الاثنين، 5 ديسمبر 2011

ازدواجية الحريه (1)



"قال ما منعك الا تسجد اذ امرتك؟ قال انا خير منه: خلقتني من نار وخلقته من طين" (قران)

والسؤال: هل كان يمكن للشيطان ان يسقط في مأزق الفردوس المفقود بدون هذا الاعتزاز المفرط بالنفس؟ وهل اعتزازه بذاته –وان كان مبني علي اساس- يصلح لان يكون مبررا لتوريط الاخرين معه في الغوايه؟

في البدايه لابد وان نتفق ان اية محاوله للاجابه عن هذا السؤال سوف تفضي بنا مباشرة الي المبادئ الاولي لسيكلوجية الشر

بمعني ان افتتان الانسان بنفسه وحرصه الشديد -في نفس الوقت- وبشتي الطرق- علي اغواء غيره وان ادي ذلك الي تدمير المعبد علي رأسه ورؤوس الجميع هي الفكره البكر وبداية الطريق نحو الشر:

في حالة الشيطان كان الخيار بسيطا: لكي يناشد كبريائه الذي هو الحياة نفسها بالنسبة اليه فقد وجد من عنصره–وعنصره فقط-  ذريعه لان يتحدي اطروحة السجود:

اما الانسان -والانسان الحديث بالتحديد- فالمصير-وان كان مشابها- الا ان الوسائل والاعذار اكثر تعقيدا بقليل:

انا خير منه: انا ابيض وهو اسود: انا خير منه: انا من عائلة كذا وهو من عائلة كذا: انا خير منه: انا مواطن اصيل وهو اجنبي دخيل (او هجين): انا خير منه: انا غني وهو فقير: انا خير منه: انا مؤمن وهو كافر: انا خير منه: انا رجل وهي امرأه: انا خير منه: انا وزير (او مشير) وهو غفير (او عاطل):

انه بدلا من ادراكه لحقيقة ان البشر كلهم مخلوقون من عنصر واحد ولاجل مهمه واحده هي التعلم والعمل والحريه والتحضر والبناء والتعاون والسعادة: ومجاهدة الشر المتمثل في الهدم والخوف والفراغ واليأس والتشويه والسلبيه والانتهازيه وعبادة اوثان الماضي (بحيث لا فضل لبشري علي اخر الا باجتهاده في المهمتين معا وبنفس القدر): بدلا من ذلك يفرض علي مجتمعه المزيد من مفاهيم التمييز والتعصب والرجعيه الفاشيه ايا كانت صبغتها –ناهيك عن المفاهيم المغلوطه- وفقا لما يعتقده من تفوق عقلي او جسماني او ثقافي او ديني حسب الحاله:

بكلمات اخري: "يتشيطن" الانسان حين يعجز عن ايجاد علاقه بين العقل والتاريخ: الروح والعنصر: الحريه والمسئوليه: الانتماء والموضوعيه:

كلما سقط في بحر غروره اسير غبائه وضيق افقه وتحيزه ليدرك ذاته ككل وليس جزء: رازحا تحت رحمة قضايا ثانويه للغايه وشكليه ومستنفذة الصلاحيه بحيث لم تكتسب قيمه الا بتقادم شهادته عليها (وليس لان لها قيمه حقيقيه) او لانها مرتبطه بالعالم المريض الذي بزغ منه والذي يحمله فوق رأسه بكل جراثيمه جاعلا منه منهاجا له ورفيقا لقدره (لمجرد انه الف تابوهاته ونواقصه ومفاهيمه المغلوطه):

وهكذا تكاد تكون قاعدة بالنسبة لي انه كلما اطلت حالة من حالات الشقاء الانساني كلما كان من المتعين علي ان ابحث فورا –واشير- وانا معصوب العينين الي انسان سادي متسلط

ولكن من هو السادي المتسلط؟

في البدايه لابد وان نتفق ان الانسان السادي المتسلط ليس بانسانا متميز ينشد العظمه: وانما هو -وفي افضل الاحوال- انسان عادى جدا -او أقل من العادي- سطا –بطريقه او باخري- علي مركز عظيم

انه شخصية "اللا منتمي"–حسب ويلسون- في اتم صورها ذلك الانسان الذي لا مبادئ له الذي يتحول –لسبب او لاخر- الي حاكم بما يجعله لا يكف عن الامساك بالعصا من المنتصف علي الدوام علي طريقة "توفيق الاضداد" او "الصلح خير" او "المساواه في الظلم عدل ومساواة الحاكم بالرعيه ظلم": ليسود

فهو يعتبر ان اولي خطوات صنع الولاء هي ان يكون هو نفسه فوق الانتماء وفوق المبادئ الفكريه والاخلاقيه فالمبادئ بالنسبة اليه شأن الرعيه "لعب عيال" والفخ الذي لا يجب علي العاقل ان يسقط فيه

لذا فالمتسلط السادي غالبا ما ينظر الي الصفات التي تصنع العظمه مثل الصدق والنبل والموضوعيه والتواضع والامانه (الاعتراف بالفضل ونسب الفضل لصاحبه) واتقان العمل الخ: باعتبارها اشياء لا علاقة لها بالفطره الانسانيه السويه فهي–في رأيه-قادمه من عوالم اخري غريبه مجهوله غير عالم الانسان لا تشبهه ولا تتوافق مع نوازعه الحقيقيه بل حشرت عليه حشرا وبالتالي فهي -ولانه لا يقوي علي تحمل نتائجها- لا تستحق منه الا كل تجاهل وانكار: او باعتبارها اشياء لا علاقة لها بما هو بصدده: وبالتالي ترف -لا يطعم جائع ولا يغطي عريان- ابتكره الانسان ليواري اهدافا مجهوله باخري معلنه لا تتجاوز في الغالب الغرائز الاساسيه مثل التغذي والتزاوج والتكاثر

وليس غريبا فهذا "الفكر" لا يمت الي المنطق بصله (ناهيك عن حريات او حقوق انسان): اذ يقوم هذا الفكر علي ان الضلال في التغيير والابداع وان الخير في الثبات والاستقرار وان العجز والميل الي الخطيئه هو شئ فطري تماما ومتأصل لدي الانسان يوجه ارادته بما يجعل من المستحيل ان يقوم الانسان -علي اساس من طبيعته وتربيته- بما هو صواب: وبذلك فالنموذج الامثل لادارة شئون الانسان هو نفسه اسلوب ادارة شئون الحيوان: الضغط والكبت والحرمان وحشد القطيع والترهيب بعقاب: وليس الاقناع.

وهكذا تصبح الحريه في هذه الحاله مجرد خيار من الممكن تفصيله او ترقيعه او الاستغناء عنه تماما اذا اقتضي الامر (والعوده الي الطغيان؟): طالما ان الانسان–وحسب هذا الفكر-لن يكون قادرا ابدا علي ان يتسامي احيانا علي منطقه الارضي (علي الرغم من اهميتة) في سبيل ادراكه لجوهر المحسوسات (اي ان يكون قادرا علي ان يميز الصحيح من الفاسد فيدرك الكل وهو مجرد من المحسوس كما قال القائل)

اي ان الانسان حسب هؤلاء لا يستطيع ان يصبح ابدا مواطنا فاضلا حرا تقدميا بدافع شخصي نابع منه لان شره الطبيعي –او حتي عقيدته- لا يساعده: او كما في المزمور: "صرت كالبهيم عندك ولكني دائما معك" فلم يعد له من قوة الاراده ان يختار بل مثله مثل الحمار يترك نفسه لمن يمتطيه: فاذا ما اوقعه حظه العاثر في طريق الشيطان فكان الشيطان هو صاحب شرف "الركوب" فذلك لانه لم يجد من بني الملائكه من لديه الدافع في فعل ذلك: او هكذا فهموا المزمور

بكلمات اخري: السادي المتسلط لا يؤمن بالعقل بقدر ايمانه بالقوه: ولا يؤمن بالمثاليات بقدر ايمانه بالماده: ولا يؤمن بمحبة الانسان بقدر ايمانه بالخوف: وبذلك فهو لا يؤمن بأي شئ الا اذا كان مرتبطا به وبشبكة مصالحه فاذا ما ارتبط الامر باناس "ليسوا هو" –او ليسوا من شيعته- فهو قبضة من تراب لا قيمة لها

وتتضح اكثر شخصية السادي المتسلط حين نتأمل مقولة لهتلر يشرح فيها الرغبة في السيطرة على أنها "نتيجة منطقية لصراع الأنسب والأقوى": انه يصبح في حاجه شبه دائمه إلى شخص يتحكم فيه حيث أن شعوره بالقوة يكمن في انه سيد إنسان ما: فمن رغبته في السيطره يستمد لذته وأمانه:

وسواء انتهج هذا السادي المتسلط ايدولوجيه وطنيه او دينيه فهو يعتبر نفسه –وايدولوجيته- دوما علي صواب فيما لا يكف غيره عن الخطأ وهو في ذلك ليس في حاجة الي برهان فقوته وقدرته علي السيطره هي البرهان: حتي في اسوء حالات عجزه وشيخوخته: اذ ان نزوعه الأعمى نحو القوه ونحو الانفراد بالرأي والسلطه ينمو داخله الي درجه مميته تتجاوزه هو شخصيا بحيث تشل قدرته علي الفعل والاحساس والتفكير والابتكار: وعند هذه النقطه قد يتسبب في ايذاء أقرب الناس إليه (إذا ما تأكد له انه–او انها- من الممكن أن يشكل تهديدا) اذ ينتشر سعاره ويصبح أكثر عدوانيه: اشبه بمقامر او مدمن المخدر يفعل كل ما من شأنه الحصول علي "جرعته" في السيطره وعندئذ يصبح تنازله عن منصبه ضربا من ضروب المستحيل: اذ لن يحدث ذلك إلا بفصام قسري بائن اقرب الي الموت: فكأي مرض نفسي او عقلي لا رجاء من علاجه الا بمعزل عن الأسباب التي قادت إلي مرضه

وهكذا يتحول الحاكم السادي المتسلط في نهاية الامر -خصوصا عندما تطول فترة حكمه- الي نموذج الفرعون المخبول ذلك الذي يهوي تمثيل دور الاله Play God ما من احد قادر علي نقده دع عنك مساءلته او حسابه

وهو لا يكذب عندما يتحدث عن حبه لوطنه اذ ان هناك دائما شعور ما جارف بالحب لا يستطيع أن يحيا بدونه: لكنه في نفس الوقت لا يستطيع أن يحيا بدون شخص يشعر انه الاداه العاجزة بين يديه ولموضوعات تخصه وبناءا على شروطه.

ولا فارق حينئذ بين زوجته او عسكري الخدمة الذي يحرس قصره ويتحمل سبابه أو حتى الشحاذ المسكين في الشارع الذي يضع في يده علما وصوره له ودعاية انتخابيه (واحيانا رشوه) ويحثه –او يجبره- علي تأييده: بمعني ان موضوع الحب هذا –في نظره- كموضوع المبادئ والافكار- هو شئ نسبي تماما ومتوقف عما يمكن ان يعنيه هذا الحب واذا ما كان مصحوبا بولاء

فهو يهيمن ليحب ويحب ليهيمن وهو يرشد من يحبه الي الأشياء التي ترضيه وتضمن استمرار هذا الحب (والهيمنة) مثل المديح الدائم او التظاهر بالغباء أو بالحذاقه والذكاء او تمجيد التوافه من الافكار والاعمال واعتبار هزائمه نكسات او انتصارات: وهكذا حتي تصبح معادله الحب والهيمنه تلك لا شعورية تماما لدي العامه البسطاء إلى درجة انه لم يعد يطلبها بل يكتسبها كما لو كانت من قبيل المسلمات:

وهكذا وككل حب مفروض من طرف واحد لا يطفو زيفه إلا عندما يواجه خطر الفصام (وانا ممن يرون انه من الخطأ الجسيم ان نحاول اقحام التسامح علي الحقائق فنمتنع عن ذكر اساءة المسيئ ذلك لان ما من عمل يخرج الي حيز الوجود الا متي وجد الانسان القدره علي الحكم علي الاشياء حكما جامعا شاملا: كما ان الذي لا يذكر سوءا لاحد لا يحق له ان يذكر خيرا في نفس الوقت فالحقيقه هي كلا الامرين معا السئ والحسن: والتأدب في دنيا الحق كائن دخيل غريب بل وعنصر بالغ الضرر في معظم الاحيان لانه يفرض علينا ان نصف الاعمال الرديئه او التافهه او السطحيه او الفرعيه بعكس حقيقتها وهو ما يؤدي الي الاحباط المباشر للهدف من احراز كل ما هو جيد ونبيل)         

والسادي المتسلط غالبا ما يعيش في عالم ظاهره رصانه وبراءه وباطنه سلسله لا نهاية لها من المكائد المدبره والدسائس الرخيصه والعواطف المصطنعة المقحمه التي يضعها جنبا إلى جنب بحيث ينظر فيها ولا يرى إلا نفسه. ولا يجب ان تخدعنا صورة الراشد الرزين او العطوف التي يحاول الظهور بها فهو في داخله صبي طائش اخرق اجوف بحجم رجل يعاني خواء نفسي وفكري ومعرفي رهيب وعلي نحو متضاعف: واكثر من ذلك: يتوقع من الجميع ان يصبحوا مثله ولو علي حساب كل ما خبروه وعرفوه وفهموه: ولذلك فهو خطر

والسادي المتسلط غالبا ما يكون لديه قدرات اتصاليه او خطابيه فذة (او يكتسبها لاحقا من أناس حوله أكثر قدره منه وهؤلاء يصبحون بحق أصدق أصدقائه). وهو يستخدم هذه القدرات لغسيل العقول وحصرها في ايدولوجيا بعينها الي جوار ما تحمله خطبه –عادة- من تهديدات مبطنه وتهما مفبركه يمكن تفسيرها علي اكثر من وجه ووعود وايحاءات بتامر الناس علي البلاد او لإيهام الناس بقدرات لا يمتلكها وبطولات لم يحققها.

وليس من المستغرب اذن ان يتملص فيما بعد من وعوده ومسئولياته ويلقي بها -في اول فرصه- في عرض الطريق فهو الي جوار انه يكره الالتزام بوعود ومسئوليات يظن انه اكبر من الوعود والمسئوليات:

انه يدرك جيدا حجم التضحيات التي بذلها–او لم يبذلها- حتي حصل علي كرسي السلطه وان هذا الكرسي هو ما يجعل لحياته معني وقيمه ويعصمه–في نفس الوقت-من المسئوليه والمحاسبه: ولذلك فاللعبة بالنسبة اليه ليست لعبة مناظرات او تحالفات او مبادئ ومعارك فكريه (هو في غني عنها وقد تنتهي بان يختار الناس من هو اكفأ منه) او ان يبدع برامج وسياسات ليحل مشكلات او ان يكشف عن حقائق او يصحح مفاهيم او ان يحاول تحقيق احلام الناس (ويحلم معهم): وانما هي لعبة نفوذ وشهره واكاذيب ومصالح ودفاع عن قوته وقوت عياله

او بعباره اخري: المنصب بالنسبة اليه ليس من اجل ان يخاطر به وانما لكي يحتفظ به:

وربما هذا هو السبب في ان السادي المتسلط لا يسمح الا باقل قدر من التسامح: وينتهج دوما الاسلوب البوليسي المخابراتى دع عنك طبعا السيطره علي مصادر الرزق والقوه (وما الي ذلك من وسائل توريط لمن حوله في الفساد) فحتي يحقق اهدافه (الهيمنه والولاء) فهو يستغل نقاط ضعف من حوله اقصي استغلال ممكن: ولا يخفي ان سلاحه في ذلك هو اثارة الخوف من ضياع الرزق او من عدو خارجي (لا وجود له غالبا):
فهو قادر علي ان يجرد الناس من كل شئ وفي طرفة عين (ليكونوا عبرة لغيرهم؟): فهو المانح وله الحق إذن في استعادة ما منحه على نحو كامل وبأثر رجعي

فاذا ما قدر لاي معارض مستقل -بعد كفاح مرير- ان يفسح لنفسه مكانا او يكتسب شعبيه- سواء في ظروف طبيعيه –او بفعل ثوري- كيما يخدم وطنه في موقع الرئاسه: سرعان ما يصطدم بحاله هيستيريه من الهجوم والاستهجان والاتهام والاستخفاف به لمجرد انه تحدي "الزعيم": بحيث يكاد البعض يجرونه جرا ويفتكون به وهم معتقدين تمام الاعتقاد انهم انما عثروا فيه علي عدو او محرض: فالزعيم -او الامام- غير قابل للاستبدال: وكلامه غير قابل للمناقشه: اذ لن يتمكن احد ابدا–مهما فعل-وكما شرحت-من ملء الفراغ المريع الذي سيخلفه في حال رحيله (متناسين ان "الزعيم" او "الامام" الملهم نفسه لم يصبح ملهما الا بناءا علي فراغ وبعد حالة استبدال غير شرعي لزعيم باخر سواء بالوراثه او بانقلاب او بالنيابه او بالتزوير: وانه ما من فارق حقيقي بين الظلم الذي يتم في عهده او عهد سابقه او في فترات التحول والفراغ)

والحق اننا اذا ما حاولنا ان نفهم الطبيعه السيكولوجيه لطريقة تفكير الطغاه والانسان صنيعة الطغيان ربما نعجز ولوجدنا انفسنا ولاول وهله امام حاله جديره بالدهشه والتأمل:

فالحاكم السادي المستبد يقضي جل حياته في محاولات متتاليه لتبرير بقائه في السلطه علي انه جزءا من مصلحه عامه او انه الصالح العام نفسه (بعد ان تحول العام الي خاص طبعا): فهو يظن انه مستحق لان تمتد حياته في الاجيال التاليه: لقد اصبح الموضوع شخصي جدا بالنسبة اليه فبدون احتفاظه بقوته يصبح مفرطا في حق نفسه او بعباره اخري: يصبح فاشلا امام كل من اقنعهم بقدراته الخارقه

وطبيعي والحال كذلك ان يسد كل السبل أمام ظهور منافسه او معارضه او ان يصف اي محاوله لاسقاطه–و اسقاط نظامه- علي انها مؤامره او فتنه او تفتيت وتقسيم للوطن تمهيدا لتدخل خارجي او حرب اهليه لابد فيها من منتصر (فيما نجد ان نظامه تغذي–ونما- اساسا علي اغراق البلاد في هواجس فتن طائفيه وعرقيه بين ابناء الشعب الواحد او محاولات التخويف من ظهورها في حالة اذا ما اختفي باعتبار ان وجوده لا غني عنه والا –ولنتأمل التعبير-المت بالبلاد–وبالمنطقه كلها- نائبه وهكذا يصبح البقاء في منصبه متساويا مع بقاء العالم كله: فمن ارادة البقاء يستمد ارادة الحياه (ارادة البقره الحلوب؟) ومن السيطره يستمد قوته):

وطبيعي ايضا ان يبحث–علي طول العالم وعرضه- عن قرين له فيه نفس صفاته يقع اختياره عليه ليخلفه: وقد تكون المواصفات المثاليه في هذه الحاله انسان يكون بمثابة التابع المخلص الامين والخادم المطيع وسندا وكاتما لاسراره والضد–في نفس الوقت-وعلي طول الخط- لكل من عداه بحيث لو قدر له ان يمتد عمره قرونا طويله فانه سيظل ابدا لدي الاجيال المتتابعه في نفس المكانه الرفيعه

ولكم يكون من الشائع والحال كذلك ان يكرس الحاكم السادي المستبد كامل جهده لتحويل المنصب الرئاسي الي مجرد وظيفه او عمل اداري بحت بالمعني الحرفي للكلمه وبكل ما يحمله من عبق الروتين والبيروقراطيه: بحيث لا يكاد يكون المرء قادرا علي التفرقه بين الرئاسه كعمل معاشي يتقاضي عنه اجرا نظير ما يقوم –او ما لا يقوم- به من واجبات (حسب المفهوم الوظيفي للكلمة): وبين الرئاسه كواجب وطني واخلاقي يتطلب علم ودرايه وجداره ومهارة اتصال وصبر وسعة افق ومبادئ فكريه سياسيه واقتصاديه واجتماعيه ذات رؤيه استراتيجيه تتجاوز حدود الايدولوجيات والمطامع الفرديه وتضع في اعتبارها اولويات المجتمع: وبين الملكيه الخاصه التي لا يصح ان تذهب الا لمن يختاره الرئيس او من هو قادر علي دفع الثمن: فبدون هذه التفرقه تتحول الرئاسه (ايا كانت الشعارات المرفوعه) الي  مجرد وظيفه ميري او ارث شخصي ينتقل الي شخص بعينه

بمعني انه يكرس –بوجه عام- وعلي مستوي الشعب كله- الي سيكولوجية الموظف البسيط الذي اقصي ما يحلم به هو ان يحصل علي علاوه او مكافأة او تكريم او تحسين اجر او درجه والذي يري الفشل المطلق في غيره مثلا ممن يفضلون الاعمال الخاصه او الحره او من لم يسعفه حظه فيجد وظيفه تلائمه او لا تلائمه (مع احترامي طبعا لفئة الموظفين: خصوصا اولئك الذين لا يستبعدون التقاعد او الاستقاله من حساباتهم ومن يرفضون "العمولات"):

بحيث انه اذا ما قادت احدهم المقادير الي قصر الرئاسه مثلا سواء بمحض ارادته او بواعز من زوجته او لاداء مهمه تخص عمله او بغرض تلبيه دعوه تصادف ان تشابه اسمه -او شكله- فيها مع احد المشاهير او قاد مظاهرة تأييد داخل مجلس الشعب او خارجه او ظهر في احد برامج التوك-شو يمدح الزعيم او لمجرد انه ضل الطريق: وحدثت المعجزه -وتهيأ له الشرف العظيم- واصبح- بين ليلة وضحاها- من المقربين يكون ممثلا مناسبا لذلك التابع المخلص الامين والخادم المطيع

وهكذا ليس غريبا ان نجد انفسنا امام احدي شخصيات نجيب الريحاني الهزليه والتي غالبا ما تنسب التفوق والقيمة الي الصالح والطالح معا حسب المصلحه او حسب نفوذ وثروة الانسان فيما تنسب الشقاء لرب العباد!
او ذلك الذي يسأل–اول ما يسأل-حتي قبل ان يستبدل "اليونيفورم" الميري-كيف هو راتبه: وكم هي الحوافز: وفي اي درجه من درجات الميري: واذا ما كانت هذه الدرجه اعلي او ادني من الدرجه التي طالما حلم بها (فليس من المقبول ان يخدعه احد والا اصبحت مؤهلاته محل شك):

وانسان هذا شأنه لا يعتبر ان من مقتضيات واجبه خدمة الناس (كما يردد هو نفسه مرارا وتكرارا في خلواته): فهناك دائما من هو اقل منه في المرتبه من يستطيع –وعلي استعداد- ان بفعل ذلك نيابة عنه: بل العكس هو الصحيح اذ اصبح من الواجب علي الجميع التسابق في خدمته ومنحه قدر اكبر من الشهره والثراء بلا راحه وبلا انقطاع وحسب ما تقتضيه الحوادث

فهو قد بلغ قمة الهرم الوظيفي ومن ثم يحق له التكريم: وليس غريبا ان تتحول السياسه–وفقا لهذا النوع من التفكير- الي لعبة كراسي موسيقيه او "مسرحيه" هزليه من مسرحيات النجم الواحد الرائجه هذه الايام او ان تختلط السياسه بالاقتصاد بالجريمه (خصوصا اذا ما نجح الطاغيه في تحييد تام للقضاء وافساده) وبالتالي مجموعه لا نهاية لها من "الصفقات" ودون تقديم الحد الادني من الخدمات

وليس غريبا الا يكون هناك من فارق بين الوطن وأسرة الزعيم فالوطن هو اسرته واسرته هي وطنه او صار هو الدولة كما كان الامر في اوروبا القرن الثامن عشر: او ذلك الانسان الذي تهيأ له نفسه انه وحتي يكون قادر علي ان يتصرف كرجل دوله ان يتصرف كرب اسره وليس مجرد رب اسره عادي وانما "سي السيد" ذلك الذي لا يتردد لحظه في قتل العقول والابدان او احد الامرين (وهو في الحالتين–في رأيي- وجهان لعمله واحده: اذ ما هو الفارق بين قاتل ابدان بامتياز وقاتل عقول وارواح بامتياز او وسط ما بين الاثنين؟ )

لكن ويا لها من مفارقه: الحاكم السادي المتسلط غالبا ما يبحث عن شخص اخر مثله أقوى منه–واكثر ساديه- يستحق خدمته ليدين له بالولاء: حتي اذا ما اصبح الشخص الاخر ضعيفا او فقيرا او ظهر من هو اقوي منه فانه يغير ولاءه فورا وبسرعة البرق وبدون تفكير إلى الشخص الاقوي: وهو على استعداد لأن يفعل ذلك كل يوم إذا اقتضى الأمر. ولا يشعر بغضاضة فالمسأله في رأيه ليس لها علاقه بمبادئ فكريه او مشاعر انسانيه او قيم اخلاقيه وروحانيه (او أية صفة شيطانيه) بل هي نتيجة واقعيه يشعر بان علي الجميع أن يفهموا ابعادها ومن ثم يحذو حذوه:

انه -في قرارة نفسه –وكما شرحت- لا يؤمن بان ما يفعله له علاقه بالخير او الشر: الخطأ او الصواب: او ان عليه الاختيار بين نقيضين من اي نوع: فهو الخيار الملائم الوحيد دائما وابدا: وهو اللحن الرئيسي في مقابل صوت الجوقه وعقرب الساعات في مقابل عقرب الثواني (ربما لانه لا يؤمن اصلا بالخطأ والصواب؟)

حتي اذا ما دنت ساعة الحساب فان اول –واصعب- ما يمكن ان يسأل به نفسه هو: كيف حدث هذا؟ لقد فعل المستحيل من اجل الا يأتي هذا اليوم: وقد لا يتردد في هذه الحاله بالتضحيه بشعبه كله فهو لم يعرف قط قيمة الحياه وقيمة الانسان حتي يخشي عليهم من الموت!

ومشكلة الانسان المتسلط -في رأيي- انه لا يملك حس بالتاريخ اذ غالبا ما يتصور التاريخ كائن خرافي أهوج يتحرك بعشوائية وطيش من اجل هدف مطلق هو عدم لا نهائي: فهو يفعل ما يريد في الوقت الذي يريد متلذذا بإخضاع الجميع لارادته وارادته فحسب. وارادته هذه هي قصه طويله مؤلمه من الاسي والاحزان بل والرعب: وبذلك فالتاريخ ما هو الا سجل لضروب المتعه او بما هو متاح من عذاب وصراع وخداع وبشاعه وحطة ومذابح جماعيه مفزعه

وبذلك فاكثر الناس قدرة على فهم –وصنع- التاريخ -في رأيه- ليس الاكثر تعقلا او الاكثر عذوبه بل هم الأكثر وحشيه وتعاليا: والأكثر حقارة ونذالة واستهتارا في نفس الوقت: وهؤلاء–في رأيه-خارج إطار محاسبة التاريخ لأنهم ببساطه مثله ويفعلون ما يفعل

وهكذا غالبا ما يظن الحاكم السادي المتسلط ان التاريخ ما هو الا تكرارا لاحداث متشابهه (تماما كما هي قطع الدومينو او الزجاج الملون الذي يظهر في منظار الطيف بتشكيلاته المتباينه) بادعاء سخيف ساذج مثير للضحك ان التاريخ انما يكرر نفسه –اذا ما تكرر- تيمنا بحوادث وشخصيات بعينها تنال جانب من اعجاب عدد كبير من الناس ولذا وجب تكرار ما فعلته تلك الشخصيات بحذافيرها حتي يكون في الجانب الصواب: وهو مخطئ طبعا:

فالتاريخ لا يدعو الناس الي تكرار اخطائهم بل الارجح انه يمنحهم فرصة اخري نادره ليتجنبوا الوقوع في الخطأ وفعل ما هو صواب

كما ان الانسان لا يصنعه التاريخ فحسب فالتاريخ يصنعه ايضا الانسان

ويوم يصبح في وسع الانسان الاطلاع علي التاريخ اطلاعا كاملا وفهم مضمونه فهما موضوعيا وافيا فانه سيتعرف –حتما- علي نفسه ويكتشف جوهر وجوده كانه امام مراه: وكيف ان هذا الجوهر فذ وحتمي وله علاقه بفلسفة كامله لها مغزي ومعني ومسار ولها منطق يضبطها هو منطق الحياه (او كما ذهب "هيجل": "المنطق العظيم " الذي يتحكم في الكون بحيث يجعل من عالم الانسان ليس سوي جزء بالغ الصغر في اله عظيمه لا يعلم الانسان منها الا ما هو علي مقاسه ولكنه رغم ذلك كافيا لان يدرك انه حتي وان كان هناك الم وخبث وصراعات وفناء في هذا العالم الا ان تاريخ الطبيعه –والكون- اجمالا- انما يتوجه نحو تطهر كامل من اثار الخبث الذي يتركه الانسان خلفه علي كوكب الارض: اي نحو خير نهائي)

اما بالنسبه للانسان الذي يصنعه "الزعيم" او "الامام": ذلك الانسان الموظف الذي تحدثت عنه منذ قليل: فهو انسان قدر له ان تكون خطواته اسرع من عقله وبصيرته اضعف–واقصر- من مدي رؤيته واحلامه لا تتجاوز كرشه! اذ اصبحت كل احلامه منصبه علي فعل كل ما يمكن فعله من اجل تسلق هرم -او جبل- حاجاته الذاتيه ظنا منه ان هذا يعينه ويعين المجتمع علي تحقيق اهداف عامه ساميه ومع ذلك لا يرتقيه الا كما يرتقي طابور النمل قدر العسل بحيث تتدافع كل نمله في حومة صعودها المحموم للحصول علي نصيبها من الغذاء ممتطيه ظهر اختها باعتقاد منها انها ستكون بتجاوز اختها الضعيفه المحرومه (او ربما سحقها) اكثر قدره علي خدمة الخليه والي اقصي حد

انه ذلك المجتمع الطبقي نفسه المتمثل في عسكر وعمال وذكر خليع كل مهمته التزاوج والتكاثر وملكه تنتظر بكبرياء في مكان ما بعيد لا رابط بينها وبين ما يدور حولها من تطاحن وصراع: ولا يغرنك ان ما يجري في عالم النمل له قيمه جماليه فليس من شيم النمل احراز فضيله او انماء حقوق وحريات وخصوصيه انما هو نوع من التعاون المتوحش القائم علي سخره ووصوليه وانتهازيه: بعباره اخري: القيمه الوحيده للتعاون في عرف النمل تتمثل في تحقيق الهدف: والهدف هو الوصول الي الطعام وجمعه باقصر السبل وفي اسرع وقت: انه الاسلوب الامثل للحياه في نظر النمل: تغذي بقدر ما تستطيع -ومالا تستطيع- قبل ان يتغذي غيرك عليه! وبذلك فما نراه من جثامين نمل طافيه علي سطح العسل انما هو نمل غرق بعد ان وصل الي القمة اذ لم يجد من مغزي اخر هناك -في حومة نهمه- سوي الموت

فاذا ما طبقنا ذلك علي البشر فان اقرب مثال لهذا المجتمع-بلا شك- هو مجتمع السجون!

ولنتصور المشهد المدهش: قلعه ضخمه من الزجاج علي جزيره شبه منعزله (وان كانت عزلتها تلك معنويه اكثر منها ماديه) تحتوي علي زنزانات مفتوحة الابواب ومع ذلك لا يمكن للغالبيه العظمي من المساجين مغادرتها لان العالم الخارجي –من جانب- بالكاد يقبل ايدي عامله غير مدربه وغير متعلمه تعليم جيد (اذ ان عنده من المشاكل الاقتصاديه والاجتماعيه والسياسيه ما يكفيه): ولا السجان –من جانب اخر- يفتقد –بجوار الصدق- الي الضمير فهو لا يكف عن اخفاء اخطائه وانكار جرائمه والقاء مسئولية كل تصرف طائش يقوم به علي اكتاف السجناء فيفرض عليهم عقابا جماعيا الواحد تلو الاخر: وفي نفس الوقت يفعل كل ما هو مستطاع ليقنعهم بان كل ما يحدث بالخارج شر مطلق وان الاعداء يتربصون بهم في كل مكان (بما في ذلك البلدان التي تقود الحضارة والحريه فحتي هؤلاء يريدون اغواءهم باسم العلم والحريه) وبذلك فان عليهم حتي يهنأوا ان يسلموه–واعوانه- عقولهم وذاكرتهم فيقبلون كل ما يقدمه لهم –ايا كان حجمه- مغلقي الافواه (مع ملاحظة ان مكتب ادارة السجن هو المكان الوحيد المغلق دائما والمبني بالطوب):

لا لأنهم لا يعرفون معني–او قيمة- الحريه ولكن لانهم صاروا –في رأي السجان وثلة المهزومين الرجعيين اليائسين - عاجزين عجزا مزمنا عن التخلص من سيكلوجية السجين (الخوف من الحريه؟) تماما كما ان السجان صار بدوره عاجزا عن التخلص من سيكولوجية السجان (والحرامي؟): وهم في ذلك –في رأيه- ليسوا نملا فحسب وانما كالجراء الصغيره ايضا اذا ما تحرك شئ نبحوا واذا ما ظل الجو ساكنا عادوا الي زنزاناتهم مجرد ظل علي حائط!

حتي اذا ما اتيحت لهم –لسبب او لاخر- فرصة التحرر من السجن والثوره علي السجان ووجدوا انفسهم لدي اعتاب باب السجن –مرة اخري- مع طائفة الرجعيين بانواعهم يسألونهم: ما الذي يدعوك الي المغادرة ؟ وهل ستضمن لك الحرية نفس حصتك (المجانيه) من الزاد وبنفس الجوده ؟ وهل ستكون قادرا علي الحفاظ عي تراثك وهويتك وعقيدتك ؟ (متناسين انهم اكتسبوا كل ذلك في واقع الامر في محبسهم وبالتالي فان غالبية ما اكتسبوه انما هو بالضروره نتاج سيكلوجية الاستبداد والفساد والخوف والعبوديه والجهل والانتهازيه والانغلاق والانعزاليه–اخلاق السجون-ولذا فهو محل نظر)

وهكذا يكون من الصعوبه بمكان ان يسأل الانسان نفسه في هذه اللحظه اسئله بسيطه للغايه وخطيره في نفس الوقت مثل: من انا؟ وماذا كانت تهمتي؟ وماذا اريد لنفسي ولابنائي ؟

ان الانسان مدمن سيكلوجية السجين قد يفقد –الي جوار عقله وذاكرته وضميره- كل دافع حي يدفعه الي التقدم والخروج من سجنه: فهو اينما ذهب صار سجنا متنقلا لنفسه: وبذلك فحريته في هذه الحاله –في واقع الامر- لا قيمة لها ولا تعني شيئا ولن تغيره من تلقاء نفسها بل وازعم انها لن تؤدي الي ديموقراطيه طالما ان هذه الحريه لم تسهم بدور في تقدمه -وتقدم ذهنيته- الي الامام: بل والاسوء قد يعود به هذا النوع من الحريه الي الخلف فتستبدل حارس باخر او سجان باخر او ايدولوجيا رجعيه باخري مثلها او اشد منها فيجد الانسان نفسه مثلا بدلا من 50 او 70 او حتي 100عام الي الوراء اذا به وقد ولج لتوه عصر مسيلمه الكذاب حين كان المسلمون الاوائل لا يزالون يجاهدون للخروج من ظلمات العصور القديمه (ايا كانت الصبغه التي تغلف الية العوده: وطنيه او دينيه):

انها الازدواجية نفسها التي تكتفي بمنح –او الحصول علي- جزءا فقط من كل شئ: جزء من الحريه: جزء من الكرامه: جزء من اهداف الثوره: جزء من العدل: جزء من المساواه: جزء من السعاده: جزءا من العلم: جزء من الديموقراطيه اذ ان كل ما يحركها هو بناء حدود وسدود واسوار لكي يحتفظ الانسان دوما بمنطق النمل: منطق الساده والعبيد: او منطق عبادة القديم (باعتبار ان كل قديم اصيل وان كل قديم مفيد):

وهي دائره لن يخرج منها هذا الانسان ابدا -في رأيي- خصوصا اذا ما ظل يلازمه اعتقاد واحساس زائف بالعجز والخوف او اذا ما ظن ان الديموقراطيه مقتصره علي الانتخابات (ناهيك عن طريقة الانتخاب نفسها والتي تعتبر مثلا ان انتخاب العلمانيين او غير المسلمين من شأنه "اغضاب الله" او نفاق او كفر او منح "الولايه" –وحسب هذا الفكر-لمن لا يستحقها) واولئك لن يسمحوا بتغيير الا جزئيا او لن يسمحوا به مطلقا

انها ازدواجيه جبانه لا تثق في الحريه ولا تؤمن بخوض التجارب والمخاطر والمعارك الفكريه ولا تثق في اجيال جديده قادره علي تنمية وعيها واحلامها وقدراتها بطريقتها وحسب مقاييس عصرها وعلي رأس ذلك لا تثق في قدرة الناس علي التمييز بين الخطأ والصواب:

بل وليست قادره-في نفس الوقت–وهذا يوضح قدر التناقض- علي ان تكتم حقدها وعدائها الدفين لتجارب الديموقراطيه الاصيله القائمه علي العلم والفكر والحريه غير المهجنه بالفتاوي والتطرف والتعصب. بمعني ان هذه الازدواجية لا تثق حتي في نوع التربيه والتعليم الذي تقدمه: واستطيع ان اذهب لما هو ابعد فاقول ان ثقة هذه الازدواجيه في قدرة التاريخ علي حكم عالم الانسان ومعالجة مشاكله بنفسه–وهو قادر- غالبا ما تكون موضع شك (طالما انها تنتظر دائما مصيبه حتي تجبرها علي التحرك في الاتجاه السليم)

بما يعني ان الدوافع التي تجعلها نصف-حره او نصف-كريمه او نصف-عادله ليست دوافع اصيله نابعه من ادراكها لمشكلة الحريه نفسها وقيمتها وانما دوافع مصطنعه وعارضه غالبا ما يكون الباعث الاصلي من ورائها مصالح طارئه بحيث يظهر زيف هذا الايمان حين لا يتطابق مع هذه المصالح او حين تصبح الافكار التقليديه الجاهزه اقدر علي امداد الانسان باهلية صنع القرار وراحة البال او حين لا يكون قادرا علي تبرير الانكسارات والرجعيه بصفتها انتصارات

وازعم ان هذه هي معضله المجتمعات التي تتحرر لتوها من الاستبداد والفساد وعلي رأسها مجتمعات الشرق الاوسط: ولا اعلم كم من المرات تذكرت وانا اتأمل ما يحدث اليوم من ثورات مرحلة استعادة الملكيه في فرنسا (ارستقراطية القرن التاسع عشر) تلك التي ظهرت بعد سقوط نابليون الامبراطور (وليس نابليون الثائر) اي بعد ان فقدت الارستقراطيه الاصليه -ارستقراطية القرن الثامن عشر فما قبله- امتيازاتها علي مدي ربع قرن من عمر الثوره الفرنسيه: فانتجت ارستقراطيه مفتعله من العسكر السابقين من "محدثي النعمه" (الذين كانوا يوما –كنابليون- ومحمد علي-من الطبقات الدنيا المضطهده)

وهي مرحله لم تخرج في مجملها عن قصص لاناس من عوالم مجهوله بعيدة الشبه بعوالم الناس البسطاء –رغم ان ابطالها كلهم كانوا يوما منهم- فهم يعيشون داخل قصور مترفه منعزله عن المجتمع بحيث لا يجمع بينهم سوي عواطف مصطنعه يغلب عليها طابع التكلف والركود والغرور والسطحيه والجشع المادي والانحلال الخلقي ومع ذلك ولانهم لم يكونوا قادرين علي مواجهة نظرات الخدم (ممن كانوا لا يختلفون عنهم كثيرا من ناحية الثقافيه) واستفساراتهم المكتومه عن مصدر ثرواتهم وحقيقة جرائمهم التي ارتكبوها لاكتساب هذه الثروات والحفاظ عليها: كانوا يدفعون مبلغا من المال لكل خادم -سرا- كيلا يحتزوا رقابهم اذا ما واجهوا ما واجهه لويس السادس عشر وزوجته عام 1793! (طالما ان عودة هؤلاء الشبان من الطبقات الادني ممن كانوا يتمتعون بثقافه عاليه -مثل روبسبيير ودانتون او حتي نابليون–مازالت ممكنه)

بحيث لا يختلف الحال –برأيي- في مجتمعاتنا الا بمقدار ما قضيناه منذ عصر محمد علي والي اليوم بلا حريه: أي ما يتجاوز قرنين من الزمان: بمعني اننا امام قضية استبداد وفساد مفزعه وبمعايير تاريخيه: لقد تعرضت تلك المجتمعات لظلم مروع –مصحوبا بعنف وقتل وخسه ووحشيه بما لا يقاس- بحيث امتد هذا الظلم وتواصل الي حد انه امات لدي البعض مشاعر الظلم نفسه واخرس الالسنه فاعتاد جانب من الرأي العام علي الا يقف في وجه الظلم ويطالب بالحقوق: حيث يقضي الانسان حياته كلها متصورا انه لا يملك امكانات كافيه تؤهله لتغيير شامل كامل باعتبار ان العدل –ومرة اخري- وان كان ملتصقا باستبداد وقسوه وانتهازيه وجهل وانتهاك حقوق انسان اهم من حريه وكرامه وعلم ومساواه وبذلك فقد اصبح علي هؤلاء ان يختاروا دوما ما بين مزيدا من العدل المستبد او قليل من الديموقراطيه

وفي هذه الحاله يمكنني ان افهم ان القيمه الوحيده من الانتخابات الحاليه هو الهاء الشعب وتوجيه انتباهه وطاقاته باتجاه "بشائر" ديموقراطيه (لمجرد ان الانتخابات ليست مزوره هذه المره مثلا وكأن مشكلتنا كانت في تزوير الانتخابات فحسب) او قضايا لا علاقة لها بما نحن بصدده من تغيير من قريب او بعيد لا لشئ الا لان الانسان لا يمتلك شجاعة المكاشفه باخطائه او حاسة التدخل المبكر- لوضع خطط وحلول–لمشاكله او الاستعانه بخبرات اخرين لوضع خطط وحلول وبشئ من التواضع والموضوعيه والمسئوليه- ودون ان يكون هم الانسان الاول اكتساب شعبيه (هي شعبيه رخيصه في رأيي ومفضوحه وتكاد تكون دوافعها غير اخلاقيه اشبه بممثل سئ دخل مجال التمثيل بالواسطه -او بالصدفه- واظهر ثقل ظل عرفه القاصي والداني ومع ذلك مازال متشبثا بالتمثيل والتمثيليه: والحق ان الشعبيه لا تجئ الا عن طريق عمليه بطيئه غايه في التعقيد: اذ لا يكفي ان يكون الانسان مشهورا ليحصل علي شعبيه: خصوصا اذا ما تم ذلك في بيئه يكثر فيها اولئك الذين يتلقون الاوامر بشكل واسع: اذ نجد في بيئه كهذه الشخص متوسط الذكاء مثلا يظل طوال حياته يحاول ارغام شخص اخر اكثر تميزا–خطوه اثر خطوه- كما لو كنا بصدد عملية ترويض- علي تقديم الولاء له- فيما يقف فوق رأس هذا الشخص نفسه ليخبره ماذا يفعل ودون ان يعترف له بفضل وهكذا تستمر العمليه حتي ينتاب الجموع احساس ما عارم ناجم عن شبه اتفاق بالقرف: وذلك هو بالضبط وضع كل شعبيه غير اصيله لا يستحقها من يحصل عليها: اذ سرعان ما يكتشف الناس الحقيقه –وهي ظاهرة لا محاله- فتقل شعبيته الانسان متوسط الذكاء وقد تتلاشي تماما في لحظة واحده فيصبح مكروها وتصبح شهرته نقمة عليه فالقانون الطبيعي هو ان الشخص الذكي يميل الي مصادقة من هو ذكيا مثله لذا نصيحتي دائما للانسان النابغ الذي تأخرت عليه  شعبيته وشهرته: لا تيأس: والي ان يتحقق لك ما تستحق فانه يجب عليك –حتي وان كنت قد اجتزت كل المراحل بنجاح- الا تفقد تركيزك ورشاقتك وثقتك في نفسك واحساسك بالتوقيت واكثر من ذلك الا تفقد ايمانك بمن تكون ومحبتك لمن تحبهم ويحبونك حتي تتضاءل العوائق وتحصل علي ما تصبو اليه: او تجد من تتوافر لديهم من الامانه ما يجعلهم يرجعون الفضل لصاحبه)

ولا اعتراض لي علي فكرة الانتخابات او موعدها وانما اعتراضي ان تجري الانتخابات علي طريقة "بختك يا بو بخيت" دون اعداد ديموقراطي جيد للمواطن العادي وباقل قدر من الثقافه والوعي السياسي (بل والديني) وي في ظل حالة غموض رؤيه وانتهازيه سياسيه (اذ مازال الدين يستخدم في السياسه علي مرأي ومسمع من الحكومه وعلي خلاف القانون بل ان بعض الاحزاب ذات الصبغه الدينيه لم يتعهدوا الي اليوم في برامجهم باحترام حقوق وحريات المرأه والاقليات وحقوق الانسان والاتفاقات الدوليه) وفي ظل غياب امني وحكومي شبه تام (وهذا في رأيي لا ينبئ بتعدديه سياسيه وانما تصادم ديني سيبقي دائما وابدا موجودا طالما ان الوعي السياسي والديني مازال غائبا)

فاذا ما ادخل المتابع الكريم كل هذا في اعتباره فانه سيدهش لا لتباطؤ الحكومه في بلوغ اهداف الدوله (ناهيك عن اهداف الثوره واهداف الحكومه) بل لان البعض ظن انها ستدرك تلك الاهداف اصلا: فما ان ينقلب السحر علي الساحر ويتبدل الهذر جدا وتزحف النيران ويمتد حريقها الي يد من اشعلها وتقوم قائمة ميدان التحرير اذا بنا نجد من يدعو الي فرض حل امني جديد او تشكيل حكومه جديده يصبح علي رأس مهامها–مرة اخري- الامن والاقتصاد والاستقرار فيما يصبح علي الشعب–في نفس الوقت- البحث عن "مثيري الشغب" المجرمين الذين حاولوا افساد "عرس" الديموقراطيه والعمليه الانتقاليه والاضطلاع بمسئولياته في –احم- "تربية الاولاد" (بأعتبار ان الثوره هي من افسدهم) ثم لا بأس بعد ذلك في الظهور بمظهر البطل المغوار الذي حمي البلاد–والثوره- والشرعيه- من الاشرار بالداخل والخارج

وهكذا في وضع كهذا ليس غريبا ان يجد الثوري والسياسي والمفكر-والانسان الذي لم ينجب اولادا- نفسه وقد حشر حشرا وسط حومه اعصاريه منعزله -او ثقب اسود- كل همها استدرار صمت "الشرفاء" والايحاء –وبعد كل مصيبه- بان الامور تجري حسب خريطة الطريق او انها في ايد امينه (باعتبار ان امينه اخت شريفه): وفي وجود حكومه "ناني" قليلة الحيله (و"ناني" في رأيي هو اكثر الالفاظ تأدبا) لم تجرؤ يوما-وطوال الاشهر الماضيه- علي محاولة اكتساب سلطات تمكنها من اداء مهامها او لفت نظر المجلس الي مسئولياته الامنيه والوفاء بها (تلك المسئوليات التي صارت-ومنذ بداية الثوره- ضمن جداول اللوغاريتمات): وهكذا كلما خطونا خطوه الي الامام اذا بنا نعود الي نقطة الصفر لنتحدث مرة اخري عن الامن والاقتصاد والاستقرار وكأن شيئا لم يكن

وانني –وايم الحق- لفي شك مريب من ان ارباب المعاشات قادرين علي صنع ديموقراطيه فالديموقراطيه لا يصنعها اناس نشأوا وقضوا عقودا طويله في خدمة الدكتاتور -وخدمة اسرته- دون ان تظهر علي اي منهم اعراض الثوره (او حتي مجرد نزلة برد) او من درجوا علي احتقار شعوبهم والبحث عن اقصر الطرق للنجاة من المحاسبه: والارجح ان البعض مازالوا يظنون ان الديموقراطيه هي الانتخابات وان الانتخابات حتي تكون حره فانه يجدر بها ان تكون بلا ثقافه وبلا وعي وبلا تنفيذ قانون ودون اعداد جيد للمواطن علي جميع المستويات معرفيا وفكريا وذوقيا وروحيا: حتي يستطيع المواطن ان يدرك الفارق بين الفكري والسياسي والوطني والديني –كما شرحت- وبالتالي الحكم علي من هو قادر او مؤهل من السياسيين علي الاضطلاع بالعمل السياسي اكثر من غيره ودون ان يضطر الي خوض جدل سوفاسطائي في كل مره بشأن المفاهيم
ولا ينبغي لنا ان نتعزي عن تلك الحاله المؤسفه من اعادة تدوير المفاهيم وتفصيلها علي مقاس اصحابها علي اساس انها ستستمر او علي اساس ان السواد الاعظم من الناس لا يكونون احكامهم وفقا لتفكيرهم الخاص وانما وفقا لاحكام من الثقاة ممن يظنون انهم اقدر علي الحكم منهم -وان لم يكن الامر كذلك- فالناس البسطاء غالبا ما يكون لديهم بعض التشكك الفطري ازاء ادراك ما في السياسه –ومصطلحات السياسيين- من تعقيد خاصة اذا ما تعمد حفنه من المضللين تبسيط المعقد وتعقيد البسيط او لصقوا ثقافه متطرفه ومعرفه محدوده–وما هو اندر نفعا –واقل صدقا من هذا وذاك-بالسياسه
او استمروا ولاخر قطره في دمائهم علي وصف العلمانيه والدوله المدنيه بالكفر والالحاد (وهو كفر طبعا بالنسبه لمن لا يعلم ولا يهتدي): او نادوا بنظام مختلط (كشري يعني) ما بين برلماني ورئاسي عن طريق توزيع المهام ما بين الرئيس ورئيس الوزراء متجاهلين ان هذا الكلام لا معني له مطلقا في دوله ديموقراطيه ذات تعدديه حزبيه اذ انه يفترض مسبقا الا ينفرد حزب واحد ابدا بالحكومه وبالتالي بتنفيذ برنامجه كاملا: بمعني اننا سنعيش -في ظل هذا النظام- حكومة وحده وطنيه علي الدوام في محاولات للتوفيق بين الرئيس ورئيس الوزراء!
او تمادوا في التغزل بالشعب او وصف الناخبين بانهم كل الشعب -او كل الناخبين- في كل مراحل العمليه الانتخابيه- متناسين–صدفة او عمدا-اننا مازلنا بعد في البداية وانه مازال امام الناخب المصري طريق طويل لكي يكتسب الوعي السياسي والثقافي كيما ينتخب وفقا لمبادئ وبرامج سياسيه بحته (كما لو اننا انتقلنا من مرحلة رياء السلطه الي مرحلة رياء الشعب) في حين انهم يستديرون –علي الجانب الاخر- وكلما سنحت الفرصه-ويالا المفارقه-الي ميدان التحرير مستهينين بمليوناته واعدادها واصفين الثوار والشهداء والمصابين كما لو كانوا لا يمثلون الشعب او لا يمثلون ما يسمي الاغلبيه الصامته (ولا احد يعلم من بالضبط من حقه التحدث نيابة عن اغلبيه صامته واذا كانوا صامتين فلماذا لا يتحدثون بل لماذا يجب ان يتحدث احد نيابة عنهم اصلا؟) ظنا منهم انهم قادرون علي خداع الناس –او نعديل مسار التاريخ- او ان الجهل والانتهازيه من الممكن ان تظل خافية دون ان تنكشف الي الابد وهم واهمين فما من جهل او انتهازيه الا وتكشف امرهما شأنهما في ذلك شأن كل شئ زائف وغير اصيل ولو بعد حين

ولابد وان اشرح هنا ان ما يحدد درجة رقي او تحضر اي شعب او حكومه هو حرص الناس علي تكريم الشهداء والمصابين والضعفاء والمحتاجين والعنايه بهم –ناهيك عن اولئك الابطال الذين ضحوا بحياتهم او اصيبوا اثناء الثوره- اذ ان هؤلاء هم شرف الوطن وكرامته ومن ليس قادرا علي ان يصون شرف وطنه وكرامته تصبح مناقشة مسألة صيانة الشرف بوجه عام معه موضع جدل

واري انه من المهم ان الفت النظر هنا الي ان التحيز الي الانسان المتميز وتكريمه وبناء نوع من الشراكة–والمصارحه- والثقه معه لا يتناقض مطلقا مع فضيلتي التواضع والمساواه: فمبدأ المساواه يضمن مساواه في الفرص والحقوق والحريات الاساسيه دون تحيز لعرق او جنس او نوع او ثقافه او دين او طبقه اجتماعيه (بمعني ان المساواه تشمل ايضا من يدير شئون البلاد): وبذلك فالمساواه لا تعني ابدا اضاعة مبدأي التميز والخصوصيه او تدمير روح النضال والمبادره واضطهاد اصحابها: فلا مساواه بين العلم والجهل او بين الذكاء والغباء او بين السلبي والايجابي او الخطأ والصواب او التقدم والرجعيه: كما انه ليس من العدل ان نساوي بين الثائر الذي يسعي الي تنمية ذوقه ووعيه والنهوض بمجتمعه وتحريكه الي الامام وبين المنساق لمغريات السلطة والمال والخمول ذلك الذي لا ينزعج من فكرة الخضوع لسلطه مهيمنه رادعه علي الدوام وان اضطرته الظروف الي ان يخلط بشكل شبه متعمد بين الاستقرار وبين الركود والسلبيه او اللامبالاه:

بما يعني ان حرمان المفكر الفرد الواعي الساعي للتفوق من حقه في التفوق والتكريم بناءا علي تفوقه (ثم تشجيع الجاهل علي جهله والكسول علي كسله والرجعي علي رجعيته والغبي علي غبائه والانتهازي علي انتهازيته) هو في حد ذاته حرمان للمجتمع من عقله وقلبه وضميره وتجريفا لقدراته (والا اصبح التعليم الاساسي مثلا –وحسب هذا الفكر- نوع من الترف بحيث يتساوي فيه الناجح والفاشل: المتعلم وغير المتعلم)

ولنتشه وصف طريف–علي لسان زرادشت- يصف فيه الانسان كما لو انه بهلوان سيرك يسير علي حبل مشدود بين برجين في مقابل حشود من الغوغاء من رواد السوق ممن يقفون علي الحياد مراقبين يلهثون تحت وطأة العديد من الاراء الدارجه واحكام الثقاة والتكهنات ينتظرون بلهفه عبور البهلوان الي الجانب الاخر ليصفقوا له اذا ما نجح (او يسخروا منه اذا ما فشل): ولكن وفي تلك الاثناء قد يحدث شئ فبينما هم واقفين–ومازال نتشه يتحدث- قد يطور احد المهرجين من اصحاب الدم –والعقل- الخفيف في نفسه شعورا ما بالمشاركه وهكذا قد لا يسلم الامر من قفزه مباغته ليستقر المهرج علي كتفي البهلوان المسكين جاثما علي انفاسه فيصبح البهلوان بذلك امام تحد جديد: اما ان يتوقف قليلا ليزيح عبئ الوافد الدخيل المتمثل في ذلك المهرج الحشري الذي قفز علي كاهليه (ثم يستجمع قواه تارة اخري ويكمل رحلته) او يكمل رحلته علي اية حال مجازفا باحتمال تاخره او تعثره لتزل قدمه ويسقط من عل

والحكمه هنا هي: كما ان قفزه عارضه سخيفه من مهرج جاهل مغرور قد تتسبب في تعطيل –او اسقاط- انسان متعلم متميز مجتهد يعرف طريقه ويدرك ما يجب عليه ان يفعله فان اطمئنان الانسان المبكر بعبور امن دون اسباب كافيه تدعوه لذلك قد يتسبب ايضا في سقوطه وهو بعد في منتصف الطريق: لذا لزم علي الانسان النابغ المتميز ان يكون مستعدا للتعامل مع كل الاحتمالات 

او كما قال " ميشناه" الحكيم: ان لم اكن نفسي: فمن اكون؟ وان كنت لنفسي فحسب: فماذا انا؟

واجد صعوبه بالغه في حصر عدد المرات التي اقترح فيها الثوار ونخبة السياسيين والمفكرين–طوال الاشهر الماضيه- حلولا استراتيجيه وسياسيه –ازعم انها كانت هامه للغايه- لادارة المرحله الانتقاليه او حتي مجرد تعديل المسار المريب المعوج الذي مضينا فيه دون ان يجدوا علي الجانب الاخر–للاسف الشديد- من يملك ملكة الاستماع او عزيمة التغيير او شجاعة الاعتراف بالاخطاء واصلاحها

كما اجد صعوبه في حصر عدد المرات التي قارن فيها البعض انفسهم باخرين من دكتاتوريات مجاوره تخوض –ومازالت تخوض- حروبا ضد شعوبها فيما تترنح في طريق سقوطها المحتوم علي طريقة فرعون: "اغرق ولكن لن اغرق وحيدا: وانما ساخذ جيشي معي" او "اسقط ولكن لن اسقط دون ضجه": دون ان تتحول انظارهم ولو مره باتجاه التجارب الديموقراطيه الاصيله او تلك التي تحولت حديثا الي الديموقراطيه (متناسين اننا قمنا بثوره وان ثورتنا –وكما هو مفترض-نجحت وان المطلوب هو تطوير هذا النجاح)
                          
ولذلك فالسؤال الاكثر الحاحا اليوم في نظري هو: هل مجلس "لم ولن ولع" (ذلك الذي يروقه دور"مجلس قيادة الثورة") سيكون باستطاعته التجانس مع دوره الاصلي في الحكومه والدوله حسب المقاييس الجديده والتي ستحتم عليه العوده ليصبح منخرطا –كغيره- في "وزاره" تتلقي –وتنفذ- التعليمات وتكرس جم جهدها لعملها– وعملها فقط - اذا كان سلوكه -وحتي وقت قريب- هو وضع نفسه علي طرفي نقيض مع ثوار التحرير كلما تطلب الامر تغيير جذري حقيقي؟ (مع ملاحظة ان اعضائه جميعا بلا استثناء قد تجاوزوا سن المعاش (وبالتالي ثقافه العصر): سواء تمكنوا من اخفاء ذلك او فشلوا: سواء مكثوا في مواقعهم او قدر لهم ما يقدره الله لسائر خلقه: واتمني ان يعيشوا الي الابد ليثبتوا عكس ما اري o-0)

لابد وان يكون في استطاعة ثوار التحرير (في القاهره والمحافظات) الذين حرضوا وبادروا وناضلوا وقادوا الشعب–والجيش-الي الثوره ان يقرروا اذا ما كانوا سعداء–او غير سعداء- بالاجنده الحاليه للتغيير او اذا ما كانت الاجنده تتناسب–او لا تتناسب-مع طموحاتهم السياسيه والاجتماعيه والاقتصاديه وطموحات شهدائنا (ناهيك عن اجيال المستقبل)

لابد وان يكون في استطاعتهم ان يشعروا انهم اتخذوا القرار السليم حين فضلوا مصلحة البلاد علي مواجهة ما بدا في حينه–والي اليوم- وكأنه تطوع جبري اقدم عليه قادة الجيش -اشبه بهاجس قهري- لادارة المرحله الانتقاليه منفردين وما يكون قد كلفنا هذا من اعباء اقتصاديه وامنيه مؤلمه (ظهرت مؤخرا في الموجه الحاليه من حشود المصابين والشهداء الابرارالذين فارقوا الحياه نتيجة الاستخدام المفرط للقوه والاستهانه بارواح –وجثث-المواطنين العزل) لمجرد انهم بدوا -الي وقت قريب- ملتزمين بعدم توجيه سلاح –ومدرعات- الشعب الي الشعب  

ورأيي ان الحكومات التي تتجاهل الظلم وتستهين بارادة الشعوب وتكتفي بالتعامل مع المشكلات امنيا (مع ملاحظة ان الحل الامني في حد ذاته –وان تم دون خسائر بشريه ينبئ عن افلاس وفشل ذريع وضيق افق بلا حدود ويقود حتما الي مزيد من الظلم (وبالتالي مزيد من الاحتجاج): كما انه ليس من شأنه وضع حد للمشكله وانما هو بمثابة تأجيل لها) هي حكومات لا تهتم باكثر من اضاعة الوقت واطالة امد الثورات قدر الامكان علي امل ان تنطفئ جذوتها او يتم تفريغها من مضمونها او تصاب بالاحباط ومن ثم يحصل كل طرف علي اكبر قدر من المكاسب واقل قدر من الخسائر وتنتهي المشكله

لنها حكومات تقتل شعوبها وتنتحر فيما تظن انها تحاول النجاه!

فالتفكير -مجرد التفكير- في استقاله طوعيه او خروج  الي المعاش او تفرغ كل انسان لاداء ما يتقنه اصبح بمثابة عيبا او امر جارح للكرامه او "تخوين" (مع الوضع في الاعتبار اننا نتحدث عن انظمه بلغت من الفساد والاستبداد حد معين بحيث لم يتوقف عند ذلك الحد بما يجعل من الصعوبه بمكان علي أي انسان عاقل ان يثق بان ما يحدث اليوم مختلفا عما قبل دون خطه حقيقيه للتغيير ودون مصارحه: وانا لا افهم بالمناسبه: ما معني ان تكون استقالة فلان تحت تصرف علان او ان اقدم استقالتي عدة مرات ولا يقبلها احد فأعود الي عملي كما لو كان شيئا لم يكن او كما لو كان عملا بالسخره)

والمفاجأه ان الثوره مستمره الي اخر رمق وان لها رساله ومضمون واهداف وان اهدافها مشروعه وان الرجال والنساء الشجعان الذين قاموا بها لديهم من الصلابه ما يجدد ارادتهم ذاتيا علي الدوام بحيث يصبحون اكثر عزيمة واصرارا علي التضحيه في سبيل ما يؤمنون به كلما مر الزمان: لقد صاروا مصدر الهام: والفارق كبير في رأيي بين محبه طوعيه للوطن وبين خوف منه: او بين اناس لا يحركهم سوي الضغط والقوه والاهداف الفرديه والفئويه واناس يحركهم الفكر والمبادئ الاخلاقيه والصالح العام ومستقبل الوطن

ويلوح لي انه ما كان يصبح لحديث أي من هؤلاء اليوم عن الثوره والديموقراطيه اهميه لولا ثوار التحرير ولولا ان الثوره بعثتهم من مرقدهم:

ان فكرة ان الانسان كان بحاجه الي بعث وان غيره هو صاحب الفضل في ذلك مازالت تؤرق البعض فيما يبدو: وهم في نفورهم هذا من البعث–ومن الثوره- علي حق: ان البعث من الموت امر مخيف حقا بالنسبه لمن ماتت روحه

الأحد، 7 أغسطس 2011

حكومة "مصر امنا": ما الذي تفعله بالضبط؟! (3-1)

أظن ان الاوان قد ان –ولعل المانع خير- لان تتحول الحكومه الحاليه الي حكومة للجميع: بحيث يعود ضباط الجيش الشرفاء –مشكورين- الي مواقعهم في وزارة الدفاع ليتفرغوا لعملهم الاساسي والوحيد: امن الوطن وحمايته.

اما بخصوص دورهم في ثورة بلدهم ومستقبله فرأيهم مسموع كل في تخصصه ولا يعقل ان يتجاهل المرء رأي من هو مشارك في الحدث وجزء منه: وازعم ان كتاب التاريخ وحده هو القادر علي ان يفي كل ذي حق حقه في الاطراء –او الذم- بأنسب الالفاظ. وكما يقال في الامثال: لا شكر علي واجب ولا شكر بين الاحباء

فالحبيب النبيل صاحب المروءه لا يرهق حبيبه بشكر نظير ما قام به في سبيل حبه والانسان الصادق الامين لا يتباهي بصدقه وامانته لان ذلك ما هو الا سلوك شخصي نابع من مبادئه دع عنك اذا كان للامانه علاقه بوظيفته وما هو مكلف به ويتقاضي عنه اجرا: اذ تصبح الامانه في هذه الحاله ليست نتيجة عمل تطوعي يستطيع المرء ان يرفضه او يقبله حسب درجة ايمانه به وانما فرض عين مم يجعل – انذاك - التباهي بالامانه–وانتظار الشكر والاطراء- كأن يقول الانسان: حسبي انني لم اخن الامانه! وهو منطق غريب اشبه "بمن" ليس في محله: يشبه –في رأيي- "من" فرعون: ولقد كانت حجة موسي النبي في مقابل ذلك ان سأله: ... وتلك نعمة تمنها علي ان عبدت بني اسرائيل؟ (قران)   

وان اخطأ الحبيب واجبرته الظروف –لسبب ما- وبصفته بشر – والبشر يخطئون- علي اجبار حبيبه علي مشاعر معينه –سلبيه او ايجابيه- فلابد للجبر من نهايه ولابد للمشاعر الحقيقيه ان تتجلي. او كما يقول عبد الوهاب: عشق الروح مالوش اخر.

ولا اري اي مانع في الوقت الحالي ان نعمل بدون دستور حتي يأتي الوقت المناسب الذي نتفق فيه علي دستور وليس في هذا عيب او بدعه فما زال يحكمنا قانون وهو يحظي باحترام ناجم عن ايمان هذا الشعب بوحدة الهدف والمصير ورصيد حضاري وتاريخي (دون ان نكون مدفوعين بالضروره الي حاجه او جوع او اي صوره من صور التهديد والعقاب الجماعي كالاحكام العرفيه مثلا): وباصلاح القانون يصبح كافيا –في رأيي- علي الاقل في المرحله الحاليه –لادارة شئون البلاد.

ورأيي ان اهمية الحوار قد تنقص اذا ما شمل اشياء غير منطقيه او غير واقعيه او اشياء يعالجها البعض بصفتها غايه في حد ذاتها بينما يعتبرها العاقل مجرد وسيله وكذلك قد تتقلص اهمية الحوار اذا شمل –علي الجانب الاخر- اشياء مفهومه واهداف اساسيه قامت من اجلها الثوره: فبناء نظام ديموقراطي مثلا (بمعني اعادة هيكلة مؤسسات الدوله حسب احدث المقاييس الديموقراطيه والاداريه والتكنولوجيه باستحداث جديد او استبعاد -واصلاح- موجود) والتنميه الثقافيه والبيئيه والتعليميه والصحيه والاجتماعيه والاصلاح المالي والاقتصادي والنهضه العلميه والدستور المدني والدوله المدنيه هي اشياء لا تحتمل جدال مع رجعيين جهلاء او ترزية قوانين.

فاولئك الناس هم من انتجوا التخلف والعصبيات وفكر التكفير والارهاب والاستبداد لا المأجورون الانتهازيون وحدهم ولا عامة الشعب:

ولا يصح ان يتناول احد الديموقراطيه تناولا جديا –في رأيي- الا من يكون ذا اهتمام مباشر بها وبما تتناوله من مزايا وعلي دراية بالاشياء التي قد تعطلها وشغوف بها الي حد ممارستها في حياته اليوميه (بمعني انها صارت جزء لا يتجزأ من مبادئه في حالة وجود مبادئ طبعا): وهذه الصفات لا تتوافر –في رأيي- في ارباب سوابق في الدكتاتوريه والكهانه او من شاركوا فيهما ممن اكتشفوا فجأه بعد الثوره –كما لو كانت موضه مثلا- ان الديموقراطيه هي النظام الامثل لحكم الشعوب.  

ولابد ان اوضح ان المواطن المصري البسيط يعلم ما هي الديموقراطيه (وان كان بحاجه الي بعض الوقت حتي تصبح –بممارسته لها- جزء من حياته) ويعلم ايضا ان اسباب حدوث الظلم والفساد والاستبداد ليس في خفة الحدود او في طرق العقاب او غياب الدين عن حياة الناس (فمنذ قراقوش لم يسبق ان عرف الشعب المصري الدين –في صورة شعائر وطقوس وكتب ومؤسسات وجماعات وكهان ومدارس ورقي وطلاسم وازياء - كما عرفه في ال 30 عاما الماضيه) وانما السبب –في رأيي- كان في تراخي القضاء وعدم تنفيذ الاحكام وندرة المبادئ وتدهور –بل وانحلال- الاخلاق (وان اتخذ التدهور –احيانا- ستار من منافع ماديه او اجتماعيه او دينيه) وتراجع الايمان الروحي الحقيقي وفساد التعليم واستبدال التربيه -والمؤهلات العلميه- بالواسطه والفتاوي وقيم اقتصاديه بحته وغياب اي دور حكومي في تنمية وعي وثقافة المجتمع (الي جوار غياب مبدأ مساءلة ومحاسبة المسئولين بطبيعة الحال) وتلك هي اسباب حدوث الفساد والظلم والاستبداد

كما ان الامل في حدوث تحول ديموقراطي حقيقي ليس جديدا بالنسبه لوعي المواطن المصري البسيط وانما تأجل مرارا ولعقود مع عبد الناصر و "خلفائه" دون سبب واضح وما زال مؤجلا –بل مهددا- علي الرغم من ان هدف المرحله الانتقاليه الرئيسي هو نقل السلطه من الحكم العسكري –المستمر-في الحقيقه- منذ يوليو 1952 – الي الحكم المدني الديموقراطي: حكم الشعب (وليس نقل سجين مهم مثلا من مستشفي شرم الشيخ الي مستشفي مزرعة طره او اختراع نظريه فلسفيه ليس لها تطبيقات من الواقع): ولذلك سميت حكومه انتقاليه.

وفي الجمهوريات الاستبداديه العسكريه يهتم الانسان الفرد بمنفعته الشخصيه البحته باحثا عن المال والشهره والنفوذ بحيث يدفع تلك المنفعه دفعا الي مقدمة الصفوف كما لو كان جندي يتلقي اوامر دون ما اعتبار للصالح العام اذ ان الصالح العام صار هو نفسه صالح مؤسسة الرئاسه: اي صالح فرد

وبذلك تكون النتيجه في الجمهوريات الاستبداديه العسكريه ان الكل في تناحر من اجل اهداف فرديه متفرقه بحيث لا يجتمعون علي شئ قدر اجماعهم (وتواطؤهم؟) علي ان يبقوا في الحضيض لتعيش الحكومه الفاسده ومؤسسة الرئاسه في نعيم. اما النابغ الذكي المتعلم فينظر اليه علي انه ذو رأي شاذ وخطر داهم –ومشترك- يتكتل الناس ضده وتتعاظم جموعهم عليه ليدفعوه اما للهجره فارا بجلده او الاستسلام لرأي المجموع ولو اجتمعوا علي جهاله: فيموت ومعه نبوغه اذ يكون من الحمق -انذاك- اذا قدر له ان يعيش- ان يكشف عن نبوغه: ومن هنا يسهل علينا ان نتصور كيف كان وضع الانسان –والعلم- والمجتمع- في ظل حكم ما يسمي المستبد العادل: او المستبد الذي يظن نفسه عادلا.

ولذلك يخيل لي ان الحوار وان كان هام في هذه المرحله الا انه يجب الا يتخطي اهداف المجتمع ككل بحيث يكون المحرك الاساسي للحوار هو العمل والبحث الموضوعي وجمع المعلومات دون جلبه ودون محاولات للتظاهر بان فلان افضل من فلان او ان فلان اكثر فهما وحرصا علي مصلحة مصر من فلان اذ ان العمل في هذه المرحله يقتضي انكار ذات تام. ثم يتبع ذلك التركيز علي وضع "الرسم الهندسي" (بلو برينت) للنظام السياسي والاقتصادي المأمول ديموقراطيا وهكذا–وبناءا علي ذلك- وبناءا علي ذلك فقط- تتم مراجعة واصلاح مواد القانون وتحديد مواعيد الانتخابات (فتكون مهمة تلخيص ذلك كله –فيما بعد- في دستور جديد اسهل كثيرا طالما ان القاعده سليمه).

حتي الترزيه انفسهم لم يدعوا –ولا يجرؤون علي الادعاء- بان ما يقومون به من تطريز شيئا مقدسا غير قابل للتعديل–او انهم قادرين علي التطريز دون نموذج او رسم هندسي- والا انتقلوا بنا من خانة "الحياكه" الي خانة "البركه" ومن الاستبداد السياسي الي استبداد القضاء: وليس اكثر خطوره من الاستبداد السياسي–في رأيي- الا استبداد القضاء المتمسح بالوطنيه والتدين فذلك النوع من الاستبداد انتج قديما "شمشون" في حين انتج الاستبداد السياسي موسي النبي!

وبذلك يخيل لي ان الحوار ليس من اجل "الصلح" بين تيارات فكريه متباينه او ترقيع دستور او محاولة انقاذ مكتسبات ثوره قديمه او جمع شخصيات بعينها –هم قادة الفكر في البلاد وفقا لمن جمعهم- بهدف التعارف مثلا او الدردشه او طرح برنامج كل منهم الانتخابي ومن ثم مشاهدة صراع ديكه بين ايدولوجيات او بين علماء وجهلاء او بين اساتذه ومستقلين (ولابد وان اوضح ان هناك عداء تقليدي- تاريخي - وعلي مستوي الجنس البشري كله - بين اساتذه العلم والفكر الرسميين وبين المستقلين الهواه اشبه بالعداء بين العرس والكلاب! فالاساتذه بحكم مناصبهم وشهرتهم –وشهادات الدكتوراه – وقل عنها ما شئت- ينظرون –تقليديا- الي المستقلين من اهل الفكر والعلم بأنهم ادني منهم مرتبه والا لوصلوا الي المكانه –والوظائف- التي وصلوا اليها: اما المستقلون فيرون انه لولا ان هؤلاء (الاساتذه) نالوا تقديرا ما من جاهل مستبد –او في وجوده- لما اكتسبوا مكانتهم (ولما خربت البلاد؟) وهم بذلك (المستقلون) يؤمنون ان المعرفه لا كهنوت لها وانها لا تتجسد في وظيفه وان الجنس البشري يستغرق وقتا اطول قبل ان يكتشف من هو الجدير بوصف عالم او مفكر او مثقف: اما سبب تشبيهي للفريقين بالعرس والكلاب فهو ليس بغرض الاهانه –لا سمح الله- ولكن لان الكلب يتلقي زاده في مربطه: وهي افضل طرق الحصول علي الطعام بالنسبه للحيوانات المنزليه الاليفه: اما الحيوان البري غير المروض الذي يجد طعامه بنفسه لنفسه في رحاب الطبيعه -او من خلال سطو خفي علي احد مطابخ المنازل الخلفيه ليبحث فيه علي ما تيسر من فضلات - فليس من شك ان احترامه اقل لحياة الكلاب)

ولذلك فاعتقادي ان الحوار لابد وان يشمل كل من له رأي "علمي" –اساتذه ومستقلين- جنبا الي جنب- علي قدم المساواه: والاهم: يجب ان يلتزم الجميع بالنماذج المتاحه لاي نظام ديموقراطي وقع عليه الاختيار دون "فذلكه" .

فعلي سبيل المثال ان استدعي الامر الاختيار ما بين النظام البرلماني والرئاسي مثلا لابد ان ينحصر الاختيار –في رأي- في النماذج المثلي الموجوده بالفعل للنظام المختار: فالنظام البرلماني مثلا له نماذج في ايطاليا والمانيا وتركيا واليونان الخ والنظام الرئاسي له نماذج في امريكا وفرنسا الخ: اما محاولة الخلط بين النظامين لاختراع حل ثالث –كما يحدث دائما- فالنموذج الامثل له هو دستور 1971 (او الكتاب الاخضر؟).

والديموقراطيه ليست كيمياء نستعين فيها بعنصر من هنا واخر من هناك لتجتمع العناصر وتتفاعل وتندمج فيما بينها ومن تلقاء نفسها بمجرد اجتماعها: ولكن الديموقراطيه بحاجه الي خطط واراده:

فالديموقراطيه عمليه اجتماعيه ذات نسق متكامل سياسيا واقتصاديا واجتماعيا تقوم اساسا علي العلم والفكر والعمل وليس الاتجاه نحو فرض ثقافة بعينها او دين. ويشترك في مسئوليه بناء المنظومه الديموقراطيه الفرد والمجتمع معا بمساعدة قياده تؤمن بالحريه والكرامه الانسانيه والمساواه والعداله علي حد سواء ومن خلال دوله مدنيه ودستور مدني.

والهدف من الديموقراطيه انها تتيح للشعب الية دائمه لمقاضاة الحاكم من خلال قضاء عادل نزيه منفصل عن السلطه التنفيذيه او تغييره وفقا لمبدأي التعدديه وتداول السلطه (اي من خلال عمل سياسي حر يقوم علي حياه حزبيه حقيقيه ونقابات وانتخابات مراقبه يتساوي فيها الجميع في الفرص بصرف النظر عن الجنس او العرق او الدين ومن خلال احساس كامل بالمسئوليه وضرورة تحقيق عداله اجتماعيه كامله) وبذلك فالديموقراطيه تضمن الا يضطر الشعب – كلما فاض به الكيل- القيام بثوره لتغيير طبقه ما حاكمه مستبده وفاسده اغارت علي جقوق سائر افراد الشعب

كما انه لا غني عن الديموقراطيه اذا كان مجتمع ما يرغب في نمو اقتصادي. اذ ان هناك علاقه وثيقه بين الديموقراطيه وحياه اقتصاديه سليمه كما ان هناك علاقه بين الاقتصاد وبين السياسه والاجتماع.

فالمجتمع الديموقراطي يفعل كل ما في وسعه "لتحرير" اكبر عدد ممكن من الفقراء والمرضي وغير المتعلمين من فقرهم ومرضهم وجهلهم ليصبحوا مواطنين فاعلين في ظل حياه تضمن الحد الادني من فرص العمل والحياه الكريمه وفي غياب الواسطه والمحسوبيه والتمييز واحتكار الاسواق. وفي نفس الوقت–ووفقا لهذا المفهوم- توفر الديموقراطيه منافسة عادله: فيفضل من يريد العمل الوظيفه ويفضل من يملك الفكر ورأس المال الاستثمار: اي ان الديموقراطيه تضمن تلقائيا التخلص من الظلم في حالة اذا ما اشرف عليها قاده يؤمنون بها بطبيعة الحال.

والعلامه المميزه للديموقراطيه تتمثل -في رأيي- في التخلص - بجرأه وتواضع وموضوعيه – وبكثير من الاصرار- من العقد النفسيه القديمه التي تسببت – لقرون- في ثقافة الفساد والاستبداد (كالعنصريه والذكوريه والتطرف الديني والطبقيه وتمجيد الفرد؟) فالمجتمع الديموقراطي هو –في رأيي- المجتمع العملي القادر علي التقدم الي الامام بحريه بدون اصنام الايدولوجيات التي يجرها خلفه كلما واتته الفرصه والتي طالما اثقلت حركته: والاصل ان تتسق ثقافة المجتمع ومعتقداته مع الديموقراطيه وليس العكس كما ان الهويه لابد وان تتسق مع العصر الذي نعيش فيه والمستقبل الذي نأمله لابنائنا:

اذ لا يجب ان يغيب عن ذهن العاقل الفاضل ان الانسان لم يكن -في اي وقت –ومنذ ان خرج من احراش الغاب- بصدد صنع مجتمع من ساده وعبيد: او مجتمع نخبة برجوازيه ثريه متعلمه تهيمن علي ارزاق وافكار وقلوب اناس فقراء ضعفاء غير متعلمين يأتون في مرتبه اقل (لمجرد ان الحاكم يتأكد دوما -وبصوره متعمده- من بقائهم علي هذه الحاله): وانما اجبرته بدائيته ونقص علمه ومحدودية فكره علي مجتمع الساده والعبيد حتي اكتشف الديموقراطيه.

ولان الانسان ولد وداخله ميلا طبيعيا فطريا نحو الحريه والكرامه والمساواه فالانسان الديموقراطي هو انسان الفطره الطبيعيه: ولذلك فالانسان الديموقراطي لا يؤمن بالديموقراطيه من اجل عيون الديموقراطيه نفسها كنظام سياسي واجتماعي او لانه يغار من نجاح ما لها في اماكن اخري فيلجأ اليها لتكرار هذا النجاح او لانه مدفوع للتغيير باراده ربانيه نتيجة ظلم واستبداد استمر لقرون طويله الي حد السأم: ولكن – مرة اخري- لان الانسان لا يستطيع ان يعيش بصوره "طبيعيه" الا حرا وكريما وفاعلا ومتساويا مع غيره في الحقوق والواجبات ولأنه لا يستطيع ان يطبق ذلك بصوره تكاد تكون دائمه وشبه منتظمه الا في وجود نظام ديموقراطي (حتي قبل ان يتجه نحو تحقيق عداله كامله مازال يسعي اليها)

ولذلك فالانسان الاقرب الي الكمال– في رأيي- علي علاته- هو الانسان الديموقراطي. اما المجتمع الذي يتحرك عكس فطرته الانسانيه –وعكس حركة التاريخ- فهو -في رأيي- مجتمع يضيع وقته: مصيره -لا محاله- الي تفكك وانقراض.

والانسان الحكيم هو انسان من هذه الارض يتألم ويشتهي ويعذبه الحرمان ويحلم بالنجاح والكمال وتحقيق الذات ولكنه في نفس الوقت يربط بين مشاعره وغرائزه وبين طموحاته واحلامه ثم يربط بين هذا وذاك وبين مصلحة مجتمعه علي المدي البعيد فلا تخلو احكامه من العدل الواجب او النظره العامه الشامله العميقه او تتجاهل حواسه ارادة التاريخ

ولا يخفي ان النتيجه الوحيده لعدم وجود عدل هو الظلم: والظلم وهم الفرديه الزائف

والظلم –في رأيي- لا ينجلي الا بمساواه في العدل: فالمساواه في الظلم لا تعالج ظلم بل تضمن مزيدا من الظلم والظلم لا يضمن توفيق الهي لما هو قادم:

واعتقد ان الرئيس باراك اوباما كان موفقا تماما حين وصف الامر (في معرض تحليله للنسخه المصريه من ثورة الياسمين في بدايتها): "لقد تعرض الشعب المصري لظلم شديد"

ومع ذلك فان العدل لن يري النور بالعنف وقسوة القصابين (كما لو كنا نحشي حمام مشوي بتين برشومي بحيث يقع العبء كله علي من اختار نوع التين!) وانما بالحكمه وفي ظل حريه وكرامه ومساواه (ديموقراطيه؟)

فالعدل ليس الا وهما خادعا ان لم يكن محركه الاساسي هو الاراده الحره والايمان بالفضائل ومحبة الانسان. اما الفرديه فهي زيف اذا كانت مقترنه بالانانيه وبأن يعيش كل فرد منا فردا صحيحا ومن بعده الطوفان. من حيث ان فينا جوهر واحد اعمق واعم واشمل لابد من اطلاق سراحه ودفعه الي الكمال هو الانسان.

فنحن جميعا بشر وتلك الشفقه الكامنه داخلنا–اشبه ببذره- تجاه كل ما هو انساني هي القادره علي ان تقينا شر الانزلاق الي الجرائم (قبل ان نضطر الي اللجوء الي العدل والقصاص): وهي الظاهره الاولي للاخلاق ولا تفسر الا بها كما ان الاخلاق لا تفسر الا من خلال وحدة النوع الانساني وتنمية القدره علي الاختيار. وهكذا لن تتمكن القوه وحدها ابدا –مهما كانت شدتها- من ردع المجرم وتلطيف الم المجني عليه.

ولطالما امنت انه لا يجب ان يحبط من عزائمنا ان هذه البذره جفت في وقت من الاوقات وطال امد جفافها او بدا وكأنها انسحبت في لحظة ما الي ماض ميت ليس قادرا علي بلوغ ارادة الحياه الا من خلال انكار تام للحاضر والمستقبل: فالبذره الجافه لا تموت –في رأيي- في ارض حضاره عريقه خصبه كمصر بل تستبقي قوي الحياه كامنه هاجعة فيها حتي اذا ما واتتها الفرصه وتهيأت الظروف انبعثت البذره الدفينه من ظلام الارض وارتفعت نباتا مشرئبا يدافع دفاعا لا ينقطع عن حقه في الحياه والحضاره. كما ان 70 عاما من عمر مصر اشبه بأسبوع من عمر رجل -او امرأه- عمره 70 عاما!

وقد اكون متفاءلا الي درجة الهوس فاميل الي الحدس والقياس وقد ارجح كفة الروحانيات والمثاليات احيانا علي كفة الواقعيات وقد اكون اسعد حالا في الحقول الواسعه والشوارع ومطابخ المنازل الخلفيه مع العرس ولكني في كل الاحوال اؤمن بأن "الحكمه" ليست فقط في التعقل والواقعيه والاستدلال والاستقصاء والتأني وانما الحكمه -في رأيي- ان يتزامن ذلك كله مع المغزي (العدل؟) دون ان تتحول بالضروره قيم الثابت وغير ذلك من المثاليات الي موقف تضاد مع قيم المتغير المحسوس كالخبرات الماديه والعاطفيه وغير ذلك من الواقعيات: اذ انه في حالة الحكم الرشيد يجتمع الجانبان–المثاليات والواقعيات- معا في رحاب العقل وفقا لمعطيات زمنيه محدده فتصبح النتيجه عدل ورحمه بما يكفي لان يكونا واقعيين: والا اتصف الحكم –اذا لم يحدث ذلك- بدرجه من درجات التزمت في الماديه والواقعيه في جانب (وبالتالي يصبح ايمان الانسان بالمثاليات مهددا) او درجه من درجات الوهم والشرود والغلو والمزايده في جانب اخر (فيحمل الانسان ما لا يحتمل من ثابت الامور وامور الثابت): وفي الحالتين يفقد الحكم–والحاكم- صوابه: اذ ان حماقات الوهم والشرود والكهانه لا تختلف -في رأيي- عن حماقات التزمت في الماديه والواقعيه فكليهما يقود الي نفس النوع من الطيش والتطرف (كالذي عرفته مصر في ال 30 عاما الاخيره؟)

وان الاوان ان تستغني هذه الحكومه قليلا عن نرجسيتها وميلها الي الثرثره والنظريات المتوطنه القديمه مثل "الدهن في العتاقي" و "ليس العلة في وانما فيك" فتدعم صفوفها بالاجيال التي اطلقت الثوره وفجرتها –مهما كان حجم خبراتهم السياسيه - اذ ان ذلك حق لهم وفقهم الله اليه: وخط سير الخبرات والعلوم لابد وان ينسجم ايضا –في رأيي- مع خط سير التاريخ. واذا اضفنا الي ذلك الاهمال الذي تفشي –مع الرئيس المتخلي- في اختيار كفاءات للمناصب العليا (او صنع صف ثاني من الكفاءات) والذي تزايد في السنوات الاخيره بدرجه هددت المبادئ العامه لاختيار الشخص المناسب في المكان المناسب علي مستوي كافة المناصب سواء الخاص منها والعام فاننا سننتهي الي وجود وزراء داخل التشكيل الوزاري الحالي هم اما من خارج مجال تخصصاتهم الاصليه (اي انهم ليسوا من التكنوقراط كما يدعون) او اساتذة جامعات (مدرسين نظريين؟) او في جهالة الثيران: وفي جميع الحالات لا احد فيهم لديه –بالطبع- اي حس سياسي من اي نوع (موظفين؟): اذ اتصور–عكس اخرين- ان هذه المرحله بالتحديد تتطلب سياسيين وليس تكنوقراط

واظن انه من المتاح دائما الاستعانه بخبراء من الخارج من الدول التي سبقتنا الي العمل الاداري والديموقراطي – ليعيدوا هيكلة المؤسسات وليدربوا الاجيال الجديده علي خبرات –واساليب- اداريه حديثه حسب معايير ديموقراطيه سليمه واصيله: فنعد بذلك كفاءات عصريه طاهره من كل عقد الماضي لتكون النواه التي تنشأ منها نهضتنا

وبدلا من "تحفيظ" كل جيل خبرات الجيل الذي سبقه بحذافيرها كما لو كانت سر عسكري او خلطة عطاره بكل ما تحمله تلك الخبرات من خطأ وصواب (وبسرعه قبل ان يختفي الجيل القديم في طيات العدم فنصبح كمن يتعمد نقل الخطأ في غلاف من الصواب): وبدلا من ان يتولي البعض ايهامنا بمعارفه وبطولاته السابقه (ونحن اعلم الناس بها) يبدأون في وضع استراتيجيه لما يجب ان يكون عليه الوضع في السنوات القليله القادمه علي مستوي جميع الوزارات. وليبدأوا في تنفيذها فورا بمشاركة هذه الاجيال.

والعلم نور: والعلم لا سن له: والعلم لا وطن له

وهكذا ان شاء الرئيس المنتخب –وحكومته- تعديل شئ ما في هذه الاستراتيجيه فله ما اراد (وسيكون عليه رقباء) ولكن ان يبدأ كل رئيس في كل مره من البدايه وكأنه صار عليه ان يتعلم كل معارفه وتجاربه من خلال عبوره السريع بقصر الرئاسه (فتكون النتيجه ان يقضي الرئيس فترة الرئاسه كلها في محاوله لصنع فتره جديده دون ان يبدل مسمار!) او كأن من سبقوه هم في الحقيقه "سكان مستوطنات" غير قانونيه سيضطرون حتما –في يوم ما- الي اخلاء مستوطناتهم: او ان تكون الاصلاحات متصلبه ذات حلول قديمه شائخه (كرجالها؟) وغير عمليه جزئيه او هامشيه غير ذات قيمه اوخجوله تظهر حسبما تكون الحاله وعلي مضض كما لو كنا بصدد ظاهره نادرة الوقوع اشبه في ندرتها بعنقاء شمطاء لا تظهر الا مرة واحده كل 1000 سنه لا لشئ الا لكي تحول كل ما تنظر اليه الي حجر او تحرق عيون الناظرين بنيران نعرات وعصبيات قديمه (كنا قد ظننا انها ماتت وانتهت):

او كما لو كانت مهمة الحكومه الانتقاليه (وانا اتحدث هنا بصوره اكثر تحديدا) هي تجميد الوضع علي ما هو عليه والتصرف كما لو كانت "عابر سبيل" او "فاعل خير" كل مهمته ارسال "مصلح اجتماعي" من هنا او هناك في كل مره تحدث فيها مصيبه في حراسة فرقة امن مركزي بمعدل جندي لكل شاكي حسب الحاله: فهذا بالضبط ما كان يحدث قبل الثوره: حين كان الشعب غير قادر علي محاسبة حكومته وحين كانت الحكومه دائما في مرحلة بنيه اساسيه للنظام –وتسديد ديون- لا تتخطاها فلا تعبأ من قريب او بعيد بنشر وعي او علم او ذوق او ثقافه (او عدل؟): فترسل قسا او شيخا (بركه؟) بدلا من الاهتداء الي حلول سياسيه لمشاكل سياسيه

 مره اخري: هذه الحكومه في حاجه حقيقيه الي الارتفاع فوق مستوي الايدولوجيات والبدء فورا بوضع استراتيجيه لنفسها و"بلو برنت" للنظام في حضور شباب الثوره والخبرات الديموقراطيه العالميه وبمشاركتهم.

هذه الحكومه في حاجه حقيقيه الي امتلاك حس علمي سياسي وليس روحاني واخلاقي ووطني فحسب: بحيث تخرج بحلول "حكيمه" وفقا لمنظور مستقبلي بمنأي قليلا عن "الدروشه" والدراويش بكل انواعهم. واكثر من ذلك: هذه الحكومه في حاجه حقيقيه الي ان تستمع الي نبض الشارع: بمعني تخرج بالحلول قبل ان يخبرها الشعب بما يريد.

فاحتفاليات ميدان التحرير وزيارات محلات الفول والفلافل وتجديد 15 يوم في 15 يوم لكل "ضيف" من "ضيوف" النظام البائد (ومحاكمات عسكريه وحبس فوري لعامة الشعب وثواره؟) والمقابلات التليفزيونيه الحميميه ذات الطابع الابوي او الرومانسي او التهديدي والقيام بزيارات خارجيه غير مفهومه علي طريقة نصف "عمره" ارخص من عمره كامله: لن تحمي الحكومه: ولن تصنع ديموقراطيه ولن تصنع سياسات.

ولابد وان اشير ان انتخابات او دستور بدون بناء هيكل اساسي لنظام ديموقراطي سليم او سياسات بدون استراتيجيه بالضبط كأن يستخدم الانسان قطعه من الاف القطع التي تدخل في تركيب اله من الالات دون ان يقدم بالضروره علي تركيب الاله او ان يضع القطعه في مكانها (هذا في حالة الاستغناء تماما عن سياسة التعيينات بطبيعة الحال).

واذا كانت هذه الحكومه لا تدرك ان الشعب المصري عاطفي بمعني "عاطفي" (اي دون ان يتنازل بالضروره عن عقله وذاكرته في سبيل عواطفه!) فهي مخطئه وستدفع حتما–من رصيدها- فاتورة فهمها الخاطئ وتضليل الرأي العام (كما دفع غيرها؟).

فكلنا نعرف انه عندما يخرج الشعب ليطلب ما يريد تتبدل الامور الي ما لا نريد!    

اريد ان اعرف ما الذي تفعله هذه الحكومه بالضبط؟ وما الذي تغير في طريقة عمل الوزراء؟ وما هي "الرؤيه السياسيه" لكل الوزارات معا ولكل وزاره علي حده وما هي قائمة الاهداف والاولويات وما هي الخطط (اذا كانت موجوده) وما هي البرامج الزمنيه لتنفيذ هذه الخطط؟ وما الذي تحقق منها؟

ولا احد يقول لي دع الحكومه تعمل او انها مازالت في حاجه الي وقت اذ اننا في مرحله دقيقه تختلف عن اي مرحله اخري عاشتها مصر بحيث ان كل يوم يمر له قيمه:

كما انه من الصعب توقع نظام سياسي واقتصادي افضل اذا كان المصريون الذين عاشوا طويلا خارج دائرة المعارف الحكوميه وخارج دائرة صنع القرار السياسي سيواصلون العيش خارجه بانتظار الديموقراطيه! اشبه باحدب نوتردام في رائعة فيكتور هيوجو او الخادم الذي ظل يعرف كل ركن من اركان الكاتدرائيه الا انه خارج تلك الجدران في عالم حبيبته يكون ضائعا غريب في عالم مجهول: ناهيك طبعا عمن عاشوا –لاجيال- خارج البلاد هاربين من الجهل والظلم والاستبداد والفقر ومع ذلك مازالوا يعاملون اليوم كما لو كانوا سائحين: او كما لو كانت مصر ملك طائفه معينه دون غيرها هي وحدها التي تعرف مصلحة البلاد!

اريد ان اعرف –ولدي الفضول الكافي- اذا ما كانت خطط هؤلاء الوزراء ستوفر لنا مثل هذه المكاتب المكيفه الفاخره التي يجلسون فيها او ستنفع المتعلم الذي يبحث عن وظيفه او الفلاح والعامل المصري البسيط كلهم علي حد سواء: اريد ان اشعر ان المساواه ليست فقط في فرص الثروه وحق الاقتراع وحق اللجوء الي القضاء ولكن ايضا في فرص الصحه والنظافه والتعليم والعمل والوعي السياسي.

اذ لا يكفي - علي سبيل المثال- ان يخرج علينا احد خفيفي الظل من المبتسمين دائما (كما لو كان محلل بورصه او مذيع نشره جويه علي وشك ان يخبرنا بمصيبه) ليخبرنا ان النمو الاقتصادي في مصر العام القادم سيكون ما بين 5-5.5 % وان التضخم ينخفض وان فرص العمل ستزيد ثم يختفي ويتركنا مع عشرات الاسئله ووجبة عشاء زادت 50-55% عن سعرها الذي اعتدنا دفعه منذ شهر مضي تقريبا

هذه الحكومه ترتكب خطأ فادح –في رأيي- اذا اعتقدت ان المطالب الفئويه ليس لها علاقه بالثوره او ان مطالب الشعب السياسيه ليس لها علاقه بمطالبه –وشكاواه- الاقتصاديه: وترتكب خطأ أفدح اذا ظنت ان الجيش سيحميها

ولي الحق في ان اكون متشككا من اي حكومه يكون دافع الامور بالنسبة لها هو الدفع نحو التهدئه وتجميد الامور من اجل امن واقتصاد فيما تروج –علي الجانب الاخر- او تسكت ازاء- نعرات عصبيه تتخذ من الوطنيه والدين ستار لها: في حين ان الاسباب التي تدعو للتفاؤل علي المستويين الامني والاقتصادي ليست في الحقيقه اكثر من مجرد وعود فلا شئ يضمن ان اي منها سيجد طريقه الي ارض الواقع قريبا: اذ يحدث ذلك في ظل غياب استراتيجيه وغموض الرؤيه السياسيه وفي ظل عدم بناء نظام يحل محل النظام الساقط كما ذكرت

ودع عنك تحقيقات الفساد التي تنشر غالبا في مانشتات عريضه حمراء كما لو كانت انجازات في حد ذاتها فهي- رغم سروري البالغ بها- وشماتتي المشروعه في ابطالها- لا تتعدي كونها "تحقيقات" قضائيه بحته لا توحي بانها ستتحول يوما ما –بالضروره- الي احكام قضائيه: والاهم: لا علاقة لها بالسياسه

اذ كيف تسهم تحقيقات القضاء وحدها في بناء ثقه -تكاد تكون منعدمه اصلا- اذا كان الهيكل العظمي الذي يمكن ان يمنع تهاوي -وانهيار- جسد الوطن العزيز مازال غائبا واذا كانت الظروف التي ساهمت في ظهور هذه العقول الاجراميه المريضه مازالت مهيأه؟ واكثر من ذلك مازال يجتمع بين يدي الحكومه –في مزرعة طره- كافة المعارف الاجراميه من اقصي اطرافها الي اقصي اطرافها فتكون النتيجه –ربما- أن يقضي المتابع حياته في شرح العلاقه التي قامت بين هذه الموجه من عمليات النهب وتلك

الشعب يريد ان يعرف كيف ان هناك – الي اليوم - اناس من النظام البائد والحزب المنحل – سواء داخل التشكيل الحكومي او خارجه- خارج دائرة المساءله والحساب وكأن الامر لا يخصهم او كأن هامان خير من فرعون! الشعب يريد ان يعرف ما هي خطة الحكومه لاسترداد الاموال المنهوبه داخليا وخارجيا –من "جميع" البلاد- وما اذا كان الامر يشكل اولويه ؟

الشعب لا يريد ديباجات علاقات عامه او كتب انجازات: الشعب لا يريد اكاذيب: الشعب يريد اجابات صادقه دون ان ترهقه الحكومه كثيرا بحديث مبتسر او تفاصيل لا طائل من ورائها:

فلا يخفي ان التعرف علي ما هو جيد –وما هو عكس ذلك- هو الذي يمنح الانسان القدره علي التمييز بين الصالح والطالح وتقدير الصالح ومن ثم خلق اعمال عظيمه مصيرها الخلود

وعلي سبيل المثال: تكاد تبدو لي رؤية وزير الخارجيه –ناهيك عن رئيس الوزراء- غامضه ومرتبكه الي حد يكاد المرء يتساءل عن المبادئ التي قامت عليها خطته وقائمة اولوياته (اذا كان هناك خطه وقائمة اولويات): فلا تفسير مقنع لسياسة التجاهل المريب تجاه دعوات امريكا والاتحاد الاوروبي مساعدتنا تخطي هذه المرحله الانتقاليه واعادة بناء دولتنا وديموقراطيتنا وتطوير اقتصادنا: والبحث عن ذلك في اماكن اخري.

ويعلم السياسي العاقل ان مبدأ استقلال القرار السياسي لا يجب ان يمنعه من اللجوء احيانا الي اصدقاء خصوصا اذا كان هناك ظروف استثنائيه تقتضي ذلك: لكن السياسي العاقل يعلم ايضا ان عليه ان يحسن اختيار الاصدقاء فيضع علي رأس قائمة اولوياته منهم من له نفس الفكر والمبادئ او الفكر الذي ينوي تطبيقه فيما يؤخر ترتيب من كان فكره مختلفا قليلا ولكن محتملا (بمعني ليس معاديا او مضادا):

فالفكر –والمبادئ- لا يقل اهميه –في رأيي- عن عوامل الجيره والدم والثقافه والعواطف والاقتصاد بل يهيمن عليها: والفكر -والمبادئ- هو الذي يصنع السياسات وليس العكس: فلا سياسه ولا اقتصاد –وبالتالي لا امن- بدون فكر: وبالفكر يتسامي الانسان علي خلافاته الدينيه والعرقيه والمذهبيه والعاطفيه والاقتصاديه والعسكريه والحقوقيه ويجد لها حلولا من نوعها وحسب اولويتها: وبالفكر والسياسه والتسامح–وليس العداء- يستقل الانسان ويصنع اصدقاء

والعلاقه بين المذاهب الفكريه -في رأيي- كالعلاقه بين النجوم والكواكب او الكواكب وبعضها البعض او العلاقه بين الشهب التي تنقل مبادئ الحياه وعناصرها الاوليه -عبر الكون- الي الكواكب المهجوره الميته وتلك الكواكب داخل  كل مجموعه من المجموعات النجميه: اما الاعداء المتصادمين فهم في الغالب كواكب انتحاريه مقفره ترفض الحياه وتكتفي بايدولوجيات غير عاقله وغير موضوعيه ومن ثم يكون حافزها الاساسي هو الاصطدام من اجل التعجيل بالموت: او كواكب ميته ذات ايدولوجيات غير عاقله وغير موضوعيه تحاول التحرش بكواكب حيه ذات مذاهب فكريه ذكيه متميزه وتفكير عام متناسق (او نجوم ذات تفكير شامل متكامل) من اجل نفس الغرض: الاصطدام والتعجيل بالهلاك

فالفكر الموضوعي الصادق هو الذي يشع ضوءا اصيلا –لا شرقي ولا غربي- نابعا من جوهر وجوده ومن ادراكه ان اثر الفكر هو الاثر الباقي دائما عبر القرون وعبر الجغرافيا وهو الذي يتخذ لنفسه موطئ قدم وموضع راسخ علي مسرح التاريخ الانساني وتاريخ الحضارات: بل تاريخ الطبيعه نفسه

ولا يخفي ان علاقات ليست مبنيه علي فكر غالبا ما تكون محاصره بالمغالطات والزيف والتشكك والاكاذيب والارتجال والتناقض والعشوائيه والتنافر: وبهذا –وبناءا علي ذلك- فالجار –او الشقيق- الذي يشاركني فكري هو اصدق اصدقائي.

الا ان هذا ليس ما يحدث -علي الارجح- في غرفة صنع القرار السياسي في وزارة الخارجيه المصريه اذ كثيرا ما يسمع المرء انباء عن علاقات وديه للغايه علي جميع المستويات –تتخللها احضان وقبلات-مع نظم لا تشارك مصر "الجديده" نفس الفكر بل غالبا ما تعاديه –وتحاربه- بوضوح تام: وفيما تبدو لي دوافع هذه العلاقات في اغلبها  اقتصادي او كيدي (بمعني اغاظة طرف علي حساب طرف او مغازلة طرف لتوليد الغيره في نفس طرف اخر) اجد خلافات تنشأ-في نفس الوقت–لاسباب غير مفهومه- مع دول قد تشارك مصر "الجديده" نفس الفكر ونفس الطموحات (بل واحيانا نفس الجغرافيا)

وفيما تلتحم الاحضان والقبلات تتصاعد الخلافات علي وتيره اقل وصف لها هو انها غير منطقيه او غير مدروسه او ناشئه عن تزمت وضيق افق له رائحة مصالح ماديه بحته او كراهيه: فتكون النتيجه بالتالي تشوه ظاهر في مفاهيم المصري البسيط وانحراف للثقافه وتحريف لبعض الحوادث التاريخيه: ولا عجب والوضع كذلك ان تكون اغلب السياسات هي في الواقع ردود افعال واغلب ردود الافعال لا تتعدي فورة حماس عاطفي جارف ما يلبث ان ينقطع او يستمر في فورانه دون وعي لينزلق بالسياسه لصالح فراغ - او اتجاه عدواني موروث - وله بيئه خصبه - ازعم انه البدايه الحقيقيه للتعصب والحماقه ومن ثم وضع مبدأ موضوعية الفكر وتناسق المبادئ –بل ومبدأ استقلال صنع القرار نفسه- في موقف دفاعي خطر غالبا ما يؤدي الي تخبط لا يعفي صاحبه من السؤال (وهي نفس سياسة الرئيس المتخلي للاسف الشديد)

والمثل الحق لذلك التخبط هو اثارة موضوع عزم مصر اقامة علاقات مع النظام البيطرياركي المعادي لمصر ولشعبه (وللديموقراطيه؟) في ايران وفي هذا الوقت بالتحديد: في نفس الوقت الذي تشجع فيه الحكومه مناخا معاديا للغرب ولاسرائيل بدعاوي اغلبها منتهية الصلاحيه وذات دوافع رجعيه قصيرة النظر تدور في دائرة القوميات القديمه والتي تصنف كل ما له علاقه باسرائيل كما لو كان معادي للقضيه الفلسطينيه (شيطان؟) وكل ما من شأنه العداء لاسرائيل –والغرب- هو البرهان الكامل والدليل الدامغ علي الاصاله والاستقلال والوطنيه والتدين: اذ انه حسب فهمهم للقوميه لا تكون القوميه قوميه الا اذا كانت "مختومه" بالعدوانيه والحماقه والتامر: ترتب الخطط وتحشد الحشود وتوحد الجهود وتأوي كل من ليس له مأوي وتتوسع في البلاد –تحت ستار من الوحده والعروبه- وان جري ذلك بمفهوم استعماري بحت -او استخدمنا لحسابه احد "المرتزقه المتحمسين" - من اجل عداء استراتيجي دائم مع قوميه –او حضاره- او ديانه- اخري كهدف اسمي! (مع تحفظي علي بعض سياسات –وتصريحات- رئيس الوزراء الاسرائيلي الحالي وتأييدي الكامل لوحدة شعبي الضفه الغربيه وقطاع غزه تحت قياده "ديموقراطيه" موحده: علي ان يكون هدف المتوحدين دوله ديموقراطيه وليس الوحده علي الطراز الكلاسيكي الكيدي – طراز عبد الناصر- وحدة الحكومات ضد الشعوب او وحدة العدوين لمعاداة عدو ثالث او وحدة "مصر امنا"!)

ويحدث هذا في الوقت الذي يبحث فيه العالم كله عن سلام عالمي وعن نهايه لعصر القوميات والبيطرياركيات الدينيه في صورة عمليات سلام جديده تضمن الحقوق او تستعيدها او تطور ما تم فعلا من عمليات سلام

وعلي الجانب الاخر (وهو الاكثر الحاحا) تتصرف الحكومه كما لو كانت  تنتهج نفس سياسة "افتح يا سمسم" في السنوات الاخيره التي غالبا ما تفضل الاقتصاد -وتعطيه اولويه مطلقه- علي المبادئ والعلاقات السياسيه والاجتماعيه طويلة المدي فتنزلق انزلاق شبه تام في حاله من حالات التدله–اشبه بعهر سياسي- في احضان دكتاتوريات عصابيه قائمه علي "العبوديه" الاقتصاديه والجنسيه مثل روسيا وغيرها:

دع عنك نظم دكتاتوريه اصبحت باصرارها علي الدكتاتوريه ومحاربتها لشعوبها -وللديموقراطيه- وانتهاكها لحقوق الانسان وحقوق الاقليات وحقوق المرأه وتوفيرها ملجأ امن للدكتاتوريين الفاسدين من ناهبي ثروات شعوبهم - وقل ما شئت عن "مصر امنا"- اشبه بخبر سيئ لن يزيد مبادئنا الا نقصانا ولن يضيف الي سياساتنا الخارجيه الا ازدواجيه (تلك المبادئ التي لم ترتفع بنا الي عنان السماء الا بفضل ثورتنا المجيده في 25 يناير الماضي: وثورة 25 يناير المجيده بالتحديد)

ولا احد يسألني عن واقع انتماء بعض هؤلاء الساده الافاضل من ملوك وامراء الشرق وبذخه الي مله او لغه او عرق او جغرافيا ولكن السؤال –في رأيي- يجب ان يوجه اليهم: 

فالدين الاسلامي دين قيم ومبادئ وفكر وسلوك قبل ان يكون دين "شهادتين" وهو "دين عالمي" فالمسلمون منتشرون –ومكرمون- في جميع انحاء العالم ولا احد يحاربهم لانهم مسلمين بما في ذلك ما يسمي ببلاد "الصليبيين" باعتراف خصومهم من "الايوبيين"! ولكن بسبب خلافات سياسيه وثقافيه: والخلط الشائع بين تلك الخلافات والدين يتيح للبعض –ومنهم مسلمين- ايقاظ نعرات طائفيه ومذهبيه وعصبيات عرقيه من الممكن ان تتسبب في تجديد عداوات تاريخيه ازعم انه لن ينتصر فيها احد في النهايه بل سيكون ضحاياها من المسلمين اكثر من غيرهم فالتعصب – والارهاب- لا يفرق في الغالب بين مسلم وغير مسلم: ومن لا ينفعه "ايمانه" فيحثه علي تحرير شعبه من مغبة الطغيان او يمنعه عن قتل ابناء شعبه بسلاح شعبه او نهب ثروات شعبه بدلا من انفاقها علي اصحابها: لا ينفعه "دينه": وبالتالي يكون اي حديث عن الانتماء المشترك لدين –اي دين- في رأيي- في هذه الحاله- غير ذي مغزي

اما الشئ المحير حقا ان ذلك يحدث في الوقت الذي تكاد تتجاهل فيه حكومتنا "المباركه" الشعوب المجاهده الكريمه التي تقوم بثورات كثورتنا (وكأن الامر يخص "شباب" الثوره وحدهم): فلا تدين البطش الجائر والعنف الغاشم الذي تمارسه مسارب الشر والطغيان يوميا ضدهم ولا تعين ابطال هذه الثورات–علنا- بقدر ما تستطيع فترفع عنهم الظلم الواقع عليهم

لابد وان من وصفونا قديما بالبدع والاستعراض وصنع "خوازيق" في صورة مسلات لتمجيد انتصاراتنا ومحو اي ذكري لانتصارات الاخرين فعلوا ذلك لاسباب مقنعه! ولكن هل للعنة الفراعنه علاقه بالبرود؟ يجوز.

واتساءل: متي سيذهب رئيس الوزراء المحترم ووزير خارجيته الي تونس ؟ (علي الاقل ليقدم الشكر للشعب التونسي الكريم علي ثورته العظيمه التي الهمتنا وعلي رعايتهم لابنائنا المصريين علي الحدود الليبيه التونسيه): متي سيذهب الي بني غازي وابيدجان ويعرض –علنا- تقديم مساعدات؟ ومتي سيقرأ الفاتحه –علنا- علي ارواح شهداء اخواننا في ليبيا والبحرين واليمن وسوريا ويحاول –بكافة الخيارات- وقف المجازر التي تحدث هناك يوميا ؟

بكلمات اخري: متي ستعتبر حكومة "مصر امنا" المحروسه نفسها "راشده" بما يكفي لتكون "مسئوله" عم يحدث حولها من متغيرات هي سبب فيها –شاءت ام ابت- وجزء من احداثها بصفتها مصر الاخت وليس الام؟ متي ستكف عن سياساتها التامريه مع طواغيت الظلم والطغيان وتتخلص من داء التكالب المسعور علي ما تحويه مغارة علي بابا من كنوز؟

متي ستطور الحكومه فكرها -وسياساتها- ليرقي الي مستوي عالمي -ومتحضر- بنفس عالمية وتحضر ثورتها التي ابهرت العالم؟ فتطور علاقات كريمه ذات منافع اقتصاديه متبادله تمضي في اتجاهين وفقا لاولويات ومبادئ وافكار سياسيه –غير عنصريه او طائفيه-  بحيث لا تفرط في قيم الشجاعه والمروءه المصريه الاصيله وتحافظ –في نفس الوقت- علي صداقات حقيقيه مع دول العالم الحر ذات طابع اخذ وعطاء؟ او حتي مجرد العطاء فنسدد جزء من ديوننا او نعين محتاج ويكون اجرنا علي الله!

متي ستشفي الحكومه من "حول" - اشبه بعاهه مستديمه- لتنتقل بعقارب بوصلة سياساتها الخارجيه الي قضايا في الجنوب والشمال والغرب لا تقل الحاحا ونبلا عن قضايا الشرق؟

فالتاريخ يعلمنا ان الجنوب والشمال والغرب كان دائما مصدر صداقه وتعاون وتجاره: ولا يخفي ان علاقات ايجابيه قويه راسخه بافريقيا –وعلي رأسها دول حوض النيل- وعلاقات ايجابيه قويه بدول البحر المتوسط كلها بدون استثناء وعلي رأسها فرنسا وتونس وليبيا –الي جوار الولايات المتحده وبريطانيا - ستسهم اليا في تقديم حلول- او خلق فرص جديده لحلول-للقضايا الاقليميه ان لم تضمن استعادة مصر دورها الاقليمي المحوري الذي لم يعرف حياه ولا ازدهار -منذ الدولة القديمه- الا وفقا لهذا النهج.

وفي رأيي هناك مسلكان فيما يتعلق بالتخلص من ادمان النفط: ان يكون لدي المرء شئ من الثروه وهذا لا يتأتي الا بالاستثمار في العلم والبحث والتنميه وخلق فرص عمل وحوافز استثمار في صورة مشروعات كبيره وصغيره وتدريب عماله ذات جداره وكفاءه تكون بمثابة الكاشف عن مناجم الثروه ناهيك عن الاتصال بمستثمرين لهم فكر ديموقراطي كأولويه اولي (لا اناس يرغبون في ان تتحول مصر الي تايلاند او روسيا): او ان يستمر المرء علي حاله من الفقر دون ان يتنازل بالضروره عن مبادئه: والمسلك الثاني اصعب واكثر تعقيدا وقد يتطلب وقتا وصبرا وهو –لذلك- اقل شيوعا ولكنه قد يؤدي - في النهايه- اذا ما تنازل الانسان قليلا –بشجاعه وثقه في النفس- عن عقده - الي المسلك الأول ...

والحقيقه ان هذا مجرد مثل من امثله عده لحالة التخبط الفكري والسياسي التي تعاني منها الحكومه: وازعم اننا بصدد مؤشرات لبدايات تمضي بنا –بقصد او بدون قصد- في اتجاه "خطير" معاكس لروح الثوره وهذا مفهوم من مفاهيم الثوره المضاده: اذ ليس بالضروره ان نستيقظ بين ليلة وضحاها لنجد الثوره المضاده وقد استيقظت قبلنا واستحوذت علي دفة الامور لصالح فرد او ايدولوجيه او جماعه ولكن قد تكون الثوره المضاده في استمرار القديم ومقاومة التغيير:

وقد تكون الثوره المضاده في اجندة التغيير نفسها بحيث يتم توجيه دفة الامور في اتجاه ايدولوجيه او انتخابات معينه قبل ايجاد القواعد –والشروط- والادوات التي تضمن وجود –واستمرار- نظام ديموقراطي اصيل: او تكون في كيفية توجيه الدفه نحو "تصحيح" مثلا بدلا من التغيير او الدفع بتغيير جزئي نحو اجزاء وتجاهل اجزاء اخري وما يتبع ذلك عادة من خلق حاله من الدوران حول النفس (واسالة لعاب؟) لكل من حلم (وحرم؟) طويلا بالرئاسه: في انتظار القادم المجهول الذي سيأتي بالديموقراطيه والدستور بينما الحقيقه ان الديموقراطيه كنظام وكثقافه وكنظريه سياسيه واجتماعيه مازالت غائبه ولا شئ يفرض علي القادم المجهول ارسائها: فكما شرحت: الديموقراطيه ليست انتخابات او دستور (فكلنا يعرف ماذا كان يحدث للانتخابات والدساتير السابقه)

والسؤال هنا: اذا كان في النيه فعلا ارساء ديموقراطيه جاده حقيقيه فلماذا لا نبدأ الان؟ لماذا يجب ان ننتظر البرلمان والرئيس القادم؟ ولماذا يأبي البعض دور البطوله وشرف السبق التاريخي العظيم فيسلم راية الديموقراطيه لرئيس وبرلمان قادم يعلم الله كيف سيكون؟! o-0

وهكذا تأخذ الثوره المضاده –شئنا او ابينا- بقصد او بدون قصد- طريقها الي النضج في هدوء ثم متي ظهرت فانه لا يشعر بها الانسان في خضم انشغاله بتفاصيل معاركه اليوميه وبطولاته التافهه وابطاله المزيفين فيتفنن الانسان في تبريرها وتفسيرها فيما تخفت مبادئ الثوره واهدافها الاصيله (تغيير النظام؟ الديموقراطيه؟ السلام العالمي؟) فتذهب في طريقها في سكون وتنزوي دون ان يحفل بها –او يعمل من اجلها- احد:

وهذا النوع الخبيث من الثورات المضاده –ان كان مقصودا- هو اخطر انواعها ولا يجيده سوي مجموعه من "البهلوانات" المتمرسين علي الفساد والاستبداد والرذيله: وهؤلاء ازعم انهم مازالوا موجودين وطلقاء