وربما كان هذا هو السبب الرئيسي– برأيي – في عدم نجاح ثوره يوليو 1952 واحتياجها –باستمرار- الي ثوره أخري مضاده ثم ثالثه و رابعه "لتصحيحها" واعادة الحياه اليها (أشبه بقلب متهالك في حاجه دائمه لصدمات كهربائيه!): ربما لأنه غاب عنهم طوال الوقت الحلول الجاده المبتكره التي لا تستقيم الا ببصيره وطهر وعلم و ذوق وصبر وتسامي فيما وراء التجربه الي درجة انكار الذات وتغليب المصلحه العامه علي الخاصه. فالحلول الجاده المبتكره تقود الي اليه لتحويل الصراعات والصدامات الي دروس ومنافع متبادله. و تقود أيضا الي تنقيح الأفكار وفك القوالب وتحديث الأهداف لتناسب العصر وبالتالي تتناسب مع تنميه المجتمع وتطوره.
ويحدث هذا– برأيي- في وجود نوع من أنواع الاشتراكيه ذات الطابع الديموقراطي الليبرالي التشاركي التفاعلي و في وجود حس ما بالتاريخ وأولويات الجغرافيا (وبالتالي حس بالمستقبل) ويحدث هذا –أيضا- حين ينظر القائد الي حياته الشخصيه بوصفها شيئا تابعا – وليس متبوعا – يخدم من الغايات ما يعلو فوقه بما لا يقاس وهو سعادة المجتمع ككل قبل سعادته الشخصيه والعائليه (التي لابد وأنها ستتحقق أيضا – بالتأكيد – كنتيجة حتميه لسعادة المجتمع).
وقد يخمن البعض انها لم تكن "ثوره" بالمعني الأكاديمي التاريخي الشامل للثوره - وان كانت مرحله مهمه في حياة الشعب المصري اختلفت حتما عن سابقتها وأثرت فيما تلاها. وحجتهم في ذلك انها – مقارنة بثورة 1919 المجيده مثلا و ثورات القرن ال 19 ضد الفرنسيين والانجليز بما في ذلك حركة عرابي– ومقارنة بثورات أخري كالأمريكيه والفرنسيه والروسيه - لم تكن "ثوره مدنيه جماهيريه" بالمعني الدارج أي:"ثوره يقودها الشعب بنفسه وبدافع مدني نابع منه ليحقق بها أهدافه التي غالبا ما تتلخص في الحريه والعداله والمساواه". فالأمر يكون علي خلاف ذلك – في نظرهم- بالنسبه لحركة جيش انتقائيه شبه مفروضه علي الشعب حققت أهداف أصحابها قبل أهداف شعوبهم.
وقد تكون حجتهم منطقيه: اذ لا يكفي ان يبارك الشعب تحرك ضباط الجيش و يؤيده و يمنحه الشرعيه لتتحول الحركه - في صباح اليوم التالي- الي ثوره مدنيه وبنفس القيادات – كما لو كان البلد شبه خاو من ثوار مدنيين! كما انه ليس من شك أن التغيير الناشئ عن الثوره – أي ثوره - هو تغيير كيفي ونوعي قبل أن يكون كمي. الا انني أميل الي اعتبارها – رغم الاخفاقات - "ثوره مدنيه" ذات تغيير كيفي ونوعي معا ولكن متفاوتين في الدرجه من حيث النفع ومن حيث الكم: أي أنه ربما يجوز أن نختلف علي حجم الأثر الذي تركته الثوره ومداه وسلبياته وايجابياته ولكن لا يصح أن نختلف علي وجوده من عدمه أو من حيث كونها ثوره! باعتبار أن الجيش ومشاكله وطموحاته جزء مهم من مشاكل وطموحات المجتمع ولا ينفصل عنها. وباعتبار أن الشعب -في ذلك الوقت- كان شبه غائب بل و شبه راض بالاستعمار والملكيه والاقطاع والفساد (الي درجة أن أنور السادات نفسه وعد والدة زوجته جيهان بالكف عن العمل السياسي أو حتي الحديث في السياسه –حسب روايتهما- حتي تزوجها له!) هذا غير كون الشعب –ربما منذ قديم الأزل- كان مرهقا للغايه و شبه مشتت الذهن ( شبه مخدوع علي الأرجح) بواقعه المعيشي المادي الصعب وغير ذلك من تفاصيل الفقر وصلف العيش التي افتقرت لأبسط مظاهر العداله والانسانيه ناهيك عن مظاهر العصر (وبالتالي عطلته عن ادراك الهدف الأسمي الذي يختبئ وراء العيش نفسه: وهو أن يكتسب حريته و كرامته - قبل أن يطالب لنفسه بواقع عادل سعيد يكون فيه علي قدر من المساواه مع غيره من الناس) وأكثر من ذلك لم يكن الشعب وحده واحده منسجمه انذاك بل كان شبه منقسم علي ذاته بين اتجاهات الفكر المتضاده متفرقا الي فرق عده كل فرقه منهم تري نفسها علي حق وفيما عدا ذلك باطل ما عليه من مزيد! وربما السبب أنه كان حديث عهد بالديموقراطيه (التي لم تكن أبدا مثاليه انذاك) بل وحديث عهد بالتعليم أيضا! وبالتالي لم يكن الشعب قادرا علي التحرك بنفسه تحت قياده مدنيه مخلصه توحده (كما كان الأمر أيام سعد زغلول) لأن هذه القياده لم تكن ظاهره. ولذلك فهي– في رأيي- "ثوره" ولكن بنسبه مئويه وهي"مدنيه" ولكن– أيضا - بنسبه مئويه.
والمثل الحق لذلك هو وجود مواقف تاريخيه هامه تبنتها الثوره وتركت اثرا ايجابيا حقيقيا في حياة المصريين - سواء طال هذا الأثر أو قصر- مثل انهاء الملكيه واعلان الجمهوريه ومثل جلاء الاستعمار واسترداد قناة السويس ومثل مشاريع كبري كمشاريع الري والطاقه والقوه العامله والاصلاح الزراعي والصناعي والصرف الصحي (مع تحفظي علي حصر كل الخيارات والايجابيات في مشروع السد العالي بالتحديد) ومثل الاقتداء ببعض مبادئ واساليب الاشتراكيه (ليس من بينها التأميمات الجائره بطبيعة الحال) ومساعدة بعض الشعوب الأخري المغلوب علي أمرها من أجل التحرر من الأستعمار وأخيرا معاهدة السلام - رغم كل ما شاب هذه المواقف من سوء سمعة و نقد والتباس و شكليه وعدم جديه (وبالتالي ابتعدت عن مضمون المبادئ نفسها) وهو ما ادي –بدوره- الي عدم تحمس البعض لها أوصيانتها الي اليوم.
اذ قد لا يغيب عن البعض أن عبد الناصر والسادات (وغيرهما) كانا يستبدلان–عمليا- ربما بسبب ايمانهما الشديد بالديموقراطيه - الاستعمار الاجنبي والملكيه الطبقية بحكم عسكري بوليسي شمولي طبقي مطلق يعمل في ظل هيمنة حزب واحد حاكم دائما وأبدا: هو حزب الرئيس والمقربين منه (أي كان اسمه). و ينمو هذا الحزب ويجد مصادر تمويله في ظل ازدواجية المال والسلطه وشرعية هي شرعية القوه القائمه علي سياسة الطوارئ والأمر الواقع. وتتفاوت درجة قسوة أو "غل" هذه السياسه – اذا صح التعبير- تبعا لعوامل الزمان والمكان والعصر والجيل الذي تحكمه وتبعا لعامل المصلحه وكل هذا يحدده مسبقا رئيس الحزب و-مرة أخري- "المقربين منه" ويغيرونه وفقا للمواقف والمستجدات (اي أن الأمر أشبه ما يكون بحديث الأخوان أنفسهم عن البيعه و مجلس شوري العلماء!)
بكلمات أخري: لم يكن أحد بصدد تأسيس "جمهوريه" من نوع ما كما يحلو للبعض أن يرددوا ويقنعوا أنفسهم: بل كانوا يستبدلون ساده بساده اخرين (كانوا في السابق اجراء مضطهدين –لسوء الحظ- أرادوا أن يأخذوا ثأرهم و بأي ثمن من شخص ما) أو نصف شمولية بأخري كامله هي شمولية الأغلبيه المتجمهره أو الصامته –أحيانا- الخاضعه –دائما وأبدا- لسلطة فرد أو حزب أو مؤسسه أو ايديولوجيه أو طبقه أو محافظه أو طائفه أو دين أوجماعه يتناوبون الحكم أحدهم بعد الاخر. وأغلب الظن أن ما يحرك هؤلاء دافع قديم قدم السد العالي - بل قدم أهرامات الجيزه - هو أن يكون أحدهم سيد هذا الشعب حتي الموت و من بعده أبنائه! وهو دافع أشبه ما يكون بثأر الثوره نفسه: قديم وغائر بلا قاع لا يقهره زمان ولا يتسلل اليه نسيان وهدفه غالبا القضاء تماما –ونهائيا- علي كل أمل من أي نوع في ظهور-أو عودة ظهور- شخص ما من أبناء هذا الشعب العاديين- هو علي الأرجح- وحسب ظنهم- من ورثة هذا الثأر- ليحكم البلاد ويحاسبهم بنفس مبادئ الثوره التي ارتضوها للشعب ولأنفسهم!
وقد يظن البعض أن الأمر مرتبطا بعصر ولي و انتهي: هو عصرالأفنديه والبهوات المتعلمين من سكان المدن في مقابل الفلاحين والعمال من أهل القري والاحياء الشعبيه ممن يتوثبون للتحرر من أغلال الجهل والركود والبلاده والفقر والكبت والحرمان والاضطهاد: لكن المؤكد أن عصر الأفنديه والبهوات لم ينته بقيام الثوره بل تواصل واتصل. اذ صار بعض أبناء الفلاحين المضطهدين سابقا أفنديه و بهوات بفضل الثوره. وهم بدورهم يضطهدون – اليوم- غيرهم من أهل المدن والقري معا ويتسيدون عليهم ربما امعانا في أخذ ثأر ابائهم كما لو كنا بصدد أن يستمر طرف في اضطهاد طرف أو طرف في خدمة طرف اخر الي الابد وحتي تستمر الحياه ! في حين أن من ارتكبوا جريمة الاضطهاد الأصليه الأولي ماتوا وانتهوا أو هاجروا هربا من الثوره وذابوا بذلك في مجتمعات أخري جديده. و بعضهم بقي وتزاوج بأفنديه و بهوات الثوره الجدد - دون غيرهم - وأنجبوا لهم الأبناء كما لو كان أفنديه و بهوات الثوره قد تركوا الملك والملكيين ليرحلوا ليتفرغوا للشعب – كما لو كان الهدف هو الشعب! ويخيل لي أن هؤلاء (أفنديه و بهوات الثوره) غاب عنهم الفهم السليم لمبدأ العله الأولي ودروس التاريخ و دورة تجدد الفصول والقرون والأجيال. وغاب عنهم أيضا أن سكان المدن الحاليين من المتعلمين العلمانيين الذين يمثلون –في رأيي- البذره التي من شأنها أن تبدع "جنة" –وليس شجره واحده- للمدنيه والثقافه والحداثه (في جميع المجالات وفي سائر ربوع الوطن) بل وللديموقراطيه وللقيم الروحيه أيضا: تلك البذره التي ذبلت اليوم بسبب الاهمال وسوء التخزين: ليسوا في الواقع من أبناء الأفنديه والبهوات الملكيين القدامي بل هم –في الحقيقه- اما فلاحين متمدنين حديثا أو أبناء فلاحين متمدنين حديثا أو أبناء خليطا من الأفنديه والبهوات والفلاحين من الذين هاجروا الي المدن بكثافه بعد قيام الثوره.
وأغلب الظن أن المخاوف والأشباح القديمه التي يروج لها القوميون والوطنيون وأدعياء الوطنيه وما زالت تنتاب الكثير من أبناء الريف الحاليين ما هي الا أوهام من صنع أصحابها أو أكاذيب للخداع والتخويف ولتصوير الأمر وكأن هذه الأشباح ما زالت هائمه في مكان ما في انتظار من يجسدها لتعود الي الحياه مرة أخري: فلا يتحرروا! فمن طباع الجنس البشري أنه مولع بتجسيد شئ أو اخر: الا انه مما يدعو الي الأسف أن ذلك الميل يتخذ أحيانا منحي "سامري" خاطئ –ربما بفعل فاعل ولغرض ما- ويتجه الي تجسيد أشياء لا تستحق التجسد أصلا! ويظل المرء سادرا في ذلك الخطأ الي أن يقيض الله له من الأجيال اللاحقه من يقوم بتصحيحه. ومع ذلك فان جمهرة المتعلمين ما تكاد أن تضع أقدامها علي الطريق القويم حتي تنحرف الي جهه جديده وهكذا فيأخذ مثلا الحذر المطلوب من خطر ما يتهدد الوطن في التدهور تماما ويتحول الي خوف مزمن أشبه برعب! كما يتدهور احترام المؤمنين وتشريفهم الواجب لأنبيائهم وينحط الي عباده شبه وثنيه لبعض مخلفاتهم التي يعتبرونها مقدسه بمرور الوقت فيبجلونها أحيانا ويعبدونها –ويعبدونهم معها- في أحيان أخري! (بدلا من أن يتجه الفكر بأكمله الي الالمام بالمفاهيم الساميه التي روجوا لها ومزاولتها) كذلك –وبنفس القدر- يكره الناس تجسد أشباح الماضي و يخشون عودة ظهورها. وعلي أية حال فالمؤكد أننا بسبب تلك المخاوف والأشباح مازلنا غير قادرين علي مواصلة الحياه بصوره طبيعيه كغيرنا من الشعوب (وقد حاول العديد من الأدباء اثارة هذه المعضله في أعمالهم الأدبيه المهمه للغايه مرارا وتكرارا ربما دون جدوي).
لم يكن غريبا اذن أن تشبه الجمهوريه الناشئه أكثر ما تشبه الملك نفسه وطبقة الأفنديه والبهوات الملكيه الاقطاعيه القديمه والأكثر خطوره أن تشبه دولة هتلر النازيه المفضل- لسوء الحظ -اليهم جميعا: الملك وعبد الناصر وأنور السادات! كما لو كانت الثوره "امتدادا" للفكر الذي رغبه الملك نفسه في نهاية أيامه دون أن يستطع لذلك سبيلا! وهكذا تحول الغضب الشريف والطاقه الجباره التي حركت هؤلاء الضباط الأحرار بكل ما ولدته من شجاعة وفدائيه ومروءة وأمل في مستقبل مشرق حر سعيد الي ما يشبه الجسم الموصل للكهرباء: هل في وسعنا أن نعتبر الجسم الموصل للكهرباء موصلا ومولدا لها في نفس الوقت؟ هل في وسع انسان قضت عليه الظروف أن يقضي حياته في جزيره مهجوره منعزله يقوم بجهد خارق لاقامة نصب في تلك الجزيره ليكون بمثابة علامه أو رساله الي الضاربين في البحر من ابناء الاجيال المقبله تعلن لهم عن المعاني والمبادئ النبيله التي ذاقها بعد حرمان فاذا به ينتهي به الأمر الي أن يبني نصب له هو شخصيا هو قبر له و لهم: هل في وسعه أن يكون مصدر الهام ؟
حسنا! أزعم أن أشباح و"عفاريت" الثوره الأحياء المتجسدين فعلا -وهم كثير في انتظار من يستدعيهم ويقض مضجعهم – أزعم أنهم أكثر عددا من أشباح وعفاريت ما قبل الثوره: ومع ذلك ما زال يروق لي أن أتحدث عن "عفريت" واحد منهم هو مفهوم "الاستنزاف" الذي تحدثت عنه منذ قليل وأوحيت أنه اختراع خالص لعبد الناصر والسادات – طيب الله ثراهما – بعد هزيمة 1967 مباشره: اذ أعتقد أنه ما زال يستحق أن نتوقف عنده قليلا.
فقد يبدو هذا "الاستنزاف" مفهوما - الي حد كبير – اذا كان مرتبطا بحسابات المصلحه الوطنيه وتحولات القوي والمبادئ (ربما) وعوامل الخطأ والصواب التي تحكم عملية صنع القرار وهي حسابات معقده يطول شرحها (وان كانت –طبعا- ليست بنفس درجة تعقيد ما يحدث داخل أروقة الديموقراطيات الغربيه التي تحكمها عادة مؤسسات ذات درجه من درجات الاحتراف المنهجيه والاستقلاليه وعقول ذات ضروب تفكير متباينه – حتي داخل المؤسسه الواحده - تؤمن بروح الفريق - وليس عقل فرد واحد عادي يطوف في فلكه عقول أخري عاديه تميل الي أن تفكر تفكيرا متشابها وتتخذ بذلك اتجاهات متماثله في الظروف المتماثله وتسير في ذات المنحي في اتفاق شبه دائم ليس ناشئ – بالضروره – عن اجماع علي حقيقه صائبه).
ويبدو الأمر مفهوما - أيضا - اذا كان مرتبطا بعمليات عسكريه لرد الكرامه والاعتبار ومقاومة المعتدي المحتل (وان كانت مشاعر ومبادئ النبل الانساني - في نظري - لا تزيد مواقف الكرامه تلك الا عظمه وقوة فوق قوتها). ولكن ما يدعو الي الحيره حقا هو أن هوجة "الاستنزاف" تلك شملت أيضا أحداث معينه قام بها الساده الأفاضل ضباط ومدنيين من بعض رجالات الدوله – وما كادت كارثة الهزيمه التي لا يمكن وصفها أو يتناولها حصر أن تبرد - ومضي الأمر كما لو كان نقطه ما ينبغي بلوغها في اطار قانون الجاذبيه.
فالتاريخ يتحدث أيضا عن عمليات "استنزاف" لأشياء مثل أجهزه كهربيه وملابس (شملت طبعا المعطف والقبعه الروسيين الشهيرين وفساتين السهره التي كانت تأتي- مع العطور- من لندن و باريس وبيروت) وعملات ذهبيه وأدوات موسيقيه واسطوانات وأفلام وأدوات عرض سينمائي وأدوات منزليه ومكتبيه علي السواء وتحف واسلحه خفيفه (بذخيرتها) ولوحات فنيه ولعب أطفال وكراتين السجائر المستورده والبيبه والسيجار ومشروبات روحيه (الفودكا والويسكي بصفه خاصه) ومعلبات تونه وانشوفه وكافيار ومكسرات شاميه (لزوم المزه طبعا) وأقراص محفزه للجنس ومنبهه ومنشطه ومخدره و..احم ..وعقود زواج عرفيه ... الخ!
وأسمحوا لي أن ألفت النظر بهذه المناسبه الي أنني لا أربط بين هذه التصرفات والحس الأخلاقي أوالقانوني لأحد (اذا كانوا قد اشتروا هذه الأشياء من حر مالهم الخاص بطبيعة الحال) فهي أشياء خاصه جدا وشخصيه ولا يحق لأحد- من وجهة نظري – الحكم عليها سوي أصحابها - ولكن أن ينبري هؤلاء فيما بعد لحل معضلات مجتمعيه لم يكن لها وجود ملحوظ من قبل مثل: الزواج العرفي وتعدد الزوجات و ما يسمي بالانفجار السكاني وما يسمي بالزواج من أجنبيات والعنوسه والطلاق والاتجار في البشر والسلاح والمخدرات وحقوق المرأه ومشاكل الفقر والبيئه واستخدام المناصب والتحرش الجنسي ؟! لا عجب والحاله هذه أن تخرج علينا – دائما وابدا - المزيد من الأفكار والجماعات الدينيه المتطرفه التي توفر بيئه خصبه لمزيد من التطرف والتعصب والارهاب وبالتالي مزيد من الجهل– اذا صح التعبير.
وأن يأتي اليوم الذي يعلن فيه رئيس مجلس الشعب الحالي– علي سبيل المثال – مخترع مفهوم الرقابه الذاتيه - أنه يتوخي أقصي درجات الحياد (الحياد الايجابي؟) أثناء الجلسات الي درجة أنه يفصل تماما بين قيادته للمجلس وانتمائه الحزبي (وكأنه يعيش شخصيتين منفصلتين يستبدل واحده بالأخري وقت الضروره!) أو أن يخرج علينا مرشح الحزب الوطني الشهير بمقولة "الفساد للركب في المحليات" ليذبح العجول والخراف ويوزع الهبات (والكوارع والركب) ليلة الانتخابات علي خلفية العيد – طبعا - وكأن التزامن بين العيد والانتخابات انما أتي من تضافر ظروف ذات درجه عاليه من الملاءمه كما لو كان حدث كوني له علاقه بحركة الكواكب والمجرات. أو أن يعلن ابن رئيس الحزب الوطني – أكثر من مره - أنه ليس له أي طموحات سياسيه بينما مناصبه وصلاحياته كنائب أمين عام الحزب وكأمين لجنة السياسات وكعضو باللجنه المركزيه التي تفرز مرشحي الحزب كلها تكرس– في واقع الأمر- لعكس ذلك تماما (والا ما الداعي لأن يتقلد أي منها ؟) أو أن يعلن رئيس وزراء حكومة الحزب الوطني أنه – خلاص ولله الحمد – تم تنفيذ البرنامج الانتخابي للرئيس ومن ثم حقق البرنامج أهدافه: بينما لا تتردد وزيرة الدوله للأسره والسكان – علي سبيل المثال- في التصريح بفشل الوزاره – ربما منذ انشائها - في تحقيق أهدافها (تلك الأهداف التي لم يراجعها أحد قط ربما منذ الستينات) بل وتضيف قائله أن وضع القضيه السكانيه "متأزم جدا" (في حين يدلل رئيس وزراء حكومة الحزب الوطني علي نجاح سياساته الاقتصاديه بازدياد معدل شراء الهواتف المحموله والسيارات والتكييفات وكأن الزياده السكانيه –وسلف البنوك- جاءت في صالحه في نهاية الأمر!). أزعم أن تلك الحاله العقليه غير المنطقيه من الفصام بين الأقوال والأفعال أو بين التقارير والواقع لا تقود الي بيئه انسانيه واجتماعيه صحيه (ناهيك عن المصداقيه والمبادئ والبرامج والاهداف).
وقد نجد قرينا لتلك الحاله –حالة الفصام- في قوانين الكيمياء: فعلي سبيل المثال اذا غمسنا قطعه من حجر الجير الحي في حامض الكبريتيك المركز المصبوب في الماء فان الحمض يتحد بالجير ويظهر علي صورة ... احم ... جبس (عذرا) بينما الحمض الاخر اللطيف الهوائي المتحد بالجير – من البدايه – يتبخر ويتطاير ويتحول الي غاز: فيحدث بذلك انفصال واتحاد في نفس الوقت. وفي حالة البشر يحدث الانفصال والاتحاد بين القيم وبعضها البعض فتحل قيمه محل أخري أو تتحد قيمه بأخري في حين تتبخر قيم أخري موجوده بالفعل وتتطاير وتختفي وتتحول الي "غاز" والسبب ينحصر غالبا في أن المسئولين عن نشر هذه القيم وصيانتها يعيشون في ظل نفس قيم المجتمع الذي يسعون الي تغييره فينتج عن ذلك "روائح" لا حصر لها وغير مرغوب فيها علي الاطلاق!