الجمعة، 12 أكتوبر 2012

الخطاب الديني: هل حان الوقت لتطويره بنفس الجرأه والشجاعه التي ثارت بها الشعوب؟ 1)

اينما ذهبت وجدت اناس يتحدثون عن الشرع والدين والرموز وهم جميعا يتحدثون عن نفس الشئ تقريبا: حاله معديه لردع انسان ما قبل ان يفند بعض ما قد يروق لهم مما هو موروث من اخطاء فظيعه وقع فيها الاقدمون او قبل ان يقبل-علي الجانب الاخر- بعض ما هو عصري من قيم وقوانين

في الوقت الذي صارت فيه مبادئ الانسان الاصليه-او ما نجا منها علي الاقل- والتي لا يصح للانسان ان ينتمي الي عقيدته بغيرها-جائز مخالفتها في كل ميادين السلوك العام: في السياسه والقانون وفي العلاقات الاجتماعيه والانسانيه

كما لو ان مشكلة القيم والقوانين العصريه هي انها "علمانيه" او وضعيه لا تحمل الاسم او الشكل التقليدي (ومن ثم لا تستحق الاحترام): وليس فيما تقدمه تلك القيم والقوانين من حلول (وان قبل اصحاب هذا الرأي-في نفس الوقت-وبغرابه شديده-جل ما تنتجه الحضاره من تطبيقات علميه "وضعيه" وتالفوا معها بسهوله شديده وبلا ادني حرج علي طريقة "ارفض الود دون ان اقطع اواصر المحبه")

عندما يتابع الانسان مثل هذه الاراء-وردود الافعال-قد يتساءل بدهشه: وما هو المغزي اذن؟ وهل مهمة الدين هي ان يعود بنا قرون عديده الي الوراء في محاوله-ربما-للتغلب علي عنصري الزمان والمكان (باختزالهما؟) ومن ثم يصبح الدين صالح لكل مكان وزمان؟!

وهل مهمة العلم هي الوصول الي سدرة اليقين؟ واذا كان التجريبي هو في الغالب تفسير عصري لما كان يوما حدسي: واذا كان لا سبيل الي ادراك-او فهم-ايمان ما الا من خلال معطيات انسانيه بحته كاللغه مثلا (فالنصوص السماويه تنزلت كلها وقرأت وكتبت في هيئة صور ومفردات بشريه ووفقا لما يمكن ان يدركه الانسان من عواطف ومفاهيم): فما هو العلماني وما هو الديني؟

وكيف يمكن لاي احد-والوضع كذلك-ان يتحدث عن مصطلحات مثل التحضر والتغيير والتنميه والتقدم والتطوير والحداثه والعصرنه والعولمه او ان يجعل منها ماده حاضره ونتيجه-بل وضروره ملحه-كيما ينتقل من حال الي حال ومن عصر الي عصر اذا كنا سنظل دوما منقسمين ازاء تفسير كل واحد منا الخاص-الشخصي جدا-لكل مصطلح من هذه المصطلحات ودون ان نطلع علي المصادر العلميه التي افرزتها (كما لو كنا ندور في دوامه او حلقه مفرغه) ؟

انه نفس الجدل القديم اذن ضد كل الاراء التي حاولت ان تقيم جسورا بين العلم والايمان: الوضعي والشرعي: الدنيا والاخره: الحريه والمسئوليه

ويلوح لي ان اطروحة "اما مادي واما سماوي" تلك فاسده ولا يبدو ان هناك فائده كبيره من ورائها سواء في عمومياتها او تفاصيلها: فالي جوار انها تصرف انتباه الانسان عن حلقة الاتصال الموجوده فعلا -ومنذ الازل-بين الطبيعه والانسان-الخالق والمخلوق- فانها تحرمه-في نفس الوقت-وهذا هو مكمن الخطوره-من اليقظه المطلوبه ازاء معركته الاصليه مع الجهل والطغيان والفرديه والشر والقبح والجريمه والاسراف

ومع ذلك يبدو ان عندي قدره علي ان اخمن وجه الخطأ: والخطأ هو ان اصحاب الفضل الاول في ظهور هذا الجدل-ولهم بالتأكيد مصالح سياسيه واقتصاديه في استمراره- بنوا منطقهم علي ان الدين بصفته مقدس يجب ان يكون بالضروره في تضاد مع ما هو مادي او منطقي او حسي او تجريبي

ويجب ان اوضح هنا ان اختيارات الانسان القديم نفسها تفاوتت دوما–ومنذ البدايه–وبراديكاليه شديده-ما بين توحيد الالهه (والطوائف والقوميات) في جانب او تعدد وتنوع الالهه (ومن ثم صدام وصراع لامتناهي) في جانب اخر: وقد تم ذلك في جميع الاحوال من خلال ايدولوجيتين رئيسيتين كانتا تقودان العالم القديم هما: الصوفيه والواقعيه

ما بين اناس عاشوا جل حياتهم في زهد وتبسط شبه دائمين هائمين في الصحاري الشاسعه محتضنين العراء بكل خوائه كما يقال في حريه روحيه لا شك فيها غارقين في غمار تأملات ميتافيزيقيه سرمديه حول علة الوجود ومظاهر الحياه الغائبه (مثل عالم الروح او برزخ الموتي ومملكة الحساب الخ) بما اكسب اصحاب هذا الرأي من العمق وشمول الرؤيه اضافت الي الاعجاب بهم اعجابا والي كراماتهم كرامه كانوا جديرين بها اذ لم يختلقوها ولم يختزلوها بل اودعوا فيها اقوالهم وافعالهم ومثلهم العليا: غير ان هذه الروح العاليه ما لبثت ان ابتعدت بالتابعين عن الجوهر والمعقول فاتجهوا دون وعي الي مناقشات فرعيه لا حصر لها منها ما تطرق الي الغريب الشاذ فوقعوا في حبائل انفصال شبه كامل-ولو ظاهريا علي الاقل-عن الحضاره والحواس الانسانيه-صنيعة الخالق- بحجة التطهر والبحث عن الحقيقه (فالتجارب تؤول الي شهوه والشهوه ممنوعه الا في فردوس بعد الموت يعوضون فيه ما فاتهم او يتحولون فيه الي ارواح شفافه كحل نهائي يتخلصون به من "غواية" الجسد والي الابد) وهكذا بدلا من ان يترجموا تلك الروح الي فوائد انسانيه واجتماعيه معينه نعينهم علي صنع حضاره دفنوها في كهوف الرهبنه والكبت والتحفظ والفتور والتواكل والعزله السلبيه (ولاحقا كهوف التطرف والارهاب والتسلط السادي الخالي من اية شفقه)

ثم تلك النظره الماديه المقبله علي الحياه-التي اشتهر بها الاغريق والرومان-والتي تميل الي تقديس الانسان: وفيما يلوحون مدركين حتمية الموت وعدم استطاعة الانسان الهروب منه تتجلي الحياه–مع ذلك- متدفقه في قلوبهم وعقولهم من خلال اعتقاد راسخ بان هدف الحياه هو غلبة الماده علي الروح وانه في الامكان الوصول الي الكمال دون الالتجاء الي اية اجراءات من شأنها ان تعطل اشباع الحواس او الادراك العقلي او تقلص حقوقه وحرياته واستقلاله الفردي: فالانسان-ابن الطبيعه-انما فطر-في رأيهم-من اجل ان يعيش اطوار لا حصر لها من صيانة الحضاره الانسانيه وتطويرها وانه في سبيل ذلك لابد له من ان يأخذ من ضروب الصحة والسعاده ماخذها وبلا تردد وفقا للحقيقه القائله بأن سر الحياه ينبع اساسا من احتفاظ الانسان بحقه في البقاء وبالتالي فعل كل ما يمكن فعله من اجل تأجيل الموت ومواصلة البقاء

ونحن اذ نتحدث عن تلك الازمنه فنحن نتحدث عن مجتمعات-اذا جاز ان نسميها مجتمعات-لاتزال الحضاره الانسانيه فيها في بدايتها البكر تئن تحت عبء ثقيل من تفسخات في الانسجه الاجتماعيه والنظم السياسيه والاقتصاديه والقانونيه

فحتي في ظل حضارات عظيمه وقاده وفلاسفه وانبياء اجلاء عمت الانسانيه–في العالم كله- مظاهر فوضي وعشوائيه مع كل ما انتجته من مظاهر تعصب وعداوات بحيث لم تخل تلك الازمنه يوما من اعمال اغاره وعنف من مواجهات يوميه محدوده بين الافراد والقبائل وبعضهم البعض او مع قوي الطبيعه ومخلوقاتها البريه اشبه بمشاحنات لا تخلو طبعا من دوافع ثأر وابادة وسلب ونهب وهدم وحرق وتمثيل بالجثث: الي حروب غزو ضاريه لا هوادة فيها بين الممالك والدول ارهق الانسان بها نفسه قرون طويله اذ كانت تستثار–وتطول- لاتفه الاسباب

لا عجب اذن ان تشهد تلك العصور ايضا ممارسات كهانه وسحر وتبرج واباحيه ووحشيه ساديه كانت بالفعل مثيره للقلق ولا يمكن تفسيرها الا في الاطار التاريخي او السيكلوجي او البيولوجي الذي يدرس تطور نوع الانسان (ولعل في الرسوم التي تركوها علي جدران المقابر والمعابد خير شاهد كيف تغلغلت هذه الذهنيه واثرت في حضارة تلك الايام: اذ حفلت تلك الرسوم بمشاهد قتل وتعذيب وحفلات سكر وعربده واسراف في الملذات اشبه بسعار بحيث اقيمت تجارب لا يتحرج من القيام بها اليوم ادني فصائل الحيوان ومن دون شعور بخجل او اشمئزاز! والتبرج-بالمناسبه-هو العري جزئي او كامل: وبذلك فتبرج الجاهليه الاولي–حسب القران-هو العري السافر علي نحو فاضح: وهو ايضا الفحشاء فالفاحشه هي كل ما يفعله الانسان من اثم علي مرأي ومسمع من الناس: اما الكهانه فهو الوهم اي قول لا يعلم الانسان حقيقة كذبه او صدقه ورغم ذلك يتحدث به كما لو كان نبوءه او حقيقه واقعه كأن يقول الانسان مثلا "فلان سيكسب الانتخابات" او "الانتخابات ستصبح نزيهه" وبصوره قاطعه دون ان يستند في قوله هذا الي دليل او علامه او مؤشر او شواهد او نسبه مئويه  او شهادة شهود: اما السحر فهو الخداع اي استغلال غفلة الانسان بشئ خيالي او غير حقيقي-من صنعه-من اجل تحقيق مكسب سياسي او اقتصادي ودون مراعاه لاية اعتبارات اخلاقيه: وجدير بالذكر انه رغم كل ما اكتنف تلك المجتمعات البدائيه من ممارسات-ومظاهر-غير محتشمه الا انها عرفت مستويات من العفه فكانت بعض القبائل تضع ضوابط معروفه–اجتماعيا وقانونيا-لمفاهيم العلاقات والمخالفات الجنسيه وعلي رأسها الزني والذي كان عند البعض مساويا لمفهوم الفجور والفواحش فيما ارتبط عند البعض الاخر–وكيما تصبح المخالفه مكتمله-بخيانه جنسيه)

وتتضح اكثر ملامح شخصية الانسان القديم اذا ما اعدنا النظر اليه علي ضوء العامل الديموغرافي والبيئه المحيطه به والتي نشأ فيها

اذ كان السواد الاعظم من البشر لايزالون يعيشون–وبصوره شبه دائمه- حياة بداوه قاسيه متنقلين في احراش الغابات المطيره وبراري الصحاري الشاسعه من واحه-او غابة-الي اخري ومعهم ما خف وزنه وغلا ثمنه من امتعتهم وحيواناتهم

وفي مصر فنحن نتحدث عن مساحات هائله من السافانا وحقول المزروعات بطول النهر كانت تأوي فيما تأوي حيوانات مفترسه تلتمس الغذاء كالاسود والنمور والدببه والتماسيح والنسور والافاعي اللداغه: كما نتحدث عن نهر غاضب هائج يفيض بالامواج اشبه ببحر: وعن عدد من السكان لا يزيد باي حال عن عدد سكان محافظة من المحافظات الحاليه يعيشون في اكواخ او بيوت مصنوعه من الطين النئ والقش ويتغذون علي ما يربونه او يصطادونه من حيوانات وطيور واسماك (وبشر؟) وما يجمعونه من درنات وثمار وخضروات (وحشرات؟): فيما لايزالون يسترون عوراتهم-اذا ما ستروها-باخف وابسط انواع المنسوجات او بما تيسره لهم الطبيعه من الياف وجلود واوراق واوبار

ونتحدث عن قري ومدن موزعه بمساحة الوادي كله بشماله وجنوبه لا يتجاوز عددها العشرات: فيما تشرأب طيبه العظيمه Thebes وسط هذا بكل عمائرها بحجم قريه من قري اليوم تقريبا لا تتعدي مساحتها ربع مساحة مدينة الاقصر حاليا!

وبالنسبه لسكان المدن فقد كانوا-علي قلتهم-اساري عالم مغلق محدود محاط باسوار منيعه عاليه وحراس اشداء مسلحين لا يتركون شارده ووارده الا احصوها فهم لا يحرسون السكان الامنين بالداخل وانما رغبات الحاكم المختال المتوحش واسرته وحاشيته من زمرة المنتفعين او اولئك النبلاء من ذوي المكانه المرموقه والمال الوفير وسدنتهم من السحره والكهنه وترزية القوانين والوزراء والقاده العسكريين وهؤلاء كان حضورهم-بالنسبه للعامه-طاغيا: ولا غرابه فقد استقرت العلاقه بين القصر والعامه وطوال القرون القديمه في شكل علاقة ساده وعبيد او طبقة "غوغاء" خدم وطبقة نخبه مخدومه مختاره معصومه وارثه مصونه ومحصنه من كل نقد ومحاسبه باقيه في السلطه دائما وابدا وبصوره رسميه (اي من خلال شرائع وسياسات القوه الغاشمه) في وقت ظل فيه عالم القصر منفصل تماما عن حياة الناس اشبه "بفردوس حرام" ممنوع الاقتراب منه او تصوره: فتصور هذا العالم كان قادر في حد ذاته علي ابتلاع احلام الانسان في عالم من الخيال بل والخزعبلات المروعه غير مضمونة العواقب خاصة اذا ما تجاوزت الحد المسموح! فاصبح المشهد-في غياب اي اثر لطبقه وسطي متعلمه اشبه بصوره ابيض واسود ساكنه جامده اذ كان من شبه المستحيل علي الانسان التفاعل مع طبقات وقبائل وشعوب كانت مصنفه تقليديا من الاعداء او ارقي-او ادني-منه في السلم الاجتماعي (ويجب ان اوضح هنا ان الدول (او الامبراطوريات) القديمه كانت عادة ما تتكون من مجموعه من الممالك المتحالفه او المنضمه قسرا الي حلف تدور في فلكه يحميها من الدول الاخري فقد كانت بعض هذه الممالك-ورغم كل الانجازات العسكريه والحضاريه التي كتبت عنها-لا يزيد حجمها–في واقع الامر-سواء من حيث المساحة او عدد السكان-عن حجم المدينه او الاقطاعيه التي نشأت فيها)

اذ كان التعليم-في ذلك الوقت-شأنه في ذلك شأن الحرف والفنون والصناعات-لا يغادر اروقه المعابد والمدارس اللاهوتيه: ومن ثم كان التعليم مدموغا بنزعه طائفيه فيما وقع علي عاتق التلاميذ العبئ الاكبر اذ فرض عليهم الكهنه مقابل الدروس مرتبات يتقاضونها مباشرة منهم بمقتضي اتفاقات فرديه الي جانب طبعا العطايا والقرابين وما يشبه الوصايه المطلقه ليس داخل فصول الدرس فحسب وانما كل ما يخص شئون حياتهم اليوميه من مأكل وملبس ومسكن وتزاوج وتناسل واخراج ونظافه ورعايه صحيه وسبل حمايه وكسب رزق وخلاص اخروي (في الوقت الذي بدت فيه ديناميات "مشروعهم" من اجل فردوس وسعاده نهائيه قلقه ومتناقضه اذ صب الخطاب الديني كله-وبوضوح--في دوامة من التفاصيل الجدليه الفرعيه التي غلب عليها الطابع الطقسي الاستعراضي بل الوهمي احيانا وفي اطار من الهيبه والقداسه الاسطوريه التي اضفاها الكهنه علي انفسهم علي حساب الافكار والمثل والمشاعر النبيله الراقيه (طريق الروح؟): فهم خلفاء الاله علي الارض وحلقة الاتصال الوحيده وبين الناس والالهه والقصر وبين التربيه والعلم والقانون واي فهم مرتبط بهم وحسب تفسيرهم الخاص لنبوءات الانبياء: وبذلك فهم ايضا الذين يعطون ويمنعون ما يشاءون لمن يشاءون ووفقا لتسلسل كل منهم الاكريليكي: حتي اولئك الذين تفقهوا في العلم من النبلاء كانوا في واقع الامر مجبولين علي ما يبيحه ويحرمه الكهنه قانعين ملبين نزواتهم (الماديه؟) متفننين في الاطراء عليهم وكلما مالئتهم الفرصه: فما من شئ يتم بغير مباركتة الكهنه ولا شئ يذهب ابعد من القالب الذي تميل اليه عقولهم (وهواجسهم؟) والي ان يجبرهم احد علي غير ذلك!)

فكان الكاهن (المعلم) ينتقي تلاميذه من بين ابناء ملته دون غيرهم وبشرط ان يكونوا من الشبان الاصحاء الاقوياء في اجناسهم-حسب وصفهم-ممن هم قادرين علي حماية "الاسرار" الخطيره المكلفين بدراستها بالضبط كما يتخير القائد العسكري جنوده (وهي مقارنه قد تداني الحقيقه اذ كان التلاميذ يتلقون-في فصولهم الدراسيه-شئ من التدريب البدني القتالي والعسكري كذلك فكثيرا ما كان يتحول الاختلاف قديما الي استبعاد مناطق الاتفاق تماما والانزلاق الي حزازات مزمنه بين الطلبه حيث تختلط اوجه النزاع ليظهر الانسان من خلالها اكثر دوافعه قبحا وكراهيه وتشاؤما وعدوانيه تلك الدوافع التي كانت تستمر بينهم-بدافع الثأر طبعا-قلقه مضطربه او غير وديه الي ما شاء الله: وربما هذا هو ما جعل الانسان غير قادر علي ان يحقق اي انسجام مباشر مع علوم-وفنون-العقل والنفس فكان اكثر ميلا-بطبيعته-الي دراسة علوم اللغه والكلام والبلاغه وفنون الشعر والخطابه فقد كان اللسان قديما–كسائر عضلات الجسد-اشبه بسلاح! والطريف ان هذا النوع من التحيز الانتقائي الي ابناء المله لم يكن يصيب التلاميذ وحدهم وانما جميع من كانوا يخالطون الكهنه: وعلي رأس هؤلاء الاطباء الذين كانوا يعالجونهم بطبيعة الحال: وهناك اثار تبرز القسم الذي فرضوه علي الاطباء اذ كانوا يجعلونهم يقسمون قسما لاهوتيا برعاية مرضاهم من ابناء طائفتهم خير رعايه والحفاظ علي سرية حالاتهم عدا الاغيار من ابناء الملل الاخري فهم غير ملزمين بان يفعلوا معهم مثل ذلك حسب القسم! وبالنسبة لقسم التلاميذ فكان يقضي بالتكتم علي كل ما يحصلونه من علم وحجبه عن الاخرين ومنذ اللحظة الاولي التي يلتحقون فيها بالمدرسه: فكانت اطروحات مثل نشر العلوم او التحول من عقيده الي اخري او الاقتران بابناء عقيده مغايره بمثابة تهم خطيره للغايه تلقي الكثير من الاستنكار وبشكل يصعب معه علي الانسان العاقل الحر المسالم المتمدن ان يفكر في شئ اهم من النجاه بنفسه وسمعته: فتلك هي الخيانه العظمي-والحرام الاكبر–والكفر البين-كما يراها الاقدمون واشد ما يقلقهم لان هذا-ببساطه-يلوح وكأن الانسان قد تخلي عن شرفه وملته وقوميته)

فكانت النتيجه ان فقد التعليم حريته ونزاهته وتعطل نمو العلوم في الوقت الذي تحولت فيه العلوم الي اكثر من مجرد فروض ونظريات علميه تحتمل الخطأ والصواب او تخضع لقوانين الزمان والمكان: وهكذا ظهرت العلوم الحرام غير المطروحه للنقاش اصلا

بعباره اخري: لم يكن تعلم العلوم قديما-في اي مكان-سوي جزء من المذهب-او المنهج-الديني المقصور بدوره علي الاتباع والمريدين: في وقت كان لكل عرق-او قبيله-دينه-والهه-الخاص الذي ظهر فيه

وهو ما يجرنا-وبصوره شبه اليه-الي الخامه السيكلوجيه لذلك الانسان: فهو بشكل عام انسان عفوي بسيط شجاع فصيح اللسان متحدث جيد الي حد الثرثره فيما ازدانت مشاعره بدرجه عاليه من الاستقرار النفسي والوجداني وهو ما جعله نقيا واضحا امام غرائزه وحقيقتة: وليس غريبا فقد كان الانسان لا يزال اقرب ما يكون من الطبيعه وحوادثها وعللها الاولي: ولكن تلك الروح الوثابه العاليه المنزهه التي سادته-مبعث فخره وشرفه ومكانته-ملأته-علي الجانب الاخر-بكبرياء وتعالي لا حدود لهما فاق كثيرا كل ما اقتبسه منه الانسان الحديث (عدا المجرمين الفاشيين الحاليين منهم او السابقين ممن ظهروا مع منتصف القرن العشرين)

فهو يبدو لاول وهله كانسان مسالم وديع محب للناس لا ضرر منه الا انه–في واقع الامر-انسان خطير الي اقصي حد اشبه باصحاب الوسواس السوداوي من الصعب مجاورته او التحاور السلمي معه ناهيك عن مصادقته او مهادنته: فهو يهوي النميمه ولا يحتمل الشتيمه يمشي بخيلاء كما لو كان يمشي علي اطراف اصابعه واذا ما غضب-وهو سلوك شائع- فهو في غضبه عجول يغلي الغضب في اعماقه بمشاعر حاره كبركان ينتظر الانفجار وان استحالت الامور الي تدمير نفسه-والمحيطين به-فهو يفعل ذلك بلا تردد وبكل سرور: فهو الراهب في زنزانة اعجابه بنفسه-واعجاب الناس به-كما يقال- فلا لون ولا رائحه ولا صوت يخالف تفسيره الخاص للحياه وبحيث يجب ان يمضي كل شئ في اتجاه واحد من اعلي الي اسفل-كانبوب-فمخالفته-وباي قدر-هي الخيانه او الكفر بعينه ودون ان تتسرب منه قطره!

بما يوحي ان التاريخ غير المكتوب كان لا يقل ظلاما وسوداويه وان الانسان الاول لابد وانه احتاج الي وقت طويل جدا-ربما عشرات الالاف من السنين-حتي خطا اولي خطواته خارج ذهنية الغاب ومفادها ان حياة الانسان مركزها ذاته: فالمقدره التي تحلي بها الانسان القديم ودفعته الي فرض ارادته او الخضوع لارادة الاخرين (في انتظار فرصة جديده لفرض ارادته؟) تعتبر الاساس الذي يمكن ان نفهم به سيكلوجيتة

انه لا يعرف علي وجه التحديد كيف يحلل المعلومات المعقده ويفسر المفاهيم العميقه ويربط بين الاحداث–و الشخصيات-منطقيا او سيكلوجيا انه واجب ثقيل عليه ان يبدو وكأنه فهم شيئا او "احس" باحساس وجداني تجاه انسان او اجار مظلوم او اشفق علي مسكين او شارك عليل او فقير او محتاج او استمع الي شكوي: انه واجب ثقيل عليه ان يحكم بالعدل او يتحمل مسئولية اختياراته: لانه في هذه الحاله يتعين عليه ان يتوقف-ساعه واحده علي الاقل- ضاربا في رحاب الفكر-ليخطو بنفسه خارج عالمه (ذاته؟) ليدرك الاشياء في ذواتها الاصيله فلا يراها اعراضا والفاظا واشكالا وانما معان: بل واكثر من ذلك سوف يصبح مجبرا علي ان يتعلم كيف يفسر الطبيعه والوجود الانساني كله وكيف نشأ وكيف يمكن للانسان ان يعبر عن نفسه في حقيقته الكامله

ورغم انه لم يكن هناك طائرات ولا اقمار صناعيه لم يكن مستحيلا بالكامل بالنسبه للانسان القديم ان يحلق الي فضاء ارحب من الفكر والمشاعر الي اجواء حيث يستطيع ان يتأمل نفحات الحكمه المتراميه فوق قمم الجبال ووراء زخات الامطار وفي عيون الاطفال وابتسامات الامهات فيدرك الحكمه الازليه والمغزي العريض وراء تواتر الحضارات وتماوج المجتمعات والثقافات وتواصلها واختلاطها حيث الفهم والسكينه والسلام (والذي قد لا يجده الانسان الا في ذلك القران الازلي بين الفلسفه والفن)

لقد كان منشغل تماما فيما يبدو والي اقصي حد عن ان تدرك معني لكلمات مثل الصداقه والتحرر-وباراده مستقله-من معميات–واغلال-رغباته وحاجاته الماديه فيتسامي علي ذاته وعلي واقعه

ان مجرد طرح مثل هذه المعاني علي مسامعه اشبه بنكته فهو لا يدرك الحريه ان لم يصاحبها فوضي او تحرر من كل شئ: الدين والقانون والاخلاق الخ وهو لا ينظر الي التعقل والصداقه الا بصفتها اخطاء او ظواهر انثويه او علامه علي انقياد الانسان وتبعيته وهو لا يحب طبعا ان يبدو تابعا او متشككا (وان كان كذلك) ان ذلك يشعره بالضعف بل والانهزاميه:

والمعضله هنا-من وجهة نظره-هي انه اذا ما وافق شخص اخر اقوي منه فتلك علامة اذعان واذا ما توافق مع شخص اضعف منه فان ذلك يفقده ميزة التفوق التي يسعي اليها! وهو منطق كثيرا ما يصور لصاحبه-وبشكل شبه دائم-ان واجبه هو ان يجبر شخصا علي رأي او مشاعر او سلوك وبحيث لا يعطله ذلك-ولو قليلا-عن اثارة انتباه الاناث وبث الخصوبه في محيطه او ان ينتقص من رضاه عن نفسه ورغبته الدفينه في تعذيب الاخرين (وسفك الدماء؟) وعلي اشد ما يكون (فالعنف بالنسبة اليه ظاهره طبيعيه لا تختلف كثيرا عن عمليات بلع وهضم الطعام والتخلص من الفضلات تلك التي تحدث غالبا بعد كل اكله)

وليس غريبا-والوضع كذلك-ان يربط الانسان القديم الذكوره بالطيش فيشعر بانه يجب عليه كيما يلوح "ذكرا" قويا وفعالا ان تكون لديه طريقه في التعامل مع الاخرين تتميز دائما بالشده والصرامه والاقصاء (كما لو انه من الصعب البت في مسألة الذكوره هذه في غير وجوده لما اعتراها من تبديل او ضياع النسخه الاصليه!)

فهو لا يؤمن اساسا بخيارات: كما انه غير مؤهل لاصدار احكام (علي الرغم من انه قد لا يتردد لحظه في توزيع الاحكام- يمنة ويسره- وسواء دعي الي ذلك او لم يدع- ودون تقدير لعواقب احكامه اذ كثيرا-والوضع كذلك-ما يتحيز لظالم لمجرد ان هذا الظالم قوي بما يكفي لفرض ارادته)

وهكذا وبحجة هذا الاستخدام المهين لذكورته يعيش فيما يشبه حالة التوجس او الاستنفار المتواصل للدفاع عن حق او شرف او رمز ديني او صلة رحم ليصبح العالم بالنسبة اليه ليس مكانا لصنع صداقات وانما مكان للتناظر والتفاخر والتبادل التجاري: التفوق او الدونيه: الانتصار او الانهزام

فهل كان الانسان يتزوج مره واحده-عن حب-ماضيا مع شريكة حياته في دروب الحياه علي عظام قدميهما-كما يقال- يبنيان عشهما الصغير-حجر فوق حجر-او بمساعدة الاهل-لينجبان الاطفال ويعتنيان بتربيتهم وتعليمهم والانفاق عليهم علي نحو ملائم حتي يطمئنان الي انهم اصبحوا قادرين علي فعل ذلك بانفسهم؟ ام كان يخوض الحياه ضاربا في دروب المتعه يفعل كل ما يحلو له حتي اذا ما امتلأ الي حد الشبع اذا به يتوب توبة نصوح فيطيل لحيته ويمتطي مسبحته ليستثمر ما نهبه من اموال –قبل التوبه طبعا- في الزواج (بما لا يتجاوز اربعه في كل مره ليحافظ ربما علي "المنظومه" كامله وبحيث كلما نقصت-لسبب او لاخر-زادها مما يجعل المشكله اكثر تركيزا من وجهة نظره كما لو كان بصدد سباق للخيل او لعبة من العاب الورق) ومن ثم انجاب مالا حصر له من الاطفال ليقوم الاطفال فيما بعد علي خدمته والي اخر يوم في عمره ربما ردا للجميل (مذكرا اياهم وهو علي فراش الموت انهم بخدمته بلغوا اعلي المراتب وحققوا اقصي الاهداف وانه كان يتمني ان يعيش عدد سنين اطول كيما يحصلوا علي عدد اكبر من الحسنات!) مبشرا بامكانية ظهور حل اجتماعي مع كل هذا؟!

الاجابه -في الحالتين-هي لا: لا هذا ولا ذاك: فالمفاجأه هي ان الزواج نفسه لم يكن معروفا في الازمنه القديمه اذ كان المتبع ان ينجذب الرجل الي امرأه (او العكس) وفقا لظروف متروكه في مجملها للمصادفات وعوامل الانتخاب الطبيعي حتي اذا ما قررا مواصلة حياتيهما معا اذا بهما يتعاهدان علي ان يكونا "صاحبين" يتقاسمان ماهو متاح من الرزق (فالمواثيق الشفهيه-في زمن كان كل شئ فيه شفهيا تقريبا-كانت تمثل قيمه ما بالنسبة للانسان فكان الرجل-او المرأه- الحر قليلا ما يكذب او يخرق عهدا اذ كان صدقه ووفاءه بالعهد بمثابة كلمة السر والتعبير الحي عن شرفه وكرامته واصالته تلك الاشياء التي كانت تميزه فيما يبدو عن "العبيد")

فاذا ما خرج الرجل وحيدا الي حرب او تجاره ولم يعد (كأن يقتل مثلا في الطريق او يسقط في الاسر وكان هذا امرا شائعا جدا انذاك فكان الرجل يخرج صباحا سيد نفسه مشغولا بالبحث عن قوت يومه فاذا به يمسي-اذا ما كتب له عمر-عبدا معروضا في سوق النخاسه) اصبح علي المرأه ان ترعي شئونها بنفسها وتربي اطفالها بين افراد قبيلتها وفي حمايتهم ومتي بلغ الطفل سن الرشد يجتمع الاهل والمقربين ويقررون نسبه وكفالته: والطريف هنا انهم في احوال كثيره كانوا يعجزون عن التعرف الي والد الطفل فينسبونه الي امه او الي اكثر الرجال به شبها وبلا ادني حرج!

ولقد عرف المصري القديم استبدادا وفسادا من جانب رجال القصر والكهنه كان مضربا للامثال: كما عرف منافسه محتدمه وغير عاديه بين الالهه فاصبح الوادي-في وقت من الاوقات-يعج بكم هائل من الالهه والديانات والفرق المذهبيه والقوميات المتعدده وفي ظل وجود هوه رهيبه بين طبقتي الاثرياء والعامه الفقراء وما اثاره ذلك من عوامل حقد وحسد وبالتالي مظالم مريره لا حصر لها اتخذت موقعا ثابتا لها علي صدر المشهد السياسي في مصر ولالاف السنين

ولعل هذا هو ما اثار في ذهن اخن-اتون–ولاول مره-افكار مثل التوحيد والحق والعدل (ماعث) والفن التعبيري الصادق فنراه يخطو خطوة الي الامام لم يسبقه اليها مصري فتجاوز بذلك التوحيد الصارم بين الالهه الي نبذ الالهه بالكامل واستبدالها بالهه الواحد: ولذلك فلا غرابه اذا ما اعتبر بعض المؤرخين اخن-اتون بمثابة عبقريه زمانه فصنفوا فترة حكمه والتي لم تتجاوز العقدين-وبكل ما شهدته من انتصارات وانكسارات-كما لو كانت ميلاد مبكر لعصر يسبق العصر الملائم لظهوره او كما لو كانت فترة انتقاليه الي عهد جديد (وينبغي ان اوضح ان فكرة توحيد الالهه لم تكن غريبه عن المصري القديم فلطالما عرفها ورددها مرارا في فترات سابقه ومنذ الدوله القديمه حيث نجد "اتوم" (ادم؟) مثلا مذكورا في ستوت الاهرام بصفته اول الخليقه واصل البشر ثم نجدها ايضا في عصر دمج الالهه ابان الدوله الحديثه ممثله في تلك الوحده الشهيره بين الالهين الرئيسيين اللدودين رع وامون: الها الشمال والجنوب: الشمس والارض: تلك الوحده التي كانت مفتعله في احيان كثيره وشبه محرومه من اية ارضيه شعبيه اذ كانت تتم في الغالب بناءا علي اوامر الفرعون وبهدف لا يتجاوز الحفاظ–ولو بصوره شكليه-علي الدوله الموحده: دولة الملك مينا)

ولقد حدثنا الرحاله هيروديت عن بعض قوانين ذلك الزمان والتي حوت بين طياتها-وفي احوال كثيره-ظلما فادحا وعقوبات وحشيه قد يتواري الانسان الحديث منها خجلا كانت وريثة عصور سابقه وكانت تتم بصوره يوميه ومقننه وبشكل جماعي وشبه فوري مثل الجلد وانتهاك الاعراض وبتر الاعضاء (والرؤوس؟) والصلب والحرق والسبي والنفي ومصادرة الثروات والتمثيل بجثث الموتي (في زمن كان دفن الميت فيه مكرمه او ترف يختص به عادة النبلاء والكهنه فقد كان شائعا ان تترك جثث الموتي في العراء زادا للوحوش او تحرق كما هي العادة عند الاغريق والرومان والتي كانت تجد اتهاما جاهزا لها في مصر"بالبربريه"!)

وكذلك اخبرنا عن بعض العادات التي رصدها مما هو عجيب الي حد انه استغربها بل وسخر منها كاغريقي (!) كعادة الاضاحي البشريه التي كانت تقدم الي الالهه الوثنيه (والفرعون؟) وقد كان اشهرها أن يضحي الرجل بفتاه من عذاري اهل بيته بالقائها في النهر في عيد الوفاء: وعادة الغطاس وكان يتجرد فيها الناس ازواجا (رجال ونساء) من ملابسهم القليله البسيطه عرايا كما ولدتهم امهاتهم ليغطسوا في النهر في يوم غطاسهم (ولقد ظل النيل الها معبودا-قرونا طويله-وله اعياد عديده يحتفل بها الناس: وحتي بعد المسيحيه في زمن ثيودوسيوس والذي نشأت في عصره حركه كانت علي جانب كبير من عدم التسامح مع الوثنيه والوثنيين ظلت عادتي الغطاس والاضاحي النيليه علي حالهما خصوصا في الجنوب: والارجح ان هذه العادات لم تختف الا حديثا عندما تبدلت ميول الانسان المصري–البرمائي النزعه بطبيعته-الي حياة اليابسه والسدود! ويقال انه حينما لم ينجح عمرو بن العاص في منع الوثنيين من عادة الغطاس اتفق معهم علي ان يغطوا عوراتهم اثناء الغطس لقاء ما قد يجود به عليهم من عطايا!): وعادة تقديس الرجال للنساء (في الوقت الذي ذهب فيه اهل كنعان القديمه والعرب بالتحديد في احتقارهم للانثي الي حد وأد البنات)

وحسب هيروديت كان الزواج بالكاد معروفا في مصر القرن الخامس قبل الميلاد الا بين النبلاء والملوك اشبه بترف: وانه كان في مجمله زواج اقارب الي حد ان الرجل كان يتزوج اخته وامه وابنته وابنة اخيه وابنة اخته وهلم جرا

ولنا ان نتصور الي اي مدي تأثرت الشعوب بمسالك نبلائها وملوكها فصار العامه يستنسخون رويدا كل ما يفعلونه الي ان صار الزواج فيما بعد جزء لا يتجزأ من التقاليد الشعبيه ومن هنا نشأت الثقافات وصور الزواج والتي كانت ذات طبيعه عشوائيه في بدايتها فكان الناس لا يجدون حرجا في زواج الاقارب والاطفال او زواج كهل بصبيه حديثة السن او الزواج باكثر من امرأه (او العكس): فحتي عندما اصبح رباط الزوجيه هو الخيار الاكثر تفضيلا لم ينقض كل ما ورثه الانسان من عادات وانما اصيبت فقط بشئ من الارتباك حتي بدأت تختفي-رويدا-الواحده بعد الاخري-بمرور الزمان او دمجت في اطار العلاقه المضبوطه (وبالنسبة للمرأه فلقد اصبحت "المصيبة" مضاعفه بعد ظهور الزواج اذ اصبح جل ما تفعله هو خدمة ذكور العائله: فكانت المرأه تعيش عبودية مركبه: ما بين اب قاس قادر علي سلبها كل ما تملك واجبارها علي زواج لا يروق لها كالجواري وبين زوج تنتقل اليه حقوق الاب بالكامل (بعد دفع "المعلوم"؟) الي حد انه كان يجوز له ان يهبها لغيره من الرجال ان شاء كنوع من الايثار وكرم الضيافه او كبرهان علي النصره: واذا ما مات انتقلت زوجته-مع تركته- الي ابنائها الذكور! وهكذا لم يكن غريبا ان يتحول الزواج–لاحقا-الي ما يشبه العملية التجاريه الصماء بلا روح تصطنع من خلالها المشاعر او تؤجل في اطار من الموائمات مع الظروف الاجتماعيه والاقتصاديه القائمه الي ان يتم دحرها بالكامل وتفريغها من مضمونها: ومع ظهور الانبياء والفلاسفه عرف الانسان ان الزواج ليس ابدا الهدف الوحيد منه هو اشباع الغرائز البيولوجيه او الحفاظ علي النوع او التمسك الاعمي باشكال معينه منه لمجرد انها كانت متداوله في زمن ما: كما عرف ايضا ان الزواج لم يكن وبالا علي حريات الانسان واستقلاله وكما ذهب بعض الماديين الفوضويين: انما عجز الانسان عن التكيف مع ما اكتسبه من افكار وقيم ومشاعر انسانيه عصريه: ثم عجز الرجل بشكل خاص عن ان يوازن بين حرياته واحتياجاته ثم بينها وبين مسئولياته الاجتماعيه والاقتصاديه (ناهيك طبعا عن حتمية اقامة جسور وئام مع المرأه قائمه علي اسس من محبه ومساواه واحترام متبادل): هو الذي حرم الانسان من حرياته ووجوده البارز في معترك الحياه)

وفي القران نجد كيف ان عقوبة السرقه عند العبرانيين في زمن يوسف النبي كانت ان يستعبد الرجل سارقه (وذلك كان الحكم (الحيله) الذي حكم به يوسف النبي علي اخيه بن-يمين-ظاهريا علي الاقل-كيما يتمكن-في غفلة من اخوته-من اخذه معه الي البلاط الملكي): فيما كانت عقوبة عدم اذعان العبد-او الجاريه-لاوامر سيده-او سيدته-ان يجلد او يسجن (وهو المصير الذي عرفه يوسف في مقابل التيار الجارف الذي جامل سيدته علي حساب صدقه وعفته): وتحدثنا التوراه كيف ان شيخ مدين دعا موسي النبي الي العمل لديه اجيرا حقبه من الوقت مقابل ان "يهبه" احدي بناته فكان ذلك بمثابة مهر لها: وكيف ان الكهنة حذروا الفرعون من العبرانيين من انهم قد ينضمون الي اعدائه ساعة الوغي اذا ما اصبحوا اكثر قوه وعددا واصروا-في نفس الوقت-علي نبذ ما يعبدونه من الهه وثنيه: وحتي يزينوا له الامر اخبروه بنبوءة مفادها بانه سيخرج من بينهم من ينتزع منه تاجه وهكذا اصدر الفرعون فرمانه والذي يقضي علي امهات العبرانيين-في ذلك العام-بان يقدموا اليه-والي الهته-الاضاحي من اطفالهم كغيرهم من اهل مصر: وهو الفرمان الذي كاد يقضي علي موسي نفسه لولا رعاية الخالق (ويقال ان الرب استمع الي نبوءة الكهنه فقدرها عليهم كيما يريهم من العبرانيين ما كانوا يكرهون وما ظلوا طويلا يخشونه ويحذروه: ولابد وان رحلة مدين تلك كانت جد ذات نتائج مثمره بدلالاتها الموحيه بل وعلامه فارقه في حياة موسي نفسه: اذ اضافه الي انه نجا-بفضلها-من جنود فرعون الذين كانوا يلاحقونه ويترقبونه فانه لم يكتشف ايمانه الجديد علي نحو واضح الا في طريق عودته منها: وبعد ان فهم-فيما يبدو-وجه الظلم ومرارة الالم المترتب علي التعصب الديني والعرقي فامتنع عن تكرار فعلته واقترن بامرأه من غير عرقه وملته: واكثر من ذلك وضع علي عاتقيه خلاص بني اسرائيل فوقف في وجه فرعون وانجاهم من فساده واستبداده: والطريف ان اهل مدين لم يدعونه لا عبرانيا ولا كنعانيا ولا اسرائيليا وانما مصريا :P وليس غريبا فلقد عاش موسي (رع-موسي؟) طفولته كلها-وربما صباه ايضا-في كفالة القصر-ولابد-والوضع كذلك-انه شارك الشماليين الهيليوباتيين من مله رع اعيادهم وصرعاتهم ولغتهم وكفاحهم الوطني: بل وهناك اشارات انه كان لا يجيد العبرانيه وانه لهذا طلب من الرب ان يرسل معه اخيه هارون: ولابد وان مدين المقصوده هي مدين الغرب فلقد عاد موسي من جهة "الطور الغربي" وكما هو مذكور في القران: والطور هو طريق القوافل او الطريق الدولي High way الذي يربط بين الممالك والدول: وبذلك فالطور الغربي هو الطريق الذي يربط الوادي بحوض البحر المتوسط من جهة الغرب (صوب ليبيا القديمه): اما الطور الشرقي–او طور سنين-فهو الذي يربط شبه جزيرة سيناء بكنعان القديمه)

باختصار: كل الخصائص التي ميزت الانسان القديم دفنها من خلال شعور عميق بالذاتيه والكبر والذكوره والطائفيه-القوميه: فيما انقسم الوجود كله ما بين اناس يرون كل شئ مقدسا واناس ينسحبون منه-وبصوره تامه-باعتبار ان كل شئ عدا الحياه مقدسا! في الوقت الذي ظلت فيه كل المفاهيم مقتصره-ولحقب طويله-علي الفصل التام بين الانسان الفرد والمجتمع: الرجل والمرأه: الحر والعبد: الحاكم والشعب: الشمال والجنوب: الحضر والريف (او الباديه): الطوائف (والقوميات) وبعضها بعضا: واخيرا الدوله-او المملكه-والدول الاخري

وعلي الرغم من الجهود التي يبذلها البعض للتحرج من تراثه الوثني والنظر اليه نظرة انكار او تبرؤ: قد يكون في استطاعة الانسان المتعلم العليم-علي الجانب الاخر-ان يفهم ان المغزي الاصلي من ظهور الانبياء هو بطبيعة الحال تقويم قصور او ضلال او شذوذ تربوي او اجتماعي او نفسي او عقلي معين كان سائدا في هذا العصر او ذاك شأنهم في ذلك شأن كثيرين من الفلاسفه المجددين عندما استهلوا مؤلفاتهم الثوريه بالقضاء اولا علي جهل كان قد بلغ مرحله ميئوس منها من اليقين المطلق بصوابه

كما قد يحرص ايضا علي فهم ان اي حقبه تاريخيه انما هي حقبه من الزمان-كغيرها-كان يجب ان يمر بها الانسان كيما ينتقل من عصر الي العصر الذي يليه: وان معظم هذه الافكار والتطبيقات القديمه كانت-في وقت ما-تتسم بدرجه عاليه من الجوده والحداثه كاخر ما توصل اليه الانسان واقصي ما يمكن ان تقدمه الحضاره الانسانيه: بالضبط كما ان وجهة نظر الانسان الحديث من حيث سعيه الدائب للملاحظه والبحث والاطلاع والتجريب والاستدلال والاستنتاج والابتكار واستخلاص العبر او خلق نوع من التوازن بين افكاره ومشاعره وغرائزه ليست سوي بذور عاشت-ونمت-في عصور قديمه: فمعظم الماده التي يستخدمها العلم اليوم لتصوير اطروحاته هي في واقع الامر-وحتي قرون قليله مضت-مزيج بين ما هو قديم ومعاصر: تاريخي وعقائدي: محلي او وافد من عقائد-وحضارات- اجنبيه وان لم يتبين الانسان-في احوال كثيره-اثناء تسليطه الضوء عليها-اصلها الاول (ومن الطريف ان نعلم ان مدارس العلماء القدماء كثيرا ما كانت تتحول-بعد رحيلهم-الي طوائف دينيه ولولا ذلك لما انتقلت افكارهم الي غيرهم وبقت تؤثر في فكر العالم القديم ولقرون عديده: وعلي سبيل المثال امن العلماء المسيحيين بكل ما ذهب اليه من سبقوهم من المعلمين الاغريق (الملاحده) بل انهم ارتفعوا بنظريات جالينوس في التشريح الي حد التقديس ودرسوها في مدارسهم كما لو كانت جزء من التعاليم المسيحيه فاعتقدوا-مثله-بان لرحم المرأه قرنين كقرني شيطان-حسب وصفه-احدهما لانتاج الذكور والاخر لانتاج الاناث وجعلوا من ذلك دليلا علي ان المرأة التي لا تنجب الذكور تفقد تلقائيا نصف مقومات وظائفها!)

نستطيع اذن ان نستخلص ان احتقار التراث قد تكون نتيجته هي نفسها نتيجة قبول كل شئ حرفيا واحاطته بما لا يحتمل من هالات القداسه والتشنج: وايا كان ما يمكن ان يبذله الانسان من جهود في نقل الموروث-دون تحفظ-وتفسيره حرفيا او مطه او قصه الي اجزاء ولصقه وتضخيم كل جزء منه ليعزز كل ما اعتادوا ان يشعره بالامان او يلائم مفهوم-او خطط-الانسان عن الدين او الوطن او الاصاله او الشرف او العدل او الحق: ازعم ان هذا لن يغير من وقائع التاريخ

وانا شخصيا كلما لاحت في مخيلتي فكرة العوده الي الماضي ومقابلة الاجداد تنتابني انقباضه ممزوجه بخليط من مشاعر سلبيه للغايه كالتوجس والسخط وخيبة الامل: فان يعود الانسان-بصوره او باخري-الي مرحله ظن ان الانسانيه قد تخطتها منذ زمن سحيق لكي يعيد انتاجها-من جديد-ناهيك عما يمكن ان يواجهه الانسان جراء هذه العوده من اخطار محدقه كالتكفير والاضطهاد وربما الاعدام الفوري-هو شئ محبط بالتأكيد ايا كان الدافع الذي يحركه

والملاحظ هو ان اولئك الذين قد تحملهم نزعة الهويه الوطنيه والعوده الي الجذور الي ابعد من الحقائق المعقوله والبدائل المجربه يميلون-وبصوره تلقائيه-الي اساليب الجبر والاقصاء والتوسع في التشريعات والتشدد في تغليظ العقوبات والتكلف في الاحتشام علي حساب التربيه والتعليم  كما لو انه اعتراف ضمني بان الهويه وحدها–حتي في حال صلاحيتهما الزمنيه والجغرافيه-غير كافيه علي اية حال (ولابد وان لهذا علاقه برأيهم في شعوبهم فهم غالبا ما يرون الناس كما لو كانوا فرق من العبيد او قطعان الماشيه الضاله المارقه في حاجه لمن يجمعهم وبذهنيه رئيسيه تقوم حجتها علي ان الانسان ليس بقادر-استنادا الي جدارته وارادته-علي التغلب علي مشاعر الشر والجريمه وهكذا فانهم وكيما يستحضروا دوما هذه الاراده-ارادة الجمع والحشد–او الضبط والربط-فانهم لا يكفون عن تذكير الناس بحوافز الانصياع وتحذيرهم من عواقب المخالفه: ومن خلال حصارهم-بلا هواده-في دوامه لا تنقطع من الوعود الاقتصاديه وما حققوه ومالم يحققونه من انجازات: والتكلف في الاحتشام-بالمناسبه-لا يختلف كثيرا في رأيي عن التكلف في التبرج: فالاسراف قد يكون بالكبت والتحفظ المغالي به الي حد التزمت وقد يكون بالاباحيه والاستهتار: الثرثره والانكار: التقتير والتبذير)

فلئن كان الانسان الحديث يختلف عن اجداده في شئ ففي ايمانه العميق بقيم مثل الحريه وحقوق الانسان والمساواه والعداله الاجتماعيه والديموقراطيه والعولمه وافتقاده ربما-علي الجانب الاخر-الي درجه من الاراده والثقه بالنفس

فمهما يكن من امر تقدمه وحداثتة فما هو واضح من حكم معاصريه عليه انه كثيرا ما يلوح-خصوصا في الدول التي تعاني فساد واستبداد-كما لو كان منقسما علي ذاته بعيدا عن حقيقته وعن حوادث الطبيعه وغير متصالح مع ماضيه

ولهذا السبب كثيرا ما تبدو الاراء المطروحه في الدول التي تعاني فساد واستبداد (وركود؟) منتهية الصلاحيه او سطحيه او دخيله او منسوخه او مقتطعه من سياقها مجتزأه متناثره فهي اراء لم تظهر نتيجة تجارب-وافكار-اصيله وانما من خلال عمليات نقل اعمي وبلا سند الي علم حقيقي وفي ظل غياب المصادر الموثوقه والمراجع الكامله

انه ليس اصيل بما يكفي وليس هجين-ثقافيا علي الاقل-بما يكفي: بما جعل الاجيال الحاليه الذين لم يكونوا ابدا شهود علي القديم او قراء-ومؤلفين-جيدين فيه مع كل ما اكتسبوه من ادوات حضاره وحب للبحث والتعلم شبه منفصلين بالكامل عنه (في عصر لا يكاد يمر فيه يوم دون ان يكتشف الانسان معجزه علميه-او تكنولوجيه-جديده من تلك التي يقف لها الاجداد-اذا ما عاصروها- اجلالا واحتراما: ففي اطار من العوامل التي قد تسهم في ركود اي نظام تعليمي وتربوي وتأخره كالحظر والرقابه والاطناب (او التكتم بحذف كل ما قد يثير الشك): كثيرا ما تتعرض العديد من المفاهيم الرصينه الي عمليات من التحريف والتشويه او التبسيط والتعميم بل قد يصبح مضمون التعليم-والمغزي من وراء تدريس العلوم- نفسه-وفي احيان كثيره-غير واضح المعالم: اذ يصعب علي الانسان في وجود تعليم-وتربيه-مقيدين يدعوان الي يقين مطلق-وفي حضور تاريخ ضخم من قبول-او رفض-الاخر وما يطرحه من قضايا وافكار-ان يدرك الواقع الا من خلال ما قد يصاحبه من سوء تفسير: وبذلك يصعب علي الانسان (المتعلم) ان يتبين اي فارق بين العلم والوهم (السحر؟): الكذب والحقيقه: الواقع والخيال: التطرف والاعتدال: التعقل والجنون: الخير والشر: العدو والصديق: فنري الانسان يقابل التجديد والتطوير او كل ما من شأنه اختلاف او نقد بانكار الواثق العليم بما ذهب اليه من قبول مطلق للقديم والذي لم يكن بدوره امن من التصرف: فيما تصطف تلك المصادر والمراجع نفسها الي جوار بعضها البعض فوق ارفف المكتبات المتربه كما لو كانت فرق بوم تنظر اليهم في انتظار من يعطيها نفخة الحياه! وينبغي ان اشرح هنا ان عنصر التخصص لم يظهر الا مع نمو المعارف والاكتشافات والصناعات والمخترعات وتصاعد طاقات الفضول وبمستويات عاليه جعل من الاخذ بالتخصص حاجه ملحه حتي اصبح من النادر-في زماننا هذا-ان يلم المرء بمجالين مختلفين بعيدين كل البعد عن بعضهما الماما عميقا وافيا: واذا كنت ساشير الي علماء عصر النهضه بصفتهم اصحاب الفضل الاول في الحضاره الراهنه فينبغي ان نعلم انهم كانوا جميعا يتميزون بنزعه موسوعيه كانت المعلم الرئيسي الذي يميزهم اذ لم يقتصر مجهودهم في القراءه والتأليف علي ضرب واحد من ضروب العلم وانما صنوف متعدده وبشكل متوازن اي دون ان ينحوا باحد العلوم نحوا يبتلع به علم اخر ودون افراط في تقدير ثقل العنصر النظري منفردا في مؤلفاتهم: الي حد ان اغلب هؤلاء كانوا اطباء وفلاسفه وقضاه وكيميائيين ومخترعين ومنظرين في علوم المنطق والنفس والطبيعه والفلك والحساب الي جوار المعارف الروحيه والفقهيه والشرعيه وعلوم اللغه والكلام والبيان واكثر من ذلك كانوا في اوقات فراغهم مؤرخين ووعاظ وشعراء ورسامين وعازفين مهره للالات الموسيقيه)

ولذلك كثيرا مالا يقدر هذا الانسان علي ان يدرك حقيقة عبوديته للسفاحين الطغاه-والتي لا يشترط ان ترافقها طبعا عمليات بيع وشراء صريحه-الا حينما يصبح تحدي البقاء-بالنسبة اليه- سببا في ايلامه جسديا ومعنويا

وهكذا قد يصبح الانسان-وفي اي لحظه-امام احد خيارات ثلاث: اما الرحيل (وهو تصرف مفهوم): واما البقاء راضيا بالقهر والجهل والتعميه كما هو الحال مع شخص يهوي التمارض تحت تأثير سيل من حوادث عرضيه وامال ورغبات تتسم بطابع حالم وردي حيث لا مشكلة في هذا العالم الا وقد اصبح لها حل واحد فقط هو تجديد خضوعه المطلق لكل من هو اقوي منه او اعلي درجه في سلم الهرم الاجتماعي كيما يتمكن من مواصلة حياته لفتره اطول: واما العمل الايجابي علي طريق تغيير حقيقي وامين وهو خيار الانسان الحر الذي لا يجد نفسه متحرجا ابدا اذا ما وقف وجها لوجه امام اسئلة مثل: من انا؟ من هؤلاء؟ ماذا حدث؟ ماذا استحق؟ وما الذي يمكنني ان افعله هنا-وليس هناك-من اجلي ومن اجل مجتمعي وليس من اجل نفسي فقط؟ وكما فعلت مجتمعات اخري تصالحت مع نفسها وماضيها والعالم والطبيعه: فادركت-وبصوره نهائيه-ان بداية الطريق نحو التحرر-والتحضر-هو اليقظه الكامله في مواجهة تلك الزعزعه النفسيه القاتله مع الهويه والاطلاع-وبموضوعيه-علي مصادر الحضاره ومراجعها الكامله

انه شخص قادر علي ادراك الغفله فور تنبهه لها ومن ثم ينتفض من سباته عابسا-وفي اي وقت-في وجه الجهل والظلم والفساد والاستبداد كما لو انه يملك في رأسه رادارا تنطلق صفارته بمجرد اكتشاف خطأ فالانسان الحر-وحيث الجميع يستحقون الحريه وبلا ادني جهوزيه-يجد فطرته في حريته كما لو كانت علاج لكل داء فلا يبحث عن عقار لتقليل اعراضها او التحصن منها وانما يمضي في رحابها كما السجين الذي يفتح رئتيه للهواء الطلق فور اطلاق سراحه: لقد اصبح انسان-حسب سارتر-"محكوم عليه بالحريه!"

وبينما تنهض الشعوب وتخرج الي الشوارع والميادين تطالب بحقوقها وحرياتها وكرامتها وتطلق شعارات المشاركه السياسيه علي طريق الاتفاق علي دساتير مدنيه ديموقراطيه ترتقي بحياة الشعوب مستفيده من افكار وتطبيقات الحضاره الراهنه: ها نحن اليوم في وجود مفاهيم الرجعيه التي تميل الي نظريات عن صدام الحضارات وخراب العالم او سيادة قوميه-او طائفه دينيه-علي اخري كأمر راجع الي عنايه الهيه–وكما صور لهم دعاة الضلال والانبياء الكذبه والسياسيين غير الناضجين-او ثمرة تفضيل الخالق لهم علي غيرهم لتفوق ما في اصولهم او صلاتهم -نشعر دوما بان مرحلة دراسة الماضي والمصالحه معه مازالت قائمه

هنالك من الممكن ان يستمع الانسان الي مقولات مثل: لا يصح الا الصحيح داعيا المولي ان يهديك الي سبيل "الالتزام" (في اشاره منه طبعا الي افتقادك الي ما يظن انه اكتسبه من ايات اعتدال وزهد ديني المتمثله في رأيه في اللحيه والجلباب وعلامة الصلاه (او ما يسمي الحجاب) في استدراجك طبعا-وباوجه جديده قديمه-الي جوله جديده من صكوك الجنه والنار والكفر والايمان والخطيئه والغفران الخ من خلال شخص يقوم بدور "امامك" في الصلاه و"وليك" في شئون حياتك العامه والخاصه ومن خلال مفهومه الخاص طبعا عن الصحيح والالتزام وبالتالي خيبة امل لا حد لها)
او مقولة ان هذا الشعب او ذاك جاهز–او غير جاهز-للديموقراطيه فيروج الانسان-وبشكل تلقائي-الي نوع من الصدام بين الحريه والمسئوليه: العلم والايمان: الي غير ذلك من الاستنتاجات التي تفترض عليك نوع من الصدمه ازاء المغزي من قيام هؤلاء الرجعيين انصار الدوله الدينيه في المشاركه في الثوره اساسا (تلك المشاركه المشكوك طبعا في دوافعها وفعالياتها طالما انها سوف تنتهي-وكما حدث اخيرا -بان ينصب الانسان نفسه-ولو للحظه-زعيما ودكتاتورا او مستبدا عادلا: والسؤال: لماذا هذا الشخص بالتحديد؟ وهل ثار الشعب علي الرئيس المخلوع وانتخب "رئيسا"انتخابا ديموقراطيا من اجل ان يمنحه–وحيدا-علي طبق من فضه-كل هذه السلطات بدعوي "حماية الثوره" واقرار العدل (ام من اجل ان يعمل عمله هو كرئيس للسلطه التنفيذيه والذي فشل فشلا ذريعا في ادائه والي الان)؟ ولا يغرنك ايها المتابع الكريم وعده-او وعد غيره- بانه لن يسيئ استخدام سلطاته تذكر ان هؤلاء انفسهم اقسموا من قبل اغلظ الايمان بانهم لن يقدموا مرشحا الي انتخابات الرئاسه ثم–وبعد الاحتفاظ-وبغرابه شديده-بالسلطه التشريعيه-ارث "الاعلان الدستوري" سيئ السمعه-يعد بانه لن يستخدم التشريع الا في اضيق الحدود! بل اننا نجد منهم اليوم من يعترف–وفي سابقه نادره-وفي الوسائل الاعلاميه نفسها التي يدعو الي تطهيرها-وبعد ان تخلص فجأه من عقدة الاضطهاد ولو لدقائق-بالتنظيم العالمي لحزبه وان لحزبه–او بشكل ادق-تنظيمه السري-وحسب قوله-افرع في 92 دوله حول العالم: واظنه حسب فرع غزه طبعا!)
او مقولة ان القضاء لم يقم بدوره كما يجب اثناء المحاكمات (وهل قامت وزارة الداخليه بواجباتها؟ وهل قام بواجبه في تطهيرها واعادة هيكلتها؟ واين الادله المفقوده؟ وهل مازال وزير دفاع الرئيس المخلوع ورفاقه من القتله واللصوص علي رأس فريق المستشارين؟ وهل يمكن ان يكون قد استشارهم في القرارات الاخيره ( وقد اعترف-اثناء حادثة العزل التعسفي لرئيس تحرير صحيفة الجمهوريه المناضل ذلك الذي ضايق البعض فيما يبدو وقد مضجعهم- بانه علي اتصال دوري بهؤلاء لا ينقطع)؟ هل سألهم عن الادله المفقوده؟! وما الداعي-والحال كذاك-ان يحمي لجنة وضع الدستور من الاحكام القضائيه اذا كان يمكنه اليوم ان يضع لنا دستورا كاملا بفضل ما اضافه الي نفسه من سلطات او اذا كان يمكنه ان يفوض "التنظيم العالمي" الذي ينتمي اليه في فعل ذلك نيابة عنه (وذلك هو الوضع الحالي بالمناسبه وبمنتهي الدقه)؟ هل نحن امام رئيس غير مؤهل يريد ان يسيطر علي كل شئ–بما في ذلك المعارضه-ليخفي تواضع امكاناته؟ هل نحن امام رئيس فقد شرعيته؟ والديموقراطيه بالمناسبه ليس ان يفرض الانسان جهله علي من يعلم لمجرد انه يظن ان لديه اغلبيه: ثم عن اي اغلبيه نتحدث؟ وما هو المقياس في غياب مجلس شعب منتخب وفي وجود شعب لا ينتمي سواده الاعظم بعد الي احزاب سياسيه بعينها؟ ناهيك عن حالة فوضي المفاهيم العارمه خصوصا فيما يتعلق بالفارق بين العمل السياسي والدعوه الدينيه: الدستور والقانون: الشرع والدين: الديموقراطيه وحكم الاغلبيه؟)
او مقولة ان من حق الرئيس "المنتخب" الحصول علي التشريع لعدم وجود مجلس شعب (ذلك التشريع الذي اغتصبه هذا الشخص قسرا وبغرابه شديده بواسطة ما يسمي "اعلان دستوري مكمل" رفضه هو مسبقا ووصفه "بالمكبل"!): او مقولة ان من حقه اصدار اعلانات دستوريه (بل ويتحدث في بيانه عن قوانين واعلانات دستوريه مستقبليه!) والحق ان "المجلس العسكري" السابق نفسه غير المنتخب-مثله الاعلي وموضع مشورته في ذلك فيما يبدو- لا يحق له اصدار اعلانات دستوريه (فهو ليس بسلطه تأسيسيه) وبذلك فلا يحق لاحد ان يرث مالا يمكن اعتباره سابقه قانونيه او دستوريه (والسلطه التأسيسيه هي سلطه مفترضه علي اي حال خصوصا في حال ان لم تنتخب من الشعب انتخابا مباشرا):
وبديهيا ان "الموظف" الذي يتجاوز صلاحيات منصبه التي اختير علي اساسها (علي طريق الحصول علي مزيد من السلطات والصلاحيات-ناهيك عن تحصينها قضائيا- ودون الرجوع الي صاحب الشرعيه الاصلي (الشعب؟ الثوار؟) يفقد تلقائيا شرعيته ومن ثم منصبه بل وتصبح حادثة انتخابه نفسها كأن لم تكن ومنذ لحظة حدوث المخالفات فالشرعيه لها شروط: كما ان الدستور الذي لا يبني علي اتفاق اجتماعي شامل وبشكل متكافئ يفقد مفهومه الاصلي "كدستور" وايا كانت قيمته (ولعله من المرات النادره ان نري دستورا اذا جاز التعبير يخرج الي النور بدعايته معه!): وعليه لابد من البدء فورا-برأيي-في اجراءات عزل الرئيس الطاغيه وتنظيم انتخابات رئاسه-وبرلمان-جديده دون ابطاء ودون التفات للمحاولات المثيره للشفقه لفرض امر واقع من دستور مسخره او استفتاء مزور وخلافه وبصرف النظر عن رأيه ومريديه ايا كانت اعدادهم

والاستبداد غير مقبول علي الاطلاق ولا تفاوض بشأنه ولا علاج له ولا فرصه فهو السبب الرئيسي الذي قامت الثوره من اجله وفي ظروف مماثله ومن ثم فعودته بمثابة نسف لاي حديث عن اهداف الثوره وبصوره نهائيه: وبذلك فهو في حد ذاته اعلان عن ثوره مضاده هي انقلاب علي الثوره الاصليه تسقط معه كل شرعية ثوريه او دستوريه (منتخبه او غير منتخبه): والاستبداد- قرين الفساد--مؤقت او غير مؤقت- لا يضمن -ولا يقود الي-اية نتيجه من شأنها تحول ديموقراطي جاد: فللاستبداد اثار جانبيه وهي مرتبطه بكل ما يعلنه المستبد واقعا غير قابل للتغيير ساهم هو في تدبيره وتطريزه وتمريره وشغل الناس به في اطار من الماضي الاليم اكثر من اي شئ اخر: واثار الاستبداد تشبه الي حد كبير-نفسيا علي الاقل- اثار من تعرض لانتهاك جنسي وبذلك فالاستبداد المؤقت-بدوره-قد لا يختلف كثيرا عن اعتداء جنسي مؤقت!
وانه لشئ مخجل حقا ان يتحدث الرئيس الطاغيه-وكما الرئيس المخلوع-عن مؤامره علي الثوره او الاقتصاد بصفته الزعيم الضروره الاكثر فهما وعلما او بصفته زعيما ثوريا حامي حمي الثوره والثوار (من انفسهم؟) متهما الثوار (والسياسيين الوطنيين المتحدين والقضاء المصري المجاهد المستقل والاعلام الحر) بانهم يتحالفون ضده-ومن ثم ضد الثوره- مع جهات اجنبيه او مع الفلول! والفلول بالمناسبه ليسوا-ولن يكونوا ابدا-المواطنين العاديين الذين يذهبون الي ميدان التحرير لمساندة الثوار في احتجاجهم علي الرئيس الطاغيه وزمرته من التنظيم السري (العالمي) وحلفائهم: كما ان الثوره-علي الجانب الاخر-التي تشيح بوجهها علي طول الخط فلا تتحدث لمن يريد ان يستمع فتفند الفكر "الفلولي" بالمنطق والحجه والبرهان وتفتح ذراعيها بسماحه لمن هو جاد ومخلص في الانضمام اليها هي ثوره عقيمه وقصيرة الامد: ولا يخفي ان الفلول–وكما يعرف الجميع-هم في مجملهم اما هاربين بسرقاتهم خارج البلاد او مسجونين في طره بانتظار ادله "جديده" او وزراء ومحافظين ومستشارين بالحكومه الحاليه: ولا يخفي ان غاية الطاغيه من الحوار-كدأب غيره من الطغاه-هو افتعال انقسامات او اطالة امد الازمات: واقترح ان ينسق الشعب والقضاء المصري خطواته-اثناء التصعيد والعزل-مع المجتمع الدولي ومنظماته السياسيه والقانونيه-فمصر-شائت ام ابت- متصله-وستظل-بالمجتمع الدولي كما انه متصل بها)

اما الاعتداء علي المتظاهرين-والمعتصمين-السلميين وغير ذلك من فض اعتصامات بالقوه والتي وصلت في حالتنا هذه الي حد الجرائم الجنائيه من قتل وضرب واحراز اسلحه واختطاف وسحل وصلب علي ابواب القصر الجمهوري وتقمص عضو الحزب المدني (ذلك الذي لا يمكن ان نطلق عليه الا بلطجيا) دور الشرطي او المحقق القانوني في محاولة لاجبار "الاسري" من الثوار والمعارضين علي الادلاء باعترافات معينه تحت مغبة التعذيب فتلك اشياء من شأنها وحدها اسقاط اي شرعيه (ناهيك طبعا عن الاستبداد واغتصاب صلاحيات لا تخصه مثل السلطتين التشريعيه والتأسيسيه)

والرئيس فاقد الشرعيه يتحمل جنائيا مسئولية الانتهاكات التي حدثت في محيط قصره من افراد حزبه ضد المعارضين له بالتأكيد (ولا يجب ان ننسي ان الرئيس المخلوع نفسه سقط وحوكم بدافع من تلك الجرائم نفسها فلم يفده كثيرا ان ظل يتفاخر-ايضا-طويلا- بشرعيته الناتجه عن انتخاب "حرا نزيها" في 2005: كما لا يجب ان ننسي ان الرئيس الفاقد لشرعيته نفسه لطالما حدثنا دون كلل بان دماء المصريين-وقصاص شهداء الثوره الابرار- في رقبته! ومع ذلك ورغم فشله الذريع في حفظها في جوار قصره-وداخله -لايزال مصرا--وبلا ادني حياء-علي التمسك بمنصبه "في اطار من الشرعيه"- حسب زعمه- بل ويظهرفي خطبه مكررا نفس مضامين الطرف الثالث والفلول والتامر والتحريض المثيره للشفقه مدافعا عن المعتدي او مساويا-علي الاقل-بين المعتدي والمعتدي عليه مستبقا تحقيقات القضاء!)

ولا اكاد افهم عن اي شرعيه-واستقرار-يتحدثون هل يصدقون فعلا ان دستورهم المزعوم -او اي دستور-ايا كانت قيمته-اذا ما مرر-قادر وحده وبشكل تلقائي علي فرض الاستقرار في البلاد بلا ادني اتفاق (جدي وامين) بين طوائف وفئات المجتمع (مع ذلك الاصرار المريب علي جر الشعب جرا-وباقصي سرعه-الي استفتاء شبه فوري بلا ادني جهوزيه او ضمانات تضمن حريه ونزاهه الاستفتاء من اشراف قضائي كامل ورقابه وبلا تعريف واجب-ولامد مناسب-حول ما يراد الاستفتاء عليه)؟ كيف يجرأون علي التحدث عن ديموقراطيه ودولة قانون-او حتي عن كرامه ورجوله- اذا كانت الطريقه هي فرض القوانين والنظم والدساتير والاصرار علي صلاحيات ليست لهم وانجازات لم يحققونها ناهيك عن محاصرة المحاكم ووسائل الاعلام وتصنيف المعارضين والثوار (بل اقصائهم وارهابهم ومهاجمة العزل منهم من الرجال والنساء: ولا يخفي ان الاعتماد علي التفكير الشخصي وحريات التعبير والاعتقاد والنقد والنقد الذاتي الخ هي اتجاهات-في واقع الامر- عند هؤلاء- علي عكس المألوف لديهم الي حد اننا يمكننا اعتبارها من الظواهر الفريده صعبة المنال: وقد يتأكد ذلك اذا ما تأملنا ردود الافعال وحملة الدعاية المقامه حاليا ما بين مؤسسة الرئاسه وبين "الجماعه" بل ان احدهم اعترف منذ ايام-وعلي الهواء مباشرة-باعتراف اراه جلل وفريد من نوعه-كشأن اعترافاتهم جميعا-بانه-اي رئيسه-لا يملك ترف تأجيل الاستفتاء ليس لان "الاعلان الدستوري" المزعوم لا يتيح له ذلك فحسب ولكن لاننا سوف نعترض بشده او كما قال: "سوف تقف له!" بما يوحي ان الرئيس فاقد الشرعيه نفسه لا يملك من امره شيئا فيما هو مساق اليه وانه انما هو اسير شرعيته ومشاريعه! اننا–وبكل المقاييس-امام فضيحه تاريخيه لن يغفرها الزمان لنا ان نحن قبلناها هكذا وعلي هذا النحو او تغاضينا عن محاسبة واجبه لذلك الرئيس فاقد الشرعيه ورفاقه بالتنظيم (او الجماعه او العصابه) عما اقترفوه من انتهاكات تجاه الدماء الزكيه: فالقصاص-او القانون- لا يعفي انسان لمجرد انه يري في نفسه قدس الاقداس او براءة المقرب من الله وقد تفشي الفساد والاستبداد قديما-في الدول الدينيه-لان البعض ابوا التقرب الي الله بتطبيق القانون عليهم قبل غيرهم فما طبقوه الا علي العامه الضعفاء)

والانسان الذي يتمتع بفطره خير وسلام وحب للوطن والبناء حقا تفرض عليه تلك الفطره ان يختار لنفسه ومجتمعه-والبشريه جمعاء-ابدع ما يمكن ان يختار لنفسه من صفات ويجودها الي الافضل بلا انقطاع: وبذلك فهو يعلم انه اذا لم ينجح او احس بانه بلغ مرحلة لا يستطيع معها ان يتقدم خطوه واحده فانه عادة ما يسلم الرايه لشخص اخر قادر علي ذلك

ولذلك كم كان من النعم الكبري ان اكتشف انسان الحديث ذلك القران المثمر بين الديموقراطيه والعداله الاجتماعيه فهما يقطعان الطريق علي كل ما من شأنه اشتهاء السلطه من خلال مفهوم واضح بان أي انتقاص من الحقوق والحريات او افتئات علي الفرص الاساسيه لافراد المجتمع–المتساوون بالفطره عند ربهم ومنذ لحظة ميلادهم- تلحقه-بالضروره-حالة ظلم ورغبه في التسلط والاستئثار بالسلطه ومن ثم نقص في الثقه بين افراد المجتمع وبعضهم البعض ثم بينهم وبين القائمين علي اتخاذ القرار )

وقديما لم يسقط مذهب الزعيم او الدكتاتور او المستبد العادل او الامام او المرشد او الراعي الصالح او الفرعون الاله الخ بسبب فشل هذا الفكر في استنباط الية شوري فقد كان للفرعون دائما مستشاريه الذين يستشيرهم ولكنه سقط لان هذا المذهب مناهض بطبيعته لكل ما هو اجتماعي او حضاري او تنموي او انساني (وتذكر الكتب السماويه ان فرعون موسي نفسه استشار حاشيته وكهنته ووزرائه وقواده العسكريين ابان ازمتة مع بني اسرائيل-تلك التي عصفت بوجوده- واكثر من ذلك اذعن الي نصيحتهم وبعد ان سألهم بادب جم: ماذا تأمرون؟ وبعد ان شرح لهم رؤيته طبعا وملخصها ان موسي انما يريد ان يستأثر–بسحره-علي عقول وقلوب المصريين حتي يكون له الكبرياء في الارض: وبمناسبة من يتحدثون بسخريه-او ربما بجهل-عن سحرة فرعون اقول: سحرة فرعون امنوا وماتوا مؤمنين خلاف كهنته وجنوده والذين ظلوا علي اضطهادهم للمؤمنين حتي الموت)

وينبغي ان احذر مرة اخري لمن يتحدث طويلا عن الاقتصاد والاستقرار (وان تسبب هو نفسه بفعل قراراته الغاشمه الخاطئه في انهياره) ان الازمات الاقتصاديه كان دوما المحرك الرئيسي لظهور الفاشيات قوميه ودينيه ازاء حالة الفشل وعدم الثقه التي تصاحبها والتي عادة ما تقترن بالافراط الي حد التورط في استدعاء دور الامن وتمثيل دور الضحيه والتحصن به في مواجهة الاعداء!

فمجرد ان يمسك "الزعيم" زمام الحكم ويسيطر علي مصادر القوه–ايا كانت الطريقه-حتي يلصق جميع معطيات القرار السياسي بالامن والاقتصاد فيما تزحف ايدولوجيته–رويدا-من طرف خفي-الي افراد المجتمع والي المفاهيم العامه مثل الدوله والسياده والدين والامن القومي (ومما يلاحظ ان السياسه الواقعيه في حالة تطبيقها تطبيقا خالصا-بدون ديموقراطيه وعداله اجتماعيه- فانها لا تنتج-وحسب ما يمكن ما نستنبطه من تجارب التاريخ- الا انظمه طبقيه شموليه تأخذ بازدواجية المال والسلطه والدوله المركزيه)

حتي اذا ما اراد المجتمع تحقيق غاية من الغايات العامه كمشروع تنموي مثلا فانه لا يملك ارادة النهوض الا بامر الزعيم ووفقا لرؤيته (اذا ما كان هناك رؤيه اساسا): فالزعيم الاوحد "الراعي" البطل المعصوم المنصور دائما وابدا هو القادر وحده علي امساك او اطلاق بركاته-وكلابه-وعقيرته العامره بصيحات الحشد والاستعطاف والتحريض والتهديد والتهويل: ومن خلال تصدير ايحاء زائف بانه الاكثر حكمه وورعا ودرايه وحريه وهو المعلم والثائر بل والناقد لذاته وبذلك فالرضا بهيمنته وسيادته هو طريق الخلاص (الذي لا يبدو وكأنه سيحدث ابدا في وجود اعتقاد–شارك هو في صنعه والترويج له- بان المواطن هو المتسبب الرئيسي في جميع مشاكله ومن ثم لزم عليه المبادره بحلها بنفسه بلا شكوي او انتظار: فمنصب الطاغيه بالنسبة اليه-كمجتمعه-منصب طبقي بامتياز قائم علي فرديه واستعلاء ووصايه متشحه بمثالية القوه: انه يرسخ لمجتمع ساده حاكمين بصفه دائمه وعبيد من الرعيه محكومين بصفه دائمه لا رأي مسموع لهم واذا سمع رأيهم لا يعمل به لانهم ببساطه لا يعلمون ما يعلمه هو من اسرار: في حين ان كل ما يشغل الطاغيه هو ان يحصل هو وعشيرته وطائفته وطبقته -طوال الوقت- علي اكبر قدر ممكن من الثروه والسلطات والتكريم والشعبيه والانتصار في الانتخابات ليس من اجل الاستمتاع بتلك الامتيازات فحسب وانما من اجل ان تستمر سيطرته (المفتوحه) علي غيره من المعارضين ومن المواطنين العاديين المكبلين بحياة "الواقع" اولئك الذين يشرأبون بكل قوي الروح متلمسين النجاه من ظلمة ماسي "القاع" الحالكه بلا جدوي وسط دوامة من الغايات البدائيه المتناميه التي تتخللها نزعه ذات صبغه عنصريه طائفيه تتسيد علي الضعيف وتبتلع في طريقها كل ما هو مخالف ولاتتوقف عن الفوران: وهو ما يحرم المواطن العادي دوما من الالتفات لما هو اهم

وهنا يظهر طبعا دور فريق المهرجين من جوقة المنتفعين وترزية القوانين الذين يروجون دون وعي الي مفاهيم الزعيم ووعود لن يفي احد بها: فزعماء الفاشيه عادة ما يصنعون لهم مريدين هم في نفس الوقت خدام امناء يظلون–لا شعوريا-علي ولائهم الاعمي لهم ايا كانت قراراتهم او مستوي ذكائهم (ذلك القرارات التي ربما لا يعطلها ما قد تشهده من حلقات متصله متتابعه من الاخفاقات علي جميع المستويات ومن ثم احباطات غير محدوده لامال الشعوب ورغم كل محاولات التبرير): وبالتالي يصح لهم في هذه الحاله ان يقوموا بكل الادوار علي طريق اقصاء المعارض–ولو بالقوه-عن الحياه السياسيه والاقتصاديه والاجتماعيه بشكل عام: والسر ان هؤلاء المريدين عادة ما يتحولون بكامل حواسهم الي نسخة طبق الاصل من مثالب الزعيم نفسه يسدون الاذان-ويغمضون العيون- عن الحق والصواب وهكذا ينتهي الامر الي ان يعتبر بعضهم مجرد نقد الزعيم–او عدم المشاركه في مدحه والاحتفاء به-هو في حد ذاته خروج علي الدوله والدين والحركه الوطنيه

والنتيجه هي ان جهود الدوله غالبا ما تنصرف الي اضطهاد قطاع كبير من الطبقه الوسطي المثقفه والبورجوازيه الليبراليه ووضعهم دوما في عهدة الجهلاء كيما تنحني اراداتهم-باستمرار- للنظام الفاشي (وان ظلوا يؤمنون-في اعماقهم-بمعتقداتهم السياسيه والاقتصاديه اي بدون ان يصبحوا معجبين فعلا بالزعيم التافه وايدولوجيته وسياساته العقيمه) وفي هذه الحاله مهما يكن من امر المواطن العادي ونظرته الناقده للزعيم وزمرته فانه لو خير بين ان يكون وحيدا منعزلا -اقتصاديا واجتماعيا- كنخبته المضطهده-وبين الشعور الطاغي بالانتماء والحشد والارتزاق- فانه سيختار الخيار الاخير: وقد ينتهي الزعيم–بمرور الوقت-الي وقاحه وفجاجه الي حد انه حتي لا يتردد في الاعتراف بان حالة الولاء المرجوه وليس نقص–واحيانا شح- الاحتياجات الفسيولوجيه لشعبه-وتعبه الجسماني- شرطا للحصول علي حقوقه الاساسيه في تعليم وعمل وزواج ورعايه صحيه (تلك الاحتياجات التي يستحقها الانسان تلقائيا بمجرد خروجه من رحم امه-وان لم يدرك-بعد- انه اصبح تلقائيا بمجرد ميلاده شريك في اي تنميه او في مجتمع له مقوماته من قيم وقانون وحكومه مسئوله): ويمكن ان نلاحظ في هذا الصدد كيف ان البسطاء الذين ليسوا بفاشيين–فلم يقرأوا كتابا واحدا يوما في الفاشيه الدينيه والقوميه- ولم يشاركوا في انتخابات-يدافعون مع ذلك بحراره ضد اي انتقاد قد يوجه للزعيم بل وقد يتهمون صاحبه بالعماله والكفر لانهم اصبحوا يشعرون–وبشكل الي-بان انتقاد الزعيم – انما يعني تلقائيا هجوم علي الدوله والدين والوطنيه (عدا اولئك الذين اكتشفوا الخداع والزيف وحاربوه ببساله وظلوا يحاربونه في نسخه المتعدده المتعاقبه)

باختصار: هو مجتمع قاصر في نظر الزعيم يعيش حالة ما بين الاكاذيب وانصاف الحقائق وانصاف الحلول: يهمع في الخطأ والجهل والنسيان ناضحا بالتصنع والافتعال متأرجحا بتطرف بين النقيض والنقيض فلا يجد له مستقرا غير انه لابد وان يبقي كذلك:

ويصف جوبلز-منظر النازيه الاول ووزير دعايتها-الشعب في رواية له قائلا: "ان الناس لا يريدون شيئا علي الاطلاق سوي ان يحكمهم الزعيم برقه!" وهو لا يختلف طبعا عن صنوه هتلر الذي يصف الشعب كالمرأه "التي تخضع للرجل القوي اكثر من رغبتها في الهيمنه علي رجل ضعيف": "تفضله (حاميا) اكثر مما ترغب فيه متضرعا": "انهم-اي العامه- يكونون في الباطن اكثر رضا مع الدكتاتوريه عن الحريه الليبراليه وان طالبوا بالحريه الليبراليه فانهم في الاغلب يشعرون بحيره عما سيفعلونه بها في نهاية المطاف: حين يشعرون بانفسهم –بسبب تلك الحريه- كما لو انهم اصبحوا مهجورين عاجزين!"

ان هذا يصور ابلغ تصوير فلسفة الدكتاتور: فالخطوه الاولي هي ان يقضي علي الحريات ويسخر لنفسه الاعلام والقضاء وكل الظروف كيما يكسب الانتخابات: الخطوه الثاانيه ان يحرم الشعب من الخيال والتنوع والتطور والابداع واضعا التربيه والتعليم في ذيل قائمة اولوياته ويجعلها مرتبطه بحزمة من التشريعات والعقوبات المغلظه: ومع ذلك يذكر التاريخ انه لم تؤد انجازات هتلر الاقتصاديه والامنيه والعسكريه واعجاب الناس بها الي نهضه اجتماعيه او فكريه (وانما الي حروب واضطهاد وقتل وحرق وتخريب ومجاعات) بمعني ان الاسباب التي طالما تفاخر هذا الفكر انها مصدر قوته هي نفسها التي عجلت بنهايته وهي نهايه–بالمناسبه- ليس للعنصر الاجنبي اي دور فيها (كما كان يروج المخرفين الجهلاء من منظري نظريات التامر) اذ ان بداية سقوط النازيه الحقيقي بدأت باحراق الكتب وهجرات العقول مع تحطم الشعور الزائف بالامان وغياب توافق وطني حقيقي يجمع –وبشكل سلمي-بين الافكار والاديان

او نجد من يخرج علينا-ليخبرنا-ان الوعود الانتخابيه الكاذبه او الحنث باليمين هو مخالفة شرعيه بسيطه-كمخالفة وعد التزم به الرجل لاهل بيته مثلا لا يشينه تقاعصه عنه-حسب زعمه- او بسبب ان الكذب في مجمله-حسب زعمه- ليس له عقاب رادع متفق عليه في الشريعه الاسلاميه ومن ثم يجوز للانسان ان يكذب احيانا طالما اتم-بعد ذلك-صيام ثلاثة ايام او تطوع بالتصدق الي عدد من المساكين! متناسيا ان الصدق والامانه هما شريعة الناخب والمسئول وانه -وبوجه عام- بداية طريق الاعتقاد: فلا ثقة ولا تصديق لانسان يكذب ويتحري الكذب او انسان يهوي مخالفة وعوده او غير قادر علي الوفاء بها فتلك صفات انسان غير مسئول كما ان الاسراف في اطلاق الوعود بلا ضابط كيما يحصل المرشح علي تأييد الناخبين سعيا وراء المنصب هو خداع ان لم يكن جريمة نصب وتزوير! (وهو شئ مدهش حقا فاذا كان الانسان يصنف الكذب تلقائيا في مرتبة ادني او يجيز الحنث بالوعود مع اهل بيته فما الذي يجعلنا نصدقه فيما يخصنا او نعتمد علي رأيه فيما يخرج به علينا من مصادر في شرح اطروحاته؟)

اما الغريب حقا فهو ان يخرج علينا الانسان الكاذب المخادع المخالف لوعوده ليكون هو نفسه اول من يحشد باتجاه ما يسمي "تطبيق شرع الله" (يقصد مطابقة روح القانون السماوي بالقانون الوضعي) فاذا كان مهتما حقا بالدين وشرع الله لماذا يكذب ويخادع ولماذا فنجد منهم من يفسرون النصوص والنبوءات دون فحص ودراسه ودون تدقيق وتبيان لسائر الاراء (ومقارنة ذلك بما ذهبوا اليه) فنراهم-وبتبسيط مذهل-تتجه بوصلتهم دوما الي تفسير النصوص تفسيرا حرفيا او وفقا لمعاني ومعطيات معاصره غير حافله بالمعاني الاصليه للكلمات او يقتطعون نصوص وكلمات في فعل الغائب-او تحتمل اكثر من معني-خارج سياقها الزماني والمكاني وبمنأي عن علة التنزيل- وبحيث يشهرونها في وجوه خصومهم ليقيموا بها دليلا علي اراء ارتضوها: في حين انه كثيرا ما يكون المعني الاصلي في التنزيلات الكريمه مغاير تماما لما ذهبوا اليه: ومن امثلة ذلك ان يتخذوا من قول "ما فرطنا في الكتاب من شئ" او "ما من صغيره ولا كبيرة الا احصاها" وغير ذلك دليلا علي صحة نظريتهم الخالده من ان المقصود بالكتاب-دوما-هو القران الحكيم (والذي كان لايزال-في واقع الامر-في طور الوحي ابان ظهور كل ايه من هذه الايات): في حين ان "الكتاب" المقصود غالبا ما يكون احد شيئين: 1) اما كل ما انزله الخالق من تنزيلات واوحي به من نبوات بما في ذلك رسالة القران (وقد وصف القران نفسه بناءا علي ذلك اليهود والنصاري بانهم اهل الكتاب وهو وصف ينطبق ايضا علي من امنوا برسالة القران فيما بعد وبمجرد اكتمال نزوله): 2) وقد يكون-كما في مواضع اخري-سفر الحياه او التاريخ او القدر المكتوب الذي قدره الخالق لمخلوقات الطبيعه ومنذ الازل بما يعني ان "الكتاب" قد يشتمل علي كل ما هدي الله الانسان اليه من علوم وفنون ومعارف نافعه بما في ذلك الوحي السماوي وذلك هو المعني الشامل: فالحياه قبل ظهور رسالة القران لم تكن عبث مطلق وانما-وكما هو مذكور بالقران-مراحل من الهدي الخاضع دائما وابدا لحكمة–وارادة-الخالق وظروف المكان والزمان

والحق انه كثيرا ما يصدق علي كثير من المفسرين المعاصرين عندما يصرون علي تفسيرات بعينها كما لو كانت حقيقه مطلقه لا نقاش فيها قول القران نفسه من حيث انهم يحرفون الكلم عن مواضعه (وهو شئ يدعو الي الدهشه حقا فتباين الفقهاء المفسرين حدث في زمن الانبياء وفي حياتهم الي حد ان بعضهم خالف تفسير الانبياء انفسهم وبحريه كامله ودون ان يتهمه احد بالكفر او التجديف: ومعلوم انه بعد مضي زمن غير طويل علي وفاة كل نبي او فيلسوف كثيرا ما تصاب تعاليمه بالجمود وتستقر في قضايا صلبه ومناقشات راكده فرعيه بحيث يستقر التطور الفكري علي النقل والاسترسال في وضع قواعد انضباط لغوي من قواعد نطق ونحو وكتابه الي غير ذلك من تفاصيل لا تعبر الي لب الحقائق ولا تعيرها ادني اهتمام: الي درجة ان البعض خاضوا قديما مجادلات بل معارك طاحنه-طارت فيها رقاب بسبب كسره او نقطه او همزه او تركيب لغوي علي خلاف ما ذهب اليه الحفظه والقراء الثقاة: اذ كان الهدف الاوحد لتلك المعارك–وتدبيرها المحكم-هو ضرب كل محاوله لاحياء التعاليم الاصيله وطمس كل اثر لها: فالبعض لم يكونوا معنيين دوما فيما يبدو بجوهر الرساله: ومن هنا نشأ الصدام القديم -علي مستوي جميع الاديان-بين من داروا في خضم اعتقاد بان الكلمه Logos حاكمه او خالقه تنقض ما سبقها من سنن وشرائع وتدحض ما تلاهها من معارف انسانيه او من ذهبوا الي ان الكلمه محكومه او مخلوقه فتفرقوا علي اثره الي مذاهب عده متباينه ومتصارعه داخل الدين الواحد (وهو جدل بدأ وانتهي سياسيا بالمناسبه وتأثر بظروف اجتماعيه واقتصاديه وسياسيه معاصره له):

والخطأ هو انه عادة ما تمر الرساله بحقبه زمنيه يكون لها فيها من الاعداء ما يفوق الاتباع فيما يعمل الاتباع علي الغاء الاخر بل والقضاء عليه قضاءا مبرما ومن ثم يقتصر الهدف علي النقل والحفظ المبالغه في التقديس علي طريق حماية الرساله-والعقيده-من التحريف والزوال-وبأي ثمن (وتعزيز نصيب "حراس العقيده" فيها وتفردهم فيما يظنون انه فضل لهم وحدهم متجاهلين-تحت ضغط حملات الانكار والتشكيك- ان الرعايه الخالقه التي اغدقت عليهم من نعم الطبيعه وسخرت مقدرات الكون كله بما هداهم قادره –كذلك- علي هداية غيرهم من الاجيال التاليه: ففي سبيل احتفاظ الانسان بمكانته و"بالارث" الذي يظن انه له وحده قد لا يملك نوعين من "الانا" فحسب وانما عشرات من "الانا" المتضاربه المتناحره وبحيث تتراجع محاولات الفهم امام ذلك الي مرتبه ادني

والارجح ان النسخه الاسلاميه من هذا الجدل كانت الاشد ضراوه ومرت وانتهت لصالح الفريق الاكثر تشددا (والاقل اتصالا-في نفس الوقت-بالعلوم الاخري) -ايا كان من مثله من المذاهب المختلفه- سنه او شيعه - حنابله او شافعيه او مالكيه او احناف او اشعريه او معتزله- حتي اصبح-بمرور الزمان- هو صاحب الكلمه العليا فيما يخص الدين والعلوم الفقهيه والروحانيه:

وبمرور الزمان اصبح الهدف الرئيسي من التفقه بالدين هو الارتزاق واكتساب الصيت من خلال ما يمكن ان يستحوذ علي اهتمام القصر والعامه فيما ظل المستبصرون المستنيرون-علي الجانب الاخر-مع تناقصهم-في مرمي اتهامات العماله والكفر بل والوصوليه! فظهور الادعياء ممن يقحمون انفسهم علي الفكر والدين-من اصحاب الاتجاهات التي تضاهي اكثر الاستنتاجات تعميما-وهو مسلك-كما شرحت-مبكر جدا- حد كثيرا من طموحات المستبصرين المستنيرين-مع قلتهم-المتطلعين الي خدمة النص بنزاهه وموضوعيه اذ كثيرا ما وقوعوا رهن مساومات ومزايدات فجه علي حساب ما اكتسبوه من معارف: ولو كان المستبصرون المستنيرون قد ادركوا مقاصدهم مبكرا وعملوا علي مقاومتهم بقوه لما انتهينا اليوم الي مثل هذه المصادمات:

فلان الذهنية الاصوليه تسيطر-كالمخدر- علي النصوصيين التكفيريين فانهم تقودهم-بلا وعي-علي اساس انه كلما اوغر الانسان في التشدد اصبح قريبا من مزيد من التدين وازدادت اصالته ونبل اخلاقه وطهر مقصده: ولا يمكن للانسان الا ان يتابع عبارات الكراهيه التي يطلقونها اليوم علي الاخر من ابناء الملل الاخري ومن ابناء ملتهم كيما يدرك دون ان يبذل جهودا جباره انهم في واقع الامر انما يدافعون عن استئثارهم القديم بذلك الارث الذي تحدثت عنه وفي اطار من عصبيه (اي بمنأي عن الدعوه وهداية الناس):

ما يوحي ان حومة "المراجعات" التي جرت في تسعينات القرن الماضي كانت في مجملها فاشله وفقيره وسطحيه وبعيده كل البعد عن المبادئ الفقهيه-واللغويه-الاصيله بل ويبدو انها انقلبت علي اصحابها فما لبثت عناصر اساءة الفهم وفساد المنطق-والمقصد-ان تسللت رويدا الي المراجعين انفسهم ولاقت هوا في قلوبهم: ليس غريبا اذن ان يصبح الاتجاه العام السائد للخطاب الديني حاليا-ومنذ ذلك الحين-لا يقل بل يزداد تطرفا:وربما يفسر ذلك تلك المفارقه ان الداعيه المعتدل الذي يذهب الي هؤلاء لمراجعتهم يعود اكثر تزمتا من ذي قبل! (ناهيك عن البسطاء من الناس الذين يبدلون فكرهم يوميا مع كل حلقة تليفزيونيه-او خطبة جمعه- من التشدد الي الاعتدال والعكس-وكما يعترف  النصوصيين التكفيريين انفسهم)
او مقولة منافس الرئيس اوباما بانه سيركز اكثر-في حالة انتخابه فقط فيما يبدو-علي مشروعات الطاقه واقتصاد السكان (53 % منهم علي وجه التحديد) وكأن هناك تضاد ما في رأيه ما بين الانسان-ابن الطبيعه- وتطلعه الي انشطه اقتصاديه صديقه للبيئه تراعي الحفاظ علي طبيعته حيه ونظيفه!
والنضج السياسي بالمناسبه هو ان يكون عند الانسان قدره علي ان يحدد لنفسه دوما-وبصوره قاطعه-مبادئ فكريه وسياسيه اساسيه-الي جوار المبادئ الاقتصاديه-تترجم درجه عاليه من الاحترافيه والمصداقيه ومن خلال خطه لها اهداف واوليات منظمه تعكس دور وطني دون غرور او اصطناع

وحين يفتقد المرء الي النضج والمبادئ السياسيه فانه كثيرا ما ينتهي به المطاف الي قبول-او رفض-اراء طالما راها تناقض ما كان يروج له-ومنذ زمن غير بعيد-فنراه يتبناها-وبحماس-كما لو كان لها وجود سابق في تاريخه الفكري وهكذا يتورط في محاولات لا تنقطع للتوفيق بين ماضيه وحاضره
والسبب بسيط فلقد انتقل لتوه من نقيض الي نقيض وفي فتره زمنيه محدوده: ما بين تعصب متصاعد الي حد الطيش فيما يدافع عنه او الهبوط الي مستويات يتبني فيها الانسان نوع من فتور النفس الذي تنهار معه كل اراده مما يجعله يهادن-وبشكل مفاجئ-الد اعدائه
وربما هذا هو ما يجره الي هذه الدرجه من التكتم عن اهدافه او التصلب في الرأي التي يصعب معها فتح اي حوار فيتمسك-والي اخر رمق-ببعض الاراء او السياسات او الرموز كما لو كانت قدر مكتوب ليس بامكان الانسان مناقشته فهدفه الوحيد هو ان يكسب الرأي العام ويفوز في الانتخابات ويصبح رئيسا وليكن بعد ذلك ما يكون رغم علمه بان التركيبه النهائيه غير مضمونة العواقب اذ لا يشترط ان تقدم حلولا عمليه للقضايا الواقعه (علي عكس الرجل–او المرأه-الناضج فهو قادر علي اظهار درجه عاليه من التواضع ونقد الذات وشجاعة الاعتراف بالاخطاء اذ انه يدرك-وكما علمنا الانبياء والفلاسفة القدماء-بانه "لا يملك كل العلم ولا يستحق كل الثناء": وذلك هو القائد الحقيقي انه من يعرف كيف يتحكم بعواطفه ويطابق سره بعلنه واقواله بافعاله)

فالانسان غير الناضج-او الرجعي-وان بدا وكأنه رضا اخيرا بالافكار التقدميه فانه لن يكف عن توريطك-ولو مرحليا-فيما تورط فيه هو-بوعي او بدون وعي-من رجعيه ونظره تقليديه تربط العالم-وبشكل تلقائي-بنزعه عدائيه تنكر الاخر وتدعو الي تعصب ومن ثم انعزاليه وضيق افق لا مثيل لهما!

فكأنما تلك الصرخه المعذبه التي اندفقت يوما من صدر ت.س اليوت في "الرجال الجوف" فوقف فيها امام اعتداد الذات لدي "الجهلاء الدهماء السطحيين الثرثارين المتمخطين في خديعتهم-السعداء بها-لمجرد انها مكنتهم من لفت الانظار" هي ذات الصدي بصيحة العذاب التي اطلقها الانسان علي مر الدهور

هي ذات العوالم المظلمه اذن بلا مرايا تلك التي عاشوها قديما عاجزين عن التحليق خارج ذواتهم وانتماءاتهم الطائفيه والعنصريه ودون ان تتغير قيد انمله! الي حد ان الانسان يستطيع ان يستعيد بخياله بداهة ما سيطرحونه من اراء حتي قبل ان تلوك بها السنتهم! ومع ذلك يرغبون في قيادة العالم وبابتسامه من تلك التي تشطر الوجه الي نصفين!

والا لماذا لا يغترف الانسان غير الناضج-او الرجعي-من الافكار التقدميه الا غرفة واحدة بيده وبمقدار وبحيث يجعل مما اغترفه حلية له يتحلي بها؟ ولماذا نراه يتعاطف-فجأه-وبلا مقدمات مع كل مختل مهووس بهويته (في حال اذا ما كانت تلك الهويه حقيقيه طبعا)؟ ثم لماذا لا يبدو الانسان غير الناضج-او الرجعي-وكأنه علي استعداد لان يمتدح بعض افكار وسياسات التقدميين-وابناء الملل الاخري-من الرجال والنساء بما يستحقون وادخار ادوار قياديه لهم ذات مهام حقيقيه ؟

ولا يخفي ان الازمات الاقتصاديه العالميه والايدولوجيات الرأسماليه المتوحشه كالنيو-ليبراليه وغيرها لم تكن سوي صنيعة مثل هؤلاء: بالضبط كما ان الحكومات المريضه الشريره-علي الجانب الاخر-ممن لايكفون عن تصديع رؤوسنا بمحاضرات عن القانون الدولي والسياده الوطنيه والارهاب الخ: هي التي صنعت انظمة الفساد والاستبداد ممن يحاربون شعوبهم ويتساقطون اليوم الواحد بعد الاخر: فامدوهم بالسلاح وعلموهم–وبكرم-سياسه-ودبلوماسية-قهر-وتعذيب-الشعوب بغطاء من العدل والاستقلال ووحدة الاوطان ومحاربة الارهاب ومناصرة قضية فلسطين الخ: لا عجب اذن ان ينتفضوا اليوم لحمايتهم (وانا اعتقد ان قضية فلسطين خسرت كثيرا بسبب ان جل من ناصروها كانوا-ومازالوا-من عينة هؤلاء وامثالهم)

ولكن: من الذي صنع الارهاب ومنذ ميلاده الاول؟ اليس هذا النوع من التعصب والتسلط والتصلب في الرأي والتطرف في مشاعر الفخر باسم الهويه الوطنيه؟ من الذي صنع الطاغوت الاكبر عبد الناصر زعيم الفاشيه العربيه والاب الروحي لكل طواغيت "عدم الانحياز"؟

فليتحدثوا اذن عن الحياد وكما يشاؤون الا انهم نسوا شيئا مهما وهو انهم كاذبون ومنافقون: وانهم في ذلك لمفضوحون: انهم-بالحياد وحده-اذا كان حقيقيا-ينحازون الي الطغاه فيمنحونهم ما يشبه التفويض للاجهاز علي اهداف التحرر والمطالب المشروعه: انهم يخلون بابسط مبادئ العداله حين يساوون بين الضحيه والجلاد: او بين البادئ بالعسكره-والعدوان-والمدافع عن نفسه: او بين اولئك الذين ظلوا مقيدين محرومين لقرون طويله من حقوقهم وحرياتهم بل ومتطلبات حياتهم الاساسيه وبين من استغل كل ذلك من اجل ان يدشن لنفسه حسابا (مستقل؟) في بنوك الخليج واوروبا

كما لو اننا بصدد مناظرة ما بين حقوق الشعوب وحقوق الحكومات! انهم يستهينون بثورات الشعوب وحركاتهم الوطنيه: وليس غريبا فقصاري هدفهم يقتصر-وكما يبدو لي-ان يتحول الحادث الاصلي (الثوره) الي جدل فرعي او قانوني او معارك طائفيه بين مكونات الشعب الواحد او مع الجيران: ولابد وانهم–وكما هيأت لهم عقول من صدقوهم-يظنون هذا نوعا من "الذكاء السياسي" ان تتحول ثورات الشعوب الي لا شئ او الي شئ اشبه بفيلم مرعب لا يملك المرء الا اشاحة النظر عنه في ركن بعيد او تغيير القناه التليفزيونيه! (ولمن يعتقد ان اشاحة النظر بعيدا او تغيير القناه التليفزيونيه سوف يغير من مشاهد قتل الاطفال والنساء اقول له انت مخطئ جرب شئ اخر)

وليس غريبا ايضا–علي الجانب الاخر- ان نجد البعض ممن ظلوا طويلا يسعون الي التحرر من الظلم والطغيان متحملين في سبيل ذلك الصعاب يتحولون اليوم عندما تحققت ماربهم الي عقبه في طريق التحول الديموقراطي  بل واكثر من ذلك

وليس ادل علي ذلك مما يمكن ان يستنتجه المرء من سياستهم الداخليه والخارجيه: فالسياسه الداخليه تحولت معهم من انتقال الي الديموقراطيه ودولة القانون الي ادارة الموجود وباقل مجهود ودون ان ينتقص ذلك من خلاعتهم المعروفه شيئا فنراهم يتبنون نفس سياسات التباطؤ والتفريط والاستخفاف بمطالب-وعقول-الشعب فلا اصلاح لقوانين (قوانين الرئيس المخلوع؟) ولا تطهير واعادة هيكلة مؤسسات (فاسده؟) ولا تقليص للانفاق ولا استبعاد للفاسدين ولا محاكمات جاده عادله "استثنائيه" للظالمين ولا قصاص للشهداء والمصابين والمعتقلين ولا اتفاق مع الثوار (وتكريمهم واتاحة المناصب امامهم ليغيروا كما يشاؤون) ولا استعادة لحقوق الشعب المنهوبه بالداخل والخارج ولا معالجة جذريه للقضايا التي يعاني منها المواطن العادي (وانما سياسات عشوائيه علي طريقة "دعه مربوطا في مرساه" والتي عادة ما تتحول-وبعد الاجتماعات والوعود والخطب الرنانه وحملات الدعايه (الحلال؟) وتظاهرات التأييد الاعمي-الي انجازات: تلك التي تلخص كل مشكلات في القضاء المستقل والاعلام الحر (واكاد اجزم ان الغرض الوحيد من تظاهرات "تطبيق الشريعه" والتي ازعم انها مرتبه بعلم "الوالي" نفسه هو الحفاظ علي الشعبيه المزعومه بين البسطاء المخدوعين بالذقون لحساب اضاعة مبدأي المساواه وحقوق الانسان وذلك عن طريق نشر قيم تعدد الزوجات وزواج الاطفال والولايه والحدود القديمه (او تحويل الشعب الي ذوي احتياجات خاصه!) تلك الاشياء التي لم يبق الا ان يطبقوها علينا "بالتدرج"-باعترافهم-وحسب تفسيرهم الخاص طبعا للشريعه!)

واكثر من ذلك سمحوا بخروج امن للقتله واللصوص الذين طالما تظاهروا "بحماية الثوره" فكرموا الاحياء منهم والاموات ومنحوهم المناصب والانواط وبالحجه التي ادعوها نفسها وهي "حماية الثوره"! (نفس القتله واللصوص الذين حاولوا حجب الثقه عنهم في جلسات البرلمان: نفس القتله واللصوص الذين نظفوا الوزارات-ولعام كامل من عمر الثوره-من ادلة الادانه فحرقوها او فرموها واستبعدوا الشهود وقربوا الاعوان: وكأن الثوار عندما تصدوا-وحدهم-وبصدور عاريه (امام المتفرجين؟) لحكم العسكر والثوره المضاده-فضربوا وسحلوا واعتقلوا وعروا وانتهكت اعراضهم وقنصوا وسحقوا تحت عجلات المركبات العسكريه وخسروا عيونهم وارواحهم او رموا–بعد موتهم-في مقالب القمامه كانوا في واقع الامر مجموعه من المدعين المخرفين!)

وبالنسبه الي الدستور فاخشي ما اخشاه اننا باتجاه دستور "مطبوخ" سيصبح-مع الهروله الحاليه-بلا شك- مسخ من نظام الفساد والاستبداد نفسه (نظام جلاديهم؟) او مجرد تعديل طفيف له: ويستطيع الانسان ان يستنتج ذلك بسهوله من نوع النقاشات الجاريه حول مواده والتي اقل ما يمكن ان يقال عنها انها نقاشات ثانويه للغايه ومتقادمه ومنفصله عن مقاييس العصر (واهداف الثوره؟) اشبه بثرثره عجائز المقاهي: فاكثر من ماده من المواد المطروحه مشكوك في مطابقتها للمواصفات العلميه والديموقراطيه بل والاخلاقيه: فمجرد دس ماده دستوريه او اكثر لصالح بقاء كيانات وسياسات ومفاهيم معينه من تلك التي تدعم تفسيرات-ونظريات-رجعيه عن السياسه والدين (ذات الصله بالتاريخ الاستبدادي الفاسد المريض) او تفترض استمرار "الولايه" المشئومه الي نهايتها لهو مجرد عينه: ولا داعي اذن للاشاره الي ذلك الاصرار علي بقاء جنين الاستبداد غير الشرعي او ما يسمي "الاعلان الدستوري" و"مكملاته": تلك "المكملات" التي رفضوها مرارا وتكرارا قبل وقت غير طويل وبكل تصميم حتي تحولت اليوم معهم الي ما يشبه المقبلات (لحين اعداد الوليمة؟ الخروف المحشي؟) والتي ستعود بنا حتما الي نقطة الصفر اذا ما حكم القضاء بحل الجمعيه الحاليه واختار "الوالي" جمعيه جديده تطابقها كما يروج ترزية القوانين: ففي العينه بينه

اما السياسه الخارجيه فما يتراءي لي منها حتي الان يوحي-وبكل وضوح-بما هو قادم ولما يمكن ان يكون واقعا وراء الكواليس: ويتضح ذلك من رسائل مثل "لا لتصدير الثوره" و"لا للتدخل الاجنبي" الخ: كما يتضح من زيارات ما بعد "التمكين" والتي بدت وكأنها هدفها العرفان بجميل كل من ساهم "بريال" قبل–وبعد-الثوره اكثر منها جولات سلف وصفقات ومؤتمرات واجتماعات (عقيمه طبعا وهدفها الوحيد ايجاد دور اقليمي مستقل وكأن شرط الاستقلال هو الانفصال عن واقع السياسه الدوليه والكوكب بشكل عام) بل ووصل الامر الي حد السماح بمرور السفن المحمله بالسلاح (تلك المتجهه الي موانئ السفاح وغيره) عبر قناة السويس والدفاع المباشر عن اعوان الطغاه (اعوانهم؟) بحجة انهم (يا حرام!) "جزء من الحل وليس المشكله": ويا حبذا لو حمل نفسه بعض العمل المضني-وطالما ان لديه متسع من الوقت-ليخرج مع جحافل الشرود الاعمي-ولو سرا-في مغامراتهم البطوليه لاقتحام-وتحطيم-السفارات وحرق الاعلام وسرقة الممتلكات ثم التقافز بعد ذلك مسرورين بما غنموه وما خلفوه من فوضي واطلال مبعثره: وبشرط الا ينسي احد طبعا القضيه الازليه "الفلوليه" (الطفوليه؟) المؤرقه الملحه الا وهي: "تجميل" ميدان التحرير: ولا ضير فقد حقق-فيما يبدو-المراد منه وان له ان يستريح! (وعلي اية حال من لا خطه له او من ليس قادر-او مؤهل-علي تنفيذ خططه فانه عادة ما ينفذ مخططات الاخرين!)

بما يجعل الانسان يتساءل: هل يمكن ان يكون هؤلاء الذين خرجوا لتكسير السفارات وسرقتها وحرق الاعلام وايذاء وترويع الامنين بل وقتل الابرياء (ممن لا شأن لهم بما يحدث)-قد فكروا لحظه في حياة اخوانهم بالخارج (سفراء وغير سفراء) وكيف ستكون اذا ما وجدوا من يعاملهم بالمثل؟

ثم: هل الثوره اصبحت كالمرض المعدي الذي ينبغي تحذير الناس منه؟ هل نحن بصدد تزواج جديد قديم بين قطبي الرجعيه: العسكر والكهنه: رأس المال والسلطه: او بكلمات اخري: الي الخلف در بوجه اكثر شبابا-ابعد في تربية اللحي وتغطية–احم-الرؤوس-اعمق في الاستعراض والسطحيه والزخرفه اللفظيه؟

وهل اصبحنا متورطون فعلا-وبشكل مباشر- في هذا التحالف "الخليع" مع "عصابات" التطرف القومي والطائفي بالمنطقه فيما يسمي بمحور المقاومه؟ ام اننا بصدد تشكيل محور "سني": احب ان اعرف؟ هل من الممكن ان نستيقظ ذات صباح لنجد غزه جديده في وادي النيل وكما هو الحال اليوم في سيناء؟

وهل اصبح من المتعين علي "الغريق"-اذا جاز التعبير- ان ينظر الي اليد التي تمتد اليه لتساعده فيختار الاكثر ملاءمه مع انتماءاته القوميه والطائفيه؟ (والا تركناه يغرق! وكما قيل في الامثال: الحبل الذي لا يعلق به الا الناجي لا ينجي غريق!)

وكأن طاقة الشك غير المحدوده التي توصلوا بفضلها الي نظرياتهم الفذه عن التامر لا تكفي من وجهة نظرهم لادراك هوية من يقصف اليوم المدن والقري علي رؤوس المدنيين من اهلها ويشردهم ويسلب ممتلكاتهم وما يرافق ذلك عادة من عمليات قتل جماعي واعتقال وتعذيب واغتصاب وتمثيل بالجثث وتدمير صور الحضاره المتاحه من مدارس ومنازل ومخابز ودور عباده ومستشفيات

وكأن العدو لا يكون عدوا الا اذا كان السلاح الذي يصوبه الي صدورنا من غير اموالنا! وكأن الاصدقاء الذين ساندوا الثورات واعترفوا بها وساهموا-بصوره مباشره وغير مباشره-ومازالوا-في انتشال الشعوب من مأزق الفساد والاستبداد-يتساوون مع من يتصنع صداقتنا وهو العدو في السر ومنذ البدايه: وكأن عدو الامس يجب ان يظل عدو اليوم وغدا والي الابد! وكأننا بانتظار ان يعترف الخائن بخيانته والمعتوه بعتهه والسارق بسرقته

شئ اشبه بخلخله عقليه في غني عن اي ركيزه منطقيه من يقين حقيقي مع ما رسبته نظريات التامر في اذهانهم من خيالات الي حد الايمان باعجب الخرافات بما تجاوز الحدود التي نعرفها عن الطبيعي والمعقول (فاللامعقول معقول في ميدان عقولهم!)

ما يذكرني بتصوير مدمن الخمر لقنينة "الفودكا"-تلك التي يفقد معها كل اراده ومنطق-بعلاقة حب واحترام او بتصوير العاهره المازوخيه لمازوخيتها بانها نتيجة غياب رجل فحل-احم-"يشكمها" حسب تعبيرها (!)

وبالطبع يذكرني بمقوله: "الدين افيون الشعوب" وهي مقوله قد تعززها بعض النتائج كما نري ولكن ماذا عن القوميه؟ والمال؟ والسلطه؟ والجنس؟ وحتي افلام الفيديو؟ اليس من الممكن ان تتحول كل هذه الاشياء الي افيون اذا ما تفرغ الانسان-بكامل حواسه-لكل واحد منها علي حده وبشكل خيالي؟

حسنا: انا لا اعرف من هؤلاء ولا من يمثلون ولكن شئ واحد فقط انا واثق منه كل الثقه وهو انهم لا يمثلون الا انفسهم وهم بذلك لا يمثلونني ولا يمثلون الانبياء الذين يدافعون عنهم وبكل تأكيد

انها الحقيقه الجافه الجليه التي لا يمكن تلخيصها والحكمه الاجله والمصيبه العاجله التي يجب ان تتعلمها الاجيال الراهنه والقادمه: ان العدو الحقيقي ليس بالضروره عدو خارجي وانما قد يكون اناس من طينتنا اقتاتوا علي نظرية المؤامره وما نهبوه من اموالنا ونموا حتي اصبحوا-مثل "رشاش الحمام" وجهه يشبه قفاه-منشغلين اليوم بمحاربة الاهل والجيران

وعلي اية حال فتجارب التاريخ علمتنا–ويالها من مفارقه-ان اشهر الخيانات انما خرجت من بين احضان هذا الفريق القومي-الطائفي بالذات! كما علمنا علم النفس ان هذا النوع من القوميه-او الطائفيه- المغلفه بالتربص والاستنكار المتواصل المريب لكل ما هو اجنبي او بدعه او عميل او تابع او مطبع الخ: تلك التركيبه الملتهبه الشبيهه باعراض من يشكون العقده او الامساك ومن هذا ومثله والتي كل هدفها صنع-وضمان-كل ما من شأنه "ولايه" او "ولاء" او استدرار عواطف الفخر الوطني والطاعه العمياء (والتغاضي في نفس الوقت عن اخطاء واهانات وسرقات وحماقات الزعيم او المرشد المتكرره): غالبا ما تكون ملفقه: كما يعلمنا علم النفس كيف يمكن ان يكون الانسان تعيس حقا اذا ما اصبح فريسة لمشاعر الكراهيه (او الحسد) فالكراهيه-وكما يخبرنا علماء النفس-ترتد علي صاحبها بل وقد يصل الامر الي حد ضياع الذات-لا سمح الله-فيموت الانسان حتي قبل ان يدرك من هو!

واري ان اعادة انتاج هذا العداء القديم بين الشرق والغرب والشمال والجنوب او بين ما يسمي "الامبرياليه" (او قوي "الاستعمار" القديم) ودول ما يسمي "عدم الانحياز" (عدم الابتزاز؟): الدول الناطقه بالعربيه واسرائيل: هو شئ لا جدوي من ورائه ومنتهي الصلاحيه: واكثر من ذلك ازعم ان ذلك التصادم القديم نفسه في زمنه الاصلي بين الفرس والروم وبين الصليبيين والايوبيين هو شئ لا يقل اصطناعا وسطحيه

واكبر دليل هو نحن انفسنا: فنحن في واقع الامر لسنا اقباط بالكامل ولا عرب بالكامل ولا فرس بالكامل ولا روم بالكامل: وبالتأكيد لا علاقة لنا بالملوك والسلاطين القدماء واسرهم الكريمه-سواء ممن احسنوا الينا منهم وحكمونا برفق او من استعبدونا بالحديد والنار ولقرون عديده (وبدافع من مجد شخصي في الحالتين)

ولمن يميل الي ان ينسب جذوره بالكامل الي حضارة الشرق ويعتبر الغرب منزلا للغزو والعدوان والاستعمار والموات الاخلاقي الخ اقول: لقد غاب عنك ان الشرق ايضا-وكما كان الحال قديما-ساهم-وبشراسة-في نفس جهود الغزو والعدوان والاستعمار والموات الاخلاقي-بل ان ما شهدته مصر في ظل الاحتلال الفارسي–ومن بعده العباسي بمراحله-من عنف وتسلط فاق كثيرا-والي اقصي حدود تطبيقاته-ما ذهب اليه الاغريق والرومان: بالضبط كما غاب عنك ان حوادث الاختلاط الكبري بين المجتمعات-ناهيك عن الحروب والاوبئه-غيرت اشياء كثيره في الالف عام الاخيره (ويعتقد العلماء ان هناك حضارات وثقافات وديانات–بل وصنوف من البشر-اندثرت باكملها واختفي كل اثر لها وكما الديناصورات بفعل تنامي حضارة الانسان الحديث وان ظلت بعض الخصائص الجينيه ماثله-حسب العلماء-بشكل او باخر داخل الماده الوراثيه للجينوم البشري او ما يسمي قمامة د.ن.ا Junk DNA والذي لا يعرف احد-بشكل قاطع-وظيفه له حتي الان)

ومعلوم ان شعوب البحر المتوسط كانوا-وظلوا-سواء قبل المسيحيه والاسلام او بعدهما-هجبن ما بين حضارتي الغرب والشرق وان مالوا الي الغرب بفعل العامل الجغرافي-سياسي بل والجيني كذلك: ونحن نعلم من كتب التاريخ كيف مال المصري القديم الي الاختلاط بشعوب البحر المتوسط من الفينيقيين وغيرهم والانخراط معهم في انشطتهم التجاريه والعلميه والثقافيه الي حد ان المصري كان اول من جمع كل حضارات الشرق والغرب والشمال والجنوب معا في حضاره واحده حكمت العالم القديم لقرون طويله حتي صارت جزء لا يتجزأ من المخزون الحضاري العالمي: واكثر من ذلك تعلق المصري-لغويا ولاهوتيا-بالغرب فاعتبره اكثر من مجرد مكان يدفن فيه الي حد ان كلمة "غرب" نفسها كانت كلمه مقدسه تعني "جبانه"! (ولئن كان المصري القديم يختلف في شئ عن غيره من شعوب المتوسط فانما في العنايه التي كان يوجهها الي الدين والموت اذ كان همه الاكبر الذي عاش حياته كلها من اجله-ومنذ فجر التاريخ-هو اليوم الذي سيموت فيه وهذا هو ما جعله يعتني اكبر عنايه بمكان دفنه ويزينه باجمل الرسوم التي تصور حياته اليوميه فالموت حسب تعبيره هو بمثابة ايذان بانتقال الي عالم كان يصوره كما لو كان ابحار في "رحله سرمديه" علي متن قارب كتلك القوارب التي يعرفها مع فارق بسيط وهو ان قوارب العالم السفلي (عالم الروح او الخلود او البرزخ او اوزوريس) تحركها ملائكه الحساب فيمر الميت عبر بوابات عده حيث يجد هناك من الالهه (حرس البوابات) من يكيلون اعماله بالميزان فان فاقت حسناته سيئاته اعلنوه صالحا وسمحوا له بالعبور وهكذا حتي يعبر جميع البوابات ليصبح من ثم يصبح مهيأ للعوده-حسب الموعد- وفقا لاراده عليا- الي عالمه الارضي-عالم الماده-من جديد حيث تتجسد الروح تارة اخري في عالم البعث Resurrection او يوم القيامه او ساعة الحساب (حرم-مجيدون او الواقعه) من خلال ميلاد جديد "يحاسب" فيه الانسان (الصالح) علي ما اقترفه في حياته السابقه من افعال فيعاقب علي ذنوبه ويجني ثمار حسناته: يسعد ويعذب: وهو ما يعرف باعادة التقمص Reincarnation: نوع من الاستنساخ الطبيعي: والملاحظ ان اخن-اتون هو-تاريخيا- اول من منح الشرق تلك المكانة الدينيه المميزه فجعل منه-عكس سابقيه-قبلة للصلاه ومكان لدفن الموتي فهو "المكان الذي تشرق منه عطايا الاله" حسب رأيه: ولابد وان ذلك يرجع الي كون ديانة اتون قامت اساسا علي عبادة رع (قرص الشمس) ومع ذلك لم تطغ مكانة الحياه الدنيا علي الاخره في عصر اخن-اتون ويمكن ان نستنتج هذا من العنايه التي اولاها لحياة الاحياء-الذين صاروا يعيشون الان في غرب الوادي-الي حد اصبح الناس في عصره يفكرون في الحياه كما الموت فكانوا اذا ما تحدثوا عن الموتي ذكروهم ليس كموتي في عالم اخر وانما كاحياء مثلهم يعيشون معهم وبنفس المفهوم اللاهوتي عن الخلاص والسعاده الابديه)

ومن دواعي الاسف ان نجد اليوم من لا يعيرون الحضارات الاغريقيه-الرومانيه-والاسرائيليه القديمه-الاهتمام الواجب غير عابئين بما اضافته الي الحضاره الانسانيه: فنجدهم-وبقليل من الامانه والموضوعيه-ينكرون بعضها او يختزلونه-اذا ما ذكروه-في صبغه طائفيه معينه كما لو كان حادثا لا قيمة له او كما لو انه ميراث قوم اخرين: وبالنسبه للحضاره الاسرائيليه القديمه بالتحديد-والتي لم يبق منها الكثير مما يدل عليها فيما يبدو-الا ربما في كتب الدين-لم يكن الاثر الذي تركته مرتبط بالعامل الجغرافي-سياسي يقدر ما كان مرتبط-والي اقصي حد-بالعامل الانساني-ديموغرافي: ففي الوقت الذي تعرضت فيه مملكتي الرعامسه والنبي داوود (وابنه سليمان) للانقسام والغزو والتدمير وبدأ انبياء بني اسرائيل-الذين اقتيدوا اساري الي مقاصد سبيهم في بابل وفارس واشور-يعلمون الناس الحكمه والهدي والنبوات: ظهر زرادشت في فارس وطاليس وديموقريطيس في اليونان وفيثاغورس وانبادقليس في روما وبوذا في الهند وكونفوشيوس في الصين ونشطوا جميعا في وقت واحد تقريبا ما صنع خميره عقليه روحيه-حسب تعبير هكسلي-عمت فاعليتها العالم المتحضر في ذلك الوقت او المناطق التي تقع علي خط العرض الذي يمر بين بحر ايجه والبحر المتوسط وهي نفس المساحه تقريبا التي اصبحت فيما بعد بفضل الاسكندر المقدوني وخلفائه من بعده امبراطوريه عظيمه اهدت الي الانسانيه عصر جديد هو عصر اثينا-الاسكندريه ذلك الذي يمكن ان نطلق عليه بحق عصر الانسانيه الذهبي

ونحن نعلم كيف اسهمت جهود العلماء الاغريق والرومان والعبرانيين-خلال الالفي عام الاخيره-في صعود حضارات لم يكن لها وجود في التاريخ القديم: ويكفي ان نعلم انه لولا ان اقتفي قدامي الفرس والعرب-والمستعربين-اثر ما ترجموه–ونقلوه-عن الاغريق والرومان والعبرانيين لما اصبح من المتصور ان يصبحوا يوما شركاء في نمو حضارات عريقه كتلك التي ازدهرت في احواض انهار مثل دجله والفرات والنيل والهند والصين ناهيك عن قيادة تلك الحضارات ولردح من الزمان (حتي مالت الكفه اخيرا نحو الغرب مع الاندلسيين (الاسبان والمغاربه حاليا) والعثمانيين (البيزنطيين سابقا) والايطاليين والالمان والفرنسيين والبريطانيين وهكذا اشرقت شمس الحضاره الاورو-امريكيه لترث الحضارة الاورو-متوسطيه بكل ما ابدعته من افكار ومشاعر ومعارف وفنون ومخترعات واشراقات نقلت العالم كله–وبسرعة البرق-الي العصر الحديث وبصوره نهائيه)

فلا شئ سوف يغير من حقيقة ان الغرب بذل من الجهود-والدماء-عبر التاريخ- كي يصبح القائد الشرعي لهذه الحضاره وبشكل مستحق

واعتقد ان ظهور الانبياء في منطقتنا ومن طينتنا هو اكبر دافع لنا-قبل غيرنا-لكي نصبح رسل سلام ومحبه وعلم وننهي هذه الخصومه التاريخيه التافهه بين الغرب والشرق والشمال والجنوب والي الابد

وليس غريبا فلقد اتجه الايمان الابراهيمي-ومنذ نشأته-بالفكر الانساني نحو منعطف جديد اشبه بحل وسط ما بين النظرتين القديمتين اللتين تحدثت عنهما منذ قليل: الصوفيه والواقعيه: فذهب الي ما يمكن ان نسميه نظره ثالثه ذات بعدا اكثر عمقا وشمولا: فبدأ الانسان يتعلم-من خلاله-كيف يكيل قضايا الروح والماده بالقسط فيضعهما في كفتين متعادلتين بلا غلو: في الوقت الذي اقتلع في طريقه عبادة الاوثان: فخرج من الدائرة التي كانت تفرض عليه احد خيارين اما توحيد الالهه والثقافات (خيار اخن-اتون) او المحافظه علي تعددها: واكثر من ذلك بدأ الانسان يتحرر-تدريجيا-من العبوديه وروابطها النفسيه والاجتماعيه والاقتصاديه والسياسيه والقانونيه تلك التي تراكمت معه قرون طويله وعطلته عن اكتشاف العديد من الحقائق وتفنيد العديد من الاكاذيب (في اطار من الانبهار-او احتقار-بكل مالا يستطيع تفسيره من ظواهر الطبيعه والحياه الانسانيه):

واكثر من ذلك اصبح العالم–بمساحته الجغرافيه-منفتحا امامه ومن الممكن تصوره فصار في امكان الانسان الاتصال بمجتمعات وطبقات اخري: فكانت النتيجه ان حقق الانسان مع الايمان الابراهيمي نوع من الاستقرار الذهني ازاء ذهنية التعصب والصدام اللامحتملين تلك التي سادت قديما عندما كانت تطغي النزعات القبليه والطائفيه علي نزعة السلم والامن والاتفاق الاجتماعي

وما من شك ان الولاءات الوطنيه او الاهليه او الدينيه مهمه-خصوصا اذا ما كانت تتوافق مع قناعات حره حقيقيه-لكن هذا لا يعني ان ينفصل الانسان-ولو لوهله-عن ولائه الاصلي تجاه النوع الانساني وما يحتمه ذلك عليه من واجبات

وهكذا بقدر ما يعلم الايمان الانسان كيف يحتفظ بقدراته القديمه علي ان يتعرف علي ذاته ويدركها كامله ويحققها ويعبر عنها ودون ان ينتقص ذلك-ولو قليلا-من حقوقه وحرياته وكرامته واستقلاله علي المستوي الفردي: وبقدر ما يعلم الايمان الانسان كيف يبني–ويطور-حياه كلها سلم وسعاده وعدل وامل وتسامح ورقي علي جميع المستويات: حياه توفر للانسان فرص تربيه وتعليم وعمل وبنفس القدر من المساواه: حياه تحثه علي نشر ما تعلمه من علوم وفنون وفضائل اصيله وبحيث لا ينحرف عن المسار التاريخي والمغزي الاساسي في نهاية المطاف الا وهو الاتصال السلمي بغيره من خلال نوع من التكاتف والتكامل الاجتماعي الذي يراعي حقوقه وحرياته وكرامته واستقلاله (وهو ما يعرف اليوم بالمواطنه او المسئولية الاجتماعيه) ثم التوحد مع سائر المجتمعات والحضارات في حضاره انسانيه ذات رؤيه تؤمن بخالق واحد وسلام عالمي نهائي بين البشر: بقدر ما يكون هذا الايمان اصيلا وحقيقيا
                
فروح الايمان المتجرد لا تكون-في رأيي-الا من خلال قناعات عقليه ومشاعر حره حقيقيه وتفسير دقيق للمفاهيم والوقائع والنبوءات: وبذلك فالايمان القائم علي عناصر جبر وتخويف وكراهيه وكبر واكاذيب: الايمان الذي يمنع الانسان–والمجتمع- من ان يتفرغ لقضاياه الحقيقيه (العلم؟ التكنولوجيا؟ السيطره علي الطبيعه؟ استحداث اوجه كسب رزق وعلاقات دوليه نافعه ومنتظمه؟) هو ايمان غريب وغير مقنع وغير انساني ولا يصنع قاده ولا يتصف بديمومه بل سرعان ما يجف ويتبخر كالماء في الصحاري الملتهبه حين يتعرض لحراره الشمس!

ان اولئك الذين ربطوا دينهم بقومياتهم انما يعيشون في قبور! ان تلك النظره القاصره المسجونه في كراهية الاخر وصنع العداوات لا تصنع حضارات

ان المهرج حقا هو من يطلب اليقين حيث لا يمكن اليقين: ان المتكبر المغرور هو من لا يعرف الفارق بين الرأي والحقيقه الواقعه فيتجاسر علي الحقائق او يخلط بين الثابت والمتغير ليزكي اراء عفا عليها الزمان وثبت خطأ مزاعمها عشرات المرات (ومع ذلك لايزال علي استعداد للوقوع في الخطأ نفسه مره جديده لا لشئ الا لانه غير قادر علي الخروج من محبس غروره وتفسيراته المغلوطه عن النفس البشريه والنبوءات الدينيه)

لقد غاب عن اعداء العلم ان العلم لا يمكن ان يتناول حقائق قاطعه وانما يحاول ان يكتشف اقرب السبل اليها فسر التقدم العلمي هو قدرة الانسان علي التشكك بما يكفي ليفرق بين الحقائق والاحتمالات: الفروض والنظريات: او بين النظريه المبرهنه التي يمكن اختبارها واستنتاج تطبيقات لها وبين تلك التي لا يمكن الا ان تبقي حدسا-علي الاقل في الوقت الراهن-حتي يأتيها اليقين اي حتي تتحول الي حقائق وفقا لمعطيات واقعيه من افكار ومشاعر دون تصنع او اجبار: كما غاب عنهم ان اخطاء العلم لا يكتشفها–او يصححها- الا العلماء

فاذا كانت العلمانيه هي افكار ومفاهيم من شأنها ان تعلم الانسان كيف انه من الواجب عليه ان يتوخي العلم والتعقل في كل ما يذهب اليه فيتمتع بعقل منظم وحس انساني يفرق به-وباراده حره-بين الخطأ والصواب فيتخذ القرار الصائب او المناسب من بين عدة اختيارات: واذا كانت العلمانيه هي ان يتعلم الانسان كيف يتحمل مسئولية اختياراته ويمتلك مهارات اتصال معينه يقيم بها علاقات اجتماعيه ناجحه مع الاخرين-ليس فقط من اجل التكيف الفردي-او ادارة الصراع-او مواجهة الضغوط او تأمين الزوجه والاولاد ونمو الاقتصاد-وانما علي طريق اكتساب معارف-وتجارب-جديده تصنع مجتمع افضل: اذا كانت العلمانيه هي ان يفعل الانسان كل ذلك تاركا ما عدا ذلك بيد الخالق القاضي بالحق: فالخطأ اذن ليس في العلمانيه وانما فيمن اخذ بها: بمعني ان العلمانيه الماديه التي ينقصها روح الايمان انما هي الحاديه باختيارها او بمعني ادق: باجبار نفسها علي ذلك!

فالعلمانيه-في حد ذاتها-لا تناقض اديان ولا تدعو الي الحاد ولا تكرس اباحيه وانما تعمل علي ان تتسع الافاق للبحث والدراسة وفقا لقواعد مرعيه منظمه تمنح الناس الفرصه كيما يحددوا بحريه نوع-وشكل-الايمان-والسلوك-الذي يناسبهم وبقدر ما تتيحه لهم عقولهم:

وقد قال الطبيب النفسي كارل يونج ذات يوم انه ليس هناك احد من بين مرضاه الذين عالجهم–علي المدي البعيد-من لم يستعد ايمانه الروحي بعد الشفاء فاحتفظ–نتيجة لذلك-بسلوك ناجح علي المستوي الاجتماعي–لا كواجب اخلاقي او مسألة تدين-بل لانه رأي ان في ذلك سعادة نهائيه للانسانيه جمعاء

واذا كانت ما تسمي بجماعة الاخوان المسلمين–ومن بعدها ما يسمي بالسلفيه بانواعها-او اي من اولئك الذين يقيسون قيمة الكلام بقدمه-هي النتيجه المباشره والطبيعيه للمعركه الكبري-او ان شئت قلت الخيبه الثقيله- التي ظهرت في منطقتنا مع بداية القرن العشرين بين التدين والعلمانيه (ممثله قديما ولسوء الحظ في الفاشيين القوميين والماديين البلاشفه): الصوفيه والواقعيه: الاسلام والاديان الاخري: المذهب السني والشيعي: فان الازهر لم يكن-وباي حال-الا ضالع اساسي في هذه المعركه وقبل ذلك بكثير: وحين ننظر الي تاريخ التعليم الازهري ندرك اثر اتجاهه المتراجع-بل المتخلف-في التفكير المصري ومداه البعيد وهو اتجاه–وكما يمكنني ان اكرر القول-لا يفيد دراسته واستقصاؤه الا من يرغب بتشريح الجثث بنفسه! ومع ذلك يمكن للمرء دوما ان يطلع علي كتابات رواد الفكر المصري الحديث-فكر ما بعد ثورة 1919 المجيده-مثل طه حسين وغيره-وهم جميعا بالمناسبه من خريجي الازهر-ليدرك طبيعته الرجعيه الجامده الاستبداديه المتناقضه المتطرفه في احيان كثيره المقيده دوما بعوامل الحظر والرقابه والتحيز الي القصر (اذ ظل الازهر-ومنذ تشأته-ولمئات السنين-سواء منفردا او اثناء معاركه مع غيره من المدارس الاخري-ملتصقا التصاقا ثابتا بالقصر (والمستعمر؟) ومعبرا عما يطرحه الحاكم من اراء): وفي العقود الثلاثه الاخيره بالتحديد تميز الازهر بفساد داخلي طال فيما طال بعض المشايخ انفسهم (مع تقهقر ماثرهم ونمو غرورهم)

لم تكن عملية التحضر اذن يسيره علي الاطلاق بل كانت مغامره غير محسوبه العواقب او مخاطره محفوفه بالاهوال ولهذا السبب سارت بشكل سئ وبطئ للغايه-فيما يبدو- وفي صورة طفرات تأرجحت ما بين صعود وهبوط عبر الزمان والمكان فكان طبيعيا–خصوصا في حالات الهبوط-ان تنحي العلوم والفنون جانبا لصالح احط انواع الاعمال اليدويه وتنحي الشهامه الوطنيه والمبادئ الاخلاقيه جانبا لصالح احط ما في الانسان من دوافع حيوانيه فكانت عملية التحضر-بذلك-تأتي دوما في مرتبه تاليه بعد اهداف الحاكم ورهن ما يسمح به مزاجه الشخصي

والسؤال: هل من الممكن ان ينتهي كوكبنا هذا حقا-وكما تصور افلام هوليوود-الي دمار نهائي يحوله-ومعه مجموعتنا الشمسيه باسرها-الي اشلاء ؟ او ان يعود به الحال-وكما في كوكب القرود-الي العصور الوسطي حيث العديد ممن لا يملكون الا اصوات عاليه وعضلات قويه وايمان منهك وعقول العصافير ؟

الاجابه هي نعم: ان هذا جائز طبعا وفي اي وقت اذا ما كانت هناك اراده في هذا الاتجاه او ذاك: فاذا ما الت قيادة العالم الي شخص غير ناضج الفكر السياسي والاقتصادي او شركه من تلك الشركات العملاقه المتعددة الجنسيات العابره للقارات او حكومه من تلك الحكومات المريضه الشريره التي تعاني تشوهات خطيره وعديده جراء الفساد والاستبداد (وفي ظل عدم وجود بحث علمي واف او قيم ومثل عليا حقيقيه متصله بثقافة العصر او امل في المستقبل): فان الانسان سوف يفقد حتما كل ما اكتسبه من حضاره وتحضر في نهاية المطاف

ان مشكلة التحضر-كالتدين-كالتعلم-كالتربيه-كالسياسه-كالحفاظ علي البيئه-وان بدت هينه في عيون البعض الا انها قضيه معقده للغايه-وحيه-ومركزيه الي حد ان الكتابه غير المتأنيه عنها قد تصبح في حد ذاتها تحريف لها

ولكن: ما هو التحضر؟ وما هي السياسه؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق