الأربعاء، 29 ديسمبر 2010

99 % من أوراق اللعب بيد الصين؟! (2-4)

وربما كان هذا هو السبب الرئيسي– برأيي –  في عدم نجاح ثوره يوليو 1952 واحتياجها –باستمرار- الي ثوره أخري مضاده ثم ثالثه و رابعه "لتصحيحها" واعادة الحياه اليها (أشبه بقلب متهالك في حاجه دائمه لصدمات كهربائيه!): ربما لأنه غاب عنهم طوال الوقت الحلول الجاده المبتكره التي لا تستقيم الا ببصيره وطهر وعلم و ذوق وصبر وتسامي فيما وراء التجربه الي درجة انكار الذات وتغليب المصلحه العامه علي الخاصه. فالحلول الجاده المبتكره تقود الي اليه لتحويل الصراعات والصدامات الي دروس ومنافع متبادله. و تقود أيضا الي تنقيح الأفكار وفك القوالب وتحديث الأهداف لتناسب العصر وبالتالي تتناسب مع تنميه المجتمع وتطوره.

ويحدث هذا– برأيي- في وجود نوع من أنواع الاشتراكيه ذات الطابع الديموقراطي الليبرالي التشاركي التفاعلي و في وجود حس ما بالتاريخ وأولويات الجغرافيا (وبالتالي حس بالمستقبل) ويحدث هذا –أيضا- حين ينظر القائد الي حياته الشخصيه بوصفها شيئا تابعا – وليس متبوعا – يخدم من الغايات ما يعلو فوقه بما لا يقاس وهو سعادة المجتمع ككل قبل سعادته الشخصيه والعائليه (التي لابد وأنها ستتحقق أيضا – بالتأكيد – كنتيجة حتميه لسعادة المجتمع).

وقد يخمن البعض انها لم تكن "ثوره" بالمعني الأكاديمي التاريخي الشامل للثوره - وان كانت مرحله مهمه في حياة الشعب المصري اختلفت حتما عن سابقتها وأثرت فيما تلاها. وحجتهم في ذلك انها – مقارنة بثورة 1919 المجيده مثلا و ثورات القرن ال 19 ضد الفرنسيين والانجليز بما في ذلك حركة عرابي– ومقارنة بثورات أخري كالأمريكيه والفرنسيه والروسيه - لم تكن "ثوره مدنيه جماهيريه" بالمعني الدارج أي:"ثوره يقودها الشعب بنفسه وبدافع مدني نابع منه ليحقق بها أهدافه التي غالبا ما تتلخص في الحريه والعداله والمساواه". فالأمر يكون علي خلاف ذلك – في نظرهم- بالنسبه لحركة جيش انتقائيه شبه مفروضه علي الشعب حققت أهداف أصحابها قبل أهداف شعوبهم.

وقد تكون حجتهم منطقيه: اذ لا يكفي ان يبارك الشعب تحرك ضباط الجيش و يؤيده و يمنحه الشرعيه لتتحول الحركه - في صباح اليوم التالي- الي ثوره مدنيه وبنفس القيادات – كما لو كان البلد شبه خاو من ثوار مدنيين! كما انه ليس من شك أن التغيير الناشئ عن الثوره – أي ثوره - هو تغيير كيفي ونوعي قبل أن يكون كمي. الا انني أميل الي اعتبارها – رغم الاخفاقات - "ثوره مدنيه" ذات تغيير كيفي ونوعي معا ولكن متفاوتين في الدرجه من حيث النفع ومن حيث الكم: أي أنه ربما يجوز أن نختلف علي حجم الأثر الذي تركته الثوره ومداه وسلبياته وايجابياته ولكن لا يصح أن نختلف علي وجوده من عدمه أو من حيث كونها ثوره! باعتبار أن الجيش ومشاكله وطموحاته جزء مهم من مشاكل وطموحات المجتمع ولا ينفصل عنها. وباعتبار أن الشعب -في ذلك الوقت- كان شبه غائب بل و شبه راض بالاستعمار والملكيه والاقطاع والفساد (الي درجة أن أنور السادات نفسه وعد والدة زوجته جيهان بالكف عن العمل السياسي أو حتي الحديث في السياسه –حسب روايتهما- حتي تزوجها له!) هذا غير كون الشعب –ربما منذ قديم الأزل- كان مرهقا للغايه و شبه مشتت الذهن ( شبه مخدوع علي الأرجح) بواقعه المعيشي المادي الصعب وغير ذلك من تفاصيل الفقر وصلف العيش التي افتقرت لأبسط مظاهر العداله والانسانيه ناهيك عن مظاهر العصر (وبالتالي عطلته عن ادراك الهدف الأسمي الذي يختبئ وراء العيش نفسه: وهو أن يكتسب حريته و كرامته - قبل أن يطالب لنفسه بواقع عادل سعيد يكون فيه علي قدر من المساواه مع غيره من الناس) وأكثر من ذلك لم يكن الشعب وحده واحده منسجمه انذاك بل كان شبه منقسم علي ذاته بين اتجاهات الفكر المتضاده متفرقا الي فرق عده كل فرقه منهم تري نفسها علي حق وفيما عدا ذلك باطل ما عليه من مزيد! وربما السبب أنه كان حديث عهد بالديموقراطيه (التي لم تكن أبدا مثاليه انذاك) بل وحديث عهد بالتعليم أيضا! وبالتالي لم يكن الشعب قادرا علي التحرك بنفسه تحت قياده مدنيه مخلصه توحده (كما كان الأمر أيام سعد زغلول) لأن هذه القياده لم تكن ظاهره. ولذلك فهي– في رأيي- "ثوره" ولكن بنسبه مئويه وهي"مدنيه" ولكن– أيضا - بنسبه مئويه.

والمثل الحق لذلك هو وجود مواقف تاريخيه هامه تبنتها الثوره وتركت اثرا ايجابيا حقيقيا في حياة المصريين - سواء طال هذا الأثر أو قصر- مثل انهاء الملكيه واعلان الجمهوريه ومثل جلاء الاستعمار واسترداد قناة السويس ومثل مشاريع كبري كمشاريع الري والطاقه والقوه العامله والاصلاح الزراعي والصناعي والصرف الصحي (مع تحفظي علي حصر كل الخيارات والايجابيات في مشروع السد العالي بالتحديد) ومثل الاقتداء ببعض مبادئ واساليب الاشتراكيه (ليس من بينها التأميمات الجائره بطبيعة الحال) ومساعدة بعض الشعوب الأخري المغلوب علي أمرها من أجل التحرر من الأستعمار وأخيرا معاهدة السلام - رغم كل ما شاب هذه المواقف من سوء سمعة و نقد والتباس و شكليه وعدم جديه (وبالتالي ابتعدت عن مضمون المبادئ نفسها) وهو ما ادي –بدوره- الي عدم تحمس البعض لها أوصيانتها الي اليوم.

اذ قد لا يغيب عن البعض أن عبد الناصر والسادات (وغيرهما) كانا يستبدلان–عمليا- ربما بسبب ايمانهما الشديد بالديموقراطيه - الاستعمار الاجنبي والملكيه الطبقية بحكم عسكري بوليسي شمولي طبقي مطلق يعمل في ظل هيمنة حزب واحد حاكم دائما وأبدا: هو حزب الرئيس والمقربين منه (أي كان اسمه). و ينمو هذا الحزب ويجد مصادر تمويله في ظل ازدواجية المال والسلطه وشرعية هي شرعية القوه القائمه علي سياسة الطوارئ والأمر الواقع. وتتفاوت درجة قسوة أو "غل" هذه السياسه – اذا صح التعبير- تبعا لعوامل الزمان والمكان والعصر والجيل الذي تحكمه وتبعا لعامل المصلحه وكل هذا يحدده مسبقا رئيس الحزب و-مرة أخري- "المقربين منه" ويغيرونه وفقا للمواقف والمستجدات (اي أن الأمر أشبه ما يكون بحديث الأخوان أنفسهم عن البيعه و مجلس شوري العلماء!)

بكلمات أخري: لم يكن أحد بصدد تأسيس "جمهوريه" من نوع ما كما يحلو للبعض أن يرددوا ويقنعوا أنفسهم: بل كانوا يستبدلون ساده بساده اخرين (كانوا في السابق اجراء مضطهدين –لسوء الحظ- أرادوا أن يأخذوا ثأرهم و بأي ثمن من شخص ما) أو نصف شمولية بأخري كامله هي شمولية الأغلبيه المتجمهره أو الصامته –أحيانا- الخاضعه –دائما وأبدا- لسلطة فرد أو حزب أو مؤسسه أو ايديولوجيه أو طبقه أو محافظه أو طائفه أو دين أوجماعه يتناوبون الحكم أحدهم بعد الاخر. وأغلب الظن أن ما يحرك هؤلاء دافع قديم قدم السد العالي - بل قدم أهرامات الجيزه - هو أن يكون أحدهم سيد هذا الشعب حتي الموت و من بعده أبنائه! وهو دافع أشبه ما يكون بثأر الثوره نفسه: قديم وغائر بلا قاع لا يقهره زمان ولا يتسلل اليه نسيان وهدفه غالبا القضاء تماما –ونهائيا- علي كل أمل من أي نوع في ظهور-أو عودة ظهور- شخص ما من أبناء هذا الشعب العاديين- هو علي الأرجح- وحسب ظنهم- من ورثة هذا الثأر- ليحكم البلاد ويحاسبهم بنفس مبادئ الثوره التي ارتضوها للشعب ولأنفسهم!

وقد يظن البعض أن الأمر مرتبطا بعصر ولي و انتهي: هو عصرالأفنديه والبهوات المتعلمين من سكان المدن في مقابل الفلاحين والعمال من أهل القري والاحياء الشعبيه ممن يتوثبون للتحرر من أغلال الجهل والركود والبلاده والفقر والكبت والحرمان والاضطهاد: لكن المؤكد أن عصر الأفنديه والبهوات لم ينته بقيام الثوره بل تواصل واتصل. اذ صار بعض أبناء الفلاحين المضطهدين سابقا أفنديه و بهوات بفضل الثوره. وهم بدورهم يضطهدون – اليوم- غيرهم من أهل المدن والقري معا ويتسيدون عليهم ربما امعانا في أخذ ثأر ابائهم كما لو كنا بصدد أن يستمر طرف في اضطهاد طرف أو طرف في خدمة طرف اخر الي الابد وحتي تستمر الحياه ! في حين أن من ارتكبوا جريمة الاضطهاد الأصليه الأولي ماتوا وانتهوا أو هاجروا هربا من الثوره وذابوا بذلك في مجتمعات أخري جديده. و بعضهم بقي وتزاوج بأفنديه و بهوات الثوره الجدد - دون غيرهم - وأنجبوا لهم الأبناء كما لو كان أفنديه و بهوات الثوره قد تركوا الملك والملكيين ليرحلوا ليتفرغوا للشعب – كما لو كان الهدف هو الشعب! ويخيل لي أن هؤلاء (أفنديه و بهوات الثوره) غاب عنهم الفهم السليم لمبدأ العله الأولي ودروس التاريخ و دورة تجدد الفصول والقرون والأجيال. وغاب عنهم أيضا أن سكان المدن الحاليين من المتعلمين العلمانيين الذين يمثلون –في رأيي- البذره التي من شأنها أن تبدع "جنة" –وليس شجره واحده- للمدنيه والثقافه والحداثه (في جميع المجالات وفي سائر ربوع الوطن) بل وللديموقراطيه وللقيم الروحيه أيضا: تلك البذره التي ذبلت اليوم بسبب الاهمال وسوء التخزين: ليسوا في الواقع من أبناء الأفنديه والبهوات الملكيين القدامي بل هم –في الحقيقه- اما فلاحين متمدنين حديثا أو أبناء فلاحين متمدنين حديثا أو أبناء خليطا من الأفنديه والبهوات والفلاحين من الذين هاجروا الي المدن بكثافه بعد قيام الثوره.

وأغلب الظن أن المخاوف والأشباح القديمه التي يروج لها القوميون والوطنيون وأدعياء الوطنيه وما زالت تنتاب الكثير من أبناء الريف الحاليين ما هي الا أوهام من صنع أصحابها أو أكاذيب للخداع والتخويف ولتصوير الأمر وكأن هذه الأشباح ما زالت هائمه في مكان ما في انتظار من يجسدها لتعود الي الحياه مرة أخري: فلا يتحرروا! فمن طباع الجنس البشري أنه مولع بتجسيد شئ أو اخر: الا انه مما يدعو الي الأسف أن ذلك الميل يتخذ أحيانا منحي "سامري" خاطئ –ربما بفعل فاعل ولغرض ما- ويتجه الي تجسيد أشياء لا تستحق التجسد أصلا! ويظل المرء سادرا في ذلك الخطأ الي أن يقيض الله له من الأجيال اللاحقه من يقوم بتصحيحه. ومع ذلك فان جمهرة المتعلمين ما تكاد أن تضع أقدامها علي الطريق القويم حتي تنحرف الي جهه جديده وهكذا فيأخذ مثلا الحذر المطلوب من خطر ما يتهدد الوطن في التدهور تماما ويتحول الي خوف مزمن أشبه برعب! كما يتدهور احترام المؤمنين وتشريفهم الواجب لأنبيائهم وينحط الي عباده شبه وثنيه لبعض مخلفاتهم التي يعتبرونها مقدسه بمرور الوقت فيبجلونها أحيانا ويعبدونها –ويعبدونهم معها- في أحيان أخري! (بدلا من أن يتجه الفكر بأكمله الي الالمام بالمفاهيم الساميه التي روجوا لها ومزاولتها) كذلك –وبنفس القدر- يكره الناس تجسد أشباح الماضي و يخشون عودة ظهورها. وعلي أية حال فالمؤكد أننا بسبب تلك المخاوف والأشباح مازلنا غير قادرين علي مواصلة الحياه بصوره طبيعيه كغيرنا من الشعوب (وقد حاول العديد من الأدباء اثارة هذه المعضله في أعمالهم الأدبيه المهمه للغايه مرارا وتكرارا ربما دون جدوي).

لم يكن غريبا اذن أن تشبه الجمهوريه الناشئه أكثر ما تشبه الملك نفسه وطبقة الأفنديه والبهوات الملكيه الاقطاعيه القديمه والأكثر خطوره أن تشبه دولة هتلر النازيه المفضل- لسوء الحظ -اليهم جميعا: الملك وعبد الناصر وأنور السادات! كما لو كانت الثوره "امتدادا" للفكر الذي رغبه الملك نفسه في نهاية أيامه  دون أن يستطع لذلك سبيلا! وهكذا تحول الغضب الشريف والطاقه الجباره التي حركت هؤلاء الضباط الأحرار بكل ما ولدته من شجاعة وفدائيه ومروءة وأمل في مستقبل مشرق حر سعيد الي ما يشبه الجسم الموصل للكهرباء: هل في وسعنا أن نعتبر الجسم الموصل للكهرباء موصلا ومولدا لها في نفس الوقت؟ هل في وسع انسان قضت عليه الظروف أن يقضي حياته في جزيره مهجوره منعزله يقوم بجهد خارق لاقامة نصب في تلك الجزيره ليكون بمثابة علامه أو رساله الي الضاربين في البحر من ابناء الاجيال المقبله تعلن لهم عن المعاني والمبادئ النبيله التي ذاقها بعد حرمان فاذا به ينتهي به الأمر الي أن يبني نصب له هو شخصيا هو قبر له و لهم: هل في وسعه أن يكون مصدر الهام ؟       

حسنا! أزعم أن أشباح و"عفاريت" الثوره الأحياء المتجسدين فعلا -وهم كثير في انتظار من يستدعيهم ويقض مضجعهم – أزعم أنهم أكثر عددا من أشباح وعفاريت ما قبل الثوره: ومع ذلك ما زال يروق لي أن أتحدث عن "عفريت" واحد منهم هو مفهوم "الاستنزاف" الذي تحدثت عنه منذ قليل وأوحيت أنه اختراع خالص لعبد الناصر والسادات – طيب الله ثراهما – بعد هزيمة 1967 مباشره: اذ أعتقد أنه ما زال يستحق أن نتوقف عنده قليلا.

فقد يبدو هذا "الاستنزاف" مفهوما - الي حد كبير – اذا كان مرتبطا بحسابات المصلحه الوطنيه وتحولات القوي والمبادئ (ربما) وعوامل الخطأ والصواب التي تحكم عملية صنع القرار وهي حسابات معقده يطول شرحها (وان كانت –طبعا- ليست بنفس درجة تعقيد ما يحدث داخل أروقة الديموقراطيات الغربيه التي تحكمها عادة مؤسسات ذات درجه من درجات الاحتراف المنهجيه والاستقلاليه وعقول ذات ضروب تفكير متباينه – حتي داخل المؤسسه الواحده - تؤمن بروح الفريق - وليس عقل فرد واحد عادي يطوف في فلكه عقول أخري عاديه تميل الي أن تفكر تفكيرا متشابها وتتخذ بذلك اتجاهات متماثله في الظروف المتماثله وتسير في ذات المنحي في اتفاق شبه دائم ليس ناشئ – بالضروره – عن اجماع علي حقيقه صائبه).

ويبدو الأمر مفهوما - أيضا - اذا كان مرتبطا بعمليات عسكريه لرد الكرامه والاعتبار ومقاومة المعتدي المحتل (وان كانت مشاعر ومبادئ النبل الانساني - في نظري - لا تزيد مواقف الكرامه تلك الا عظمه وقوة فوق قوتها). ولكن ما يدعو الي الحيره حقا هو أن هوجة "الاستنزاف" تلك شملت أيضا أحداث معينه قام بها الساده الأفاضل ضباط ومدنيين من بعض رجالات الدوله – وما كادت كارثة الهزيمه التي لا يمكن وصفها أو يتناولها حصر أن تبرد - ومضي الأمر كما لو كان نقطه ما ينبغي بلوغها في اطار قانون الجاذبيه.

فالتاريخ يتحدث أيضا عن عمليات "استنزاف" لأشياء مثل أجهزه كهربيه وملابس (شملت طبعا المعطف والقبعه الروسيين الشهيرين وفساتين السهره التي كانت تأتي- مع العطور- من لندن و باريس وبيروت) وعملات ذهبيه وأدوات موسيقيه واسطوانات وأفلام وأدوات عرض سينمائي وأدوات منزليه ومكتبيه علي السواء وتحف واسلحه خفيفه (بذخيرتها) ولوحات فنيه ولعب أطفال وكراتين السجائر المستورده والبيبه والسيجار ومشروبات روحيه (الفودكا والويسكي بصفه خاصه) ومعلبات تونه وانشوفه وكافيار ومكسرات شاميه (لزوم المزه طبعا) وأقراص محفزه للجنس ومنبهه ومنشطه ومخدره و..احم ..وعقود زواج عرفيه ... الخ!

وأسمحوا لي أن ألفت النظر بهذه المناسبه الي أنني لا أربط بين هذه التصرفات والحس الأخلاقي أوالقانوني لأحد (اذا كانوا قد اشتروا هذه الأشياء من حر مالهم الخاص بطبيعة الحال)  فهي أشياء خاصه جدا وشخصيه ولا يحق لأحد- من وجهة نظري – الحكم عليها سوي أصحابها - ولكن أن ينبري هؤلاء فيما بعد لحل معضلات مجتمعيه لم يكن لها وجود ملحوظ من قبل مثل: الزواج العرفي وتعدد الزوجات و ما يسمي بالانفجار السكاني وما يسمي بالزواج من أجنبيات والعنوسه والطلاق والاتجار في البشر والسلاح والمخدرات وحقوق المرأه ومشاكل الفقر والبيئه واستخدام المناصب والتحرش الجنسي ؟! لا عجب والحاله هذه أن تخرج علينا – دائما وابدا - المزيد من الأفكار والجماعات الدينيه المتطرفه التي توفر بيئه خصبه لمزيد من التطرف والتعصب والارهاب وبالتالي مزيد من الجهل– اذا صح التعبير.

وأن يأتي اليوم الذي يعلن فيه رئيس مجلس الشعب الحالي– علي سبيل المثال – مخترع مفهوم الرقابه الذاتيه - أنه يتوخي أقصي درجات الحياد (الحياد الايجابي؟) أثناء الجلسات الي درجة أنه يفصل تماما بين قيادته للمجلس وانتمائه الحزبي (وكأنه يعيش شخصيتين منفصلتين يستبدل واحده بالأخري وقت الضروره!) أو أن يخرج علينا مرشح الحزب الوطني الشهير بمقولة "الفساد للركب في المحليات" ليذبح العجول والخراف ويوزع الهبات (والكوارع والركب) ليلة الانتخابات علي خلفية العيد – طبعا - وكأن التزامن بين العيد والانتخابات انما أتي من تضافر ظروف ذات درجه عاليه من الملاءمه كما لو كان حدث كوني له علاقه بحركة الكواكب والمجرات. أو أن يعلن ابن رئيس الحزب الوطني – أكثر من مره - أنه ليس له أي طموحات سياسيه بينما مناصبه وصلاحياته  كنائب أمين عام الحزب وكأمين لجنة السياسات وكعضو باللجنه المركزيه التي تفرز مرشحي الحزب كلها تكرس– في واقع الأمر- لعكس ذلك تماما (والا ما الداعي لأن يتقلد أي منها ؟) أو أن يعلن رئيس وزراء حكومة الحزب الوطني أنه – خلاص ولله الحمد – تم تنفيذ البرنامج الانتخابي للرئيس ومن ثم حقق البرنامج أهدافه: بينما لا تتردد وزيرة الدوله للأسره والسكان – علي سبيل المثال- في التصريح بفشل الوزاره – ربما منذ انشائها - في تحقيق أهدافها (تلك الأهداف التي لم يراجعها أحد قط ربما منذ الستينات) بل وتضيف قائله أن وضع القضيه السكانيه "متأزم جدا" (في حين يدلل رئيس وزراء حكومة الحزب الوطني علي نجاح سياساته الاقتصاديه بازدياد معدل شراء الهواتف المحموله والسيارات والتكييفات وكأن الزياده السكانيه –وسلف البنوك- جاءت في صالحه في نهاية الأمر!). أزعم أن تلك الحاله العقليه غير المنطقيه من الفصام بين الأقوال والأفعال أو بين التقارير والواقع لا تقود الي بيئه انسانيه واجتماعيه صحيه (ناهيك عن المصداقيه والمبادئ والبرامج والاهداف).

وقد نجد قرينا لتلك الحاله –حالة الفصام- في قوانين الكيمياء: فعلي سبيل المثال اذا غمسنا قطعه من حجر الجير الحي في حامض الكبريتيك المركز المصبوب في الماء فان الحمض يتحد بالجير ويظهر علي صورة ... احم ... جبس (عذرا) بينما الحمض الاخر اللطيف الهوائي المتحد بالجير – من البدايه – يتبخر ويتطاير ويتحول الي غاز: فيحدث بذلك انفصال واتحاد في نفس الوقت. وفي حالة البشر يحدث الانفصال والاتحاد بين القيم وبعضها البعض فتحل قيمه محل أخري أو تتحد قيمه بأخري في حين تتبخر قيم أخري موجوده بالفعل وتتطاير وتختفي وتتحول الي "غاز" والسبب ينحصر غالبا في أن المسئولين عن نشر هذه القيم وصيانتها يعيشون في ظل نفس قيم المجتمع الذي يسعون الي تغييره فينتج عن ذلك "روائح" لا حصر لها وغير مرغوب فيها علي الاطلاق!

الاثنين، 27 ديسمبر 2010

99 % من أوراق اللعب بيد الصين؟! (1-4)


تذكرون عندما أطلق السادات تصريحه الجهبذ (بعد اكتوبر 1973 مباشرة): 99 % من أوراق اللعب بيد أمريكا؟
تلك المقوله التى أثبت التاريخ صحتها واعادت التقدير لشخص السادات من بعد اتهام بالتخوين (الخ) دام عقدين من الزمان ؟ وتذكرون زيارة الرئيس نيكسون الي القاهره عام 1974 وذلك الاستقبال الحافل الذي حظي به – رسميا وجماهيريا – ووصفه البعض بحملة "علاقات عامه" (تلك التي تسبق عادة تغيير استراتيجي في السياسه الخارجيه) ... بالطبع تذكرون ذلك فلم يترك الحزب الوطني فرصه طوال ال 30 عاما الماضيه الا و ذكرنا به وكأنه يدعونا الي ايمان من بعد كفر - حتي صار من الصعوبة بمكان أن نكفر بأي شئ في وجودهم - للأسف الشديد! حسنا .... أمضيت بضع أيام أتأمل تلك المقوله وأحاول ربطها بما حدث ... حسنا! ربما أستطيع اليوم أن أزعم أن هذا القول الايماني العميق لم يكن في الحقيقه تحليل أو تلميح أو مبادره أو مصارحه أو عرض أو رساله أو نبوءه وبالطبع لم يكن بالونة اختبار: في محاوله لجر المجتمع الي حوار مجتمعي جاد (لا سمح الله) ومن ثم صياغة استراتيجيه جديده - علي المستوي الشعبي - لسياسة مصر الخارجيه نعتبر فيها الولايات المتحده (وقريبا اسرائيل) حليفا - بعد ان كانت عدوا- وأكثر من ذلك نستغني عن خدمات الحليف الحالى وهو في هذه الحاله الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو ( ربما لابطال كل ادعاء حول وجود "تمثيلية" حياد ايجابي وعدم انحياز ... يا خبر! هل قلت عدم انحياز؟).

لا لم يكن الامر كذلك ... لم يكن هذا التصريح تحليل أو بالونة اختبار والسؤال هنا: ومنذ متي كان الرئيس يحلل سياسه علي الملء أو ينفخ بالونة اختبار؟ وهل استأذن عبد الناصر المصريين حين اعتبر الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو مثلا حليفا استراتيجيا لمصر (كيلا يفقد حياده الايجابي وعدم انحيازه ؟) أو حين قرر – منفردا – فرض ايديولوجية القوميه العربيه (ونظرية العادل المستبد) مستبعدا بذلك كل فرصه من أجل حياه ديموقراطيه سليمه وشرق أوسط سعيد ؟ أو حين روج لمشروع السد العالي بصفته الخيار الاوحد وأمم – في سبيل ذلك - كل شئ تقريبا ؟ أو حين أقام وحده مع سوريا - واستبعد السودان ؟ أو حين أرسل الغالبيه العظمي من القوات الي اليمن – وترك سيناء ؟ الاجابه الفوريه هي: لا بالطبع ... مجرد التساؤل يثير الضحك - لم يكن الأمر يجري علي هذا النحو ... بل ان استخدام لفظ "استئذان" نفسه يصور الأمر علي أنه موضوع متصل بالذوق والأدب: وهل يستأذن الزوج زوجته في شئون بيته مثلا ؟ لا طبعا لم يكن هناك استئذان ...

كان هناك – للأسف - خطاب انفعالي توسعي عنصري-من نوع ما- لا يخلو مضمونه من استدرار العواطف (والتلاعب بها) والتنميط والتعميم والانتهاك (الي درجة السب العلني الصريح للبعض وتذكير البعض الاخر-الشعب- بفضل الثورة عليه وواجبه نحوها). كما لا يخلو أيضا من الاستخفاف بالعقول والاصرار علي الخطأ والمبالغه باستبعاد بعض التفاصيل وابراز أخري في تشويه شبه متعمد للتاريخ كما لو كان هذا التشويه– في الواقع- مفيدا لأحد. أو كما لو كان التاريخ حكايه من حكايات قبل النوم!

وبجهد قليل يمكننا أن نكتشف أن تلك الخطابات لا تختلف - من حيث المضمون- عن كتب مثل "فلسفة الثوره" ("كفاحي" النسخه العربيه) و"البحث عن الذات" ("فلسفة الثوره" الجزء الثاني) فهي عامره بالانشائيه الخطابيه و قصص عن بطولات واقتراحات معينه في صورة "رقع فكريه" متعددة الالوان والاحجام مستعاره حرفيا - من أفكار وتجارب جاهزه لاخرين وبعد مقابلات معهم –أشبه بفرانكشتين! كأحمد لطفي السيد وعباس العقاد وأحمد حسين وحسن البنا و محمود عزمي وهيكل– باعتراف هيكل. ولابد أن الكاتبين اطلعا –أيضا- علي ايدولوجيات الايدولوجيين من القوميين الوطنيين من أمثال هتلر وهرتزل ولينين وعفلق الخ. واذا كان هذا ما حدث فعلا فلابد وأنهم سلموا –أيضا- تسليما مطلقا –كغيرهم- بنظريات بدائيه متاكله ذات طابع سادي تشاؤمي مازوخي لرجال مثل فرويد وميكيافيللي وهوبز واخرين. والهدف الظاهر- فيما يبدو- هو تفصيل حقائق التاريخ–بوعي أو بدون وعي- علي مقاس ما يسمي باشتراكية القوميه العربيه: كما لو كانت حقائق التاريخ – والاشتراكيه- في صورتها الخام الأولي لا تكفي ولا تستقيم. وهي بذلك لا تعدو أكثر من أن تكون محاوله غريبه (ومتكرره) لاثبات تفوق شخص ما - أو عنصر أو ثقافه أوحضاره أو اقليم أو دين - علي اخر أدني منه منزله وهي بذلك بعيده كل البعد عن خامات الفكر الأولي و أصحابه مبعث الفكر الأصيل في كل مكان.

فبينما الهدف الأساسي من أي خطاب رئاسي (أو كتاب) عرض كل ما هو صادق وأصيل من الافكار والاعمال و"اقناع" الشعب به – ببصيره وصبر وسعة أفق – وأكثر من ذلك السماح بمناقشة الأفكار الأخري وتفنيدها من أجل فائدة الوطن ومن أجل الاجيال المقبله ومن أجل الانسانيه جمعاء. نجد ذلك وقد تحول – مع عبد الناصر والسادات كليهما – بكل أسف – و بدافع ما – الي "اذاعه" لقيادة الناس في اتجاه مجموعه من التعليمات والاوامر الكوديه لاستنتاج الوارد بها وتحويلها الي برامج وادوار تأخذ طريقها فورا الي حيز التنفيذ وبلا نقاش!

وبذلك ينتهي الأمر قبل أن يبدأ: و تخرج المظاهرات الي الشوارع والميادين هاتفه ومؤيده وتجتمع قوي الشعب العامله - مع قوي الشعب المتظاهره -  لتنفيذ المطلوب. الا أن الخطأ الأكبر يتمثل- في رأيي- في اعتقاد الناس أن مثل هذه المواقف الكاريكاتوريه المقولبه من الممكن أن تبني دولا ومجتمعات أو أن تستمر في قلوب الناس.

بيد أن المحزن أن هذا كان يحدث في وجود – أو عدم وجود - مفكرين أصلاء من ذوي الحكم الصائب علي الأمور في قامة طه حسين وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل وغيرهم من الاساتذه الأفاضل الجادين في تناول موضوعاتهم بموضوعيه الذين لا يتوافرون في كل عصر مم يدعونا للتساؤل: وكيف الحال بنا اليوم – وماذا عنا نحن تلامذة تلامذتهم من الجهلاء – ماذا نفعل وقد أصبحت الألفاظ أهم من المعاني؟ والشكل أهم من الجوهر؟ والتفاصيل أهم من العموميات؟ وصرنا أشبه بحشرات متحفزه ابدا للانقضاض علي المعاني والأرواح الأصيله في محاوله – كدأب الحشرات – لاصطياد الفرائس ووضعهم في شرانق ومن ثم الخروج بأشكال محسنه منقحه (حاشا الله!) علي نسقها الخاص تطمس فيها هوية وعقول وقلوب أصحابها ليتحول كل ذي عقل في النهايه الي مجرد خادم لجسده أو لجسد شخص ما (وبالتالي لم يعد الرئيس بحاجه لمظاهرات مؤيده أو خطابات أو كتب لأن الشعب يقوم بكل شئ تلقائيا نيابة عنه !).

وعذر هؤلاء الوحيد - في ظني- ان القوميات والوطنيات والاتحادات الاقليميه القائمه علي أساس ديني لغوي عرقي: كانت –في الحقيقه- ثقافة عصر بأكمله وليست ثقافة أفراد. وأمام زحف صهيوني (قائم بدوره علي أساس ديني لغوي عرقي) يدق أجراسه في المنطقه أشبه بفرقة مطافئ -لا تكف عن اشعال الحرائق - كان من الصعب علي المرء ان يحتفظ برباطة جأشه.

اذن كان تصريح السادات - في رأيي - مجرد "اعلان" عن امر واقع جديد بدأ يتشكل بالفعل حين ايقن "عبد الناصر" نفسه – قبل ذلك بسنوات - والشكر كل الشكر لجهاز مخابراته الكفء الذي لم يكن قد تفرغ بعد للعلاقات الدوليه - أن الاتحاد السوفيتي قد سقط بالفعل وأن الاعلان الرسمي عن هذا السقوط سيحدث حتما عاجلا أو اجلا (وهو ما حدث بعد عشرين عاما بالتمام والكمال – ربما متأخرا قليلا – لأسباب تخص الكبرياء القومي الخ– باعتراف جورباتشوف - ولكنه حدث والحمد لله!)

و لولا ذلك - اعني لولا "علم" "عبد الناصر" المسبق بحتمية سقوط الاتحاد السوفيتي - لما قبل - في ظني – مواءمة روجرز (بعد لاءات الخرطوم الشهيره) و لما قبل تطوير تدريجي لعلاقات مع الولايات المتحده قادها - بصوره سريه - أنور السادات وزكريا محيي الدين و"اخرين" باعتراف الوثائق وشهود العيان (بل ذهب البعض الي أبعد من ذلك واعترفوا بمقابلات سريه مع اسرائيليين).

والتاريخ يتحدث عن هوجة "استنزاف" سبقت وتلت عمليات الاستنزاف العسكريه وبناء حائط الصواريخ تمثلت فيما يشبه جسر جوي طويل – عريض- بين القاهره وموسكو وبين القاهره وبعض مدن حلف وارسو واستمر هذا الجسر 3 سنوات تقريبا (نهاية الستينات وبداية السبعينات)

وبالاضافه الي الدبابات والطائرات والمدفعيه والقنابل والصواريخ (وبعضها -حسب البعض- محرم استخدامه وفقا للمواثيق الدوليه الحاليه التي وقعتها مصر: ولحسن الحظ فان تلك الأنواع لم تستخدم أبدا خلال عمليات الاستنزاف العسكريه أو في أكتوبر 1973- ربما لأنه لم يكن لها وجود أو ربما لأن اسرائيل لم تستخدم ايضا ما في حوذتها من اسلحة دمار شامل- أو لعلهم استخدموه جميعا لا أحد يعلم علي وجه اليقين!) شمل الجسر –أيضا- تكنولوجيا الكترونيه استخباراتيه (ربما بعض أجهزة الكمبيوتر وأجهزة كشف الكذب البدائيه الحديثه انذاك!) وتكنولوجيا اتصالات ومواصلات مدنيه وخبراء بلا عدد شاركوا في وضع خطة اكتوبر 1973.

وكلنا نعرف كيف طرد السادات هؤلاء الخبراء فيما بعد بعد أن استفاد من وجودهم أكبر استفاده ممكنه وبعد أن تمكن من تطوير شكل من أشكال العلاقات غير المعلنه مع الأمريكان (ولم ينس طبعا – بعد طردهم - التأكيد بأنه مازال متمسكا باتفاقية الصداقه المصريه السوفييتيه اذ لابد وأن انديرا غاندي كانت تهاتفه باستمرار لتذكره أنه ما زال في حالة عدم انحياز) وبطرد الخبراء السوفييت أصبح الطريق ممهدا "لعمليه عسكريه" وبالتالي عملية سلام - حسب تعبيره هو شخصيا. وهوالسلام الذي لم يستطع عبد الناصر له سبيلا ربما لأن عبد الناصر وضع نفسه في قالب معين (هو قالب 1956 علي الأرجح) جعل مجرد "عمليه عسكريه" ومعاهدة سلام مع اسرائيل ومن ثم علاقات متطوره مع الغرب شئ غير متسق مع طبيعة هذا القالب. وأزعم أن هذا هو الفارق الوحيد بينه وبين السادات فالسادات كان أكثر استعدادا لمراجعة القوالب وأقل رغبة في المخاطره وأهم من ذلك كان في موقع مكنه من التعلم من دروس سلفه (وان تخلي عن رباطة جأشه – فيما بعد- فبدا أقل منطقيه وأكثر غرابه من عبد الناصر)

وتتحدث السيده جيهان السادات عن صداقه طويله وزيارات وتفاهم بل وتطابق شبه كامل في المبادئ والأفكار بين عبد الناصر والسادات (وان اختلف الأسلوب) واستمر هذا التطابق – كما تروي - بعد وفاة عبد الناصر. وأكاد أجزم أنها كانت صادقه تماما وأمينه فيما قالته: فلابد وأن عبد الناصر كان ينوي طرد الخبراء السوفييت –  ربما بنفس الطريقه – ومن ثم القيام "بعملية" اكتوبر بنفس الخطة "اللولبيه" التي وضعها هو شخصيا بمساعدة الخبراء السوفييت (وتلك الخطه بالمناسبه تشبه كثيرا - في رأيي- خطة السوفييت اثناء الحرب العالميه الثانيه عندما قرروا عبور الفولجا المفاجئ للانقضاض علي النازي وتحرير الأرض و لست بعسكريا فلا أملك تأكيد ذلك) وأخيرا ابرام معاهدة السلام - ربما بنفس طريقة السادات - اذا كان مقدرا له أن يعيش بطبيعة الحال. ولا يخفي أن وجود الخبراء السوفييت – حتي دون أن يفعلوا شيئا - كان يضمن لهما (عبد الناصر والسادات) ألا تقوم اسرائيل بضربه تكتيكيه استباقيه مركزه تهدد حائط الصواريخ (وربما السد العالي أيضا) وتجهض بذلك كل استعداداتهما للمعركه (وطردهم كان من أجل أن تبدأ المعركه دون تدخل عسكري من أي من القوي العظمي– وهو التدخل الذي ما كان له أن يتم الا في حالة محاولة طرف الاجهاز علي طرف أخر)

ولابد أن ذلك "الأستنزاف" تم بأسعار متهاوده للغايه وبتقسيط مريح اذ تشير الوثائق الي "حساب شبه مفتوح" وتسليم شبه فوري مضي علي وتيره متسارعه وهو مالم يكن متاحا قبل ذلك. اذ كان السوفييت - قبل ذلك - يناورون ويماطلون بل ويتقاعصون عن تسليم الأسلحه – باعتراف هيكل واخرين - ويسألون أسئله كثيره بعضها كان يتعلق بأهدافنا وخطط توزيع السلاح (املين فيما يبدو أن يسفر ذلك الضغط في النهايه عن تخلي مصرعن "حيادها الايجابي" - الذي لم يقنع سوي انديرا غاندي فيما يبدو - وتنضم الي حلف وارسو فتبرهن علي ولائها وصدق نواياها)

و يتحدث هيكل عن سوء تفاهم حاد ومرير مع السوفييت قبل يونيو 1967 (استمر لبعض الوقت الي سبتمبر 1968) وتخلله – في مرحلة ما – هي مرحلة ذلك الشخص خفيف الظل عبد الحكيم عامر - حالة مرضيه من حالات انعدام الثقه (رغم الأحضان والقبلات) ساهمت في تأجيل تسليم ما تم الأتفاق عليه من اسلحه أكثر من مره وبالتالي ساهم في هزيمتنا: "كانوا ينظرون لنا نظرة ملؤها الشك والارتياب وكنا نواصل رحلاتنا الي موسكو والحاحنا في طلب السلاح وعلي أية حال لم تكن علاقتنا بهم مثاليه" (كعلاقة حكومة الحزب الوطني مثلا بأمريكا ؟ يسبونها ويتهمونها بالتدخل في شئون مصر الداخليه ثم حين يأتي الموعد السنوي لاستلام المعونه العسكريه نراهم يمتدحون ديموقراطيتها وثقافتها وسحرها الأخاذ!)

باختصار: كان عبد الناصر متيقظا – فيما يبدو– خصوصا بعد هزيمه يونيو1967 - فعلم وتنبأ – قبل غيره - بسقوط السوفييت والاعلان الرسمي الوشيك عن خروجهم مهزومين في الحرب البارده – ووافقه السادات في ذلك وسار علي دربه. فأتما عمليات "الاستنزاف" العسكريه -وغير العسكريه- و بنيا حائط الصواريخ وطورا علاقات مع الولايات المتحده واستعدا للمعركه ولعملية السلام – واضعين في اعتبارهما الحصول – قبل غيرهما - علي أكبر قدر ممكن من المكاسب - قبل أن تتاكل منسأة المارد الاحمر المسكين ويخر فعلا علي الملء كما لوكان "جلفر" في بلاد الأرازل متناهو الصغر Lilliputians  الذين لم يتسن لبعضهم أن يدركوا حقيقة سقوط المارد (جلفر) الا حينما سقط  فوق رؤوسهم! اذ أن أقصي ما كانوا يستطيعون رؤيته قبل ذلك هو كعب حذائه!

وهكذا – وبينما كان العالم يتطلع الي الأمام الي مستقبل بدون الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو محاولا تصور هذا المستقبل والاستعداد له اذ ظلت بعض دول الشرق الأوسط – ربما بدون علم – أو بعدم تصديق –  تصر علي قناعات وانتماءات واساليب قديمه – بل و يحاولون - في حدث بالغ الندره – لا يقع الا في اماد متباعده - اقناع أنفسهم - واخرين - أن الأتحاد السوفيتي لن يسقط أبدا وأنه سينتصر و أن عبد الناصر يختلف عن السادات في أنه كان أكثر عروبيه (وبالتالي أقل مصريه) منه أو أنه (عبد الناصر) كان لا يري -كالسادات- في تنمية علاقات مميزه مع أمريكا والغرب صوره من صور "الحياد الايجابي" أو أنه (عبد الناصر) كان سيلقي باسرائيل فعلا في البحر كما قال البعض (و يؤكد هيكل أنه لم يقل ذلك) أو أنه (عبد الناصر) كان لا يدرك حجم الانتهاكات التي كانت تحدث – باسمه - من بعض أعوانه – ممن "عينهم" هو شخصيا وعلي رأسهم السادات (رغم أنه كان يملك الاراده السياسيه -والشرعيه - لاقصائهم جميعا عن وظائفهم بل ومحاكمتهم– مثلما "عين" –من قبل- صديقه الصدوق "الصاغ" عامر وزيرا للحربيه ثم عزله عندما تحقق من افتقاره للمؤهلات اللازمه - ودون أن يجبره أحد علي شئ!)

وهؤلاء يشبهون – في رأيي - بعض ساسة اليوم ممن لا يصدقون أن المناخ قد تغير بالفعل وأن ذلك من شأنه أن يتسبب في اغراق أجزاء كبيره من أراضي شعوبهم (واغراقهم) أو أنه يمكنهم حل مشاكل مجتمعاتهم السياسيه والاجتماعيه والاقتصاديه والانسانيه والبيئيه بما في ذلك مشاكل الطاقه وندرة المياه بدون ديموقراطيه! وبذلك فقد لا يصدقون أيضا أن الديموقراطيه هي التطور المنطقي الوحيد المتاح –حاليا - لحياة عقليه ومجتمعيه وانسانيه سليمه (وسعيده) تتسع لها جميع ثقافات ولغات واديان وحضارات واجناس العالم - وبالتالي لا يصدقون أيضا أنها بمثابة أمر واقع لا مفر منه وسيحدث – حتما-  في بلادنا – ربما بأسرع مم يتصورون – و سواء شاؤوا ذلك أو أبوا.

وهم يتحملون - بذلك – في رأيي- مسئوليتهم التاريخيه لكل ما سيتبع عدم تصديقهم هذا من نتائج. فجهود حماية البيئه والسيطره علي المناخ واكتشاف مصادر جديده للطاقه والمياه وارساء مبادئ الديموقراطيه والتنميه الثقافيه والاجتماعيه والاقتصاديه والسلام في الشرق الاوسط والحرب علي الارهاب كلها قضايا متلازمه برأيي لا تنفصل ولا يصح التوقف عن تقديم حلول "سريعة" ومبتكره لها جميعا -في ان واحد- لضمان سيطره ارادة الديموقراطيه العالميه العلمانيه الصديقه للبيئه والانسان علي ارادة الرجعيه الشموليه الاستبداديه الداعيه لتقسيم العالم الي قوميات وطوائف وديانات وعرقيات ومحاور وعصابات – واعتقادي انها المعركه الحقيقيه الأساسيه منذ الأزل – ومنذ اكتشاف الديموقراطيه والعلم - اذ لم تكن الحرب البارده أبدا – في نظري- معركة اقتصاديه بحته بين شيوعيه ورأسماليه فكلا من الشيوعيه البلشفيه والرأسماليه الليبراليه استفادتا - في النهايه - من بعضهما البعض وأسهمتا خلال اصطدامهما السريع بنصيب وافر في تطور المفاهيم الانسانيه شأنهما في ذلك شأن كل الصدامات السابقه بين الأفكار الانسانيه أو حتي بين المذاهب والديانات.

فالحياه العقليه البحته للانسانيه تتمثل - في رأيي - في اجتهادها لزيادة معارفها وتنمية وتطوير قيمها و ذوقها الانساني والروحي وقيمته (بنفس قدر تنميتها لأهدافها الحسيه) ولكنها في نفس الوقت لا تتردد ابدا في ابتكار الية ما للتواصل مع غيرها من الحضارات والاستفاده من تجارب التاريخ. وهكذا فهي لا تتوقف عن نزوعها المتدفق للوصول الي التقدم والكمال – سواء شاء لها القدر أن تدركه أو لم يشأ.