"قال ما منعك الا تسجد اذ امرتك؟ قال انا خير منه: خلقتني من نار وخلقته من طين" (قران)
والسؤال: هل كان يمكن للشيطان ان يسقط في مأزق الفردوس المفقود بدون هذا الاعتزاز المفرط بالنفس؟ وهل اعتزازه بذاته –وان كان مبني علي اساس- يصلح لان يكون مبررا لتوريط الاخرين معه في الغوايه؟
في البدايه لابد وان نتفق ان اية محاوله للاجابه عن هذا السؤال سوف تفضي بنا مباشرة الي المبادئ الاولي لسيكلوجية الشر
بمعني ان افتتان الانسان بنفسه وحرصه الشديد -في نفس الوقت- وبشتي الطرق- علي اغواء غيره وان ادي ذلك الي تدمير المعبد علي رأسه ورؤوس الجميع هي الفكره البكر وبداية الطريق نحو الشر:
في حالة الشيطان كان الخيار بسيطا: لكي يناشد كبريائه الذي هو الحياة نفسها بالنسبة اليه فقد وجد من عنصره–وعنصره فقط- ذريعه لان يتحدي اطروحة السجود:
اما الانسان -والانسان الحديث بالتحديد- فالمصير-وان كان مشابها- الا ان الوسائل والاعذار اكثر تعقيدا بقليل:
انا خير منه: انا ابيض وهو اسود: انا خير منه: انا من عائلة كذا وهو من عائلة كذا: انا خير منه: انا مواطن اصيل وهو اجنبي دخيل (او هجين): انا خير منه: انا غني وهو فقير: انا خير منه: انا مؤمن وهو كافر: انا خير منه: انا رجل وهي امرأه: انا خير منه: انا وزير (او مشير) وهو غفير (او عاطل):
انه بدلا من ادراكه لحقيقة ان البشر كلهم مخلوقون من عنصر واحد ولاجل مهمه واحده هي التعلم والعمل والحريه والتحضر والبناء والتعاون والسعادة: ومجاهدة الشر المتمثل في الهدم والخوف والفراغ واليأس والتشويه والسلبيه والانتهازيه وعبادة اوثان الماضي (بحيث لا فضل لبشري علي اخر الا باجتهاده في المهمتين معا وبنفس القدر): بدلا من ذلك يفرض علي مجتمعه المزيد من مفاهيم التمييز والتعصب والرجعيه الفاشيه ايا كانت صبغتها –ناهيك عن المفاهيم المغلوطه- وفقا لما يعتقده من تفوق عقلي او جسماني او ثقافي او ديني حسب الحاله:
بكلمات اخري: "يتشيطن" الانسان حين يعجز عن ايجاد علاقه بين العقل والتاريخ: الروح والعنصر: الحريه والمسئوليه: الانتماء والموضوعيه:
كلما سقط في بحر غروره اسير غبائه وضيق افقه وتحيزه ليدرك ذاته ككل وليس جزء: رازحا تحت رحمة قضايا ثانويه للغايه وشكليه ومستنفذة الصلاحيه بحيث لم تكتسب قيمه الا بتقادم شهادته عليها (وليس لان لها قيمه حقيقيه) او لانها مرتبطه بالعالم المريض الذي بزغ منه والذي يحمله فوق رأسه بكل جراثيمه جاعلا منه منهاجا له ورفيقا لقدره (لمجرد انه الف تابوهاته ونواقصه ومفاهيمه المغلوطه):
وهكذا تكاد تكون قاعدة بالنسبة لي انه كلما اطلت حالة من حالات الشقاء الانساني كلما كان من المتعين علي ان ابحث فورا –واشير- وانا معصوب العينين الي انسان سادي متسلط
ولكن من هو السادي المتسلط؟
في البدايه لابد وان نتفق ان الانسان السادي المتسلط ليس بانسانا متميز ينشد العظمه: وانما هو -وفي افضل الاحوال- انسان عادى جدا -او أقل من العادي- سطا –بطريقه او باخري- علي مركز عظيم
انه شخصية "اللا منتمي"–حسب ويلسون- في اتم صورها ذلك الانسان الذي لا مبادئ له الذي يتحول –لسبب او لاخر- الي حاكم بما يجعله لا يكف عن الامساك بالعصا من المنتصف علي الدوام علي طريقة "توفيق الاضداد" او "الصلح خير" او "المساواه في الظلم عدل ومساواة الحاكم بالرعيه ظلم": ليسود
فهو يعتبر ان اولي خطوات صنع الولاء هي ان يكون هو نفسه فوق الانتماء وفوق المبادئ الفكريه والاخلاقيه فالمبادئ بالنسبة اليه شأن الرعيه "لعب عيال" والفخ الذي لا يجب علي العاقل ان يسقط فيه
لذا فالمتسلط السادي غالبا ما ينظر الي الصفات التي تصنع العظمه مثل الصدق والنبل والموضوعيه والتواضع والامانه (الاعتراف بالفضل ونسب الفضل لصاحبه) واتقان العمل الخ: باعتبارها اشياء لا علاقة لها بالفطره الانسانيه السويه فهي–في رأيه-قادمه من عوالم اخري غريبه مجهوله غير عالم الانسان لا تشبهه ولا تتوافق مع نوازعه الحقيقيه بل حشرت عليه حشرا وبالتالي فهي -ولانه لا يقوي علي تحمل نتائجها- لا تستحق منه الا كل تجاهل وانكار: او باعتبارها اشياء لا علاقة لها بما هو بصدده: وبالتالي ترف -لا يطعم جائع ولا يغطي عريان- ابتكره الانسان ليواري اهدافا مجهوله باخري معلنه لا تتجاوز في الغالب الغرائز الاساسيه مثل التغذي والتزاوج والتكاثر
وليس غريبا فهذا "الفكر" لا يمت الي المنطق بصله (ناهيك عن حريات او حقوق انسان): اذ يقوم هذا الفكر علي ان الضلال في التغيير والابداع وان الخير في الثبات والاستقرار وان العجز والميل الي الخطيئه هو شئ فطري تماما ومتأصل لدي الانسان يوجه ارادته بما يجعل من المستحيل ان يقوم الانسان -علي اساس من طبيعته وتربيته- بما هو صواب: وبذلك فالنموذج الامثل لادارة شئون الانسان هو نفسه اسلوب ادارة شئون الحيوان: الضغط والكبت والحرمان وحشد القطيع والترهيب بعقاب: وليس الاقناع.
وهكذا تصبح الحريه في هذه الحاله مجرد خيار من الممكن تفصيله او ترقيعه او الاستغناء عنه تماما اذا اقتضي الامر (والعوده الي الطغيان؟): طالما ان الانسان–وحسب هذا الفكر-لن يكون قادرا ابدا علي ان يتسامي احيانا علي منطقه الارضي (علي الرغم من اهميتة) في سبيل ادراكه لجوهر المحسوسات (اي ان يكون قادرا علي ان يميز الصحيح من الفاسد فيدرك الكل وهو مجرد من المحسوس كما قال القائل)
اي ان الانسان حسب هؤلاء لا يستطيع ان يصبح ابدا مواطنا فاضلا حرا تقدميا بدافع شخصي نابع منه لان شره الطبيعي –او حتي عقيدته- لا يساعده: او كما في المزمور: "صرت كالبهيم عندك ولكني دائما معك" فلم يعد له من قوة الاراده ان يختار بل مثله مثل الحمار يترك نفسه لمن يمتطيه: فاذا ما اوقعه حظه العاثر في طريق الشيطان فكان الشيطان هو صاحب شرف "الركوب" فذلك لانه لم يجد من بني الملائكه من لديه الدافع في فعل ذلك: او هكذا فهموا المزمور
بكلمات اخري: السادي المتسلط لا يؤمن بالعقل بقدر ايمانه بالقوه: ولا يؤمن بالمثاليات بقدر ايمانه بالماده: ولا يؤمن بمحبة الانسان بقدر ايمانه بالخوف: وبذلك فهو لا يؤمن بأي شئ الا اذا كان مرتبطا به وبشبكة مصالحه فاذا ما ارتبط الامر باناس "ليسوا هو" –او ليسوا من شيعته- فهو قبضة من تراب لا قيمة لها
وتتضح اكثر شخصية السادي المتسلط حين نتأمل مقولة لهتلر يشرح فيها الرغبة في السيطرة على أنها "نتيجة منطقية لصراع الأنسب والأقوى": انه يصبح في حاجه شبه دائمه إلى شخص يتحكم فيه حيث أن شعوره بالقوة يكمن في انه سيد إنسان ما: فمن رغبته في السيطره يستمد لذته وأمانه:
وسواء انتهج هذا السادي المتسلط ايدولوجيه وطنيه او دينيه فهو يعتبر نفسه –وايدولوجيته- دوما علي صواب فيما لا يكف غيره عن الخطأ وهو في ذلك ليس في حاجة الي برهان فقوته وقدرته علي السيطره هي البرهان: حتي في اسوء حالات عجزه وشيخوخته: اذ ان نزوعه الأعمى نحو القوه ونحو الانفراد بالرأي والسلطه ينمو داخله الي درجه مميته تتجاوزه هو شخصيا بحيث تشل قدرته علي الفعل والاحساس والتفكير والابتكار: وعند هذه النقطه قد يتسبب في ايذاء أقرب الناس إليه (إذا ما تأكد له انه–او انها- من الممكن أن يشكل تهديدا) اذ ينتشر سعاره ويصبح أكثر عدوانيه: اشبه بمقامر او مدمن المخدر يفعل كل ما من شأنه الحصول علي "جرعته" في السيطره وعندئذ يصبح تنازله عن منصبه ضربا من ضروب المستحيل: اذ لن يحدث ذلك إلا بفصام قسري بائن اقرب الي الموت: فكأي مرض نفسي او عقلي لا رجاء من علاجه الا بمعزل عن الأسباب التي قادت إلي مرضه
وهكذا يتحول الحاكم السادي المتسلط في نهاية الامر -خصوصا عندما تطول فترة حكمه- الي نموذج الفرعون المخبول ذلك الذي يهوي تمثيل دور الاله Play God ما من احد قادر علي نقده دع عنك مساءلته او حسابه
وهو لا يكذب عندما يتحدث عن حبه لوطنه اذ ان هناك دائما شعور ما جارف بالحب لا يستطيع أن يحيا بدونه: لكنه في نفس الوقت لا يستطيع أن يحيا بدون شخص يشعر انه الاداه العاجزة بين يديه ولموضوعات تخصه وبناءا على شروطه.
ولا فارق حينئذ بين زوجته او عسكري الخدمة الذي يحرس قصره ويتحمل سبابه أو حتى الشحاذ المسكين في الشارع الذي يضع في يده علما وصوره له ودعاية انتخابيه (واحيانا رشوه) ويحثه –او يجبره- علي تأييده: بمعني ان موضوع الحب هذا –في نظره- كموضوع المبادئ والافكار- هو شئ نسبي تماما ومتوقف عما يمكن ان يعنيه هذا الحب واذا ما كان مصحوبا بولاء
فهو يهيمن ليحب ويحب ليهيمن وهو يرشد من يحبه الي الأشياء التي ترضيه وتضمن استمرار هذا الحب (والهيمنة) مثل المديح الدائم او التظاهر بالغباء أو بالحذاقه والذكاء او تمجيد التوافه من الافكار والاعمال واعتبار هزائمه نكسات او انتصارات: وهكذا حتي تصبح معادله الحب والهيمنه تلك لا شعورية تماما لدي العامه البسطاء إلى درجة انه لم يعد يطلبها بل يكتسبها كما لو كانت من قبيل المسلمات:
وهكذا وككل حب مفروض من طرف واحد لا يطفو زيفه إلا عندما يواجه خطر الفصام (وانا ممن يرون انه من الخطأ الجسيم ان نحاول اقحام التسامح علي الحقائق فنمتنع عن ذكر اساءة المسيئ ذلك لان ما من عمل يخرج الي حيز الوجود الا متي وجد الانسان القدره علي الحكم علي الاشياء حكما جامعا شاملا: كما ان الذي لا يذكر سوءا لاحد لا يحق له ان يذكر خيرا في نفس الوقت فالحقيقه هي كلا الامرين معا السئ والحسن: والتأدب في دنيا الحق كائن دخيل غريب بل وعنصر بالغ الضرر في معظم الاحيان لانه يفرض علينا ان نصف الاعمال الرديئه او التافهه او السطحيه او الفرعيه بعكس حقيقتها وهو ما يؤدي الي الاحباط المباشر للهدف من احراز كل ما هو جيد ونبيل)
والسادي المتسلط غالبا ما يعيش في عالم ظاهره رصانه وبراءه وباطنه سلسله لا نهاية لها من المكائد المدبره والدسائس الرخيصه والعواطف المصطنعة المقحمه التي يضعها جنبا إلى جنب بحيث ينظر فيها ولا يرى إلا نفسه. ولا يجب ان تخدعنا صورة الراشد الرزين او العطوف التي يحاول الظهور بها فهو في داخله صبي طائش اخرق اجوف بحجم رجل يعاني خواء نفسي وفكري ومعرفي رهيب وعلي نحو متضاعف: واكثر من ذلك: يتوقع من الجميع ان يصبحوا مثله ولو علي حساب كل ما خبروه وعرفوه وفهموه: ولذلك فهو خطر
والسادي المتسلط غالبا ما يكون لديه قدرات اتصاليه او خطابيه فذة (او يكتسبها لاحقا من أناس حوله أكثر قدره منه وهؤلاء يصبحون بحق أصدق أصدقائه). وهو يستخدم هذه القدرات لغسيل العقول وحصرها في ايدولوجيا بعينها الي جوار ما تحمله خطبه –عادة- من تهديدات مبطنه وتهما مفبركه يمكن تفسيرها علي اكثر من وجه ووعود وايحاءات بتامر الناس علي البلاد او لإيهام الناس بقدرات لا يمتلكها وبطولات لم يحققها.
وليس من المستغرب اذن ان يتملص فيما بعد من وعوده ومسئولياته ويلقي بها -في اول فرصه- في عرض الطريق فهو الي جوار انه يكره الالتزام بوعود ومسئوليات يظن انه اكبر من الوعود والمسئوليات:
انه يدرك جيدا حجم التضحيات التي بذلها–او لم يبذلها- حتي حصل علي كرسي السلطه وان هذا الكرسي هو ما يجعل لحياته معني وقيمه ويعصمه–في نفس الوقت-من المسئوليه والمحاسبه: ولذلك فاللعبة بالنسبة اليه ليست لعبة مناظرات او تحالفات او مبادئ ومعارك فكريه (هو في غني عنها وقد تنتهي بان يختار الناس من هو اكفأ منه) او ان يبدع برامج وسياسات ليحل مشكلات او ان يكشف عن حقائق او يصحح مفاهيم او ان يحاول تحقيق احلام الناس (ويحلم معهم): وانما هي لعبة نفوذ وشهره واكاذيب ومصالح ودفاع عن قوته وقوت عياله
او بعباره اخري: المنصب بالنسبة اليه ليس من اجل ان يخاطر به وانما لكي يحتفظ به:
وربما هذا هو السبب في ان السادي المتسلط لا يسمح الا باقل قدر من التسامح: وينتهج دوما الاسلوب البوليسي المخابراتى دع عنك طبعا السيطره علي مصادر الرزق والقوه (وما الي ذلك من وسائل توريط لمن حوله في الفساد) فحتي يحقق اهدافه (الهيمنه والولاء) فهو يستغل نقاط ضعف من حوله اقصي استغلال ممكن: ولا يخفي ان سلاحه في ذلك هو اثارة الخوف من ضياع الرزق او من عدو خارجي (لا وجود له غالبا):
فهو قادر علي ان يجرد الناس من كل شئ وفي طرفة عين (ليكونوا عبرة لغيرهم؟): فهو المانح وله الحق إذن في استعادة ما منحه على نحو كامل وبأثر رجعي
فاذا ما قدر لاي معارض مستقل -بعد كفاح مرير- ان يفسح لنفسه مكانا او يكتسب شعبيه- سواء في ظروف طبيعيه –او بفعل ثوري- كيما يخدم وطنه في موقع الرئاسه: سرعان ما يصطدم بحاله هيستيريه من الهجوم والاستهجان والاتهام والاستخفاف به لمجرد انه تحدي "الزعيم": بحيث يكاد البعض يجرونه جرا ويفتكون به وهم معتقدين تمام الاعتقاد انهم انما عثروا فيه علي عدو او محرض: فالزعيم -او الامام- غير قابل للاستبدال: وكلامه غير قابل للمناقشه: اذ لن يتمكن احد ابدا–مهما فعل-وكما شرحت-من ملء الفراغ المريع الذي سيخلفه في حال رحيله (متناسين ان "الزعيم" او "الامام" الملهم نفسه لم يصبح ملهما الا بناءا علي فراغ وبعد حالة استبدال غير شرعي لزعيم باخر سواء بالوراثه او بانقلاب او بالنيابه او بالتزوير: وانه ما من فارق حقيقي بين الظلم الذي يتم في عهده او عهد سابقه او في فترات التحول والفراغ)
والحق اننا اذا ما حاولنا ان نفهم الطبيعه السيكولوجيه لطريقة تفكير الطغاه والانسان صنيعة الطغيان ربما نعجز ولوجدنا انفسنا ولاول وهله امام حاله جديره بالدهشه والتأمل:
فالحاكم السادي المستبد يقضي جل حياته في محاولات متتاليه لتبرير بقائه في السلطه علي انه جزءا من مصلحه عامه او انه الصالح العام نفسه (بعد ان تحول العام الي خاص طبعا): فهو يظن انه مستحق لان تمتد حياته في الاجيال التاليه: لقد اصبح الموضوع شخصي جدا بالنسبة اليه فبدون احتفاظه بقوته يصبح مفرطا في حق نفسه او بعباره اخري: يصبح فاشلا امام كل من اقنعهم بقدراته الخارقه
وطبيعي والحال كذلك ان يسد كل السبل أمام ظهور منافسه او معارضه او ان يصف اي محاوله لاسقاطه–و اسقاط نظامه- علي انها مؤامره او فتنه او تفتيت وتقسيم للوطن تمهيدا لتدخل خارجي او حرب اهليه لابد فيها من منتصر (فيما نجد ان نظامه تغذي–ونما- اساسا علي اغراق البلاد في هواجس فتن طائفيه وعرقيه بين ابناء الشعب الواحد او محاولات التخويف من ظهورها في حالة اذا ما اختفي باعتبار ان وجوده لا غني عنه والا –ولنتأمل التعبير-المت بالبلاد–وبالمنطقه كلها- نائبه وهكذا يصبح البقاء في منصبه متساويا مع بقاء العالم كله: فمن ارادة البقاء يستمد ارادة الحياه (ارادة البقره الحلوب؟) ومن السيطره يستمد قوته):
وطبيعي ايضا ان يبحث–علي طول العالم وعرضه- عن قرين له فيه نفس صفاته يقع اختياره عليه ليخلفه: وقد تكون المواصفات المثاليه في هذه الحاله انسان يكون بمثابة التابع المخلص الامين والخادم المطيع وسندا وكاتما لاسراره والضد–في نفس الوقت-وعلي طول الخط- لكل من عداه بحيث لو قدر له ان يمتد عمره قرونا طويله فانه سيظل ابدا لدي الاجيال المتتابعه في نفس المكانه الرفيعه
ولكم يكون من الشائع والحال كذلك ان يكرس الحاكم السادي المستبد كامل جهده لتحويل المنصب الرئاسي الي مجرد وظيفه او عمل اداري بحت بالمعني الحرفي للكلمه وبكل ما يحمله من عبق الروتين والبيروقراطيه: بحيث لا يكاد يكون المرء قادرا علي التفرقه بين الرئاسه كعمل معاشي يتقاضي عنه اجرا نظير ما يقوم –او ما لا يقوم- به من واجبات (حسب المفهوم الوظيفي للكلمة): وبين الرئاسه كواجب وطني واخلاقي يتطلب علم ودرايه وجداره ومهارة اتصال وصبر وسعة افق ومبادئ فكريه سياسيه واقتصاديه واجتماعيه ذات رؤيه استراتيجيه تتجاوز حدود الايدولوجيات والمطامع الفرديه وتضع في اعتبارها اولويات المجتمع: وبين الملكيه الخاصه التي لا يصح ان تذهب الا لمن يختاره الرئيس او من هو قادر علي دفع الثمن: فبدون هذه التفرقه تتحول الرئاسه (ايا كانت الشعارات المرفوعه) الي مجرد وظيفه ميري او ارث شخصي ينتقل الي شخص بعينه
بمعني انه يكرس –بوجه عام- وعلي مستوي الشعب كله- الي سيكولوجية الموظف البسيط الذي اقصي ما يحلم به هو ان يحصل علي علاوه او مكافأة او تكريم او تحسين اجر او درجه والذي يري الفشل المطلق في غيره مثلا ممن يفضلون الاعمال الخاصه او الحره او من لم يسعفه حظه فيجد وظيفه تلائمه او لا تلائمه (مع احترامي طبعا لفئة الموظفين: خصوصا اولئك الذين لا يستبعدون التقاعد او الاستقاله من حساباتهم ومن يرفضون "العمولات"):
بحيث انه اذا ما قادت احدهم المقادير الي قصر الرئاسه مثلا سواء بمحض ارادته او بواعز من زوجته او لاداء مهمه تخص عمله او بغرض تلبيه دعوه تصادف ان تشابه اسمه -او شكله- فيها مع احد المشاهير او قاد مظاهرة تأييد داخل مجلس الشعب او خارجه او ظهر في احد برامج التوك-شو يمدح الزعيم او لمجرد انه ضل الطريق: وحدثت المعجزه -وتهيأ له الشرف العظيم- واصبح- بين ليلة وضحاها- من المقربين يكون ممثلا مناسبا لذلك التابع المخلص الامين والخادم المطيع
وهكذا ليس غريبا ان نجد انفسنا امام احدي شخصيات نجيب الريحاني الهزليه والتي غالبا ما تنسب التفوق والقيمة الي الصالح والطالح معا حسب المصلحه او حسب نفوذ وثروة الانسان فيما تنسب الشقاء لرب العباد!
او ذلك الذي يسأل–اول ما يسأل-حتي قبل ان يستبدل "اليونيفورم" الميري-كيف هو راتبه: وكم هي الحوافز: وفي اي درجه من درجات الميري: واذا ما كانت هذه الدرجه اعلي او ادني من الدرجه التي طالما حلم بها (فليس من المقبول ان يخدعه احد والا اصبحت مؤهلاته محل شك):
وانسان هذا شأنه لا يعتبر ان من مقتضيات واجبه خدمة الناس (كما يردد هو نفسه مرارا وتكرارا في خلواته): فهناك دائما من هو اقل منه في المرتبه من يستطيع –وعلي استعداد- ان بفعل ذلك نيابة عنه: بل العكس هو الصحيح اذ اصبح من الواجب علي الجميع التسابق في خدمته ومنحه قدر اكبر من الشهره والثراء بلا راحه وبلا انقطاع وحسب ما تقتضيه الحوادث
فهو قد بلغ قمة الهرم الوظيفي ومن ثم يحق له التكريم: وليس غريبا ان تتحول السياسه–وفقا لهذا النوع من التفكير- الي لعبة كراسي موسيقيه او "مسرحيه" هزليه من مسرحيات النجم الواحد الرائجه هذه الايام او ان تختلط السياسه بالاقتصاد بالجريمه (خصوصا اذا ما نجح الطاغيه في تحييد تام للقضاء وافساده) وبالتالي مجموعه لا نهاية لها من "الصفقات" ودون تقديم الحد الادني من الخدمات
وليس غريبا الا يكون هناك من فارق بين الوطن وأسرة الزعيم فالوطن هو اسرته واسرته هي وطنه او صار هو الدولة كما كان الامر في اوروبا القرن الثامن عشر: او ذلك الانسان الذي تهيأ له نفسه انه وحتي يكون قادر علي ان يتصرف كرجل دوله ان يتصرف كرب اسره وليس مجرد رب اسره عادي وانما "سي السيد" ذلك الذي لا يتردد لحظه في قتل العقول والابدان او احد الامرين (وهو في الحالتين–في رأيي- وجهان لعمله واحده: اذ ما هو الفارق بين قاتل ابدان بامتياز وقاتل عقول وارواح بامتياز او وسط ما بين الاثنين؟ )
لكن ويا لها من مفارقه: الحاكم السادي المتسلط غالبا ما يبحث عن شخص اخر مثله أقوى منه–واكثر ساديه- يستحق خدمته ليدين له بالولاء: حتي اذا ما اصبح الشخص الاخر ضعيفا او فقيرا او ظهر من هو اقوي منه فانه يغير ولاءه فورا وبسرعة البرق وبدون تفكير إلى الشخص الاقوي: وهو على استعداد لأن يفعل ذلك كل يوم إذا اقتضى الأمر. ولا يشعر بغضاضة فالمسأله في رأيه ليس لها علاقه بمبادئ فكريه او مشاعر انسانيه او قيم اخلاقيه وروحانيه (او أية صفة شيطانيه) بل هي نتيجة واقعيه يشعر بان علي الجميع أن يفهموا ابعادها ومن ثم يحذو حذوه:
انه -في قرارة نفسه –وكما شرحت- لا يؤمن بان ما يفعله له علاقه بالخير او الشر: الخطأ او الصواب: او ان عليه الاختيار بين نقيضين من اي نوع: فهو الخيار الملائم الوحيد دائما وابدا: وهو اللحن الرئيسي في مقابل صوت الجوقه وعقرب الساعات في مقابل عقرب الثواني (ربما لانه لا يؤمن اصلا بالخطأ والصواب؟)
حتي اذا ما دنت ساعة الحساب فان اول –واصعب- ما يمكن ان يسأل به نفسه هو: كيف حدث هذا؟ لقد فعل المستحيل من اجل الا يأتي هذا اليوم: وقد لا يتردد في هذه الحاله بالتضحيه بشعبه كله فهو لم يعرف قط قيمة الحياه وقيمة الانسان حتي يخشي عليهم من الموت!
ومشكلة الانسان المتسلط -في رأيي- انه لا يملك حس بالتاريخ اذ غالبا ما يتصور التاريخ كائن خرافي أهوج يتحرك بعشوائية وطيش من اجل هدف مطلق هو عدم لا نهائي: فهو يفعل ما يريد في الوقت الذي يريد متلذذا بإخضاع الجميع لارادته وارادته فحسب. وارادته هذه هي قصه طويله مؤلمه من الاسي والاحزان بل والرعب: وبذلك فالتاريخ ما هو الا سجل لضروب المتعه او بما هو متاح من عذاب وصراع وخداع وبشاعه وحطة ومذابح جماعيه مفزعه
وبذلك فاكثر الناس قدرة على فهم –وصنع- التاريخ -في رأيه- ليس الاكثر تعقلا او الاكثر عذوبه بل هم الأكثر وحشيه وتعاليا: والأكثر حقارة ونذالة واستهتارا في نفس الوقت: وهؤلاء–في رأيه-خارج إطار محاسبة التاريخ لأنهم ببساطه مثله ويفعلون ما يفعل
وهكذا غالبا ما يظن الحاكم السادي المتسلط ان التاريخ ما هو الا تكرارا لاحداث متشابهه (تماما كما هي قطع الدومينو او الزجاج الملون الذي يظهر في منظار الطيف بتشكيلاته المتباينه) بادعاء سخيف ساذج مثير للضحك ان التاريخ انما يكرر نفسه –اذا ما تكرر- تيمنا بحوادث وشخصيات بعينها تنال جانب من اعجاب عدد كبير من الناس ولذا وجب تكرار ما فعلته تلك الشخصيات بحذافيرها حتي يكون في الجانب الصواب: وهو مخطئ طبعا:
فالتاريخ لا يدعو الناس الي تكرار اخطائهم بل الارجح انه يمنحهم فرصة اخري نادره ليتجنبوا الوقوع في الخطأ وفعل ما هو صواب
كما ان الانسان لا يصنعه التاريخ فحسب فالتاريخ يصنعه ايضا الانسان
ويوم يصبح في وسع الانسان الاطلاع علي التاريخ اطلاعا كاملا وفهم مضمونه فهما موضوعيا وافيا فانه سيتعرف –حتما- علي نفسه ويكتشف جوهر وجوده كانه امام مراه: وكيف ان هذا الجوهر فذ وحتمي وله علاقه بفلسفة كامله لها مغزي ومعني ومسار ولها منطق يضبطها هو منطق الحياه (او كما ذهب "هيجل": "المنطق العظيم " الذي يتحكم في الكون بحيث يجعل من عالم الانسان ليس سوي جزء بالغ الصغر في اله عظيمه لا يعلم الانسان منها الا ما هو علي مقاسه ولكنه رغم ذلك كافيا لان يدرك انه حتي وان كان هناك الم وخبث وصراعات وفناء في هذا العالم الا ان تاريخ الطبيعه –والكون- اجمالا- انما يتوجه نحو تطهر كامل من اثار الخبث الذي يتركه الانسان خلفه علي كوكب الارض: اي نحو خير نهائي)
اما بالنسبه للانسان الذي يصنعه "الزعيم" او "الامام": ذلك الانسان الموظف الذي تحدثت عنه منذ قليل: فهو انسان قدر له ان تكون خطواته اسرع من عقله وبصيرته اضعف–واقصر- من مدي رؤيته واحلامه لا تتجاوز كرشه! اذ اصبحت كل احلامه منصبه علي فعل كل ما يمكن فعله من اجل تسلق هرم -او جبل- حاجاته الذاتيه ظنا منه ان هذا يعينه ويعين المجتمع علي تحقيق اهداف عامه ساميه ومع ذلك لا يرتقيه الا كما يرتقي طابور النمل قدر العسل بحيث تتدافع كل نمله في حومة صعودها المحموم للحصول علي نصيبها من الغذاء ممتطيه ظهر اختها باعتقاد منها انها ستكون بتجاوز اختها الضعيفه المحرومه (او ربما سحقها) اكثر قدره علي خدمة الخليه والي اقصي حد
انه ذلك المجتمع الطبقي نفسه المتمثل في عسكر وعمال وذكر خليع كل مهمته التزاوج والتكاثر وملكه تنتظر بكبرياء في مكان ما بعيد لا رابط بينها وبين ما يدور حولها من تطاحن وصراع: ولا يغرنك ان ما يجري في عالم النمل له قيمه جماليه فليس من شيم النمل احراز فضيله او انماء حقوق وحريات وخصوصيه انما هو نوع من التعاون المتوحش القائم علي سخره ووصوليه وانتهازيه: بعباره اخري: القيمه الوحيده للتعاون في عرف النمل تتمثل في تحقيق الهدف: والهدف هو الوصول الي الطعام وجمعه باقصر السبل وفي اسرع وقت: انه الاسلوب الامثل للحياه في نظر النمل: تغذي بقدر ما تستطيع -ومالا تستطيع- قبل ان يتغذي غيرك عليه! وبذلك فما نراه من جثامين نمل طافيه علي سطح العسل انما هو نمل غرق بعد ان وصل الي القمة اذ لم يجد من مغزي اخر هناك -في حومة نهمه- سوي الموت
فاذا ما طبقنا ذلك علي البشر فان اقرب مثال لهذا المجتمع-بلا شك- هو مجتمع السجون!
ولنتصور المشهد المدهش: قلعه ضخمه من الزجاج علي جزيره شبه منعزله (وان كانت عزلتها تلك معنويه اكثر منها ماديه) تحتوي علي زنزانات مفتوحة الابواب ومع ذلك لا يمكن للغالبيه العظمي من المساجين مغادرتها لان العالم الخارجي –من جانب- بالكاد يقبل ايدي عامله غير مدربه وغير متعلمه تعليم جيد (اذ ان عنده من المشاكل الاقتصاديه والاجتماعيه والسياسيه ما يكفيه): ولا السجان –من جانب اخر- يفتقد –بجوار الصدق- الي الضمير فهو لا يكف عن اخفاء اخطائه وانكار جرائمه والقاء مسئولية كل تصرف طائش يقوم به علي اكتاف السجناء فيفرض عليهم عقابا جماعيا الواحد تلو الاخر: وفي نفس الوقت يفعل كل ما هو مستطاع ليقنعهم بان كل ما يحدث بالخارج شر مطلق وان الاعداء يتربصون بهم في كل مكان (بما في ذلك البلدان التي تقود الحضارة والحريه فحتي هؤلاء يريدون اغواءهم باسم العلم والحريه) وبذلك فان عليهم حتي يهنأوا ان يسلموه–واعوانه- عقولهم وذاكرتهم فيقبلون كل ما يقدمه لهم –ايا كان حجمه- مغلقي الافواه (مع ملاحظة ان مكتب ادارة السجن هو المكان الوحيد المغلق دائما والمبني بالطوب):
لا لأنهم لا يعرفون معني–او قيمة- الحريه ولكن لانهم صاروا –في رأي السجان وثلة المهزومين الرجعيين اليائسين - عاجزين عجزا مزمنا عن التخلص من سيكلوجية السجين (الخوف من الحريه؟) تماما كما ان السجان صار بدوره عاجزا عن التخلص من سيكولوجية السجان (والحرامي؟): وهم في ذلك –في رأيه- ليسوا نملا فحسب وانما كالجراء الصغيره ايضا اذا ما تحرك شئ نبحوا واذا ما ظل الجو ساكنا عادوا الي زنزاناتهم مجرد ظل علي حائط!
حتي اذا ما اتيحت لهم –لسبب او لاخر- فرصة التحرر من السجن والثوره علي السجان ووجدوا انفسهم لدي اعتاب باب السجن –مرة اخري- مع طائفة الرجعيين بانواعهم يسألونهم: ما الذي يدعوك الي المغادرة ؟ وهل ستضمن لك الحرية نفس حصتك (المجانيه) من الزاد وبنفس الجوده ؟ وهل ستكون قادرا علي الحفاظ عي تراثك وهويتك وعقيدتك ؟ (متناسين انهم اكتسبوا كل ذلك في واقع الامر في محبسهم وبالتالي فان غالبية ما اكتسبوه انما هو بالضروره نتاج سيكلوجية الاستبداد والفساد والخوف والعبوديه والجهل والانتهازيه والانغلاق والانعزاليه–اخلاق السجون-ولذا فهو محل نظر)
وهكذا يكون من الصعوبه بمكان ان يسأل الانسان نفسه في هذه اللحظه اسئله بسيطه للغايه وخطيره في نفس الوقت مثل: من انا؟ وماذا كانت تهمتي؟ وماذا اريد لنفسي ولابنائي ؟
ان الانسان مدمن سيكلوجية السجين قد يفقد –الي جوار عقله وذاكرته وضميره- كل دافع حي يدفعه الي التقدم والخروج من سجنه: فهو اينما ذهب صار سجنا متنقلا لنفسه: وبذلك فحريته في هذه الحاله –في واقع الامر- لا قيمة لها ولا تعني شيئا ولن تغيره من تلقاء نفسها بل وازعم انها لن تؤدي الي ديموقراطيه طالما ان هذه الحريه لم تسهم بدور في تقدمه -وتقدم ذهنيته- الي الامام: بل والاسوء قد يعود به هذا النوع من الحريه الي الخلف فتستبدل حارس باخر او سجان باخر او ايدولوجيا رجعيه باخري مثلها او اشد منها فيجد الانسان نفسه مثلا بدلا من 50 او 70 او حتي 100عام الي الوراء اذا به وقد ولج لتوه عصر مسيلمه الكذاب حين كان المسلمون الاوائل لا يزالون يجاهدون للخروج من ظلمات العصور القديمه (ايا كانت الصبغه التي تغلف الية العوده: وطنيه او دينيه):
انها الازدواجية نفسها التي تكتفي بمنح –او الحصول علي- جزءا فقط من كل شئ: جزء من الحريه: جزء من الكرامه: جزء من اهداف الثوره: جزء من العدل: جزء من المساواه: جزء من السعاده: جزءا من العلم: جزء من الديموقراطيه اذ ان كل ما يحركها هو بناء حدود وسدود واسوار لكي يحتفظ الانسان دوما بمنطق النمل: منطق الساده والعبيد: او منطق عبادة القديم (باعتبار ان كل قديم اصيل وان كل قديم مفيد):
وهي دائره لن يخرج منها هذا الانسان ابدا -في رأيي- خصوصا اذا ما ظل يلازمه اعتقاد واحساس زائف بالعجز والخوف او اذا ما ظن ان الديموقراطيه مقتصره علي الانتخابات (ناهيك عن طريقة الانتخاب نفسها والتي تعتبر مثلا ان انتخاب العلمانيين او غير المسلمين من شأنه "اغضاب الله" او نفاق او كفر او منح "الولايه" –وحسب هذا الفكر-لمن لا يستحقها) واولئك لن يسمحوا بتغيير الا جزئيا او لن يسمحوا به مطلقا
انها ازدواجيه جبانه لا تثق في الحريه ولا تؤمن بخوض التجارب والمخاطر والمعارك الفكريه ولا تثق في اجيال جديده قادره علي تنمية وعيها واحلامها وقدراتها بطريقتها وحسب مقاييس عصرها وعلي رأس ذلك لا تثق في قدرة الناس علي التمييز بين الخطأ والصواب:
بل وليست قادره-في نفس الوقت–وهذا يوضح قدر التناقض- علي ان تكتم حقدها وعدائها الدفين لتجارب الديموقراطيه الاصيله القائمه علي العلم والفكر والحريه غير المهجنه بالفتاوي والتطرف والتعصب. بمعني ان هذه الازدواجية لا تثق حتي في نوع التربيه والتعليم الذي تقدمه: واستطيع ان اذهب لما هو ابعد فاقول ان ثقة هذه الازدواجيه في قدرة التاريخ علي حكم عالم الانسان ومعالجة مشاكله بنفسه–وهو قادر- غالبا ما تكون موضع شك (طالما انها تنتظر دائما مصيبه حتي تجبرها علي التحرك في الاتجاه السليم)
بما يعني ان الدوافع التي تجعلها نصف-حره او نصف-كريمه او نصف-عادله ليست دوافع اصيله نابعه من ادراكها لمشكلة الحريه نفسها وقيمتها وانما دوافع مصطنعه وعارضه غالبا ما يكون الباعث الاصلي من ورائها مصالح طارئه بحيث يظهر زيف هذا الايمان حين لا يتطابق مع هذه المصالح او حين تصبح الافكار التقليديه الجاهزه اقدر علي امداد الانسان باهلية صنع القرار وراحة البال او حين لا يكون قادرا علي تبرير الانكسارات والرجعيه بصفتها انتصارات
وازعم ان هذه هي معضله المجتمعات التي تتحرر لتوها من الاستبداد والفساد وعلي رأسها مجتمعات الشرق الاوسط: ولا اعلم كم من المرات تذكرت وانا اتأمل ما يحدث اليوم من ثورات مرحلة استعادة الملكيه في فرنسا (ارستقراطية القرن التاسع عشر) تلك التي ظهرت بعد سقوط نابليون الامبراطور (وليس نابليون الثائر) اي بعد ان فقدت الارستقراطيه الاصليه -ارستقراطية القرن الثامن عشر فما قبله- امتيازاتها علي مدي ربع قرن من عمر الثوره الفرنسيه: فانتجت ارستقراطيه مفتعله من العسكر السابقين من "محدثي النعمه" (الذين كانوا يوما –كنابليون- ومحمد علي-من الطبقات الدنيا المضطهده)
وهي مرحله لم تخرج في مجملها عن قصص لاناس من عوالم مجهوله بعيدة الشبه بعوالم الناس البسطاء –رغم ان ابطالها كلهم كانوا يوما منهم- فهم يعيشون داخل قصور مترفه منعزله عن المجتمع بحيث لا يجمع بينهم سوي عواطف مصطنعه يغلب عليها طابع التكلف والركود والغرور والسطحيه والجشع المادي والانحلال الخلقي ومع ذلك ولانهم لم يكونوا قادرين علي مواجهة نظرات الخدم (ممن كانوا لا يختلفون عنهم كثيرا من ناحية الثقافيه) واستفساراتهم المكتومه عن مصدر ثرواتهم وحقيقة جرائمهم التي ارتكبوها لاكتساب هذه الثروات والحفاظ عليها: كانوا يدفعون مبلغا من المال لكل خادم -سرا- كيلا يحتزوا رقابهم اذا ما واجهوا ما واجهه لويس السادس عشر وزوجته عام 1793! (طالما ان عودة هؤلاء الشبان من الطبقات الادني ممن كانوا يتمتعون بثقافه عاليه -مثل روبسبيير ودانتون او حتي نابليون–مازالت ممكنه)
بحيث لا يختلف الحال –برأيي- في مجتمعاتنا الا بمقدار ما قضيناه منذ عصر محمد علي والي اليوم بلا حريه: أي ما يتجاوز قرنين من الزمان: بمعني اننا امام قضية استبداد وفساد مفزعه وبمعايير تاريخيه: لقد تعرضت تلك المجتمعات لظلم مروع –مصحوبا بعنف وقتل وخسه ووحشيه بما لا يقاس- بحيث امتد هذا الظلم وتواصل الي حد انه امات لدي البعض مشاعر الظلم نفسه واخرس الالسنه فاعتاد جانب من الرأي العام علي الا يقف في وجه الظلم ويطالب بالحقوق: حيث يقضي الانسان حياته كلها متصورا انه لا يملك امكانات كافيه تؤهله لتغيير شامل كامل باعتبار ان العدل –ومرة اخري- وان كان ملتصقا باستبداد وقسوه وانتهازيه وجهل وانتهاك حقوق انسان اهم من حريه وكرامه وعلم ومساواه وبذلك فقد اصبح علي هؤلاء ان يختاروا دوما ما بين مزيدا من العدل المستبد او قليل من الديموقراطيه
وفي هذه الحاله يمكنني ان افهم ان القيمه الوحيده من الانتخابات الحاليه هو الهاء الشعب وتوجيه انتباهه وطاقاته باتجاه "بشائر" ديموقراطيه (لمجرد ان الانتخابات ليست مزوره هذه المره مثلا وكأن مشكلتنا كانت في تزوير الانتخابات فحسب) او قضايا لا علاقة لها بما نحن بصدده من تغيير من قريب او بعيد لا لشئ الا لان الانسان لا يمتلك شجاعة المكاشفه باخطائه او حاسة التدخل المبكر- لوضع خطط وحلول–لمشاكله او الاستعانه بخبرات اخرين لوضع خطط وحلول وبشئ من التواضع والموضوعيه والمسئوليه- ودون ان يكون هم الانسان الاول اكتساب شعبيه (هي شعبيه رخيصه في رأيي ومفضوحه وتكاد تكون دوافعها غير اخلاقيه اشبه بممثل سئ دخل مجال التمثيل بالواسطه -او بالصدفه- واظهر ثقل ظل عرفه القاصي والداني ومع ذلك مازال متشبثا بالتمثيل والتمثيليه: والحق ان الشعبيه لا تجئ الا عن طريق عمليه بطيئه غايه في التعقيد: اذ لا يكفي ان يكون الانسان مشهورا ليحصل علي شعبيه: خصوصا اذا ما تم ذلك في بيئه يكثر فيها اولئك الذين يتلقون الاوامر بشكل واسع: اذ نجد في بيئه كهذه الشخص متوسط الذكاء مثلا يظل طوال حياته يحاول ارغام شخص اخر اكثر تميزا–خطوه اثر خطوه- كما لو كنا بصدد عملية ترويض- علي تقديم الولاء له- فيما يقف فوق رأس هذا الشخص نفسه ليخبره ماذا يفعل ودون ان يعترف له بفضل وهكذا تستمر العمليه حتي ينتاب الجموع احساس ما عارم ناجم عن شبه اتفاق بالقرف: وذلك هو بالضبط وضع كل شعبيه غير اصيله لا يستحقها من يحصل عليها: اذ سرعان ما يكتشف الناس الحقيقه –وهي ظاهرة لا محاله- فتقل شعبيته الانسان متوسط الذكاء وقد تتلاشي تماما في لحظة واحده فيصبح مكروها وتصبح شهرته نقمة عليه فالقانون الطبيعي هو ان الشخص الذكي يميل الي مصادقة من هو ذكيا مثله لذا نصيحتي دائما للانسان النابغ الذي تأخرت عليه شعبيته وشهرته: لا تيأس: والي ان يتحقق لك ما تستحق فانه يجب عليك –حتي وان كنت قد اجتزت كل المراحل بنجاح- الا تفقد تركيزك ورشاقتك وثقتك في نفسك واحساسك بالتوقيت واكثر من ذلك الا تفقد ايمانك بمن تكون ومحبتك لمن تحبهم ويحبونك حتي تتضاءل العوائق وتحصل علي ما تصبو اليه: او تجد من تتوافر لديهم من الامانه ما يجعلهم يرجعون الفضل لصاحبه)
ولا اعتراض لي علي فكرة الانتخابات او موعدها وانما اعتراضي ان تجري الانتخابات علي طريقة "بختك يا بو بخيت" دون اعداد ديموقراطي جيد للمواطن العادي وباقل قدر من الثقافه والوعي السياسي (بل والديني) وي في ظل حالة غموض رؤيه وانتهازيه سياسيه (اذ مازال الدين يستخدم في السياسه علي مرأي ومسمع من الحكومه وعلي خلاف القانون بل ان بعض الاحزاب ذات الصبغه الدينيه لم يتعهدوا الي اليوم في برامجهم باحترام حقوق وحريات المرأه والاقليات وحقوق الانسان والاتفاقات الدوليه) وفي ظل غياب امني وحكومي شبه تام (وهذا في رأيي لا ينبئ بتعدديه سياسيه وانما تصادم ديني سيبقي دائما وابدا موجودا طالما ان الوعي السياسي والديني مازال غائبا)
فاذا ما ادخل المتابع الكريم كل هذا في اعتباره فانه سيدهش لا لتباطؤ الحكومه في بلوغ اهداف الدوله (ناهيك عن اهداف الثوره واهداف الحكومه) بل لان البعض ظن انها ستدرك تلك الاهداف اصلا: فما ان ينقلب السحر علي الساحر ويتبدل الهذر جدا وتزحف النيران ويمتد حريقها الي يد من اشعلها وتقوم قائمة ميدان التحرير اذا بنا نجد من يدعو الي فرض حل امني جديد او تشكيل حكومه جديده يصبح علي رأس مهامها–مرة اخري- الامن والاقتصاد والاستقرار فيما يصبح علي الشعب–في نفس الوقت- البحث عن "مثيري الشغب" المجرمين الذين حاولوا افساد "عرس" الديموقراطيه والعمليه الانتقاليه والاضطلاع بمسئولياته في –احم- "تربية الاولاد" (بأعتبار ان الثوره هي من افسدهم) ثم لا بأس بعد ذلك في الظهور بمظهر البطل المغوار الذي حمي البلاد–والثوره- والشرعيه- من الاشرار بالداخل والخارج
وهكذا في وضع كهذا ليس غريبا ان يجد الثوري والسياسي والمفكر-والانسان الذي لم ينجب اولادا- نفسه وقد حشر حشرا وسط حومه اعصاريه منعزله -او ثقب اسود- كل همها استدرار صمت "الشرفاء" والايحاء –وبعد كل مصيبه- بان الامور تجري حسب خريطة الطريق او انها في ايد امينه (باعتبار ان امينه اخت شريفه): وفي وجود حكومه "ناني" قليلة الحيله (و"ناني" في رأيي هو اكثر الالفاظ تأدبا) لم تجرؤ يوما-وطوال الاشهر الماضيه- علي محاولة اكتساب سلطات تمكنها من اداء مهامها او لفت نظر المجلس الي مسئولياته الامنيه والوفاء بها (تلك المسئوليات التي صارت-ومنذ بداية الثوره- ضمن جداول اللوغاريتمات): وهكذا كلما خطونا خطوه الي الامام اذا بنا نعود الي نقطة الصفر لنتحدث مرة اخري عن الامن والاقتصاد والاستقرار وكأن شيئا لم يكن
وانني –وايم الحق- لفي شك مريب من ان ارباب المعاشات قادرين علي صنع ديموقراطيه فالديموقراطيه لا يصنعها اناس نشأوا وقضوا عقودا طويله في خدمة الدكتاتور -وخدمة اسرته- دون ان تظهر علي اي منهم اعراض الثوره (او حتي مجرد نزلة برد) او من درجوا علي احتقار شعوبهم والبحث عن اقصر الطرق للنجاة من المحاسبه: والارجح ان البعض مازالوا يظنون ان الديموقراطيه هي الانتخابات وان الانتخابات حتي تكون حره فانه يجدر بها ان تكون بلا ثقافه وبلا وعي وبلا تنفيذ قانون ودون اعداد جيد للمواطن علي جميع المستويات معرفيا وفكريا وذوقيا وروحيا: حتي يستطيع المواطن ان يدرك الفارق بين الفكري والسياسي والوطني والديني –كما شرحت- وبالتالي الحكم علي من هو قادر او مؤهل من السياسيين علي الاضطلاع بالعمل السياسي اكثر من غيره ودون ان يضطر الي خوض جدل سوفاسطائي في كل مره بشأن المفاهيم
ولا ينبغي لنا ان نتعزي عن تلك الحاله المؤسفه من اعادة تدوير المفاهيم وتفصيلها علي مقاس اصحابها علي اساس انها ستستمر او علي اساس ان السواد الاعظم من الناس لا يكونون احكامهم وفقا لتفكيرهم الخاص وانما وفقا لاحكام من الثقاة ممن يظنون انهم اقدر علي الحكم منهم -وان لم يكن الامر كذلك- فالناس البسطاء غالبا ما يكون لديهم بعض التشكك الفطري ازاء ادراك ما في السياسه –ومصطلحات السياسيين- من تعقيد خاصة اذا ما تعمد حفنه من المضللين تبسيط المعقد وتعقيد البسيط او لصقوا ثقافه متطرفه ومعرفه محدوده–وما هو اندر نفعا –واقل صدقا من هذا وذاك-بالسياسه
او استمروا ولاخر قطره في دمائهم علي وصف العلمانيه والدوله المدنيه بالكفر والالحاد (وهو كفر طبعا بالنسبه لمن لا يعلم ولا يهتدي): او نادوا بنظام مختلط (كشري يعني) ما بين برلماني ورئاسي عن طريق توزيع المهام ما بين الرئيس ورئيس الوزراء متجاهلين ان هذا الكلام لا معني له مطلقا في دوله ديموقراطيه ذات تعدديه حزبيه اذ انه يفترض مسبقا الا ينفرد حزب واحد ابدا بالحكومه وبالتالي بتنفيذ برنامجه كاملا: بمعني اننا سنعيش -في ظل هذا النظام- حكومة وحده وطنيه علي الدوام في محاولات للتوفيق بين الرئيس ورئيس الوزراء!
او تمادوا في التغزل بالشعب او وصف الناخبين بانهم كل الشعب -او كل الناخبين- في كل مراحل العمليه الانتخابيه- متناسين–صدفة او عمدا-اننا مازلنا بعد في البداية وانه مازال امام الناخب المصري طريق طويل لكي يكتسب الوعي السياسي والثقافي كيما ينتخب وفقا لمبادئ وبرامج سياسيه بحته (كما لو اننا انتقلنا من مرحلة رياء السلطه الي مرحلة رياء الشعب) في حين انهم يستديرون –علي الجانب الاخر- وكلما سنحت الفرصه-ويالا المفارقه-الي ميدان التحرير مستهينين بمليوناته واعدادها واصفين الثوار والشهداء والمصابين كما لو كانوا لا يمثلون الشعب او لا يمثلون ما يسمي الاغلبيه الصامته (ولا احد يعلم من بالضبط من حقه التحدث نيابة عن اغلبيه صامته واذا كانوا صامتين فلماذا لا يتحدثون بل لماذا يجب ان يتحدث احد نيابة عنهم اصلا؟) ظنا منهم انهم قادرون علي خداع الناس –او نعديل مسار التاريخ- او ان الجهل والانتهازيه من الممكن ان تظل خافية دون ان تنكشف الي الابد وهم واهمين فما من جهل او انتهازيه الا وتكشف امرهما شأنهما في ذلك شأن كل شئ زائف وغير اصيل ولو بعد حين
ولابد وان اشرح هنا ان ما يحدد درجة رقي او تحضر اي شعب او حكومه هو حرص الناس علي تكريم الشهداء والمصابين والضعفاء والمحتاجين والعنايه بهم –ناهيك عن اولئك الابطال الذين ضحوا بحياتهم او اصيبوا اثناء الثوره- اذ ان هؤلاء هم شرف الوطن وكرامته ومن ليس قادرا علي ان يصون شرف وطنه وكرامته تصبح مناقشة مسألة صيانة الشرف بوجه عام معه موضع جدل
واري انه من المهم ان الفت النظر هنا الي ان التحيز الي الانسان المتميز وتكريمه وبناء نوع من الشراكة–والمصارحه- والثقه معه لا يتناقض مطلقا مع فضيلتي التواضع والمساواه: فمبدأ المساواه يضمن مساواه في الفرص والحقوق والحريات الاساسيه دون تحيز لعرق او جنس او نوع او ثقافه او دين او طبقه اجتماعيه (بمعني ان المساواه تشمل ايضا من يدير شئون البلاد): وبذلك فالمساواه لا تعني ابدا اضاعة مبدأي التميز والخصوصيه او تدمير روح النضال والمبادره واضطهاد اصحابها: فلا مساواه بين العلم والجهل او بين الذكاء والغباء او بين السلبي والايجابي او الخطأ والصواب او التقدم والرجعيه: كما انه ليس من العدل ان نساوي بين الثائر الذي يسعي الي تنمية ذوقه ووعيه والنهوض بمجتمعه وتحريكه الي الامام وبين المنساق لمغريات السلطة والمال والخمول ذلك الذي لا ينزعج من فكرة الخضوع لسلطه مهيمنه رادعه علي الدوام وان اضطرته الظروف الي ان يخلط بشكل شبه متعمد بين الاستقرار وبين الركود والسلبيه او اللامبالاه:
بما يعني ان حرمان المفكر الفرد الواعي الساعي للتفوق من حقه في التفوق والتكريم بناءا علي تفوقه (ثم تشجيع الجاهل علي جهله والكسول علي كسله والرجعي علي رجعيته والغبي علي غبائه والانتهازي علي انتهازيته) هو في حد ذاته حرمان للمجتمع من عقله وقلبه وضميره وتجريفا لقدراته (والا اصبح التعليم الاساسي مثلا –وحسب هذا الفكر- نوع من الترف بحيث يتساوي فيه الناجح والفاشل: المتعلم وغير المتعلم)
ولنتشه وصف طريف–علي لسان زرادشت- يصف فيه الانسان كما لو انه بهلوان سيرك يسير علي حبل مشدود بين برجين في مقابل حشود من الغوغاء من رواد السوق ممن يقفون علي الحياد مراقبين يلهثون تحت وطأة العديد من الاراء الدارجه واحكام الثقاة والتكهنات ينتظرون بلهفه عبور البهلوان الي الجانب الاخر ليصفقوا له اذا ما نجح (او يسخروا منه اذا ما فشل): ولكن وفي تلك الاثناء قد يحدث شئ فبينما هم واقفين–ومازال نتشه يتحدث- قد يطور احد المهرجين من اصحاب الدم –والعقل- الخفيف في نفسه شعورا ما بالمشاركه وهكذا قد لا يسلم الامر من قفزه مباغته ليستقر المهرج علي كتفي البهلوان المسكين جاثما علي انفاسه فيصبح البهلوان بذلك امام تحد جديد: اما ان يتوقف قليلا ليزيح عبئ الوافد الدخيل المتمثل في ذلك المهرج الحشري الذي قفز علي كاهليه (ثم يستجمع قواه تارة اخري ويكمل رحلته) او يكمل رحلته علي اية حال مجازفا باحتمال تاخره او تعثره لتزل قدمه ويسقط من عل
والحكمه هنا هي: كما ان قفزه عارضه سخيفه من مهرج جاهل مغرور قد تتسبب في تعطيل –او اسقاط- انسان متعلم متميز مجتهد يعرف طريقه ويدرك ما يجب عليه ان يفعله فان اطمئنان الانسان المبكر بعبور امن دون اسباب كافيه تدعوه لذلك قد يتسبب ايضا في سقوطه وهو بعد في منتصف الطريق: لذا لزم علي الانسان النابغ المتميز ان يكون مستعدا للتعامل مع كل الاحتمالات
او كما قال " ميشناه" الحكيم: ان لم اكن نفسي: فمن اكون؟ وان كنت لنفسي فحسب: فماذا انا؟
واجد صعوبه بالغه في حصر عدد المرات التي اقترح فيها الثوار ونخبة السياسيين والمفكرين–طوال الاشهر الماضيه- حلولا استراتيجيه وسياسيه –ازعم انها كانت هامه للغايه- لادارة المرحله الانتقاليه او حتي مجرد تعديل المسار المريب المعوج الذي مضينا فيه دون ان يجدوا علي الجانب الاخر–للاسف الشديد- من يملك ملكة الاستماع او عزيمة التغيير او شجاعة الاعتراف بالاخطاء واصلاحها
كما اجد صعوبه في حصر عدد المرات التي قارن فيها البعض انفسهم باخرين من دكتاتوريات مجاوره تخوض –ومازالت تخوض- حروبا ضد شعوبها فيما تترنح في طريق سقوطها المحتوم علي طريقة فرعون: "اغرق ولكن لن اغرق وحيدا: وانما ساخذ جيشي معي" او "اسقط ولكن لن اسقط دون ضجه": دون ان تتحول انظارهم ولو مره باتجاه التجارب الديموقراطيه الاصيله او تلك التي تحولت حديثا الي الديموقراطيه (متناسين اننا قمنا بثوره وان ثورتنا –وكما هو مفترض-نجحت وان المطلوب هو تطوير هذا النجاح)
ولذلك فالسؤال الاكثر الحاحا اليوم في نظري هو: هل مجلس "لم ولن ولع" (ذلك الذي يروقه دور"مجلس قيادة الثورة") سيكون باستطاعته التجانس مع دوره الاصلي في الحكومه والدوله حسب المقاييس الجديده والتي ستحتم عليه العوده ليصبح منخرطا –كغيره- في "وزاره" تتلقي –وتنفذ- التعليمات وتكرس جم جهدها لعملها– وعملها فقط - اذا كان سلوكه -وحتي وقت قريب- هو وضع نفسه علي طرفي نقيض مع ثوار التحرير كلما تطلب الامر تغيير جذري حقيقي؟ (مع ملاحظة ان اعضائه جميعا بلا استثناء قد تجاوزوا سن المعاش (وبالتالي ثقافه العصر): سواء تمكنوا من اخفاء ذلك او فشلوا: سواء مكثوا في مواقعهم او قدر لهم ما يقدره الله لسائر خلقه: واتمني ان يعيشوا الي الابد ليثبتوا عكس ما اري o-0)
لابد وان يكون في استطاعة ثوار التحرير (في القاهره والمحافظات) الذين حرضوا وبادروا وناضلوا وقادوا الشعب–والجيش-الي الثوره ان يقرروا اذا ما كانوا سعداء–او غير سعداء- بالاجنده الحاليه للتغيير او اذا ما كانت الاجنده تتناسب–او لا تتناسب-مع طموحاتهم السياسيه والاجتماعيه والاقتصاديه وطموحات شهدائنا (ناهيك عن اجيال المستقبل)
لابد وان يكون في استطاعتهم ان يشعروا انهم اتخذوا القرار السليم حين فضلوا مصلحة البلاد علي مواجهة ما بدا في حينه–والي اليوم- وكأنه تطوع جبري اقدم عليه قادة الجيش -اشبه بهاجس قهري- لادارة المرحله الانتقاليه منفردين وما يكون قد كلفنا هذا من اعباء اقتصاديه وامنيه مؤلمه (ظهرت مؤخرا في الموجه الحاليه من حشود المصابين والشهداء الابرارالذين فارقوا الحياه نتيجة الاستخدام المفرط للقوه والاستهانه بارواح –وجثث-المواطنين العزل) لمجرد انهم بدوا -الي وقت قريب- ملتزمين بعدم توجيه سلاح –ومدرعات- الشعب الي الشعب
ورأيي ان الحكومات التي تتجاهل الظلم وتستهين بارادة الشعوب وتكتفي بالتعامل مع المشكلات امنيا (مع ملاحظة ان الحل الامني في حد ذاته –وان تم دون خسائر بشريه ينبئ عن افلاس وفشل ذريع وضيق افق بلا حدود ويقود حتما الي مزيد من الظلم (وبالتالي مزيد من الاحتجاج): كما انه ليس من شأنه وضع حد للمشكله وانما هو بمثابة تأجيل لها) هي حكومات لا تهتم باكثر من اضاعة الوقت واطالة امد الثورات قدر الامكان علي امل ان تنطفئ جذوتها او يتم تفريغها من مضمونها او تصاب بالاحباط ومن ثم يحصل كل طرف علي اكبر قدر من المكاسب واقل قدر من الخسائر وتنتهي المشكله
لنها حكومات تقتل شعوبها وتنتحر فيما تظن انها تحاول النجاه!
فالتفكير -مجرد التفكير- في استقاله طوعيه او خروج الي المعاش او تفرغ كل انسان لاداء ما يتقنه اصبح بمثابة عيبا او امر جارح للكرامه او "تخوين" (مع الوضع في الاعتبار اننا نتحدث عن انظمه بلغت من الفساد والاستبداد حد معين بحيث لم يتوقف عند ذلك الحد بما يجعل من الصعوبه بمكان علي أي انسان عاقل ان يثق بان ما يحدث اليوم مختلفا عما قبل دون خطه حقيقيه للتغيير ودون مصارحه: وانا لا افهم بالمناسبه: ما معني ان تكون استقالة فلان تحت تصرف علان او ان اقدم استقالتي عدة مرات ولا يقبلها احد فأعود الي عملي كما لو كان شيئا لم يكن او كما لو كان عملا بالسخره)
والمفاجأه ان الثوره مستمره الي اخر رمق وان لها رساله ومضمون واهداف وان اهدافها مشروعه وان الرجال والنساء الشجعان الذين قاموا بها لديهم من الصلابه ما يجدد ارادتهم ذاتيا علي الدوام بحيث يصبحون اكثر عزيمة واصرارا علي التضحيه في سبيل ما يؤمنون به كلما مر الزمان: لقد صاروا مصدر الهام: والفارق كبير في رأيي بين محبه طوعيه للوطن وبين خوف منه: او بين اناس لا يحركهم سوي الضغط والقوه والاهداف الفرديه والفئويه واناس يحركهم الفكر والمبادئ الاخلاقيه والصالح العام ومستقبل الوطن
ويلوح لي انه ما كان يصبح لحديث أي من هؤلاء اليوم عن الثوره والديموقراطيه اهميه لولا ثوار التحرير ولولا ان الثوره بعثتهم من مرقدهم:
ان فكرة ان الانسان كان بحاجه الي بعث وان غيره هو صاحب الفضل في ذلك مازالت تؤرق البعض فيما يبدو: وهم في نفورهم هذا من البعث–ومن الثوره- علي حق: ان البعث من الموت امر مخيف حقا بالنسبه لمن ماتت روحه