره اساسيه-بما يمكن ان تفعله لخلق فرص عمل حقيقيه ومناسبه للشعب ووضع نظام عادل للاجور (والضرائب والمعاشات) وتنمية الايدي العامله المتاحه (والاعتناء بها وببيئة عملها) وتطوير-وتوسيع-قطاعات الانتاج علي اتساعها: زراعه وصناعه وتجاره وتعدين وسياحه ومواصلات واتصالات وطاقه وتكنولوجيا معلومات الخ: وازعم انه لن يتسني لها ذلك الا من خلال استرتيجيه عمل تعمل–وبشكل جاد-علي تقليص حجم الانفاق الحكومي الي ادني مستوي له وتطوير بنيه اساسيه علي مستوي جميع الاقاليم وبحيث تشمل جميع قطاعات الانتاج ثم تنظيم-وتقنين- كل الانشطه الاقتصاديه-والماليه-المتاحه-سريه ومعلنه-وضمها-وبلا شروط-الي برامج التنميه: واخيرا اجتذاب الاستثمارات (داخليه وخارجيه)

ولذلك فلا احد يحاول ان يقنعني اننا عند بناء نظام سياسي جديد-واثناء عملية التغيير--وفي خضم ثوره لم تكتمل بعد عمرها عامين- يمكننا ان ننتقل انتقالا ديموقراطيا بنظام غير قادر علي تطهير ذاته وغير قادر علي الانسجام مع مبادئ الثوره واكثر من ذلك غير قادر علي استنباط رؤيه وخطه معلنه ومتفق عليها لها اولويات واهداف وسياسات وبرامج زمنيه تضمن الية محاسبه دائمه تستعيد المسروقات (بالداخل والخارج) وتقتص للشهداء وتحارب الفساد وتحاسب المخطئ (والمجرم) وتستبعد غير المؤهل (او تؤهله) وتبحث عن المتفوق وتجده بعيدا عن اعتبارات النوع والطبقه والمنصب والديانه: بل والادهي نجده نظاما غير قادر علي اتخاذ ابسط القرارات اليوميه لادارة الدوله ودون ان يتراجع في قراره في كل مره

والسياسي المسئول يعلم انه مجرد موظف لدي الشعب وان وظيفته تقتضي ان يكون صادقا وبذلك فهو لا يقضي وقته في احصاء اعداد المتظاهرين والمعتصمين في ميادين الثوره وعلاقة ذلك بشعبيته وفرصه الانتخابيه بقدر ما يشغله ان يتفاني في خدمة بلده وفقا لما تتطلبه واجبات منصبه وسبل الوفاء بها ووفقا لما قطعه هو علي نفسه من وعود (ولا اتحدث هنا عن اهداف الثوره او اهداف الدوله مثل الديموقراطيه والعداله الاجتماعيه واستقلال القضاء الخ وانما عن اهداف الحكومه العاديه: سياسه خارجيه وداخليه)

فالمنصب بالنسبة الي السياسي المسئول  ليس غايه في حد ذاته وانما وسيله وهو في ذلك لا يدع مشاعره الشخصيه وانتماءاته الحزبيه تتغلب علي مبادئه-حتي في خضم تطاحنه الشرس مع غيره في الانتخابات-لا يتردد لحظه في مراجعة نفسه واصلاح افكاره وادواته وبصوره دوريه تضع في الاعتبار مقتضيات الواجب والصواب والمسئوليه والمصلحه العليا فلا يمر وقت طويل حتي نجده يتراجع عن اخطائه ويعترف بها فيترك منصبه ويمضي بشرف او يخضع لاليات السؤال والحساب ومبكرا جدا قبل ان تنشأ مشاعر حسد او تتنامي دوافع رفض علي هيئة تذمر شعبي تتعاظم-باتساع الفضيحه-فيتحدي الشعب بقاؤه وبقاء نظامه باكمله ومن ثم يتحول امر تغييره الي واجب وطني بل فرض شرعي وساحة نضال لا مفر منه: فرد الفعل المنطقي الوحيد علي الاستبداد هو مقاومته: والتوحد من اجل ذلك: وقبل ان يتسبب المزيد من التصلب وضيق الافق في مصيبه (وانا ضد المبادره بالعنف والمواجهات العبثيه مع اجهزة الدوله كالقضاء او الشرطه او الجيش الخ عدا حالات الدفاع الصريح عن النفس بطبيعة الحال: اذ ان فشل الرئيس او نظامه ليس معناه بالضروره فشل الدوله او سقوطها ونهايتها كما يردد البعض وانما هو فشل له ولحكومته وحدهما):

وليس ذلك لان من يعزلون من مناصبهم-مع اخلاصهم في اداء واجبهم-حمقي او لا يصلحون للعمل بالسياسه: او حتي علامه علي ان هذا الشخص "رجل دوله" او صاحب مبادئ لاننا في مثل هذه الحاله يجب ان نعتبر التمسك بالمبادئ ميزه وهو ليس كذلك (واجب؟) او ننظر الي الطبيب او المدرس او القاضي او الاطفائي او رجل الشرطه-وغيرهم من اصحاب المهن التي تحمل رساله- بنظره ادني من السياسي (وهم لا يقلون اهميه طبعا): وانما يرجع ذلك الي ضرورة ان يفهم السياسي طبيعة "المسئوليه" و"القياده" وما يتطلبه ذلك من مواهب (ليجد في نهاية المطاف-في حالة نجاحه- مواطن حريص علي الذهاب–وبدافع شخصي نابع منه- ولاسباب سياسيه- الي صندوق الانتخابات مرة اخري لانتخابه: ليس لانه قدم له-ولوطنه- منفعه عامه يستحق ان يستمر في تقديمها وانما لانه-اضافه الي ذلك-انسان مسئول يصيب ويخطئ ويحاسب ويعزل اذا لم ينجح)

اما السياسي الفاشل غير المسئول وغير المؤهل فهو الذي يقع فريسه السلطه فيعتبرها غنيمه وارث له يرثه من سلفه (حتي في وجود ثوره؟) فينكر الحقوق والحريات ويحاصر اقل محاوله للنقد كما لو كانت محاوله "لتركيعه" او افشاله او تدبير ثوره ضده او حتي عصيان مدني لتحطيم مصداقيتهم واعاقة تقدمهم (فكر مألوف؟)

كما لو ان السياسي الفاشل غير المسئول وغير المؤهل بانتظار ثورة --في كل مره- حتي يعمل وينتج ويخضع للحساب: او كما لو اننا بصدد حكومه تنتقي معارضيها ومواطنيها (المواطنين الشرفاء؟) بل وتظن ربما انها مكلفه بتقيييمهم وتأهيلهم (بدلا من تأهيل نفسها؟)

والحق انني لا اعرف كيف يمكن ان تكون المعارضه-او الثوره-مؤهله او مسئوله او منضبطه (وفي غياب برلمان؟) ربما لانني لم اصل بعد الي هذه الدرجه من التحليق الي افاق العبقريه وسمو الفكر والتي قد لا يدركها-لاول وهله-سوي المواطنين الشرفاء والمستشارين الاستراتيجيين؟

وبمناسبة الذكري الثانيه للثوره اعترف بان هناك بعض الكوابيس المزعجه التي تنتابني فاتصور بلادي وقد اصبح لمصر رئيسا -لم اره في التظاهرات الاولي للثوره علي الاقل- وقد ظهر علي شاشات التليفزيون-يتوعد المتظاهرين والمعتصمين السلميين في ميادين الثوره ويكيل لهم الاتهامات بالتامر ثم ينظر محدقا بنظارته في الفراغ بنظرة العالم الواثق علي امل ربما ان يأتي يوم -وان طال الزمان- فيصيبهم السأم او اليأس او حتي البرد فيذهبوا عائدين الي بيوتهم خاوو الوفاض نادمين علي ما اقدموا عليه وكأن لسان حاله: "خليهم يتسلوا" و"قله مندسه" و"اجنده" او "الجهل نعمه والنسيان سلطان واليأس رفيق المتحمس!" او"اتفرعن حتي لا يتفرعنون عليك وابخل كيلا يفلت الزمام" (ومع ذلك لعله لم يتساءل لحظه عما اذا كان من الممكن ان يتحول اليأس الي غضب وهم الثوار الذين بادروا بالثوره واصحابها)

وحذر فزر استطيع ان اتصوره يكذب-وينفر في نفس الوقت من اتهامات بالكذب -مدعيا-وهي مجرد عينه-بان الاجراءات الامنيه كالطوارئ وحظر التجوال وخلافه-تجاه اهلنا المناضلين في مدن القنال-مطلبا شعبيا واكثر من ذلك استطيع ان اتصوره وقد تفرغ تماما للسخريه من تعطل العاطلين وفشل الفاشلين وافلاس المفلسين فما علي الذاتيه القبيحه الا ان تسفر عن وجهها وتفسر العداله الاجتماعيه والصالح العام وفقا لمصالحها فتبرر بذلك وجودها بكل ما يتسني لها من ارقام ونسب مئويه مغلوطه (في زمن اصبحت الارقام والنسب المئويه من الكثره-والوضوح-بحيث لا يحتاج الي تعليق):

وليس غريبا فقد اصبحت التعميه مؤهلات قياده ومفاتيح نجاح: وبعد ان غابت المعلومه ولم تعد من ذكريات يمكن ان توقظ داخل البعض شعورا وطنيا نبيلا: لقد اصبحت الحقائق غريبه فلا يكاد العارف يعترف بها ولو باللسان بل قد لا يطول الامر قبل ان يجد الانسان من يهزأ بها ويعتبرها-وكل حقائق التاريخ -مجرد وساوس صبيانيه فكأننا بصدد قول ارسطو: الانسان حينما ينفصل عن العداله والمسئوليه يصبح اسوء من حيوان!

واستطيع ان اعترف انني فوجئت عندما اكتشفت ان مواهب ومفاهيم البعض عن السياسه والاقتصاد-بما في ذلك مفهوما الافلاس والدوله-قد توقفت عند ذهنية القرن التاسع عشر-وعلي الاخص تجربة حكومات "الوالي" توفيق حينما كانت الخيارات-والمبادئ-لا تخرج عن سياسات الامن والاقتصاد في الوقت الذي ظل فيه الاقتصاد-ولعقود-في حدود طبقه الملاك الاقطاعيين ولعل ذلك هو السبب ان اقتصرت جهود حكومات "الوالي" توفيق علي قطاعات انتاج محدوده للغايه مثل الزراعه والتعدين والمواصلات والتجاره بانواعها وعلي رأسها الاراضي والعقارات بطبيعة الحال (فهي مصدر "السبوبه" الرئيسيه المريحه المربحه في كل زمان ومكان):

ومع ذلك ازعم ان "الوالي" توفيق نفسه لم يتصور يوما انه سيأتي زمان-بعد ما يقرب من قرن ونصف من ظهور مشاريع تنمويه هامه للغايه مثل قناة السويس والسكه الحديد والقناطر الخيريه وغيرها-يصبح من الممكن ان تتخلي الحكومه عن دورها الرئيسي في تنظيم الانتاج والاستهلاك والاجور والاسعار وانماء-وصيانة-مشروعات البنيه الاساسيه وكل ما قد ينتج عن ذلك من خسائر في الاستثمارات والارواح والنفقات: وبحيث لا يبدو من مفر امام الحكومه الا ان تعود الي دورها التاريخي (البدائي) فتتفرغ بالكامل لجباية الضرائب ورسوم مرور السفن (او استئجار من يرضي بفعل ذلك نيابة عنها نظير اجر او سمسره) والسفر ككعب دائر من اجل جمع القروض والمعونات الوافده من الخارج ثم اعادة افتتاح المشروعات ذات الاجيال الثلاثه مرات عديده ليتحول ذلك الي ما يشبه الهوايه او اسلوب حياه: كأننا بصدد متعة اعادة اكتشاف ان تلك المشروعات مازالت تعمل في كل مره كقطعه اثريه يحتفظ بها الانسان في "سندرة" غرفة النوم يتطلع الي النظر اليها بولع وكلما واتتنه الفرصه (وبعد التخلص طبعا من حجر العثره الرئيسي والمتمثل في هذه الحاله في الثوار المجانين والسياسيين الوطنيين الخونه المندسين وكما فعل توفيق نفسه حينما اطبق-في زمنه-علي عرابي و"فلوله" العرابيين فاجبرهم علي الاستسلام ومعهم كل من فروا من قبضة جده الاكبر مؤسس الدوله من رؤساء القبائل وحفدة المماليك شيوخ المنسر: منافسوه الرئيسيون)

وهكذا ليس غريبا ان يخرج علينا احد هؤلاء التبريريون المأجورون الانتهازيون ممن يخرجون علينا بين الفينة والاخري ليدافعوا عن سياسات فاشله وثبت فشلها-بل وثار الشعب عليها-مره ومرات وفي اطار من الحل الواقعي ذاته دون ادني تطوير ليشبه الاخفاقات المتكرره كما لو انها سياره معطله محركها سليم ودائرتها الكهربيه سليمه ولكنها في حاجه ماسه الي "دفعه" بسيطه-اضافه الي الوقود طبعا-للتغلب علي وعورة "المطلع" الذي ينتظرها حسب تعبيره لنجد الموضوع وقد اختصر في الصكوك السحريه (مزيد من القروض؟ حراسة مصالح "النيوليبراليه" العالميه-والبترودولار-علي حساب دور الدوله؟ رهن اصول الدوله؟)  فيما لا يتوقف عن ان يذكرنا ان ارث الفساد والاستبداد ثقيل وانه طال لسنوات تتجاوز الثلاثين (والسؤال الاول: لمن يتقن الحساب: اذا كان جل ما تنفقه الدوله من ميزانيتها ديون وبحيث لا تتجاوز اوجه الانفاق مرتبات كبار الموظفين (هذا طبعا غير الحوافز والبدلات والعمولات والمقاولات والبنود السوداء (السريه) والتي مازالت مستمره بل واصبحت اشد زخما وبعد ان هدي المولي اصحابها واصبحوا حريصون علي اداء صلاة الفجر في موعدها): اليس ذلك دليل في حد ذاته ان الحكومه-مع احترامي الشديد طبعا لمعايير القرن التاسع عشر- مفلسه؟): اما السؤال الثاني: اذا كانت "المصيبه" بهذا الحجم واذا كان الجميع يعلمون ذلك: لماذا سعوا سعيهم الحثيث وراء المنصب منذ البدايه ونكثوا بكل العهود التي قطعوها علي انفسهم بعدم الترشح؟ هل كانوا يتوقعون شيئا اخر؟ هل يريدون فعل شئ اخر؟ وماذا حدث ل "مرسي بتاع الكرسي" او "الكرسي بتاع مرسي" الخ؟ واذا كانوا يكرهون النظام السابق الي هذا الحد لماذا يتصالحون مع رموزه من "الفلول" (ماركه مسجله) ويستعينون بخبراتهم؟)

او وزير التخطيط الذي يخبرنا بان لديه خطه ورؤيه واستراتيجيه وكل شئ ولكن عنده-او ربما عند غيره-مشكله في التنفيذ: تلك المقولة السمجه لتبرئة الذات والتي تكررت مرارا علي السن ساسه الفساد والاستبداد قبل الثوره متناسيا ان قطاع لا يستهان به من الشعب اكمل دراسته وان واضع الخطط مكلف-بالضروره- باختبار خططه علي ارض الواقع ومتابعة تنفيذها والا فان كل ما تفعله الحكومه بالكامل هباءا منثورا وسيتسبب حتما في مزيد من المشكلات: فلا يخفي ان تعطل ترس من تروس العمل التنفيذي كاف في حد ذاته لتعطل سائر التروس

وهنا اتذكر نكته عن احد المجندين الجدد الذي كان يقف في الصف بانتظار دوره في التطعيم حتي اذا ما جاء دوره مسح الممرض الغشيم ذراعه بقطنة الكحول ثم زرع فيه المصل بغلظه فاحس المجند بوجع شديد ثم حكه وسأل بعصبيه عما اذا كانت الابره التي حقن الممرض بها ذراعه معقمه فاجابه بجفاء وعلي وجهه نظرة استنكار: لا تقلق يا "دفعه" كل شئ حسب الخطه فسوف اعطيك حقنه "تيتانوس" في الذراع الاخر! ولابد وانه نفس المجند الذي سئل ايضا في ادارة التجنيد اذا ما كان لديه عيوب خلقيه فرد قائلا: نعم يا فندم عندي عيب واحد وهو انني ليس عندي شجاعه كافيه!

وسوف لا تجد ما يمنع-والوضع كذلك-في ان يتفنن الانسان في استحداث تشريعات"الرتق" فنجد وزير من قبيلة تيار "استقلال الاخوان" وقد بدا وكأنه سوف يصاب بلوثه عقليه ربما ان لم يتمكن من تمرير قانونه الخاص للتظاهرات (والجنازات؟) فيما تفرغ الاخرون-من ترزية القوانين-"لتطريز" قرارات وقوانين اخري كقانون"حماية الثوره" وقانون الانتخابات (والذي لا يبدو وان له هدف الا تلبية مارب الفاشيه الضيقه) بل وقد نجد ايضا من بينهم من ينادي بقانون لمنع "ارتداء الاقنعه" (اشفي يا رب!) واكثر من ذلك من يجهر صراحة بحق الشرطه في التسلح وقتل المتظاهرين (وقبل ذلك لم يتنفس احد منهم طبعا بكلمه امام محاصرة المحاكم ووسائل الاعلام والاعتداء علي المتظاهرين والمعتصمين السلميين والتنكيل بهم-بل وقتلهم-عند بوابات القصر الجمهوري)

وامام التلاعب بالقانون قد يفترض الانسان في نفسه-لسبب او لاخر-وحسب الحاله-سلطة تشريعيه او تأسيسيه او ثوريه لتضفي السلطات الجديده "شرعيه" استثنائيه علي قراراته فيبدو الامر كما لو انه رئيسا منتخبا وفي مره اخري زعيما ثوريا وفي مره ثالثه الشعب! (وبعد ان تحول الثوار والشعب-من غير المواطنين الشرفاء-الي "فلول" يقودون "ثوره مضاده"!) وهكذا قد يستبيح الانسان لنفسه اصدار اعلانات الاستبداد التي تحصن القرارات من احكام القضاء وتحمي كيانات مشكوك في شرعيتها (ليتحول مجلس استشاري-ثلث اعضائه تقريبا من المعينين-وبغرابه شديده-الي مجلس تشريعي!): واكثر من ذلك نجد من يجور علي السلطه القضائيه فنراه يعين -وكما المحافظين– نائب عام شغله الشاغل ارهاب الثوار والسياسيين والاعلاميين الوطنيين ونخبة الطبقه الوسطي المتعلمه التي-رغم تواضع امكاناتها الماديه-مازالت قادره علي الكفاح وكشف حيل اراجوزات التصفيق-فكل شئ يهون من اجل "حماية الثوره": والسؤال هنا: اي ثوره؟ ثورة الشعب ام الثوره المضاده؟ "الصحوه الاسلاميه"؟ والحق ان نائب لا يدافع عن ثقافة الديموقراطيه واستقلال القضاء (او حتي يدافع عن انتخاب المحافظين) بقدر دفاعه عن منصبه: ونائب لا يحفل بمطالب الثوره-والعداله-تلك المؤجله دائما وابدا-فلا يقدم قتلة الشهداء وناهبي اموال الشعب- الي العداله: هو نائب غير شرعي ولا يمكن الوثوق به بل انه ليس بنائب عن الشعب بالتأكيد (فلا يمكن ان يتلخص المشهد باي حال في احكام براءه بالجمله للقطط السمان (اذا لم يخرجوا خروجا امنا طبعا) ثم تجاهل تام لكل ما تفعله عصابات الفاشيه الدينيه من تصرفات صبيانيه يقابله تقديم الشباب صغير السن الي "عشماوي" بسبب مشاجره استدرجوا اليها! وبالمناسبه الشباب صغير السن لا يعدم في النظم القضائيه الديموقراطيه ولاي سبب)

وهكذا قد تصبح الفرصه سانحه لان يمرر صاحبنا دستوره ودستور جماعته والذي اقل ما يمكن وصفه به انه غير صالح للتطبيق وغير مطابق لاهداف الثوره ولا المقاييس العلميه ولا الاتفاقات-والقوانين-الدوليه: اضافه الي ان هذا "الدستور" لن يوفر بحد ذاته ضمانا لانتقال ديموقراطي ناجح من الصعب ان نتصوره بمنأي عن اي اتفاق مع القوي الثوريه والسياسيه والمؤسسات الاجتماعيه الرئيسيه: وبالطبع لن يوفر هذا "الدستور"–دون تطبيق-استقرارا ولا مأكلا ولا مسكنا ولا وظيفه ولا زوجه ولا حتي شيكولاته لمن صوتوا لصالحه: بل ان طرحه علي الاستفتاء في حد ذاته وبهذا الشكل المتعجل (المجهول) لهو في رأيي شئ ملفق تماما ومخزي ورخيص (ولعلها من المرات النادره التي نري فيها استفتاء علي دستور يتحول الي استفتاء علي رئيس او جماعه او مشروع فلا تحمي الدستور قيمته-في حال وجودها-ولا تمنع شهوة الفوز في الاستفتاء (الانتخابات؟) ان يتحول الاستفتاء-كالدستور-الي استفتاء اقليه مفتقر لاية ضمانات من رقابه مستقله او اشراف قضائي (كامل) او حريه او نزاهه (اذ شابه-اضافه الي مخالفات التزوير-الكثير من المخالفات القانونيه والاداريه بما هدد حتي امكانية اتمامه كاملا ودفعه واحده): والحق اقول ان حكومه تفرح بنتائج انتخابات-او استفتاءات-ملفقه ودعايه دينيه (محرفه) واموال غير معلومة المصدر (كان لها الفضل-والي الان-في ظهور احزاب وجرائد وقنوات تليفزيونيه ومئات المقرات (والمتاجر؟) انفقت علي استفتائين وثلاثة انتخابات وعشرات "المليونيات" الاستعراضيه ذات المطالب الوهميه وغير ذلك من مصاريف نثريه مع كل دعاوي العفه والطهارة التي تسمح بها وعود الزيت والسكر) هي حكومه ترغب في ان تبقي معدلات الفقر والجهل والبطاله علي حالها علي طريقة "شعب فقير راض اسهل في قيادته من اخر متعلم وعنيد وميسور الحال" وما قد يتبع ذلك من انكماش الواجبات والامال المعقوده عليها الي الحد الادني حتي تتناسب مع مؤهلاتها! والنتيجه هي ان الشعب الصبور المسكين سوف يضطر حتما-امام ذلك-الي ان ببحث بنفسه علي طرق اخري لخدمة نفسه بنفسه نيابة عن الحكومه وبصوره قد لا تخلو من ارتجال بعيدا عن مسكنات الدروشه والطبطبه وذهنية السجان والسجين: والنتيجه ايضا هي ان الزعيم المظفر المختار الذي اختير-وباعترافه شخصيا- وفقا لانتخاب شعبي حر-وليس بالضروره وحي سماوي- وبناءا علي وعود لم يف بأي منها- سوف يتخلي عن الشعب في نهاية المطاف ويتركه فريسة الغضب والحرمان والفرديه واللامبالاه الي ان يحين موعد الانتخابات او تحين ذكري الثوره: ان لم يفقد شرعيته طبعا قبل ذلك-وكما حدث فعلا- بسبب رغبته المحمومه في جمع السلطات والاستثناءات وكما ارتضي هو بنفسه ولنفسه: وانا شخصيا اشك في ان يتحول حزب سياسي يعمل باسلوب تجاري بحت يبيع ويشتري كل شئ-تقريبا- بما في ذلك المبادئ-الي مشروع وطني يعمل من اجل الوطن والعقيده او ان يستمر حتي في تقديم الرشاوي الانتخابيه)

باختصار: "مشروع" يبرر كل ما تريده الفاشيه الانتهازيه من ضروب كذب وخداع والتواء لابد وان يكون "مشروع" سطحي: كما ان منصب يفصل المبادئ عن السياسه هو في حد ذاته عملا لا منطقيا!

والمثير انه حتي ماكيافيللي لم يبن نظريته-بالضروره-علي حكم استبدادي مطلق علي غرار دول العصور الوسطي فالمفاجأه انه كان يفضل نظام الحكم الجمهوري الديموقراطي ويعتقد انه الافضل لمن سماهم "الشعوب المستنيره الفاضله" (فالشعوب التي لا تتقيد بالاخلاق وجوهر الدين-كالشعب الايطالي مثلا في زمنه- وحسب رأي ماكيافيللي-يراها ماكيافيللي شعوب غير مؤهله بعد للديموقراطيه ومن ثم لا يصلح معها الا نظام المستبد العادل الذي يفرض الفكر والفضيله والسياسات والقوانين (والدستور) بالقوه ومن خلال خيارات محدوده: اذ لم يوص ماكيافيللي في حقيقة الامر بحكم استبدادي الا في حالتين فقط الاولي: نشوء الدوله والثانيه: اصلاح دوله فاسده: بمعني ان الحاكم الذي احرز السلطه بطرق ديموقراطيه ثم لجأ-فيما بعد-الي صيانتها وتعزيزها وتنميتها بطرق استبداديه يرتد بشكل او باخر علي تعاليم ماكيافيللي! وان لم يخرج بالكامل طبعا عن روحها وعلي اية حال يعتقد اغلب الدارسين المعاصرين ان نظرية ماكيافيللي ما هي الا  اجتهاد محدود يشوبه الكثير من التناقض وعدم الترابط مرتبط بظروف عصره: اذ يبدو في افضل الاحوال-وحسب رأيهم-كما لو كان نظريتين متضادتين في نظريه واحده: احدهما لتأسيس الدوله واخري لاستمرارها)

والانسان عندما يركب السياره لاول مره-او ينشئ اسره-فانه يركز كل اهتمامه في مراقبة تصرفاته وان وجد نفسه يتخذ قرارات خاطئه فيسير في خط متعرج مثلا او عكس الاتجاه فقد يطلب المساعده من ركاب السياره بدلا من ان يدعي-بلا دليل-قدرات خارقه علي القياده او يفزع لاي خطر او حتي يخبرهم بان عليهم ان ينتظروا الي الابد او "يموتوا بغيظهم" ويغادروا ان لم تعجبهم طريقته في القياده! حسنا! كان في استطاعة الركاب ان يغادروا وان يتركوا "الغشيم" يقود السياره كما يحلو له واكثر من ذلك يسترخون علي العشب المجاور ويستمتعون بالمشهد وهم مدركون طبعا ان الامور لا تسير كلها في صعوبة القياده بين الاشجار وان "الغشيم" سرعان ما سيصطدم بواحدة من تلك الاشجار ظنا منه ان مجرد ايمانه بوجود اله سيذكره انه صار فجأه محترف -في خياله طبعا- وانه حتي اذا ما اصطدم فان كل جرح الي التئام!

واستطيع ان اتذكر الان تلك النكته التي تروي عن مدرس قيادة سيارات جلس الي جوار الجده العجوز بطيئة التعلم متوسطة الذكاء ليعلمها القياده (وبعد ان ظنت في نفسها ان مجرد تمكنها من الجلوس امام عجلة القياده يمكن ان يجعل منها "محترفه" في قيادة السيارات) وكانت تتجه بالسياره مباشرة باتجاه شجره ضخمه هنالك قال لها: سيدتي بقت عدة دقائق فقط وينتهي درسك الاخير ....هل يمكنني الان ان اريكي كيف تدوسين علي الفرامل؟

واعتقد ان اولي مقتضيات الحوار الجاد هو ان يجد المرء شريك اولا قادر علي الالتزام بمعايير الصدق والوفاء بالوعود واكثر من ذلك ان يكون هناك ضمانات واليات حقيقيه ومعلنه تضمن تنفيذ النتائج عند التوصل اليها وتحمي-في نفس الوقت-الطرف المتضرر البعيد عن مركز اتخاذ القرار والا تحول الحوار الي نوع من الاستجداء: والاستجابه لارادة التغيير ومطالب-واهداف-الثوره ليست عيبا او حراما ولا تنتقص من كرامة احد: وعلي الجانب الاخر فان ارادة التغيير لا ترضي باستبدال نظام راكد متخلف باخر مثله او اسوء منه او تكتفي باصلاح سطحي لما هو في حاجة الي تغيير جذري: كما ان فعاليات التغيير لا تصبح فعاله الا باستمرار ممارسة الضغوط علي "تنابلة السلطان" ومن خلال العض علي الجرح الذي يؤلمهم حتي يعملوا وينتجوا ويتطهروا (او يرحلوا) ودون ان نسقط في مأزق توزيع الاتهامات علي رفاق النضال (وهو مثلب قد يتردي فيه بعض النقاد سواء في البرامج الحواريه او في اعمدة الرأي عندما يصبون جم غضبهم علي الجميع بلا استثناء بدلا من ان ينشغلوا بوحدة الهدف وما تتسم به قضايا الثائر والسياسي الوطني من صدق ومنطق وبعد نظر: فهم بذلك-في رأيي-لا هم لهم الا حل قضيتهم الازليه وهي: هل يمكن ان يكون الكل علي باطل (عدا صاحبنا السائل وحده المحق)؟ او هل يمكن ان يصبح الانسان مستقلا او وطنيا او موضوعيا دون ان يساوي بين المسئول والمعارض: الضحيه والجلاد: المعتدي والمعتدي عليه؟ )

وهناك ما يبرر القلق فمازالت الهوه او منطقة التضاد بين الثوار والسياسيين الوطنيين في جانب وبين قطاع كبير من المواطنين البسطاء-ممن يشبهون اكثر الشخصيه النمطيه التي تولي احترام اكبر للتقاليد القديمه-ايا كانت مثالبها—في جانب اخر متسعه الي حد كبير الي درجة اننا اذا ما حاولنا ان نتصور-احيانا-حجم تلك الهوه فاننا قد نعجز

وبامكان المرء ان يدرك عمق هذه الهوه عندما يجلس لساعة واحده الي رواد احد المقاهي في بعض القري-والاحياء-الصغيره (تلك التي لم تكن يوما بمثل هذه الكثره) وحيث ينصت الانسان الي مجالس النميمه هنالك حيث يوجه البعض نظراتهم في تحد وتشكك-وعلي الاخص تجاه الجيل الجديد ممن تبدو علي وجوههم الثوره حيه نابضه-بانتظار من يعترض: وقد يعمد الاهالي الي اكثر من مجرد النظرات فيصوبون السنتهم ايضا لينالوا من كل ما له قيمه عند هؤلاء الثوار: رجال ونساء: فلا يشعرون بادني حرج حين ينقمون عليهم ردودهم المفحمه والتي لا تضع حدا-بالنسبة اليهم-لامكانية ان يتغير العالم وان لدي الانسان الفرصة دوما كيما ينظر الي الحياه نظرة اعمق وان يجد طريقه الي الخلاص: فبالنسبة الي بسطاء الناس فان العالم لم يكن يوما عالما مثاليا لاي احد ولن يكون مثاليا انهم حتي ليسوا متأكدين من انهم يستحقون هذا الشعور المتعلق بالحياه ذلك الذي يتغلغل داخلهم: فهم لا يتذكرون الكثير من الايام المبهجه التي ضحكوا فيها من صميم افئدتهم بلا خوف (فاذا لم يكن المرء ثريا او مقربا من الحاكم الباطش الطاغيه فالافضل -من وجهة نظره- ان يرضي بحظه-ولو قليلا- قبل ان يدهس تحت عجلات الحياه في ساعته ويهلك! وبذلك فهو وفقا لمقاييس العداله تاره ثم وفقا لما ناله من حظوظ في هذه الحياه تارة اخري (وهو–من وجهة نظره- ليس بالكثير) لا يستحق هذه النهايه المرعبه تحت عجلات القطار المتهالكه اذا ما حدثت):

ولذلك اعتقد اننا بحاجه ماسه الي ايجاد نقاط اتصال بهؤلاء الناس وبث الامل في نفوسهم تارة اخري تجاه المستقبل واكثر من ذلك اقناعهم بانهم يستحقون مساواه كامله باي مواطن اخر وان التغيير الشامل والعاجل لن يتم الا بهم

ولقد اكتسبنا مع ثورة الياسمين- الي جانب الحريه-جيل جديد ذو ذكاء اجتماعي من نوع فريد ينظر اليه المرء بعين الفخر والاحترام ابتدعوه وطوروه بانفسهم-وبلا غرور-كما لو ان الامر قد تم بصوره عفويه: انهم بلا شك-ككل المعاصرين لاحداث الساعة الجسام-ومنذ ان بدأت عمليات التحرر- منذ الاف السنين-يشعرون بروح التحدي تتسرب اليهم وتملأ اعماقهم بقلوب حيه نابضه وباراده حره اكثر صلابه من الجرانيت: وعندما تصغي الي هؤلاء الشباب فانك تسمع -وسط تعليقات السخريه- دوران عجلة الزمان تدور بك وتكاد تقتلع اذنيك: لقد تمكنوا من ابتكار حزمة المفردات والقيم التي تناسبهم ووضعوا قانونهم الاخلاقي الخاص: وبحيث احتفظوا من خلاله بطهرهم وشجاعتهم وصراحتهم ولكن في اطار من وعي وحذر: ان كثير من هذا الشباب ارهقتهم المشاعر السلبيه التي اتسم بها جيل الاباء والاجداد: لقد ادركوا ان مناخ الخوف واليأأس والحظر والرقابه والكذب والميوعه لن يسهم باي صوره في ايجاد احساس صادق او فكره واعده جريئه: لقد ادركوا ان السعاده النهائيه  لا يمكن ان تكتمل بان يسيروا في نفس الدرب القديم -المليء بالاخاديد- الي ما لا نهايه:

انهم شباب اطهار كرسوا جل حياتهم من اجل مبادئهم فلم يشأ اي منهم ان يزيف اي من هذه المبادئ بالخوف من الموت: او كما قال تشرشل: لقد وصلنا الي نقطه لا يبدو ان هناك فائده كبيره في ان نكون اي شئ اخر

الخطاب الديني: هل حان الوقت لتطويره بنفس الجرأه والشجاعه التي ثارت بها الشعوب؟ (2)

مع منتصف القرن العشرين كان الناس يحكمون علي درجة تحضر بلد ما من خلال الطريقه التي يتعامل بها الساسه مع شعوبهم بحيث ان السياسي الذي يضع نصب عينيه القيام بمسالك تنطوي علي خدمة مارب عامه ينحاز فيها الي الضعيف والمحتاج والمظلوم–حتي قبل ان يبادر بالشكوي- هو سياسي محب لوطنه ويعيش في بيئه علي درجه عاليه من التحضر والوطنيه والثقافه الانسانيه

اليوم يحكم الناس علي درجة تحضر بلد ما من خلال الطريقه التي يتعامل بها الساسه مع الطبيعه فنجد البلدان المتحضره تضع البيئه في جدول اولوياتها فتعتني بنظافتها وصحة مخلوقاتها سواء التي يقتنيها الناس في بيوتهم ومزارعهم او تلك غير المستأنسه التي تعيش في العراء

فاصبح الحيوان والنبات-كالبشر-ينعمم اليوم في البلدان المتحضره بحياة اطول وصحه افضل فما منهم الا ويجد من يعتني به هو بمثابة صديق شخصي له يطعمه ويفحصه فيشخص له علته ويقدم له العلاج وكيفما كان المرض فان فرصته للشفاء التام اصبحت اكبر: فمع تنامي العلم اصبحنا نعيش غمار ثوره عظيمه في الطب البيطري فلا احد في البلدان المتحضره يتحدث اليوم عن العوده الي العلاج بالعسل او حليب الماعز او الحجامات او شرب بول الابل او قراءة الرقي والتمائم لطرد العفاريت وخلافه وانما اصبح السؤال الذي يدور اليوم في اذهان العلماء هو: وماذا بعد؟ هل يمكننا حقا ان نقضي قضاءا مبرما علي جميع الامراض المستعصيه ونستدعي-من ثم-احلام الخلود؟ (تذكر انه يعيش بيننا اليوم ملايين الحيوانات الضاله من كلاب وقطط (وبشر؟): وتذكر انه حتي هذه الحيوانات تحصل علي نصيب وافر من الرعايه في البلدان المتحضره)

 وبشكل عام يمكننا ان نتعرف علي ثلاثة مدارس رئيسيه للفكر السياسي: الاولي هي المدرسه الفلسفيه وهي مدرسة توماس مور وقديما فلاسفه عظماء كسقراط وافلاطون وارسطو والفارابي وغيرهم وهي المدرسه المعنيه بعلاقة السياسه بالفلسفه وبمجالات اخري كالتاريخ وعلم النفس والاجتماع والاخلاق والميتافيزيقا الخ وتقوم علي اعلاء المبادئ الفكريه والمثاليات اثناء ممارسة العمل السياسي وعيب هذه المدرسه انها قد تجنح عن الواقع حتي تنفصل عنه في نهاية المطاف ومن ثم تتفرغ لتناول امور خياليه وغير منطقيه

الثانيه هي المدرسه القانونيه وهي مدرسه جان بودان وتقوم علي اعلاء المبادئ القانونيه اثناء ممارسة العمل السياسي فتعتني تلك المدرسه اكثر بالحقوق والمساواه امام القانون فيدور البحث غالبا حول الشرعيه والسلطه والسياده ومصدرها والياتها وطبيعة العلاقه بين المؤسسات الدستوريه المتاحه وموقع المواطن وصاحب القرار السياسي فيها ومن خلال المفهوم القانوني الضيق بما يجعل السياسه–بل الدوله باسرها–تحت تأثير مجموعة من الاحكام والبروتوكولات المفروضه بقوة القانون والتي تحرك-او لا تحرك-المجتمع : وعيب هذه المدرسه ان افراد المجتمع قد لا يستغنون عن القانون في كل امور حياتهم مما يحولهم-في نهاية المطاف-الي مجموعه من الاليات اذ يأتي التعليم والتربيه وفقا لهذا الفكر في مرتبه متدنيه

واخيرا المدرسة الواقعيه والتي تعتني بالعمليه السياسيه من حيث انها تفاعل متبادل بين الفاعلين الرئيسيين في الواقع السياسي والاجتماعي علي طريق صنع القرار من مؤسسات ومنظمات علي اختلاف مشاربها كالاحزاب والنقابات وجماعات المصالح وقوي الضغط والائتلافات الثوريه والنوادي الاجتماعيه والرياضيه والمؤسسات الدينيه والاعلاميه والقضائيه والتشريعيه والتنفيذيه اضافه الي الافراد والذين يلمعون او يخفتون وفقا لدرجة مشاركة كل منهم في هذه المؤسسات والمنظمات: وبذلك تركز تلك المدرسه علي الدور الذي يقوم به كل من هؤلاء وانشطتهم من حيث التأثير والتأثر: واهم رواد هذه المدرسه هم بيجوت وولسون وبرايس وبنتلي: وعيب هذه المدرسه انها تتصف ببراجماتيه استفزازيه تؤسس-وترسي-لبيروقراطيه فاسده جافه ثابته متحجره ممله لا يتغير شكلها: وفي الدول الفاشيه الشموليه حيث يجبر السواد الاعظم من الشعب-بصوره او باخري-علي الانضمام الي حزب الحاكم (وهو الحزب الوحيد المتاح غالبا): يتخذ العمل السياسي قالبا ايدولوجيا منغلقا علي العنصر والثقافه والدين قائم علي معاداة دول بعينها (وبالتالي سياسه خارجيه-ودبلوماسيه فاشله او-ذات فاعليه محدوده) ثم حشد الجميع خلف راية السلطه والسياده والدوله المركزيه "الامن القومي" الشمول و"طغيان الاغلبيه" ليميل المجتمع-نتيجة لذلك-الي قمع-وسحق-الافراد والتنظيمات المعارضه واضطهاد الاقليات العرقيه (ولنا ان نتساءل هنا عن المقصود بالاغلبيه واذا ما كانت اغلبيه حقيقيه فقد ينتهي الامر بعزل المجتمع تماما وانطوائه بعيدا عن عملية اتخاذ القرار لتصبح قاصره علي الحاكم وعصابته فتهوي معدلات المشاركه السياسيه الي ادني حد لها وكما حدث في مصر وغيرها طوال السنوات الستين الماضيه):

وهكذا اذا كنت مهتم حقا بتعريف جامع شامل للسياسه يضع في الاعتبار جميع الجوانب (اقتصاديه واجتماعيه وتشريعيه الخ) فانه يمكنك ان نستحدث لنفسك مزيج مشتق من كل هذه المدارس مجتمعه: وبحيث يمكن للسياسي–او المشرع- ان يتصور درجة المساهمه المطلوبه لكل جانب من هذه الجوانب في البناء السياسي فلا يولي اهميه متناميه لجانب علي حساب جانب اخر او ينقضه تناقضا صارخا يقصيه ومن ثم نحصل علي التوازن المطلوب

والاهتمام بالجوانب القانونيه والاقتصاديه علي حساب القيم والمفاهيم الفكريه غالبا ما يؤدي الي انحصار السياسه-والمطالب الشعبيه-في مجملها في الامن والتشريعات ومجموعة المصالح الاقتصاديه المتداوله فينتهي الامر بان تسود القيم الاقتصاديه والقانونيه وحدها بعيدا عن القناعات العقليه وبواعث الروح الانسانيه (الي ان يظهر احد المختلين عقليا ليدعي لنفسه "سلطه تأسيسيه" محصنا قراراته من احكام القضاء)

وفي هذه الحاله قد يصبح القول بان "السياسه هي فن الممكن" ممكنا فعلا طالما انها ستكون فنا للممكن العام وليس الممكن السياسي او الاقتصادي او القانوني كل علي حده (مع الوضع في الاعتبار مقتضيات الحقبه الزمنيه التي يمر بها المجتمع وما هو مأمول مستقبلا فالمجتمع الذي يمر بثوره او عملية تغيير مثلا لا يمكن ان يتحجر بطموحاته عند حدود الممكن الواقعي: والا ستكون النتيجه ان تنفصل الفعاليات السياسيه والقانونيه عن فعاليات التغيير وتصبح بمنأي عنها واحيانا في تضاد والي ان تستقر المبادئ الجديده في صميم مكوناتها)

وهو ما قد يقودنا الي مفهوم التحضر او التمدن Civilization وهو مفهوم مرتبط اساسا بقدر ما تبذله الدوله من جهود وما توفره من فرص لبناء–وصيانة-اكبر عدد ممكن من المجتمعات المتطوره المنتجه القادره علي تحقيق اهداف التنميه: وبحيث تحفظ تلك المجتمعات لقاطنيها من الافراد حرياتهم وحقوقهم واحتياجاتهم الاساسيه من تعليم وصحه ومسكن وعمل وعدل وخبرات اتصال: ومن هنا يظهر دور الحكومه وهو التأكد من ان هذه العمليه تجري في الاتجاه الصحيح بمنأي عن ذلك الصراع الازلي بين الماضي والحاضر: الحضر والريف (او الباديه) واقناع الناس بالتحضر اكثر من مجرد نشر ثقافه لتحل محل اخري

ولقد تعرفنا من كتب التاريخ علي العديد من المدن العظيمه والتي كانت بمثابة الصخره الصلبه التي بني عليها الملوك القدامي انظمة حكمهم وحضاراتهم: مدن مثل بابل Babylon ونينوي Nineveh ودمشق وخيتنا (قطنا) ومنف Memphis واون On (هيليوبوليس Heliopolis) وطيبه Thebes واورشليم واثينا وروما اضافه طبعا الي مدن عديده ظهرت في فترات اخري لاحقه مثل الاسكندريه والقسطنطينيه وقرطاج وقرطبه وبغداد والقاهره: وبحيث ظلت تلك المدن–وما استجد منها-تتنافس في صنع الحضاره ونشرها اشبه بحجر كريم يضفي علي كل ما حوله من معادن اخري قيمته فيما يستمد وهجه هو من مكونات مادته الخام: او شجرة فتيه تتكئ علي كنز ضخم من الخصوبة فيما تستمد عافيتها من خلال قدرتها علي الاثمار والانتشار

فكان كلما استحال علي هؤلاء الملوك صيانة مكونات الحضاره القائمه او التكيف مع الافكار والمشاعر والقيم والمهارات والخبرات الطارئه اذا باهل هذه المدن انفسهم يثورون عليهم او يهجرونهم منتقلين الي اماكن اخري اكثر وفره وحداثه

ولنتصور كيف ان يمكن ان يكون الدافع الحضاري محركا جبارا لكل ثوره او حركة وطنيه وبشكل يمكن ان يفوق كل الاهداف مجتمعه سياسيه او اقتصاديه

ولعل الدافع الحضاري هو الذي دفع اخن-اتون-ويبدو انني سوف اتحدث عنه لفتره-الي ان يتنازل عن الكثير من احلامه ورغباته ويقبل بالخروج-واتباعه من عاصمة ملكه (طيبه) فاختار منطقه تتوسط المسافه بين الشمال والجنوب كانت–حتي ذلك الوقت- لا تزال ارضا بكرا خاويه من السكان وهناك شيد مدينته الجميله "اخت-اتون" (وهو المكان الذي نطلق عليه اليوم "تل العمارنه" بمحافظة المنيا ولا يخفي لماذا اختار اخن-اتون هذه البقعه بالتحديد فقد كان يرغب فيما يبدو في ان يلعب دور "العزول" الذي قد يعطل اي وحده سياسيه قد تقوم بين الشمال والجنوب في غيابه!): ولا تزال بقايا هذه المدينه شاهده علي حلم اخن-اتون: والدارس الجيد لتلك الحقبه يلاحظ كيف ان اخن-اتون جعل تخطيط مدينته مؤسسا علي الاكثار من الطرق والحدائق فيما لم يقسم المدينه الي قسمين احدهما للنبلاء والاخر للعامه بل حرص كل الحرص علي ان تتجاور المنازل الصغيره جنبا الي جنب مع القصور الشامخات في تناسق واحد فريد: في الوقت الذي جعل فيه قصره-ومعبده-مزارا وملاذا مفتوحا متصلا اتصالا وثيقا بحياة الناس فيما يشبه الاشتراكيه-الديموقراطيه بمفهومها الحديث: واكثر من ذلك لم يحصن مدينته-علي اتساع رقعتها-باسوار وابراج مراقبه كما كان رائجا في زمنه (ما يوحي ان سكان المدينه كانوا اناس سعداء مطمئنين وانهم لم يكونوا ابدا في موقف تراجع او دفاع عن النفس وانما في موقف مبادره واستقبال لمزيد من الوافدين)

ولنتأمل المشهد: جو ملبد ومشحون بكل عوامل التعصب والكراهيه في طيبه حمل عداء مرير لاخن-اتون وبحيث كان الشعار الاوحد هو طمس كل اثر لدعوته واضطهاد كل من يتجرأ علي الجهر بها متوعدين بقتله: فليس من شك ان الهوه التي نشأت بين اخن-اتون واعدائه قد اتسعت وبلغت حدا من السوء بحيث اصبحت حياتهم معا-في مكان واحد-جحيما لا يطاق جعل كل طرف يرغب في القضاء علي الاخر قضاءا مبرما بل ومحوه من الوجود  وهكذا اصبح الكهنه لا يألون جهدا من اجل تقليب الناس علي اخن-اتون ومحو اسمه والقابه الملكيه الي حد انهم كفوا تماما عن تداول اسمه في احاديثهم واستبدلوه بسباب مثل الكافر والمارق والمرتد والملحد والخائن الخ (وكان ظنهم فيما يبدو ان الفرعون الشاب (المعروف-سابقا-بحبه للترف والشهوات) سيعود حتما الي دين ابائه وانها مسألة وقت (فللقديم سحره حسب البعض!) الا ان الفيلسوف الشجاع سديد الرأي مرهف الحس خيب ظنهم واظهر عزيمه وبعد ان ضاق ذرعا بكذب الكاذبين وكبر المتكبرين ومكر الماكرين وقد قامت فلسفته اساسا علي مقت الكذب والظلم وانشاد الحق والعدل في كل شئ)

واذ يرنو اخن-اتون ببصره فاذا به يري عدد من عائلته وقد عزلوا ونهبوا وشردوا او ارتدوا وعادوا الي طيبه متعلقين بامل خلافته علي العرش وهو بعد حي: ثم يسرح ببصره مرة اخري فاذا به يري دولته المترامية وقد بدأت تضعف وتتضاءل رقعتها وتنقسم الي ممالك صغيره انفصلت عن سلطة الحكومه المركزيه في الوقت الذي اصبحت فيه خزانته شبه خاويه بعد ان انقطع ورود الجزيه من المستعمرات

ونحن اذ نتحدث عن مصر اخن-اتون فاننا نتحدث عن امبراطوريه عظيمه اخضعت العالم القديم فكانت طيبه مركزا لسياساته وتجارته: ولابد وان اوضح هنا ان العلاقه بين مصر الوادي وجيرانها كانت دوما علاقة تأثير وتأثر نتيجة الاختلاط الذي شاع قديما في تلك البقعه من العالم ولالاف السنين: اذ حرص الفراعنه المصريون علي ان يفتحوا ابوابهم لاعراق وديانات وفنون ولغات متعدده فيما كانوا يستقدمون الامراء ورؤساء العشائر من الممالك الخاضعه لسلطانهم-مع ماتم نهبه طبعا مما خف وزنه وغلا ثمنه- ليدرسوا في مدارس الوادي بغرض ان يصبحوا رسلا للثقافه المصريه اذا ما عادوا الي بلادهم فيضمنون بذلك ولاءهم (فمقولة "عمار يا مصر" لها تاريخ! وهناك ادله علي صنوف من الرقص والموسيقي والغناء والمخبوزات والخمور والزيوت والفواكه والعطاره وفدت الي وادي النيل في ذلك العصر ومكثت حتي ذابت في الثقافه المصريه بمرور الزمان فتوارثها المصريون ونقلوها الي احفادهم كابر عن كابر بصفتها جزء اصيل من التراث المصري)

وان كثير من الخلطاء ليفصلون وقائع التاريخ عن احداثيات الجغرافيا فما نلبث ان نراهم ينتهون-عند تفسيرهم للاحداث-الي استنتاجات تحتاج–في رأيي-الي مراجعه: وعلي سبيل المثال يتصور البعض ان الدوله المصريه كانت-وفي كل العصور- المساحه التي نرسمها اليوم في خرائطنا ووفقا للاسم الشعبي المتداول حاليا (مصر): والحق ان الممالك والدول القديمه انما كانت تتسمي باسماء ملوكها او عواصمها او وفقا لاسم الاتحاد الذي ينشأ بين الممالك-او الالهه -الرئيسيه برئاسة الفرعون (او الامبراطور او السلطان): فدولة الملك مينا مثلا كان اسمها الرسمي "مينا" او "نار-مر": اضافه الي "منف" و"طوي" Tawy وتعني اتحاد او مزاوجه بين مملكتين والمقصود هنا مملكتين رئيسيتين: (1) مملكة الجنوب وهي المساحه التي تجمع اليوم ما بين محافظات الاقصر واسيوط وسوهاج وغيرهم: (2) مملكة الشمال وهي المساحه التي تجمع اليوم محافظات دلتا النيل (وفي عصر الملكه حت-شب-سوت-جدة اخن-اتون-نمت الدوله وامتدت الي بلاد بونت جنوبا (اثيوبيا والصومال وكينيا حاليا): كما امتدت شرقا الي ضفاف نهر الفرات وغربا لتشمل حوض البحر المتوسط باكمله او "الساحل الفينيقي" فيما اصبحت طيبه-رغم انشائها الحديث نسبيا هي المقر الدائم للفرعون او "الباب العالي" ولم تكن قبل ذلك-اي قبل نجاح اخ-موس في طرد الهكسوس وعودة الوحده-مرة اخري-بين الشمال والجنوب-سوي احدي المدن الرئيسيه اللواتي تبادلن الحكم في مملكة الجنوب): اما اسم "مصر" فهو اسم عبراني ينسب الي انسان اسمه مصرايم بن حام تعتبره التوراه الجد الاكبر لاول من استقروا بمصر من ابناء ادم: اما كلمة "قبط" او "ايجيبتوس" فمشتقه من "كيمي" kīmi وهي كلمه اغريقيه تعني "الارض السوداء" او اللون الذي تميزت به ارض الوادي وهو نتاج الطمي الذي كان يأتي مع النهر من الجنوب وحتي منتصف القرن العشرين:

والحق ان حالة الانهيار التي اصابت السياسه المصريه في عصر اخن-اتون كانت شامله اذ لم تقتصر الانقسامات علي المستعمرات فقط وانما تعدته الي ربوع الوادي حيث تصاعدت النعرات وتنامت العصبيات ومعها اوجه الاهمال الي حد ان بعض ملوك المستعمرات تجرأوا واعتدوا اعتداء مباشر علي "الوادي المقدس" نفسه! وكثيرا ما وجدت مصر نفسها طوال قرون عديده وقد اصبح عليها ان تكافح-في كل مره-من نقطة الصفر-كيما تستعيد عافيتها: فلم يكن اخن-اتون وحده المسئول عما الت اليه الامور وانما ظروف عديده لها علاقه بارث ضخم متراكم من الظلم والطغيان: ويشهد التاريخ أن الفرعون الاب هو اول من استقبل رسائل الاستغاثه التي ارسلها اليه ملوك وامراء الميثاني وبابل واشور وسوريا وكنعان الخ طلبا للنجده (لمواجهة النزعات الانفصاليه التي تفشت في مدنهم): ويشهد التاريخ ايضا انه كان يسد اذنيه ولا يستجيب لطلباتهم! ولعله لم يعد قادرا علي ذلك: فقد شابت سياسات امون-حتب الثالث العديد من التصرفات غير المسئوله والتي دامت طوال فترة حكمه (عقود ثلاثه) بداية بالتعامل مع مصر-والمصريين-كما لو كانت "العزبه" الخاصه والبقره الحلوب التي تجلب له-ولاهله-المتع والثروات من مال وعبيد وجواري وخلافه الي حد ان سنته تلك تحولت مع زمرته من الامراء والنبلاء وقادة الجيش والكهنه الي ثقافه وبجهود ذاتيه! (بما يفسر لماذا ادخر هؤلاء كل هذه النقمه تجاه اخن-اتون اذ بدا الامر وكأنه يحاول التدخل لفرض تغيير ما علي الثقافه المصريه فكان هذا ولا شك بمثابة صفعه دنيئه او صب للماء البارد علي رؤوسهم وهم مكلفين-وفقا لقناعاتهم-بالحفاظ علي الهويه والشريعه والشرعيه الخ)

وهي ليست المره الاولي-علي اية حال-التي يحاول فيها كهان امون المتشددين التدخل في الحياه السياسيه فقد حصل مثل ذلك قبلها بعقود عندما تحدوا حت-شب-سوت وعزلوها بالتضامن مع شريكها في الحكم تحت-موس الثالث بسبب انها كانت اكثر انفتاحا علي ثقافات اجنبيه وبالقدر الذي هدد-من وجهة نظرهم-الهويه المصريه: ولابد وان اوضح هنا ان جهود كهان امون النهمه انصرفت-بداية بالاسره 18-الي توطيد سلطانهم ومضاعفة ثرواتهم حتي تمكنوا في عقود قليله من الهيمنه علي كل شئ تقريبا فاصبحت رؤيتهم هي المفسر الرئيسي  لكل من اللاهوت الديني والحياه العامه علي حد سواء: وكان علي رأس المتذمرين طبعا كهنة رع وسدنتهم في منف واون وبعد ان اهملت معابدهم وهجرت مدارسهم (وعندهم مدارس العلوم والفنون العريقه والتي تتلمذ فيها- الامراء والملوك لقرون ولديهم-ايضا-المزارات المقدسه (الاهرامات وغيرها) ذات التكريم المبجل والماضي المجيد والمجد التليد): وما غاب عن كهنه امون-او تعمدوا اغفاله- هو ان اللاهوت المصري لم يكن في يوم من الايام منفصلا عن تاريخ الفكر الانساني (وان كانت حصتة فيه اكبر): وان ديانة اتون لم تكن–في واقع الامر-سوي مزيج عصري ما بين الاجنبي والمحلي (وان كان حصه ما انتحلته من المحلي اكبر)

وعلي اية حال اختلفت الاراء حول منشأ ثورة اخن-اتون واهدافه من ورائها وهل كانت وليدة اختلاف في وجهات النظر بينه وبين الكهنه: ام ان الامر تعدي ذلك الي تنافس سياسي مع رجال القصر: ومع ذلك قد يأتي من يؤكد ان ديانة اتون لم تكن من وحي فلسفتة وانما نتيجة الهام سماوي تنزل علي نبي اخر (توراتي) تصادف ظهوره في ذلك العصر (انتحله اخن-اتون لنفسه) استنادا الي ذلك التشابه العجيب بين فقرات من انشودته وايات من مزامير داوود النبي: فاعتبر البعض اخن-اتون نبيا مزعوما واعتبره البعض الاخر فرعون موسي نفسه! وعلي الرغم من افتقار تلك الاراء الي الادله الا ان هناك ما يكفي من الاثار لكي يعتقد الانسان ان اخن-اتون قد عاش في عصر يسبق عصر داوود وبالتالي فان نشيده هو الاصل:

وبقراءه سريعه لكتاب يوشع بن نون نجد انه يخصص السفر السابع والثامن بالكامل للحديث عن معركه رئيسيه خاضها يوشع ضد مملكه وثنيه قديمه يقال لها "اي" AI وبحيث انتهت هذه المعركه-وبعد طول قتال-بانتصاره فيها قبل ان يتمكن من ابادة اهل المدينه عن بكرة ابيهم واسر عدوه وشنقه ثم دفنه بعد ذلك "حتي اذا غربت شمس ذلك اليوم امرهم ففكوا جثمانه من الشجره ودفنوه عند بوابة المدينه واقاموا فوقه ركام عال من احجار" (8:29 يوشع): ولقد عرف التاريخ "اي" ملكا مطعون في شرعيته جلس علي عرش طيبه-بعد وفاة توت مباشرة-ما يقرب من سنوات ثلاث وقبل ذلك كان مقربا من اخن-اتون ومن زمرة المتحولين الي دينه (قبل ان يعود الي القديم): فهو احد ثلاثه-الي جوار صديقيه المقربين "حور-محب" (قائد الجيش) و"رع-موسيس" (الوزير الاول)-عاشوا حياتهم يدينون بالولاء لامون-حتب الثالث: وفي كتب التاريخ اختفي اخن-اتون بصوره مفاجئه-وغامضه-دون ان نعلم ما حدث له ليخلفه علي عرش طيبه الملك توت-وانا املك مشاعر تجاه هذا الشاب-والذي كرس فترة حكمه بالكامل-او كما بدا علي الاقل-لاجهاض ثورة سلفه: والارجح ان رجال القصر (اي وحور-محب ورع-موسيس) تصوروا انهم اصبحوا في حل من ولائهم للفرعون بعد موت الاب-وثورة الابن - فارادوه حلا سريعا لتهدئة الموقف فالتجأوا الي الصبي المسكين وفي نيتهم تحريك الاحداث من وراء الستار-بالتضامن مع الكهنه طبعا-في اتجاه توريث العرش فيما بينهم وبحيث يخلف احدهم الاخر!

ومما يؤسف له ان احد لم يعثر حتي الان علي جثمان اخن-اتون بصوره قاطعه فهو لم يدفن في المقبرة التي نقرها لنفسه في اخت-اتون ولكن العلماء عثروا-وكما هو معروف-علي مقبرة خلفه واكتشفوا من خلال الفحص الدقيق انه ربما يكون قد اغتيل في حادث مدبر: ورأيي ان هذه الجريمة-اذا صح ان نسميها جريمه-حوت في جنباتها لحظه فارقه-وعصيبه-من ظروف التحول الكبري في تاريخ مصر-والعالم-والقت بظلالها-بالتالي-وبصوره محوريه-علي الشخصيه المصريه-وكل ما تلا ذلك من احداث والي اليوم (ولعل اخن-اتون استطاع في النهايه استمالة اهل الشمال الي صفه في حربه مع طيبه ولعله لم ينجح في ذلك فاغتيل وانتهي كل اثر له: ايا كان الامر فان قصة اخن-اتون-او مأساته- تذكرني كثيرا باسطوره "فايتون" اليونانيه والتي تروي كيف ان ابن "فايتون" الاله فويبوس قائد مركبة الشمس سأل اباه ان يتركه يقود المركبه مع وعد بانه سوف يصل بها الي بر الامان فلما فعل احترقت واحترق معها!) 

اما البطالمه فنحن نتحدث عن اناس حرصوا-ومنذ البدايه-علي تأسيس حضاراتهم بشكل علمي مرتب فما لبثوا ان انشأوا المدارس والمكتبات واقاموا الموانئ والاساطيل ومن ثم حرصوا علي اقامة قنوات اتصال-وتجاره-ناجحه مع الجيران فازدادت ثرواتهم ونمت علومهم وخبراتهم ومعها رغبه قويه في علاقات اكثر انفتاحا مع دول العالم خاليه من الاحقاد: وهكذا اصبحت عاصمتهم (الاسكندريه)-وبعد قرن واحد فقط-عروس البحر المتوسط ونقطة التقاء الشعوب والحضارات (ويعجبني كثيرا ذلك الوصف الذي وصف به احد المؤرخين القدماء تلك الوحده التي جمعت شعوب المتوسط خلال هذه المرحله حيث شبهها بالقيثار ذي الاوتار المشدوده بدرجه واحده اذا ما ارتخي احد الاوتار زال الانسجام فيما بينها):

ويقال علي ما ذكره البعض ان مكتبتي السيزاريوم والسيرابيوم حوتا ماده ضخمه من المؤلفات في كل مناهج العلم فكانتا مقصدا للعلماء وبحيث ركزوا جل اهتمامهم علي قراءة لفائف العلم وتدارسها والاقتباس منها ثم اعادة صياغة ما اقتبسوه في مؤلفات جديده كانوا يهيبون بالحكام في مقدماتها ان يستطلعوا رأي العلم قبل رسم السياسات واصدار الاحكام كما كانوا يستطلعون اراء المستشارين من الفلاسفه والنبيين Oracles: فلئن كانت الحقبه البطلميه الخليقه بالاعجاب تتسم بظاهره فانما في العنايه التي وجهها الناس الي التعليم والعلماء بحيث لم تقتصر الدراسه علي التراث الاغريقي فحسب بل تخطته الي مصادر التراث الانساني من كل حدب وصوب وبحريه كامله (ومنه ما كان قد اندثر كل اثر له في وطنه الام): فكان ذلك بمثابة نشوء الشراره الاولي لما نسميه اليوم ثورة المعلومات (والديموقراطيه؟): وقد كانت عملية الاطلاع نفسها تمر-في اماكن اخري-بشروط معقده للغايه بما يحيطها بالكثير من السريه والحظر: وهناك قصه طريفه تتحدث عن زيارة قام بها فيثاغورس الي مصر في عصر الملك اماسيس (حوالي 500 ق م) حيث قابل هناك كهنه من منف واون وديوسبولس املا في ان يسمحوا له بتحصيل العلوم في مدارسهم غير انهم رفضوا ان يقبلوه الا بعد امتحان وفعلا خضع فيثاغورس لامتحان مطول في المدن الثلاث لزمن غير قصير ويقال انهم بالغوا في امتحانه فسألوه اسئلة عسيره وطلبوا منه واجبات لا يعلمها الاغريق وتخالف عقائدهم كيما يمتنع ويعود الي وطنه غير انه اصر علي الاستمرار الي ان قبلوه علي امل ان يجدوا سببا لرده! وفيثاغورس–لمن لا يعرف-هو عبقري زمانه ليس في الرياضيات فحسب فقد كانت له اراء فلسفيه وطبيه بل ولاهوتيه مهمه وهو اول من قال بدوران الارض حول الشمس واول من تخيل الكون-والطبيعه-خاضعين لقوانين الرياضيات)

وقد تكون ملاحظه جديره بالتأمل ان نعلم ان الانبياء-كمعلمين اخلاقيين- اتبعوا نفس خطوات البناء الحضاري تقريبا التي اتبعها البطالمه مع فارق وهو انهم استفادوا من الافكار والقيم الروحيه الاصيله التي ابلغتها وانفردت بها الرسالات السماويه

والمفارقه انه علي الرغم من ان معظمهم سمعوا كلمة الله الحيه اثناء رحلات تأملهم في الصحاري المقفره الا انهم عندما عادوا الي المدن المكتظه بالسكان اذا بهم-في مواجهة كل الشكوك-يبشرون بمجتمعات حره متحضره: ولذلك لم تكن الاديان عند ظهورها اديان ريف وبداوه كما لم تكن اديان طبقه ثريه وانما طبقه وسطي متعلمه واجهت-وظلت تواجه-الطغاه الفاسدين المنفصلين عن شعوبهم من اولئك الذين كانوا اساري روح مغلله بالذاتيه تسعي ولفتره طويله وراء مطالب حسيه بحته لا تعبئ بضعيف ولا تنصر مظلوم ولا تعطي محروم

وهكذا لم ينفصلوا في اي وقت بافكارهم ووصاياهم-بل خوارقهم وكراماتهم-عن دوافع الروح الانسانيه ومعايير المنفعه العامه وقوانين الزمان والمكان: فكان الانبياء بذلك ابناء عصورهم من خلال الدور الذي لعبوه جميعا لصالح نمو الحضاره وتطورها ورقيها فهم-الي جوار الجانب اللاهوتي-فلاسفه وقضاه واطباء قضوا حياتهم مهتمين بعلاج النفس البشريه وتحرير العقول والضمائر وفقا لاعتبارات مرعيه اعتمدت-وبشكل اساسي-علي سبل المحاججه العقليه وبحيث لم تنحرف النصوص عن العقل بما يرهقه وانما ربطت الايمان والعلم باواصر متينه مبنيه علي تفسيرات ذات تسلسل منطقي وبحث دقيق وملاحظه حره:

ورغم ان هذا النهج كان لا يتيح للانسان انذاك مركزا متميزا الا انه لم يكن لهم من راحه ولا نصيب من المسره الا روح الشهاده المتناميه داخلهم ولهذا انتهي اغلبهم الي نهايات غير ساره علي الاطلاق بل مفجعه: اذ لم يكن من بين اهداف النبوه تحقيق اهداف ومصالح سياسيه او اقتصاديه او ان يظل فريق بعينه-وعملائه "الثقاة"- مختارا ووكيلا عن العلم والايمان والسلطه (بلا محاسبة؟) فيما يظل الاغلبيه الساحقه من السكان تحت وصايتهم مطاردون -الي مالا نهايه-  بدعاوي الجهل والكفر والخيانه (اذ ظل المغزي الاصلي من وراء الرساله حاضرا دوما في اذهانهم: فليس هناك ما يمنح الرساله-اية رساله-صفة النضج ويجعلها-في نفس الوقت-جديره باهتمام الناس الا ان تكون صادقه ومحدده الملامح وحافله بالمغزي اذ ان ذلك يهيئ لها من النضاره بحيث يستحيل ان نجدها بعد ذلك هزيله او سطحيه او ثانويه او جامده)

فمع ظهور المسيحيه خطا الانسان خطوات ابعد عن ميوله المتحدره باتجاه الطغيان والوحشيه ومن خلال روح جديده نابعه من حالة تحرر وانسجام مع تيار الحضاره المتاحه ممزوجه بمشاعر المواجهه والتطوع الايجابي القائم علي التفاني وانكار الذات: فحملت المسيحيه نداءا ثوريا عبر-الي وقتنا هذا-عن شعور متنامي بالحريه والمسئوليه فكان ثمرة ذلك ان جددت مصر من ثقتها في نفسها واكتسبت الشخصيه المصريه بعدا اكثر نضجا فاصبح المصري يتناول بجرأه اكبر-وامال اعرض-العديد من الظواهر الاجتماعيه والاستقراءات الطبيعيه والعقائديه: وبصوره فصلت العلم عن الانتماءات الدينيه فاصطبغ بلون حر سمح وبدا ان عصر جديد بدأ يبزغ ويتشكل من تاريخ مصر لم يكن في واقع الامر سوي مرحله جديده ازدهرت فيها عبقرية الفكر ورقي الخلق وتحضر الممارسه (لاحظ ان المسيحيه-بسماحتها المعروفه-هي اول من نبه الي ضرورة القضاء علي الفكر الوثني وانهاء العبوديه وتحقيق مساواه تامه بين البشر ايا كانت انواعهم والوانهم: وعلي مستوي الانسان الفرد دعت المسيحيه الي تحقيق نوع من التوازن النفسي بين اخلاط شخصية الانسان الرئيسيه-واضدادها العنيفه-العقل والجسد والضمير وبحيث ترتبط لديه النزعه الحسيه مع النزعه الحدسيه في مركب واحد يمزج الايماني بالتجريبي: والمتخصص قد يلوح متحيرا امام ذلك التحول السريع الذي احدثته المسيحيه في شخصية مصري ذلك الزمان: فمع نهاية الحكم البطلمي كان الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لاغلب المصريين وضعا مزريا للغايه وشبه منهار اذ انخفضت مكانة التعليم وفقدت العديد من القيم والمشاعر والافكار مكانتها بحيث صار الانسان يشعر بنفسه اكثر كعبد لسيد-او طاغيه متسلط-افضل من كونه انسان حر متعلم ومسئول: في الوقت الذي ارتفعت فيه مكانة التجاره والحرف اليدويه ارتفاعا ملحوظا فلم يعد من احد يتطلع لان يصبح معلما او متعلما عدا ربما قليل جدا من الناس)

شئ مماثل حدث ابان الفتح العربي وليس غريبا فكذلك كانت سنة النبي محمد فمنذ ان هاجر الي "يثرب" اصبح شغله الشاغل ان تتحول من قريه صغيره نائيه وسط الصحراء الي مدينه عصريه وبحيث استمرت مكانتها تلك لديه سنوات طويله حتي بعد ان تمكن لاحقا من العوده الي بلدته القديمه "مكه" وبسط سيطرته عليها: ونحن نعلم كيف انه احب مكه كثيرا وكيف ان اهله (قريش) عرضوا عليه الملك-شرط ان يترك ايمانه الجديد-غير انه ابي وقبل الحصار والاضطهاد حتي تمكن من ان يجد له في يثرب انصار ومقر لجوء: وهو دليل علي ان النبي محمد لم يكن في واقع الامر رسول سياسه وانما رسالته-في جوهرها-هي رسالة علم وحضاره وهو ما ابقي علي تعاليمه حيه حتي بعد وفاته بمئات السنين فانتقل العرب بفضلها حضاريا من بدو رحل الي الاتصال بالحضارات من حولهم والتفاعل معا (ولقد علمنا كيف ان اول ما فعله بني اسرائيل بعد هجرتهم ان سارعوا ببناء مدن ونظم حكم جديده: اذ لم يقتصر الهدف علي النجاه من بطش فرعون-كما هو شائع-بقدر ما ارتبط بدافع التحضر والتطور: ويقال ان انبادقليس هو نفسه لقمان الحكيم وانه عاصر ابنا من ابناء النبي سليمان الملك واقام فتره بمصر والشام وان العلم ازدهر في زمنه فبلغ مراحل تشبه تلك التي عرفها العالم في القرن 18 م)

ومع ان المصري لم يذهب الي حد التسليم المطلق بكل ما وفد اليه من ديانات وثقافات-كما شرحت-فاحتفظ  دوما بقدر من شخصيته الا ان الحضاره البطلميه ثم الرومانيه ثم العربيه تمكنت-وبشكل ملفت-من الاستحواذ علي جانب كبير من اهتمامه: فقد اصبحت اللغه الاغريقيه-ثم العربيه-لغة العالم المتمدن في هذا الزمان او ذاك-هي لغة مصر الرسميه فيما اتخذ الغالبية الساحقه من السكان اسماء اغريقيه-ثم عربيه-خالصه او مزيج ما بين هذا او ذاك وبين اسمائهم المصريه (فقد ظلت للشخصيه التي اكتسبها المصري في العصور القديمه جذور محكمه وظل المصري-رغم الام الغزو والاحتلال-مسيطرا تماما علي ثقافته وقد احرز شعورا داخليا بالكبرياء الوطني (غير المبرر احيانا :P) نابع ربما من ايمانه العميق بانه ينتمي الي حضاره عريقه ونظام اجتماعي له قيمته: ويشهد علي ذلك ابقاء المصري علي الهته القديمه-الي جوار الهة الاغريق-في معابد تلك الايام: كما تشهد الثورات العنيفه لاحقا ضد الاباطرة والسلاطين بعد انشقاق المصريين علي مذاهب المحتل وفرماناته وتحملهم في سبيل ذلك اشنع اضطهاد)

ولكن لكي نفهم تلك العلاقه الازليه بين التحضر التدين لابد وان نفهم المفاهيم المضاده مثل "التخلف" و"الدوله الدينيه" باعتبارهما الظاهرتان اللتان يسعي التحضر-والتدين-الي مواجهتها والقضاء عليها

اما (النخلف) فهو ينطوي علي حاله متعاظمه من الجمود-واحيانا الانهيار-تكتنف اسس البناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وبعد ان اصبحت العلاقات القائمه لا تمثل هدفا للتنميه والتحديث وانما علي النقيض من ذلك عقبه تعطلها عند مستوي معين سواء علي مستوي المؤسسات-والمنظمات-الكبري او العلاقات الفرديه البسيطه (اسره وجيره) كل علي حد سواء: والنتيجه ان المجتمع غالبا ما يعاني-بسبب التخلف-انواع من الانقسامات والصراعات والازمات المتلاحقه وبحيث تتشابك كل الظروف في كومه واحده مرتبكه غير مواتيه للعمل والانتاج (والحياه؟)

بمعني اننا نتحدث عن ازمات شرعيه واداره واختراق وسوء توزيع وتدني خدمات في وجود حاله تنطوي علي وضع متأرجح ما بين انفاق غير رشيد واستهلاك غير رشيد وارتفاع اسعار وندره استثمار وبدائية طرق انتاج وتقلص حجمه بالنسبه لمتوسط الدخل ومن ثم انخفاض حاد في مستوي المعيشه بين السواد الاعظم من السكان يليه ركود:

ومن المتصور والوضع كذلك ان يتسم هذا البلد بتردي ملحوظ في منظومة القيم والمشاعر والافكار في ظل اختلاف ملحوظ في المدارس الفكريه وتعددها وتنوع خلفياتها الثقافيه وعدم وجود حدود فاصله بين الرؤي وبعضها البعض نظرا لتداخلها الشديد في ادمغة البعض والخلاف الواضح بين مريديها وهو الخلاف الذي قد يتسبب بدوره في خلاف اخر مواز لدي المتخصصين والساسه الايدولوجيين (غير الناضجين) فيما يتعلق بتصورات كل منهم واهدافه وخططه تلك التي لا يشترط ابدا ان تكون علي وئام مع الصالح العام او مع الاسس والمصادر العلميه-ليصبح التوصل الي تعريف عصري جامع ومحدد-ومتفق عليه-للدوله واللسياسه والقانون والتحضر والديموقراطيه-بدون مراجعة هذه المدارس-وعلاقتها بالعلوم الاخري-كالعلوم الفقهيه والشرعيه-وهي علاقه متشابكه اساسا وتتسم بالمشاركه-من الصعوبه بمكان: في حضور ارث من المغالطات والمصطلحات التي تعالج المفهوم الواحد باكثر من معني (وبالتحديد مفهوما التنميه والتحديث والنطاق اللذان يعملان من خلاله) او تلك المرتبطه بنظريات التامر مثل التغريب والامركه الخ والتي عادة ما تندرج علي تشكك واتجاهات سلبيه بلا نهايه تجاه الاخر (وبالتحديد النموذج الذي تتطلع اليه تجارب التنميه والتحديث): تتدرج ما بين ضيق افق مبني علي سوء فهم او نقص في المعرفه او تبسيط او تعميم الي حد طرح اتهامات عريضه بالكفر والخيانه والانحلال الخلقي الامر الذي ينعكس علي الثقافه وعملية التربيه والتعليم بشكل عام (ازمة هويه؟)

اما الدوله الدينيه (الثيوقراطيه) فالتاريخ يخبرنا كيف ان تدخل رجال الدين والمؤسسات الدينيه في العلم والسياسه يمكن ان يكون له عواقب سلبيه للغايه علي العلم والدين والسياسه: والدوله الدينيه-بالمناسبه-ليست مرتبطه بتجربه سياسيه او دينيه معينه وكما هو الاعتقاد السائد وانما هي دوله تؤمن-وبشكل عام-بأن السلطه مصدرها السماء وان الله هو من اختار الحاكم لممارستها-وليس الشعب-وبناءا علي ذلك ينبغي علي الشعب ان يخضع للحاكم-وزمرته-خضوع مطلق واطاعته طاعه عمياء علي اعتبار انه منفذا لاراده الهيه (فهو القاضي بشرع الله ومصدر كل سلطان وسلطانه تعلو فوق كل قانون بل هو المفسر الاوحد للمله والاجدر بان يقرر ما هي وبذلك فلا يمكن ان يكون موضوعا للحساب بواسطة البشر: اذ انه-وحسب هذا الفكر-من طبيعه تسمو علي طبيعة البشر: فان اصبح شريرا فسوف يحاكمه الله من وجهة نظرهم في الحياه الاخره):

وقد اتخذت تلك النظريه علي مر العصور اتجاهات عده فمنها ما كانت تنسب الالوهيه الي الحاكم مباشرة ومنها ما ذهبت الي ان الحاكم مجرد مفوض من الاله-او ابن له-بصوره مباشره (وهو ادعاء سقط فيه اخن-اتون (ابن اتون) نفسه اذ نجده–عند نقطة-يفرض حكما ابويا علي رعيته فلا يقبل نقد لاوامره-غير ما اعتاد هو فعله بنفسه-بل انه حرم مجرد التبشير بدقائق ديانته-ومنها التداول العلني لانشودته-الا باذن منه باعتبار ان اتون هو ربه الشخصي وابوه السماوي: ولعل اخن-اتون لم يستطع ان يتخلص بالكامل من العديد من الامور التي سادت عصره وما استجد عليها من تقاليد)

ومنها ما نسب الي الحاكم تفويضه في الحكم من الخالق بصوره غير مباشره اي بواسطة رجال الدين من "العلماء" الاقرب من غيرهم الي الله (الموكلين بالاختيار) وهو ما اصبح الدعامه التي استند اليها انصار الدوله الدينيه في العصور الوسطي وما بعدها علي طريق تبرير الحكم المطلق لحاكم والدفاع عن "شرعيته" و"هيبته" واحكامه ضد وجهة النظر التي قضت بامكان مقاومته وتغييره

ويرجع ذلك عندما بدأ مفهوم "الشعب" في الظهور وبعد ان ذاعت فكرة فصل "السلطه الدينيه" عن "السلطه الدنيويه" (ومع ذلك وجدت فكرة تأليه الحاكم صدي في صدر العصور الحديثه وفي دول واعده مثل انجلترا وفرنسا والمانيا كما يمكن ان نستنتج من قول الملك جيمس الاول في القرن السابع عشر من انه من العدل ان يطلق علي الملوك الهه لانهم يمارسون ما يشبه سلطة الله علي وجه الارض: او مقولة لويس الرابع عشر الشهيره: "انا الدوله" واعتبار نفسه "صاحب السلطه الاصلي المحاط بهاله القداسه": وفي القرن العشرين-وقبيل الحرب العالميه الاولي-اذا بجليوم الثاني امبراطور المانيا يقرر في احدي خطبه بانه يستمد سلطته من السماء وانه مختار اختيارا الهيا وبناءا علي ذلك فانه-وكما قال-لا يحفل بالرأي العام ولا البرلمان: ونحن نعلم كيف ان اليابانيون ظلوا يقدسون اباطرتهم الي نهاية الحرب العالميه الثانيه تقريبا)

ومع ذلك يبقي اكثر الرهان منصبا علي اوروبا العصور الوسطي اذ ستظل ماثله في الاذهان كأقبح سبه في تاريخ الحماقه الانسانيه وعلي نحو اكثر ارتدادا من اي عصر-او تجربه- اخر: وكيف لا وهو العصر الذي استسلمت فيه العديد من المجتمعات الاوروبيه لذل محاكم التفتيش الرهيبه فاصبحت المؤسسه الدينيه-بفضله-لفتره-قرينا ثالثا للقصر والثروه: ومن ثم اطبقت بمخالبها بكل ما اوتيت من قوه-كلما تسني لها ذلك-علي العلماء والمفكرين في عصورها ووجهت العلم والثقافه

ولولا ان افرز عصر النهضه-ولحسن الحظ -طبقه وسطي قويه ضاقت بموات العقول وتحجرها وثارت علي طبقة الاساقفه والنبلاء الاقطاعيين وخاضت النضال الي نهايته وبذلت في سبيل ذلك التضحيات لما تمكنت من نقل ثمار نهضتها (من علوم وفنون ومخترعات) الي الطبقات الادني (ولاحقا الي العالم): فالي جوار العلماء والفلاسفه النابهين ظهر رجال صناعه واقتصاد ورجال اصلاح ديني بادروا بتجديد افكارهم ومشاعرهم فاكتشفوا معان واساليب جديده لها علاقه بالحريه والمساواه واستقلال الفرد (مهتدين باقوال عظماء مثل بن سينا وتوما الاكويني من ان الحريه لها دور في خلاص الفرد وان الخلاص يتم عن طريق الايمان وان مناط الايمان هو العقل والامل في هدي الله وبذلك فلا تناقض بين الحريه والعقل والايمان طالما انه لدي الانسان حتي الحريه ليكفر):

ولعل برونو ذلك الفيلسوف العظيم هو اكبر من وسع-في ذلك العصر-مفهوم التضحيه الي اقصي اتساع له فكانت النتيجه ان قدم حياته قربانا علي مذبح الركود والرجعيه والارهاب الفكري: اذ اتاح له ايمانه الشديد بصواب ما توصل اليه ان تحدي المحاكمة الهزليه التي اقيمت له من جانب الديوان المركزي لمحاكم التفتيش ليدفع ثمن ما اعلنوا انه "الحاد" و"هرطقه": اذ وجدت الجهاله ضالتها فيما يبدو في شخصه الضعيف فطاردته والقت القبض عليه وسجنته زهاء السبع سنين لقي فيها الامرين وتحمل الام تعذيب وحشي لا حدود له (فالي جوار الضرب بالسوط كان هناك ايضا الخازوق وتمزيق الاحشاء وختم الجبهه بقضبان الحديد المحمي بكلمة ملحد الخ): علي أمل أن يتبرأ من ارائه و"يتوب" علي ايدي رجال الدين "الاطهار" الا انه ابي وانتهي الي النهايه التي لم يكن منها مفر (الاعدام حرقا في احد ميادين روما): وقد كان جل ما فعله هو انه اجتهد بفكره وانتقد-بشجاعه-الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المزيف الذي كانت تعيشه اوروبا انذاك: فاصبح بحق مضربا للامثال في "الخلاص من سطوة البهيميه" (أحد أهم كتبه)

وعلي الرغم من التقدم النسبي في العلم والرفاهيه الذي عرفته المجتمعات الناطقه بالعربيه في العصور الوسطي-مقارنة باوروبا-الا انه لا يمكننا ان نتجاهل ان الكثير من عينة هذه الممارسات سادت تلك المجتمعات ايضا وانتهت الي نتائج مشابهه

فقد تجسدت السياسه انذاك-وبشكل عام-في حكم فردي وراثي بجميع مقوماته التاريخيه (الاسره والعرق والسياده والمذهب الديني) وكتب التاريخ حافله بممارسات فساد وطغيان وموجات خلاعه واسراف علي الملذات من جانب سلاطين العباسيين والفاطميين والايوبيين وغيرهم وما نتج عنها من تنكيل بالضعغاء واضاعة الحقوق وكبت الحريات بل ووصل الامر الي حد التردي في مجازر مروعه وبالتالي عاهات نفسيه وجسديه-عديده- دامت مع هذه المجتمعات لفتره والي مشارف العصر الحديث

ومع ذلك فاي من هؤلاء الملوك والسلاطين لم يكن-في اي وقت-ممثل للهويه الوطنيه ولا حامي حمي الدين او حتي الشعوب التي حكموها اذ طغت علي اهدافهم دوما نزعة سياسيه-عسكريه بحته واستخدموا الدين في ذلك ابشع استخدام (وباعتراف اهل ذلك الزمان)

فكثيرا ما عمرت دواوين حكمهم بثله من المستشارين الثقاة (اضافه الي الشعراء وادعياء العلم ممن يسمون انفسهم "فقهاء" دع عنك خطباء المساجد طبعا ممن كانوا يمتدحونهم ويدعون لهم بلا انقطاع) غير اللامعين من الناحيه العقليه وغير الخلاقين من الناحيه الفنيه وغير مستعدين لتقديم تضحيات او ان يواجوا العالم بروح انسانيه-واقعيه (تجريبيه) قليلة الانفعال اذ اقتصرت وظيفتهم الاساسيه علي ان يزينوا للطواغيت احكامهم واعمالهم فيبررون الصالح والطالح علي حد سواء ومن خلال نصوص دينيه مستغلين عاطفة الناس تجاه كل ما هو تراثي: فازدهرت في تلك العصور-وهي عصور انحطاط بالتأكيد-ولاول مره-صنائع "الامامه" و"الافتاء" بفتاوي الحلال والحرام: كما ظهرت نظريات "الامه" و"الولايه" و"دولة الخلافه" الخ: في الوقت الذي انطلقت فيه-مع سقوط الحكم العباسي في بغداد ودمشق والاموي في الاندلس وتصاعدت الدعوه الشعوبيه- دعوات اضافيه مثل "العوده الي صحيح الدين" و"تطبيق شرع الله" و"حماية دين الله" الخ ومن خلال نبرة الحشد والتوحد تحت راية "الاسلام" لصد العدوان القادم من الخارج (الصليبيين والمغول: والطريف ان المغول الذين دحرهم بيبرس في عين جالوت كانوا قد تحولوا الي الاسلام قبل ذلك بقليل!)

ومعلوم انه حتي ذلك العصر لم يكن المسلمون قد استطاعوا ابدا من توحيد انفسهم في دوله او ثقافه واحده تجمعهم وبصوره طوعيه (سلميه) الا ربما لاحقا في العصر الحديث ومن خلال افكار واساليب وازياء علمانيه بحته مصدرها الغرب (وقد كان جل ما يميز المسلمون افي عصور نهضتهم-اي قبل ظهور الفرق والمذاهب والحروب الطائفيه-حرصهم-في جميع اماكن تواجدهم-علي حرية الفكر والاعتقاد واكثر من ذلك لفظهم لفكرة ان رجل الدين هو الواسطه بين الفرد وربه في جميع ما يحل بالانسان من امور حياته الماديه والروحيه: اذ كان رجال الدين-حتي وقت قريب-ليسوا اكثر من اناس عاديين من اصحاب الرأي والاجتهاد لا وصاية لهم علي احد ولا حجر: وكان في وسع اي مسلم بالغ عاقل ان يدلي بدلوه في ضروب الفقه والبيان ويؤم الناس في الصلاه او يصلي بمفرده دون الاستعانه برجل دين: اضافه الي تفوقهم في علوم اخري مثل التاريخ والجغرافيا والفلسفه والنفس والاجتماع والطب والهندسه والرياضيات والفلك والموسيقي لاقطاب الفكر والفن من امثال طاليس وانبادقليس وفيثاغورس وديموقريطيس وابقراط وسقراط وافلاطون وارسطو واخليدس وارخميدس وغيرهم: وبعد ان اصبحت تلك العلوم-بفضلهم-موضوع لدراسه عميقه كامله وليس مجرد اشراقات مجمعه من عقائد قديمه: بخلاف ما كان يحدث في اوروبا اوائل القرن السادس عشر والتي كانت مشغوله-حتي ذلك الوقت- بدائرة من العنف والفقر والجهل والتشدد والتزمت الشديد في الملبس والمسلك: بما يؤكد ان التغيرات الكبيره التي وقعت في اوروبا لم تجد لها قرينا مساويا لها-بعد-في بلادنا ولو علي مستوي النظريه: علي الرغم من حرص الغرب علي الاستفاده من تجاربنا وانماطنا الحضاريه ونقلها الي بلادهم ولولا ذلك لما تمكنوا من احداث نهضتهم قط: والي اليوم يعتبر العديد من المؤرخين المعاصرين الحروب الصليبيه بمثابة الخط الفاصل بين العصور الوسطي وعصر النهضه)

وعلي المستوي الفقهي فلا وجود لفريضه اسمها ولايه او امه او دولة خلافه (وبالتحديد تلك القائمه علي التفويض الالهي وطغيان الاغلبيه والتفسير الحرفي للنصوص والانغلاق علي احكام شرعيه معينه من مذهب معين يروج لمعطيات زمنه): ولعل اللبس الحاصل اليوم قام علي اعتقاد بان اول خلافه كانت لقائدها ابو بكر صاحب النبي الكريم والذي تولي-من بعده-رئاسة المله (الحديثه نسبيا) والمؤمنين بها (علي قلتهم): الا انه اعتقاد قام-في رأيي-علي مغالطه تاريخيه فابا بكر كان-في واقع الامر-"خليفة رسول الله" وكما لقب هو نفسه: وهو لقب وكما هو واضح ليس لقبا سياسيا وفقا للمعني العصري المتداول وبالتأكيد لم يكن ايذان بسنه جديده (بعد وفاة الرسول وانقطاع الوحي): ومع ذلك فقد انتهت خلافة ابي بكر تلك رسميا-ونهائيا-بوفاته وانتشار المله وتعدد الفتوحات وظهور اول"امير للمؤمنين": فذلك كان-بلا شك-بمثابة النشوء الاول للسياسه العربيه وايذان بعهد جديد يخضع لاجتهاد البشر تحول معه-لاحقا-"امير المؤمنين" الي "امير المسلمين" الي "ملك" ثم سلطان" وهكذا في انفصال تام عن تاريخ الدعوه الدينيه تلك التي كانت-حتي ذلك الوقت-سلمية: اذ لم تنتشر المله العربيه في واقع الامر الا بجهود الدعاه الوافدين والتجار والصناع: والدليل علي ذلك هو ان السواد الاعظم من المصريين ظلوا-حتي اواخر العصر الاموي تقريبا-مسيحيين ويتحدثون اللغه الاغريقيه: في الوقت الذي ظلت الاقليات الدينيه (مسلمه ويهوديه ووثنيه) تبني دور عبادتها وفقا لنمط يميل الي الطراز القبطي (الروماني-الاغريقي) وهو المصدر الاصلي لجوامع وكنائس هذا الزمان)

والجواب علي التساؤل عن السبب الذي يجعل الايدولوجيات الفاشيه والدوله الدينيه مغريه بهذه الدرجه لمجتمعات حوض البحر المتوسط يجب البحث عنه–في رأيي-من خلال التطور الفكري لتلك المجتمعات:

فاذا كان برونو هو الانعكاس الاكبر-وكما شرحت-لروح التحرر المتوثبه من اغلال السلطه الدينيه في العصور الوسطي فقد تكفل ماكيافيللي بتقديم الوجه الاخر لتلك الروح وعلي اكمل صوره: وحينما تقلب في مأثورات ماكيافيللي تجد العجب العجاب فهو ينصح الحاكم بضرورة "ان يقترف الاساءات دفعه واحده وفي صورة عقاب جماعي وطالما ان الفرصه سانحه: اما المنافع-اذا ما اقدم عليها-فيجب ان يمنحها قطره قطره حتي يشعر الشعب بمذاقها ويتلذذ بها" حسب رأيه اذ لن يتسني لحاكم- في نظره-تحقيق مراده الا بتحطيم ارادة الطبقه المطحونه من غالبية السكان (العدو الرئيسي) واخضاعها لارادة حاكم مهيمن ومن خلال ربع او نصف اشباع اي وفقا لما يحدده الحاكم وحده من سياسات وبحيث اذا ما فارت الحاجات الاساسيه عن الحدود المسموحه تجد من هو حريص دوما علي الا يبلغها مبلغ اشباع علي امل ان يتراجع هؤلاء الافراد باحلامهم الي ادني درجه فيرضون بالقليل او ينفصلون عن الواقع فيراهم البعض مجانين يسعون وراء ضروب المستحيل

اذ تتلخص رؤية الحاكم الطاغيه ماركة ماكيافيللي عن الدوله علي اساس مبدأ الوفره ليس فقط بوصفه عامل من عوامل الكفايه وانما كدليل علي انتصار الارادة: فالعامه– في نظره- ما هم الا قطيع من البطون لا عقول لهم ولا رؤي ولا اذان ولا احلام ولا ذاكره "مكبلين تماما فيما يتكالبون عليه من مباهج الحياه وماربها الماديه" وبحيث يتحول حزب الحاكم الطاغيه ماركة ماكيافيللي -في نهاية المطاف-الي شبكه معقده من اصحاب المصالح الاقتصاديه (السريه) هدفها الوحيد حماية الشعب من "خراب" محتمل اذا ما سقط الحاكم او اصر الشعب علي تغييره: فلقد صنع كل ما في وسعه كيلا يتحرر شعبه من روابط "الاستقرار" طوال فترة حكمه وكيما يصبح هو وحزبه الدوله: حكومه وبرلمان وقضاء واعلام! (وبتفسير واحد للاستقرار هو الجمود والسكوت والتواري في البيوت: عشش الفراخ؟)

فالسياسه-في رأيه-هي السلطه والسلطه هي غايه تعلو عما سواها من غايات وهي اساس لكل علاقه (داخليه وخارجيه) وفي اطار من المنفعه وفي صورة مصلحه عليا وقرارات "سياديه" ومثل اعلي باطش يبذل كل ما في مقدوره كي يحافظ علي سلطاته (واكتساب المزيد) ودون اصلاح الاثار المترتبه وان كانت خاطئه وان كانت ضاره وان كانت غير قانونيه (وليس غريبا فماكيافيللي هو ابن النظره البراجماتيه البارده اذ لا ينبغي-في رأيه-السماح باي قدر من تحد للسلطة فالتحدي في حد ذاته "اهانه": والسلطه صاحبة السياده  غير قابله للرد او النقد: السؤال والمحاسبه والحاكم بذلك خارج اي تقييم قانوني او اخلاقي بل ومنطقي ايضا: وتلك هي طريقته في فصل الفكر والخلق القويم عن السياسه فيما يبدو: فقد يتحول الخير والنفع فجأه-وفي اي وقت-من مرتبة "المطلق" الي مرتبة "النسبي": فما هو شر من وجهة نظر المفكريين والاخلاقيين (او المهتمين بحقوق الانسان) قد يكون خيرا من وجهة نظر الحاكم الطاغيه طالما ان له دور في تعزيز السلطه: فالفكر والخلق القويم هو شئ مقدر وجميل وكل شئ ولكنه في نهاية المطاف مجرد وسيله من اجل بلوغ الهدف المنشود (السلطه؟) ودون ضجه: بمعني ان الخير لابد وان يتوائم مع السلطه ليبقي خيرا والا تحول الي شر: فان استثار الفعل رد فعل-لا سمح الله-ورأي صاحبنا ان الامور تمضي في اتجاه معاكس لاطروحاته يغدو الفعل-وهذه نقطه جوهريه-شرا ينبغي تحاشيه اذ لم يصبح الشر شرا لاكتشاف مفاجئ بانه مجافي للدين (فقد يجد له في النصوص الدينيه من الاسانيد ما يؤيده) ولكن لاخفاقه في تحقيق النتائج المرجوه: وفي اطار من اعتبارات اقل ما يمكن ان يقال عنها انها غير شريفه وغير وطنيه وطالما ان كل شئ يتم في اطار من شرع الله! اشبه بعملية استدعاء عفاريت)

وهنا يمكن للمرء ان يتساءل-وكما تساءل ماكيافيللي نفسه-عما اذا كان علي الحاكم ان يختار بين ان يكون محبوبا او مهابا: وعما اذا كان علي الشعب ان يختار بينه وبين الفوضي او بين الثوره والخضوع التام: وعلي اية حال-ومما لا شك فيه- ما من مجتمع يرضي بالخضوع لاراده حاكم فرد الا وحلت به لعنة الفرديه فيستسلم لمطالب (اقتصاديه) بحته: ومن ثم تنتشر قيم سلبيه للغايه كالذاتيه واللامبالاه والانعزاليه وانحسار المسئوليه الاجتماعيه وانقسامها في مجموعه من المسئوليات الفئويه الخاصه بكل مؤسسه علي طريق التفتت والتحلل: وهنا قد ينشغل المواطن بحياته الفرديه فيعيش فيها بذوبان كامل غير مبال بالحيوات الاخري التي لا تتلاقي ابدا معه فيما يشبه الجزر المنفصله المتضاده المتصارعه او انابيب الالعاب الدوديه بما يمثل تهديد خطير لاسس المجتمع ككل: وهنا قد يتساءل الانسان عن جدوي استقلاله بمعزل عن مجتمعه وامام عجزه عن مواجهة الحاكم منفردا فالحريه-والاستقلال-في رأيه-في هذه الحاله-من شأنها ضياع)

وعند هذه النقطه اتذكر حكايه داله للغايه حكاها ذات مره راهب فيلسوف عن حاوي خبيث كان يملك عددا من "الخرفان" ويجد متعته في خداعها: ولانه لم يشأ ان يستأجر "للخرفان" راعيا كما لم يشأ ان يبني سياجا يحجزها في مرعاها كانت "الخرفان" كثيرا ما تتجاوز المرعي وتذهب الي الغابه المجاوره بعيدا الي حد ان بعضها كان يتيه ويسقط-احيانا-في مستنقع بوسط الغابه اذ كانت تعلم انها اذا ما عادت فانها ستجد الحاوي الخبيث في انتظارها عند عودتها والذي لا يلبث ان يذبحها ويحصل علي جلودها ولحومها (وهو الامر الذي كان يغضبها كثيرا بلا شك!) واخيرا وجد الحاوي الخبيث حلا للمشكلة فقرر ان ينومها مغناطيسيا فاوحي لها بانها خالده لا تموت وان سر خلودها هو في بقائها داخل حدود مرعاها وان موضوع سلخ جلودها واكل لحومها هذا هو شئ طبيعي وضروري من اجل اتمام عملية الخلود وانه لن يؤلمها في شئ بل علي العكس سيكون مصدر سعاده بلا حدود: ثم انه وعد "الخرفان" بانه سيصبح خادم طيب ومحب ومخلص طوال فترة خلودها وانه سيكون مستعد للتضحيه باي شئ من اجل حماية-القطيع: ثم انه وعد "الخرفان" بانه سينبههم اذا بدا وان هناك خطر علي وشك ان يحيق بهم وانه سيفعل ذلك بوقت كاف  ولهذا فليس عليهم ان يقلقوا او حتي التفكير في اي شئ: واخيرا اوحي الحاوي الخبيث الي "الخرفان" بانها ليست "خرفانا" علي الاطلاق-بل لم تكن "خرفان" قط-وانما بعضها اسود والبعض نمور وذئاب وصقور وبشر من الحواه مثله! وعند هذه النقطه انتهت متاعبه مع "الخرفان" فلم يفر اي منهم خارج المرعي بعد ذلك ابدا وانما انتظروا الي صباح اليوم التالي حيث كان الحاوي الخبيث في انتظارهم يذبح الواحد بعد الاخر ويسلخ الجلود ويقطع اللحوم فيما كانوا ينظرون اليه في سعاده وصمت!

خلاصة القول: ارتبطت الرسالات السماويه في كل مراحل ظهورها-وعلي الرغم من قسوة الظروف التي نشأت فيها- ومع كل ما لاقاه الرسل من عنت في سبيل نشرها-بنزعه قويه نحو التحضر والاتصال بين الثقافات والاعراق: بحيث اصبحت الفكره الاساسيه "كيف يستقر الانسان ويعيش حياته بوفره اكثر" تتقاطع دوما مع ما يمكن ان يفعله الانسان لتأسيس نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي (دين ولغه وازياء وفنون) يحافظ علي الملمح الذي يميز الانسان عن سائر المخلوقات وهو ميله لان يصبح اكثر التصاقا باخيه الانسان ومن خلال دوافعه الانسانيه ومسئوليته الاجتماعيه وباراده حره نابعه من ضمير حي اي باختيارات علميه منظمه وباقل قدر من التشريعات: وبذلك فالخلفيه التقليديه التي تصور عالم النبوه كما لو انه محصله من عوالم متعدده كل منها منفصل عن الاخر (وبحيث ان هناك عالم يجمع الحضاره الانسانيه وعلومها في قالب واخر نبت بمنأي عنه يجمع الانبياء ورسالاتهم) انما هي في واقع الامر خلفيه تجافي المنطق وتتعارض مع كم الادله بان هناك اتصالات عديده جرت بين تجارب النبوه والحضاره الانسانيه:

فلا يخفي ان الهدف النهائي هو نقل الانسانيه من مرحله من التطور الي التي تليها ومن حالة الفرديه الي حالة تعارف واجتماع وانسجام ومسئوليه: والدرس الذي يجب ان يتعلمه المرء هنا هو ان اي محاولة لابتلاع الحضاره لصالح تفسيرات مغلقه علي مذهب او عرق او طبقه او مساحه جغرافيه او ثقافه او نظام سياسي بعينه ليست في صالح اي من الطرفين: الدين والسياسه: التدين والتحضر: وانه عندما يتوقف التحضر-والعلم-عند حدود معينه فينصرف الانسان عن البحث والابتكار والتجديد والتطوير فان الحضاره-ومعها العقيده نفسها-تتوقف وتعود به القهقري الي عهود من بدائية الفكرتنحرف معها كل الجهود-تلقائيا-عن امال واحلام الشعوب (الي ان يقوم جيل جديد حر من كل روابط الرجعيه مؤمن بحتمية بناء دوله مدنيه ديموقراطيه حديثه: جيل يدرك ان النتيجه الحتميه لمعادلة التخلف والدوله الدينيه هي دوله فاشيه مركزيه معاديه للعلم والعقل والفضيله والحقوق والحريات: دوله تقوم علي ثقافة رأسماليه احتكاريه تنتج-وتستورد-كل ما هو ثانوي وتعتبر السلطه غايه في حد ذاتها (وان هدد ذلك برامج التنميه): جيل قادر علي ان يثور ويغير ويقود وعلي نحو متصاعد باتجاه حضارة جديده يمكنها ان تحقق معادلة التوازن الواجب بين التدين والتحضر)

الا يعلمنا ذلك ان نكون شكاكين ازاء اي تناقض قد ينشأ فجأه بين العلم والايمان؟ التدين والتحضر؟ الوضعي والشرعي؟ ثم الا يعلمنا الا نأخذ ذلك التناقض بقيمته المباشره؟ ان التساؤل وحده يشبه في رأيي المزحة التي تقول بان اول من مارس الطب هو جدنا ادم بسبب عجزه عن العثور علي طبيب يعينه وزوجته علي وضع اول طفل لهما!

والخبر السعيد هو انه في حين تتسم بعض البلدان بالتخلف الاقتصادي فانها قد تخطو خطوات اوسع في معارج النمو والتقدم اذا ما توافرت لها ارادة التغيير (ثوره؟): وارادة التغيير لا تري ندرة الموارد وتزايد عدد السكان كحجر عثره وانما كاساس بناء: والنمو الاقتصادي وان كان مرتبط بحياه سياسيه واجتماعيه منظمه الا انه لا يعمل في وجود حالة جمود فالتطور-والحركه-هو سنة الكون وقانون الحياه ومن اخص خصائص المجتمعات الحره واشرف واكمل ما في الانسان من طبائع

وقديما قال الفلاسفه ان كل شئ متغير عدا التغير:

والنظام السياسي يعتمد في بقائه علي شرطين اساسيين: اولا تطوير شامل لمنظومته الاداريه عن طريق استحداث احدث السبل الاداريه والقانونيه والسياسيه تلك التي تستجيب لمستوي عال من المعايير-والتطبيقات-العلميه بشكل يضمن مكان امن وقابل للحياه-لجميع السكان علي اختلاف انواعهم واعراقهم ومعتقداتهم وطبقاتهم الاجتماعيه ومذاهبهم الفكريه علي نحو متكافئ وعلي مستوي المساحه الجغرافيه: ثم تأتي مرحلة يقوم فيها النظام بابداع عملية ديناميكيه يتم من خلالها توظيف الجهود واستثمار القدرات وانماء المؤهلات ومواءمه الموارد والقدرات والمؤهلات مع الاحتياجات فما من شك ان نجاح الوطن هو في النهايه مجموع نجاحات الافراد في جميع المحافظات: ولن يتسني ذلك في رأيي الا بتوزيع عادل للموارد والخدمات والسلطات وبشكل يضمن درجه عاليه من الاتفاق الاجتماعي والمشاركه السياسيه والتعدديه الحزبيه والتداول السلمي للسلطه والتكامل الاقتصادي والعداله الاجتماعيه: وهناك حكمة في ذلك: انه اعتراف بالحقيقة الازليه القائله: بأن الانسان لا يستطيع ان يعيش بالذات وحدها اكثر مما يستطيع ان يعيش بالخبز وحده (واعتقد انه من المهم جدا في هذه الحاله-وحتي تتم هذه العمليه بنجاح- ان يراجع النظام الوليد مراحل تطور العمل السياسي مراجعه دقيقه وشامله ليس من حيث كونها تجارب صالحه للتطبيق العملي فحسب وانما من حيث كونها نظريات علميه ايضا ومبادئ وافكار التنشئه السياسيه: وهنا يجوز للمرء ان يستفيد من ائمة مدارس الفكر الرئيسيه مثل اوجست كانت صاحب الديناميكيه الاجتماعيه وهيجل وماركس صاحبا النظريه الجدليه بشقيها الفلسفي والمادي (سياسي واقتصادي) وكذلك داروين صاحب التطور والارتقاء وبرجسون صاحب النظريه الحيويه والتي تضاعفت اهميتها مع هربرت سبنسر ودفاعه المستميت عنها وعن المفهوم البيولوجي للدول ذلك الذي برصد تطور النظم السياسيه-والاقتصاديه-كما لو كانت مخلوقات حيه تخضع لقوانين الطبيعه كالميلاد والبلوغ والاستواء والكهوله والاضمحلال)

فاذا ما فشل النظام في الوفاء بتلك الشروط: اما بسبب انه غير مؤهل لمهمته او بسبب فساده مثلا او عجزه المزمن عن تقديم حلول واستحداث افكار واساليب او بسبب فكره الرجعي غير القادر عن ملاحقة متغيرات العصر: او بسبب انه فقد شرعيته فاصبحت سلطاته-بل وجوده نفسه-مصدرا للمشكلات: او بسبب ان الحاكم بلغ مرحلة من الصلف والشك (والصمم؟ والعمي؟ والاستهبال؟) فاصبح لا يري مصلحة الشعب او يظن انه-وعصابته-ادري ربما بمصلحة الشعب افضل منه: او حتي بسبب عجز الشعب عن اقناع-الطاغيه-وعصابته- وتشجيعه-بالطرق الوديه-علي اصلاح نفسه بنفسه بما جعله يفقد الامل في هذا الاصلاح (لعيب ما في جينات الشعب-لا سمح الله-او نقص-ربما-في قدراته الاقناعيه او شحنه زائده في طاقاته وطموحاته جعلته يظن-لسبب او لاخر-انه يستحق ان يعيش حياه افضل): فان المغزي من وجود هذا الحاكم-ونظامه-يصبح محل تساؤل

بكلمات اخري: اولي خطوات الاصلاح تقتضي ان تطهر الحكومه نفسها اولا ثم تعمل وتنتج قبل ان تدعو الشعب الي العمل والانتاج (او حتي الهدايه والصلاح): وهذه مفارقه مضحكه حقا فالحكومه معنيه-وبصوره اساسيه-بما يمكن ان تفعله لخلق فرص عمل حقيقيه ومناسبه للشعب ووضع نظام عادل للاجور (والضرائب والمعاشات) وتنمية الايدي العامله المتاحه (والاعتناء بها وببيئة عملها) وتطوير-وتوسيع-قطاعات الانتاج علي اتساعها: زراعه وصناعه وتجاره وتعدين وسياحه ومواصلات واتصالات وطاقه وتكنولوجيا معلومات الخ: وازعم انه لن يتسني لها ذلك الا من خلال استرتيجيه عمل تعمل–وبشكل جاد-علي تقليص حجم الانفاق الحكومي الي ادني مستوي له وتطوير بنيه اساسيه علي مستوي جميع الاقاليم وبحيث تشمل جميع قطاعات الانتاج ثم تنظيم-وتقنين- كل الانشطه الاقتصاديه-والماليه-المتاحه-سريه ومعلنه-وضمها-وبلا شروط-الي برامج التنميه: واخيرا اجتذاب الاستثمارات (داخليه وخارجيه)

ولذلك فلا احد يحاول ان يقنعني اننا عند بناء نظام سياسي جديد-واثناء عملية التغيير--وفي خضم ثوره لم تكتمل بعد عمرها عامين- يمكننا ان ننتقل انتقالا ديموقراطيا بنظام غير قادر علي تطهير ذاته وغير قادر علي الانسجام مع مبادئ الثوره واكثر من ذلك غير قادر علي استنباط رؤيه وخطه معلنه ومتفق عليها لها اولويات واهداف وسياسات وبرامج زمنيه تضمن الية محاسبه دائمه تستعيد المسروقات (بالداخل والخارج) وتقتص للشهداء وتحارب الفساد وتحاسب المخطئ (والمجرم) وتستبعد غير المؤهل (او تؤهله) وتبحث عن المتفوق وتجده بعيدا عن اعتبارات النوع والطبقه والمنصب والديانه: بل والادهي نجده نظاما غير قادر علي اتخاذ ابسط القرارات اليوميه لادارة الدوله ودون ان يتراجع في قراره في كل مره

والسياسي المسئول يعلم انه مجرد موظف لدي الشعب وان وظيفته تقتضي ان يكون صادقا وبذلك فهو لا يقضي وقته في احصاء اعداد المتظاهرين والمعتصمين في ميادين الثوره وعلاقة ذلك بشعبيته وفرصه الانتخابيه بقدر ما يشغله ان يتفاني في خدمة بلده وفقا لما تتطلبه واجبات منصبه وسبل الوفاء بها ووفقا لما قطعه هو علي نفسه من وعود (ولا اتحدث هنا عن اهداف الثوره او اهداف الدوله مثل الديموقراطيه والعداله الاجتماعيه واستقلال القضاء الخ وانما عن اهداف الحكومه العاديه: سياسه خارجيه وداخليه)

فالمنصب بالنسبة الي السياسي المسئول  ليس غايه في حد ذاته وانما وسيله وهو في ذلك لا يدع مشاعره الشخصيه وانتماءاته الحزبيه تتغلب علي مبادئه-حتي في خضم تطاحنه الشرس مع غيره في الانتخابات-لا يتردد لحظه في مراجعة نفسه واصلاح افكاره وادواته وبصوره دوريه تضع في الاعتبار مقتضيات الواجب والصواب والمسئوليه والمصلحه العليا فلا يمر وقت طويل حتي نجده يتراجع عن اخطائه ويعترف بها فيترك منصبه ويمضي بشرف او يخضع لاليات السؤال والحساب ومبكرا جدا قبل ان تنشأ مشاعر حسد او تتنامي دوافع رفض علي هيئة تذمر شعبي تتعاظم-باتساع الفضيحه-فيتحدي الشعب بقاؤه وبقاء نظامه باكمله ومن ثم يتحول امر تغييره الي واجب وطني بل فرض شرعي وساحة نضال لا مفر منه: فرد الفعل المنطقي الوحيد علي الاستبداد هو مقاومته: والتوحد من اجل ذلك: وقبل ان يتسبب المزيد من التصلب وضيق الافق في مصيبه (وانا ضد المبادره بالعنف والمواجهات العبثيه مع اجهزة الدوله كالقضاء او الشرطه او الجيش الخ عدا حالات الدفاع الصريح عن النفس بطبيعة الحال: اذ ان فشل الرئيس او نظامه ليس معناه بالضروره فشل الدوله او سقوطها ونهايتها كما يردد البعض وانما هو فشل له ولحكومته وحدهما):

وليس ذلك لان من يعزلون من مناصبهم-مع اخلاصهم في اداء واجبهم-حمقي او لا يصلحون للعمل بالسياسه: او حتي علامه علي ان هذا الشخص "رجل دوله" او صاحب مبادئ لاننا في مثل هذه الحاله يجب ان نعتبر التمسك بالمبادئ ميزه وهو ليس كذلك (واجب؟) او ننظر الي الطبيب او المدرس او القاضي او الاطفائي او رجل الشرطه-وغيرهم من اصحاب المهن التي تحمل رساله- بنظره ادني من السياسي (وهم لا يقلون اهميه طبعا): وانما يرجع ذلك الي ضرورة ان يفهم السياسي طبيعة "المسئوليه" و"القياده" وما يتطلبه ذلك من مواهب (ليجد في نهاية المطاف-في حالة نجاحه- مواطن حريص علي الذهاب–وبدافع شخصي نابع منه- ولاسباب سياسيه- الي صندوق الانتخابات مرة اخري لانتخابه: ليس لانه قدم له-ولوطنه- منفعه عامه يستحق ان يستمر في تقديمها وانما لانه-اضافه الي ذلك-انسان مسئول يصيب ويخطئ ويحاسب ويعزل اذا لم ينجح)

اما السياسي الفاشل غير المسئول وغير المؤهل فهو الذي يقع فريسه السلطه فيعتبرها غنيمه وارث له يرثه من سلفه (حتي في وجود ثوره؟) فينكر الحقوق والحريات ويحاصر اقل محاوله للنقد كما لو كانت محاوله "لتركيعه" او افشاله او تدبير ثوره ضده او حتي عصيان مدني لتحطيم مصداقيتهم واعاقة تقدمهم (فكر مألوف؟)

كما لو ان السياسي الفاشل غير المسئول وغير المؤهل بانتظار ثورة --في كل مره- حتي يعمل وينتج ويخضع للحساب: او كما لو اننا بصدد حكومه تنتقي معارضيها ومواطنيها (المواطنين الشرفاء؟) بل وتظن ربما انها مكلفه بتقيييمهم وتأهيلهم (بدلا من تأهيل نفسها؟)

والحق انني لا اعرف كيف يمكن ان تكون المعارضه-او الثوره-مؤهله او مسئوله او منضبطه (وفي غياب برلمان؟) ربما لانني لم اصل بعد الي هذه الدرجه من التحليق الي افاق العبقريه وسمو الفكر والتي قد لا يدركها-لاول وهله-سوي المواطنين الشرفاء والمستشارين الاستراتيجيين؟

وبمناسبة الذكري الثانيه للثوره اعترف بان هناك بعض الكوابيس المزعجه التي تنتابني فاتصور بلادي وقد اصبح لمصر رئيسا -لم اره في التظاهرات الاولي للثوره علي الاقل- وقد ظهر علي شاشات التليفزيون-يتوعد المتظاهرين والمعتصمين السلميين في ميادين الثوره ويكيل لهم الاتهامات بالتامر ثم ينظر محدقا بنظارته في الفراغ بنظرة العالم الواثق علي امل ربما ان يأتي يوم -وان طال الزمان- فيصيبهم السأم او اليأس او حتي البرد فيذهبوا عائدين الي بيوتهم خاوو الوفاض نادمين علي ما اقدموا عليه وكأن لسان حاله: "خليهم يتسلوا" و"قله مندسه" و"اجنده" او "الجهل نعمه والنسيان سلطان واليأس رفيق المتحمس!" او"اتفرعن حتي لا يتفرعنون عليك وابخل كيلا يفلت الزمام" (ومع ذلك لعله لم يتساءل لحظه عما اذا كان من الممكن ان يتحول اليأس الي غضب وهم الثوار الذين بادروا بالثوره واصحابها)

وحذر فزر استطيع ان اتصوره يكذب-وينفر في نفس الوقت من اتهامات بالكذب -مدعيا-وهي مجرد عينه-بان الاجراءات الامنيه كالطوارئ وحظر التجوال وخلافه-تجاه اهلنا المناضلين في مدن القنال-مطلبا شعبيا واكثر من ذلك استطيع ان اتصوره وقد تفرغ تماما للسخريه من تعطل العاطلين وفشل الفاشلين وافلاس المفلسين فما علي الذاتيه القبيحه الا ان تسفر عن وجهها وتفسر العداله الاجتماعيه والصالح العام وفقا لمصالحها فتبرر بذلك وجودها بكل ما يتسني لها من ارقام ونسب مئويه مغلوطه (في زمن اصبحت الارقام والنسب المئويه من الكثره-والوضوح-بحيث لا يحتاج الي تعليق):

وليس غريبا فقد اصبحت التعميه مؤهلات قياده ومفاتيح نجاح: وبعد ان غابت المعلومه ولم تعد من ذكريات يمكن ان توقظ داخل البعض شعورا وطنيا نبيلا: لقد اصبحت الحقائق غريبه فلا يكاد العارف يعترف بها ولو باللسان بل قد لا يطول الامر قبل ان يجد الانسان من يهزأ بها ويعتبرها-وكل حقائق التاريخ -مجرد وساوس صبيانيه فكأننا بصدد قول ارسطو: الانسان حينما ينفصل عن العداله والمسئوليه يصبح اسوء من حيوان!

واستطيع ان اعترف انني فوجئت عندما اكتشفت ان مواهب ومفاهيم البعض عن السياسه والاقتصاد-بما في ذلك مفهوما الافلاس والدوله-قد توقفت عند ذهنية القرن التاسع عشر-وعلي الاخص تجربة حكومات "الوالي" توفيق حينما كانت الخيارات-والمبادئ-لا تخرج عن سياسات الامن والاقتصاد في الوقت الذي ظل فيه الاقتصاد-ولعقود-في حدود طبقه الملاك الاقطاعيين ولعل ذلك هو السبب ان اقتصرت جهود حكومات "الوالي" توفيق علي قطاعات انتاج محدوده للغايه مثل الزراعه والتعدين والمواصلات والتجاره بانواعها وعلي رأسها الاراضي والعقارات بطبيعة الحال (فهي مصدر "السبوبه" الرئيسيه المريحه المربحه في كل زمان ومكان):

ومع ذلك ازعم ان "الوالي" توفيق نفسه لم يتصور يوما انه سيأتي زمان-بعد ما يقرب من قرن ونصف من ظهور مشاريع تنمويه هامه للغايه مثل قناة السويس والسكه الحديد والقناطر الخيريه وغيرها-يصبح من الممكن ان تتخلي الحكومه عن دورها الرئيسي في تنظيم الانتاج والاستهلاك والاجور والاسعار وانماء-وصيانة-مشروعات البنيه الاساسيه وكل ما قد ينتج عن ذلك من خسائر في الاستثمارات والارواح والنفقات: وبحيث لا يبدو من مفر امام الحكومه الا ان تعود الي دورها التاريخي (البدائي) فتتفرغ بالكامل لجباية الضرائب ورسوم مرور السفن (او استئجار من يرضي بفعل ذلك نيابة عنها نظير اجر او سمسره) والسفر ككعب دائر من اجل جمع القروض والمعونات الوافده من الخارج ثم اعادة افتتاح المشروعات ذات الاجيال الثلاثه مرات عديده ليتحول ذلك الي ما يشبه الهوايه او اسلوب حياه: كأننا بصدد متعة اعادة اكتشاف ان تلك المشروعات مازالت تعمل في كل مره كقطعه اثريه يحتفظ بها الانسان في "سندرة" غرفة النوم يتطلع الي النظر اليها بولع وكلما واتتنه الفرصه (وبعد التخلص طبعا من حجر العثره الرئيسي والمتمثل في هذه الحاله في الثوار المجانين والسياسيين الوطنيين الخونه المندسين وكما فعل توفيق نفسه حينما اطبق-في زمنه-علي عرابي و"فلوله" العرابيين فاجبرهم علي الاستسلام ومعهم كل من فروا من قبضة جده الاكبر مؤسس الدوله من رؤساء القبائل وحفدة المماليك شيوخ المنسر: منافسوه الرئيسيون)

وهكذا ليس غريبا ان يخرج علينا احد هؤلاء التبريريون المأجورون الانتهازيون ممن يخرجون علينا بين الفينة والاخري ليدافعوا عن سياسات فاشله وثبت فشلها-بل وثار الشعب عليها-مره ومرات وفي اطار من الحل الواقعي ذاته دون ادني تطوير ليشبه الاخفاقات المتكرره كما لو انها سياره معطله محركها سليم ودائرتها الكهربيه سليمه ولكنها في حاجه ماسه الي "دفعه" بسيطه-اضافه الي الوقود طبعا-للتغلب علي وعورة "المطلع" الذي ينتظرها حسب تعبيره لنجد الموضوع وقد اختصر في الصكوك السحريه (مزيد من القروض؟ حراسة مصالح "النيوليبراليه" العالميه-والبترودولار-علي حساب دور الدوله؟ رهن اصول الدوله؟)  فيما لا يتوقف عن ان يذكرنا ان ارث الفساد والاستبداد ثقيل وانه طال لسنوات تتجاوز الثلاثين (والسؤال الاول: لمن يتقن الحساب: اذا كان جل ما تنفقه الدوله من ميزانيتها ديون وبحيث لا تتجاوز اوجه الانفاق مرتبات كبار الموظفين (هذا طبعا غير الحوافز والبدلات والعمولات والمقاولات والبنود السوداء (السريه) والتي مازالت مستمره بل واصبحت اشد زخما وبعد ان هدي المولي اصحابها واصبحوا حريصون علي اداء صلاة الفجر في موعدها): اليس ذلك دليل في حد ذاته ان الحكومه-مع احترامي الشديد طبعا لمعايير القرن التاسع عشر- مفلسه؟): اما السؤال الثاني: اذا كانت "المصيبه" بهذا الحجم واذا كان الجميع يعلمون ذلك: لماذا سعوا سعيهم الحثيث وراء المنصب منذ البدايه ونكثوا بكل العهود التي قطعوها علي انفسهم بعدم الترشح؟ هل كانوا يتوقعون شيئا اخر؟ هل يريدون فعل شئ اخر؟ وماذا حدث ل "مرسي بتاع الكرسي" او "الكرسي بتاع مرسي" الخ؟ واذا كانوا يكرهون النظام السابق الي هذا الحد لماذا يتصالحون مع رموزه من "الفلول" (ماركه مسجله) ويستعينون بخبراتهم؟)

او وزير التخطيط الذي يخبرنا بان لديه خطه ورؤيه واستراتيجيه وكل شئ ولكن عنده-او ربما عند غيره-مشكله في التنفيذ: تلك المقولة السمجه لتبرئة الذات والتي تكررت مرارا علي السن ساسه الفساد والاستبداد قبل الثوره متناسيا ان قطاع لا يستهان به من الشعب اكمل دراسته وان واضع الخطط مكلف-بالضروره- باختبار خططه علي ارض الواقع ومتابعة تنفيذها والا فان كل ما تفعله الحكومه بالكامل هباءا منثورا وسيتسبب حتما في مزيد من المشكلات: فلا يخفي ان تعطل ترس من تروس العمل التنفيذي كاف في حد ذاته لتعطل سائر التروس

وهنا اتذكر نكته عن احد المجندين الجدد الذي كان يقف في الصف بانتظار دوره في التطعيم حتي اذا ما جاء دوره مسح الممرض الغشيم ذراعه بقطنة الكحول ثم زرع فيه المصل بغلظه فاحس المجند بوجع شديد ثم حكه وسأل بعصبيه عما اذا كانت الابره التي حقن الممرض بها ذراعه معقمه فاجابه بجفاء وعلي وجهه نظرة استنكار: لا تقلق يا "دفعه" كل شئ حسب الخطه فسوف اعطيك حقنه "تيتانوس" في الذراع الاخر! ولابد وانه نفس المجند الذي سئل ايضا في ادارة التجنيد اذا ما كان لديه عيوب خلقيه فرد قائلا: نعم يا فندم عندي عيب واحد وهو انني ليس عندي شجاعه كافيه!

وسوف لا تجد ما يمنع-والوضع كذلك-في ان يتفنن الانسان في استحداث تشريعات"الرتق" فنجد وزير من قبيلة تيار "استقلال الاخوان" وقد بدا وكأنه سوف يصاب بلوثه عقليه ربما ان لم يتمكن من تمرير قانونه الخاص للتظاهرات (والجنازات؟) فيما تفرغ الاخرون-من ترزية القوانين-"لتطريز" قرارات وقوانين اخري كقانون"حماية الثوره" وقانون الانتخابات (والذي لا يبدو وان له هدف الا تلبية مارب الفاشيه الضيقه) بل وقد نجد ايضا من بينهم من ينادي بقانون لمنع "ارتداء الاقنعه" (اشفي يا رب!) واكثر من ذلك من يجهر صراحة بحق الشرطه في التسلح وقتل المتظاهرين (وقبل ذلك لم يتنفس احد منهم طبعا بكلمه امام محاصرة المحاكم ووسائل الاعلام والاعتداء علي المتظاهرين والمعتصمين السلميين والتنكيل بهم-بل وقتلهم-عند بوابات القصر الجمهوري)

وامام التلاعب بالقانون قد يفترض الانسان في نفسه-لسبب او لاخر-وحسب الحاله-سلطة تشريعيه او تأسيسيه او ثوريه لتضفي السلطات الجديده "شرعيه" استثنائيه علي قراراته فيبدو الامر كما لو انه رئيسا منتخبا وفي مره اخري زعيما ثوريا وفي مره ثالثه الشعب! (وبعد ان تحول الثوار والشعب-من غير المواطنين الشرفاء-الي "فلول" يقودون "ثوره مضاده"!) وهكذا قد يستبيح الانسان لنفسه اصدار اعلانات الاستبداد التي تحصن القرارات من احكام القضاء وتحمي كيانات مشكوك في شرعيتها (ليتحول مجلس استشاري-ثلث اعضائه تقريبا من المعينين-وبغرابه شديده-الي مجلس تشريعي!): واكثر من ذلك نجد من يجور علي السلطه القضائيه فنراه يعين -وكما المحافظين– نائب عام شغله الشاغل ارهاب الثوار والسياسيين والاعلاميين الوطنيين ونخبة الطبقه الوسطي المتعلمه التي-رغم تواضع امكاناتها الماديه-مازالت قادره علي الكفاح وكشف حيل اراجوزات التصفيق-فكل شئ يهون من اجل "حماية الثوره": والسؤال هنا: اي ثوره؟ ثورة الشعب ام الثوره المضاده؟ "الصحوه الاسلاميه"؟ والحق ان نائب لا يدافع عن ثقافة الديموقراطيه واستقلال القضاء (او حتي يدافع عن انتخاب المحافظين) بقدر دفاعه عن منصبه: ونائب لا يحفل بمطالب الثوره-والعداله-تلك المؤجله دائما وابدا-فلا يقدم قتلة الشهداء وناهبي اموال الشعب- الي العداله: هو نائب غير شرعي ولا يمكن الوثوق به بل انه ليس بنائب عن الشعب بالتأكيد (فلا يمكن ان يتلخص المشهد باي حال في احكام براءه بالجمله للقطط السمان (اذا لم يخرجوا خروجا امنا طبعا) ثم تجاهل تام لكل ما تفعله عصابات الفاشيه الدينيه من تصرفات صبيانيه يقابله تقديم الشباب صغير السن الي "عشماوي" بسبب مشاجره استدرجوا اليها! وبالمناسبه الشباب صغير السن لا يعدم في النظم القضائيه الديموقراطيه ولاي سبب)

وهكذا قد تصبح الفرصه سانحه لان يمرر صاحبنا دستوره ودستور جماعته والذي اقل ما يمكن وصفه به انه غير صالح للتطبيق وغير مطابق لاهداف الثوره ولا المقاييس العلميه ولا الاتفاقات-والقوانين-الدوليه: اضافه الي ان هذا "الدستور" لن يوفر بحد ذاته ضمانا لانتقال ديموقراطي ناجح من الصعب ان نتصوره بمنأي عن اي اتفاق مع القوي الثوريه والسياسيه والمؤسسات الاجتماعيه الرئيسيه: وبالطبع لن يوفر هذا "الدستور"–دون تطبيق-استقرارا ولا مأكلا ولا مسكنا ولا وظيفه ولا زوجه ولا حتي شيكولاته لمن صوتوا لصالحه: بل ان طرحه علي الاستفتاء في حد ذاته وبهذا الشكل المتعجل (المجهول) لهو في رأيي شئ ملفق تماما ومخزي ورخيص (ولعلها من المرات النادره التي نري فيها استفتاء علي دستور يتحول الي استفتاء علي رئيس او جماعه او مشروع فلا تحمي الدستور قيمته-في حال وجودها-ولا تمنع شهوة الفوز في الاستفتاء (الانتخابات؟) ان يتحول الاستفتاء-كالدستور-الي استفتاء اقليه مفتقر لاية ضمانات من رقابه مستقله او اشراف قضائي (كامل) او حريه او نزاهه (اذ شابه-اضافه الي مخالفات التزوير-الكثير من المخالفات القانونيه والاداريه بما هدد حتي امكانية اتمامه كاملا ودفعه واحده): والحق اقول ان حكومه تفرح بنتائج انتخابات-او استفتاءات-ملفقه ودعايه دينيه (محرفه) واموال غير معلومة المصدر (كان لها الفضل-والي الان-في ظهور احزاب وجرائد وقنوات تليفزيونيه ومئات المقرات (والمتاجر؟) انفقت علي استفتائين وثلاثة انتخابات وعشرات "المليونيات" الاستعراضيه ذات المطالب الوهميه وغير ذلك من مصاريف نثريه مع كل دعاوي العفه والطهارة التي تسمح بها وعود الزيت والسكر) هي حكومه ترغب في ان تبقي معدلات الفقر والجهل والبطاله علي حالها علي طريقة "شعب فقير راض اسهل في قيادته من اخر متعلم وعنيد وميسور الحال" وما قد يتبع ذلك من انكماش الواجبات والامال المعقوده عليها الي الحد الادني حتي تتناسب مع مؤهلاتها! والنتيجه هي ان الشعب الصبور المسكين سوف يضطر حتما-امام ذلك-الي ان ببحث بنفسه علي طرق اخري لخدمة نفسه بنفسه نيابة عن الحكومه وبصوره قد لا تخلو من ارتجال بعيدا عن مسكنات الدروشه والطبطبه وذهنية السجان والسجين: والنتيجه ايضا هي ان الزعيم المظفر المختار الذي اختير-وباعترافه شخصيا- وفقا لانتخاب شعبي حر-وليس بالضروره وحي سماوي- وبناءا علي وعود لم يف بأي منها- سوف يتخلي عن الشعب في نهاية المطاف ويتركه فريسة الغضب والحرمان والفرديه واللامبالاه الي ان يحين موعد الانتخابات او تحين ذكري الثوره: ان لم يفقد شرعيته طبعا قبل ذلك-وكما حدث فعلا- بسبب رغبته المحمومه في جمع السلطات والاستثناءات وكما ارتضي هو بنفسه ولنفسه: وانا شخصيا اشك في ان يتحول حزب سياسي يعمل باسلوب تجاري بحت يبيع ويشتري كل شئ-تقريبا- بما في ذلك المبادئ-الي مشروع وطني يعمل من اجل الوطن والعقيده او ان يستمر حتي في تقديم الرشاوي الانتخابيه)

باختصار: "مشروع" يبرر كل ما تريده الفاشيه الانتهازيه من ضروب كذب وخداع والتواء لابد وان يكون "مشروع" سطحي: كما ان منصب يفصل المبادئ عن السياسه هو في حد ذاته عملا لا منطقيا!

والمثير انه حتي ماكيافيللي لم يبن نظريته-بالضروره-علي حكم استبدادي مطلق علي غرار دول العصور الوسطي فالمفاجأه انه كان يفضل نظام الحكم الجمهوري الديموقراطي ويعتقد انه الافضل لمن سماهم "الشعوب المستنيره الفاضله" (فالشعوب التي لا تتقيد بالاخلاق وجوهر الدين-كالشعب الايطالي مثلا في زمنه- وحسب رأي ماكيافيللي-يراها ماكيافيللي شعوب غير مؤهله بعد للديموقراطيه ومن ثم لا يصلح معها الا نظام المستبد العادل الذي يفرض الفكر والفضيله والسياسات والقوانين (والدستور) بالقوه ومن خلال خيارات محدوده: اذ لم يوص ماكيافيللي في حقيقة الامر بحكم استبدادي الا في حالتين فقط الاولي: نشوء الدوله والثانيه: اصلاح دوله فاسده: بمعني ان الحاكم الذي احرز السلطه بطرق ديموقراطيه ثم لجأ-فيما بعد-الي صيانتها وتعزيزها وتنميتها بطرق استبداديه يرتد بشكل او باخر علي تعاليم ماكيافيللي! وان لم يخرج بالكامل طبعا عن روحها وعلي اية حال يعتقد اغلب الدارسين المعاصرين ان نظرية ماكيافيللي ما هي الا  اجتهاد محدود يشوبه الكثير من التناقض وعدم الترابط مرتبط بظروف عصره: اذ يبدو في افضل الاحوال-وحسب رأيهم-كما لو كان نظريتين متضادتين في نظريه واحده: احدهما لتأسيس الدوله واخري لاستمرارها)

والانسان عندما يركب السياره لاول مره-او ينشئ اسره-فانه يركز كل اهتمامه في مراقبة تصرفاته وان وجد نفسه يتخذ قرارات خاطئه فيسير في خط متعرج مثلا او عكس الاتجاه فقد يطلب المساعده من ركاب السياره بدلا من ان يدعي-بلا دليل-قدرات خارقه علي القياده او يفزع لاي خطر او حتي يخبرهم بان عليهم ان ينتظروا الي الابد او "يموتوا بغيظهم" ويغادروا ان لم تعجبهم طريقته في القياده! حسنا! كان في استطاعة الركاب ان يغادروا وان يتركوا "الغشيم" يقود السياره كما يحلو له واكثر من ذلك يسترخون علي العشب المجاور ويستمتعون بالمشهد وهم مدركون طبعا ان الامور لا تسير كلها في صعوبة القياده بين الاشجار وان "الغشيم" سرعان ما سيصطدم بواحدة من تلك الاشجار ظنا منه ان مجرد ايمانه بوجود اله سيذكره انه صار فجأه محترف -في خياله طبعا- وانه حتي اذا ما اصطدم فان كل جرح الي التئام!

واستطيع ان اتذكر الان تلك النكته التي تروي عن مدرس قيادة سيارات جلس الي جوار الجده العجوز بطيئة التعلم متوسطة الذكاء ليعلمها القياده (وبعد ان ظنت في نفسها ان مجرد تمكنها من الجلوس امام عجلة القياده يمكن ان يجعل منها "محترفه" في قيادة السيارات) وكانت تتجه بالسياره مباشرة باتجاه شجره ضخمه هنالك قال لها: سيدتي بقت عدة دقائق فقط وينتهي درسك الاخير ....هل يمكنني الان ان اريكي كيف تدوسين علي الفرامل؟

واعتقد ان اولي مقتضيات الحوار الجاد هو ان يجد المرء شريك اولا قادر علي الالتزام بمعايير الصدق والوفاء بالوعود واكثر من ذلك ان يكون هناك ضمانات واليات حقيقيه ومعلنه تضمن تنفيذ النتائج عند التوصل اليها وتحمي-في نفس الوقت-الطرف المتضرر البعيد عن مركز اتخاذ القرار والا تحول الحوار الي نوع من الاستجداء: والاستجابه لارادة التغيير ومطالب-واهداف-الثوره ليست عيبا او حراما ولا تنتقص من كرامة احد: وعلي الجانب الاخر فان ارادة التغيير لا ترضي باستبدال نظام راكد متخلف باخر مثله او اسوء منه او تكتفي باصلاح سطحي لما هو في حاجة الي تغيير جذري: كما ان فعاليات التغيير لا تصبح فعاله الا باستمرار ممارسة الضغوط علي "تنابلة السلطان" ومن خلال العض علي الجرح الذي يؤلمهم حتي يعملوا وينتجوا ويتطهروا (او يرحلوا) ودون ان نسقط في مأزق توزيع الاتهامات علي رفاق النضال (وهو مثلب قد يتردي فيه بعض النقاد سواء في البرامج الحواريه او في اعمدة الرأي عندما يصبون جم غضبهم علي الجميع بلا استثناء بدلا من ان ينشغلوا بوحدة الهدف وما تتسم به قضايا الثائر والسياسي الوطني من صدق ومنطق وبعد نظر: فهم بذلك-في رأيي-لا هم لهم الا حل قضيتهم الازليه وهي: هل يمكن ان يكون الكل علي باطل (عدا صاحبنا السائل وحده المحق)؟ او هل يمكن ان يصبح الانسان مستقلا او وطنيا او موضوعيا دون ان يساوي بين المسئول والمعارض: الضحيه والجلاد: المعتدي والمعتدي عليه؟ )

وهناك ما يبرر القلق فمازالت الهوه او منطقة التضاد بين الثوار والسياسيين الوطنيين في جانب وبين قطاع كبير من المواطنين البسطاء-ممن يشبهون اكثر الشخصيه النمطيه التي تولي احترام اكبر للتقاليد القديمه-ايا كانت مثالبها—في جانب اخر متسعه الي حد كبير الي درجة اننا اذا ما حاولنا ان نتصور-احيانا-حجم تلك الهوه فاننا قد نعجز

وبامكان المرء ان يدرك عمق هذه الهوه عندما يجلس لساعة واحده الي رواد احد المقاهي في بعض القري-والاحياء-الصغيره (تلك التي لم تكن يوما بمثل هذه الكثره) وحيث ينصت الانسان الي مجالس النميمه هنالك حيث يوجه البعض نظراتهم في تحد وتشكك-وعلي الاخص تجاه الجيل الجديد ممن تبدو علي وجوههم الثوره حيه نابضه-بانتظار من يعترض: وقد يعمد الاهالي الي اكثر من مجرد النظرات فيصوبون السنتهم ايضا لينالوا من كل ما له قيمه عند هؤلاء الثوار: رجال ونساء: فلا يشعرون بادني حرج حين ينقمون عليهم ردودهم المفحمه والتي لا تضع حدا-بالنسبة اليهم-لامكانية ان يتغير العالم وان لدي الانسان الفرصة دوما كيما ينظر الي الحياه نظرة اعمق وان يجد طريقه الي الخلاص: فبالنسبة الي بسطاء الناس فان العالم لم يكن يوما عالما مثاليا لاي احد ولن يكون مثاليا انهم حتي ليسوا متأكدين من انهم يستحقون هذا الشعور المتعلق بالحياه ذلك الذي يتغلغل داخلهم: فهم لا يتذكرون الكثير من الايام المبهجه التي ضحكوا فيها من صميم افئدتهم بلا خوف (فاذا لم يكن المرء ثريا او مقربا من الحاكم الباطش الطاغيه فالافضل -من وجهة نظره- ان يرضي بحظه-ولو قليلا- قبل ان يدهس تحت عجلات الحياه في ساعته ويهلك! وبذلك فهو وفقا لمقاييس العداله تاره ثم وفقا لما ناله من حظوظ في هذه الحياه تارة اخري (وهو–من وجهة نظره- ليس بالكثير) لا يستحق هذه النهايه المرعبه تحت عجلات القطار المتهالكه اذا ما حدثت):

ولذلك اعتقد اننا بحاجه ماسه الي ايجاد نقاط اتصال بهؤلاء الناس وبث الامل في نفوسهم تارة اخري تجاه المستقبل واكثر من ذلك اقناعهم بانهم يستحقون مساواه كامله باي مواطن اخر وان التغيير الشامل والعاجل لن يتم الا بهم

ولقد اكتسبنا مع ثورة الياسمين- الي جانب الحريه-جيل جديد ذو ذكاء اجتماعي من نوع فريد ينظر اليه المرء بعين الفخر والاحترام ابتدعوه وطوروه بانفسهم-وبلا غرور-كما لو ان الامر قد تم بصوره عفويه: انهم بلا شك-ككل المعاصرين لاحداث الساعة الجسام-ومنذ ان بدأت عمليات التحرر- منذ الاف السنين-يشعرون بروح التحدي تتسرب اليهم وتملأ اعماقهم بقلوب حيه نابضه وباراده حره اكثر صلابه من الجرانيت: وعندما تصغي الي هؤلاء الشباب فانك تسمع -وسط تعليقات السخريه- دوران عجلة الزمان تدور بك وتكاد تقتلع اذنيك: لقد تمكنوا من ابتكار حزمة المفردات والقيم التي تناسبهم ووضعوا قانونهم الاخلاقي الخاص: وبحيث احتفظوا من خلاله بطهرهم وشجاعتهم وصراحتهم ولكن في اطار من وعي وحذر: ان كثير من هذا الشباب ارهقتهم المشاعر السلبيه التي اتسم بها جيل الاباء والاجداد: لقد ادركوا ان مناخ الخوف واليأأس والحظر والرقابه والكذب والميوعه لن يسهم باي صوره في ايجاد احساس صادق او فكره واعده جريئه: لقد ادركوا ان السعاده النهائيه  لا يمكن ان تكتمل بان يسيروا في نفس الدرب القديم -المليء بالاخاديد- الي ما لا نهايه:

انهم شباب اطهار كرسوا جل حياتهم من اجل مبادئهم فلم يشأ اي منهم ان يزيف اي من هذه المبادئ بالخوف من الموت: او كما قال تشرشل: لقد وصلنا الي نقطه لا يبدو ان هناك فائده كبيره في ان نكون اي شئ اخر