الاثنين، 24 يناير 2011

ثورة الياسمين: ثوره بعبق عصر (1-2)

اذن كان الادباء والشعراء علي حق: بدون كرامه بدون حريه بدون غضب وارادة لن نستطيع صنع الحياه. لقد ذكرتني ثورة الشعب التونسي المجيده الطاهره: ثورة الياسمين بان للحريه والديموقراطيه في بلادنا ارث عريق من الاغاني والاناشيد (وليس "انياب" فقط): كما ان للحب اناشيد و للكرامه اناشيد وللعمل والمسئوليه اناشيد وللامل اناشيد وللسعاده اناشيد وللغضب اناشيد وللاسره اناشيد و للمجتمع اناشيد وللاعياد اناشيد كما الانهار والبحار والاشجار والطيور والزهور والاماكن وغروب الشمس وشروقها وتعاقب الفصول فكلها اشياء تذوقها انسان القرن العشرين وغني لها بكل اللغات وباللغة العربيه الجميله علي وجه الخصوص.

ولطالما عرفنا تلك الاناشيد واحببناها اطفالا وحفظناها في المدارس عن ظهر قلب ورددناها طواعيه –أو علي وقع "الخرزانه"- علي امل اننا في وقت ما سنكبر وسننطلق كأرواح طاهره متفجره بروح أمل كونيه: هي روح استطاع أن يقول عنها دانتي في عصر النهضه قبل ما يزيد عن 400 عام: "ان بلادي هي العالم كله!". غير اننا سقطنا –للاسف– من بعدعلو وارتفاع – وبفعل فاعل- في مصيدة واقع من حديد: هو عالم مخاصم لكل ما هو جميل ونبيل واصيل: معادي لكل قيمه وذاكره شريفه: عالم فاسد ليس "وطني" ولا "ديموقراطي": لننسي بذلك الاناشيد ونتذكر فقط كل ما لاقيناه في هذا العالم -في سبيل حفظها- من الم وعذاب.

وعذرنا اننا لم نكن نعرف كل ما كان يحاك ضدنا في الخفاء طرف اناس "مؤتمنون" و"مسئولون" علي الارجح عن رقي المجتمع وتقدمه قبل ان يكونوا "مسئولين" عن امنه واستقراره (واستقرارهم؟). وهنا ينبعث سؤال: هل يستطيع الانسان ان يعلم نفسه قيم الكرامه والحريه فيما يعيش في واقع يبذل قادة رأيه كل الجهد من اجل التضييق علي مدركاته لتلك القيم حتي يبلغ حاله يكون فيها تقديره لتلك القيم - وللطبيعه الانسانيه نفسها - قد تلاشي نهائيا ؟

علي ان استمرارنا في قبول هذا السقوط المخزي والعيش في ظله –في رأيي- لا يكفي عذرا: وانما هو الجبن بعينه ولا يمكن ان يقود مثل هذا الجبن الي الكرامه والحريه. اذ ان الفطره البشريه السويه تلزم الانسان بان يفعل كل ما في وسعه القيام به لان يقوم من بعد سقوط و يواجه الفوضي (المتمثله في هذه الحاله في ذلك الكابوس المفزع من البلاده والركاكه والسوقيه والسطحيه والتخلف والجهل الذي عشنا في رحابه–و بشكل شبه متعمد- طوال ال 30 عاما الاخيره): ومن ثم يحصل الانسان علي "نظامه" الحقيقي بعد الفوضي: وهذا ما نحن بصدد ان نتعلمه في الفتره القادمه من ثورة الياسمين المجيده ان لم نكن قد تعلمناه من قانون الطبيعه نفسه.

فالانسان يفقد الكثير بل قد يفقد كل شئ حين يرفض ان يواجه الشر والموت لحساب التكيف. ذلك ان هدف الاستبداد الاساسي ومغزي سياساته المشبوهه هو ان يركن الانسان دوما الي حياة الجسد (حياة المال والاقتصاد) وبذلك يبقي قرين العوز والجبن والحاجه والركود والغش والكذب والنفاق والكبت والبخل واليأس والسخره والذاتيه والحرمان والتخلي واللا مبالاه: قيم الفراغ. وبذلك فان اولئك الذين يرفضون ان يميزوا قوي الحياه -و يركنوا الي قوي الفراغ والاستبداد - ليسوا الا اموات: ذلك ان هدف استقلال الانسان وسلامه مع نفسه -ومع المجتمع- لا يتحقق الا باختبار الاراده.

ولذلك فلا سلام الا في وجود حاله دائمه من النضال ضد قوي الفراغ والاستبداد مصدري حالة الخمول والخمود والبلاده (وهي حاله هشه للغايه ازعم انها في عمومها لا تستطيع ان تحقق نجاح مالم تتنازل قوي الحياه –لصالحها –طواعية-عن جزء من محيط المكان). ولذا يخيل لي اننا نزداد "حيويه" و"فاعليه حياتيه" كلما واصلنا الدفاع عن حقنا في الحياه: اي كلما تحدينا الموت!  

وسواء شئنا او ابينا ستظل الحياه في حالة صراع دائم مع الموت والشر والفراغ (الذي هو في الحقيقه جزء لا يتجزأ من الحياه نفسها!). وسواء شئنا او ابينا نحن متورطون في هذه المعركه بحكم وجودنا في خضمها وتسري علينا قوانينها. وبذلك فاننا اذا ما رفضنا-لسبب او لاخر- المشاركه في تلك المعركه ستجبرنا الحياه علي المشاركه فيها رغما عنا أو سيقضي علينا الموت فيما تعود كتائب الحياه مع اخرين من اجيال لاحقه–وبشكل اكثر كثافه– ربما في صورة ثوره او معركه عسكريه أو كارثه طبيعيه– لتهاجم –بشراسه- قوي الموت والشر والفراغ وتعمل علي اخضاعها وطردها وتطهير المكان منها وبالتالي انهاء كل ذكري لنا معها نحن الاجيال المستكينه الغابره التي رفضت القتال لصالح اجيال اخري قامت بذلك نيابة عنها: وهذا هو قانون الطبيعه.

ولا يملك احد تفسير عقلي بحت –علي الاقل الي اليوم- لماذا تتغلب قوي الخير والحياه -دائما–وبشكل يكاد يكون متواصل- علي قوي الموت والشر والفراغ (قوي الاستبداد) أو لماذا اذا اوشك عبق الحياة ان يندثر سرعان ما يعود مرة اخري –مع اجيال جديده- تصونه وتنتصر له ولنفسها ولغيرها من الاجيال. ربما يكون نفس السبب الذي يدفع الانسان احيانا–خصوصا اذا كان ثريا بما يكفي- الي ان يتخلص من "الكراكيب" التي طالما احتفظ بها –بوعي او بدون وعي- من اجل سلام البيت ونظامه ونظافته واكثر من ذلك يقوم بتعطير المكان برائحه طيبه (كرائحة "الياسمين" مثلا ؟) ليعوض الفراغ الذي خلفته "الكراكيب" وما تبع ذلك من روائح عطنه كريهه.

اذ ان المؤكد ان لا احد يستطيع ان يتخلص من "الكراكيب" والروائح العطنه الكريهه بمجرد عدم النظر اليها مثلا كما ان طول النظر اليها لن يحولها الي اشياء للتبرك أو تحفا اذ يعلم الانسان -واغلب القوارض- ان الكراكيب لا يمكن ان تصبح اشياء للتبرك أو تحفا لمجرد انها حازت علي اعجاب البعض وتقديرهم في وقت سابق كما انها مهما طال زمان تخزينها وسواء كان مكان التخزين هذا مخزن بارد في بدروم بيت أو غرفه مكيفه في قصر رئاسي في احد الاحياء الراقيه فان "الكراكيب"–ربما لانها كراكيب- لن تتطوع بالرحيل من نفسها بل ستمكث و"تبلط" في مكوثها وكأن الامر لا يخصها حتي تجد من "البشر" من يتطوع بتحريكها وتخليص المكان منها ومن روائحها.

باختصار: اما ان نفسح المكان لروائح "الياسمين" أو روائح "الكراكيب" فلا ضمان لما هو وراء ذلك من خلطات تلاقي التضاد تلك التي دأبنا علي طرحها اذ ليس هناك ثمة "كوكتيل" مثلا بين الروائح الطيبه والروائح العطنه او بين قيم الخير والحياه و قيم الموت والشر والفراغ.

وقد يكون طريفا ان نلاحظ انه حالما يحس الانسان انه بصدد شعور ايجابي ما نحو التعقل والرزانه تصبح مشاعره واحكامه (وبالتالي حياته) بصوره اوتوماتيكيه مأخوذه بالكامل -بل وشبه مسكونه- بكل ما من شأنه اختراع هذا "الكوكتيل" (واعتبار "الكراكيب" تحفا أو اشياء للتبرك)  فيصل الي نتائج مثل "الحياد الايجابي" و"عدم الانحياز" و "امسك العصا من المنتصف" و "مؤتمر دولي للارهاب–والسلام-والفراخ- الخ" بصفتها حلولا للمشكله (بناءا علي نصيحة احد اجلاف المدينه من السكيرين غالبا) بينما هي في الحقيقه شعارات تعكس كوكتيل تلاقي التضاد. واختلاف الاقوال عن الافعال ما هو الا مثال يضربه لنا الواقع "الكوكتيل" نفسه عن نفسه. ولعل السبب المباشر هو الا يعود في استطاعة احد ان يميز بين الخير والشر او يدرك المعني الحقيقي لما يقال (باعتبار ما يقوله اهل العبقريه من اعضاء حكومة الحزب الوطني -وان كان غامضا ومبهم وغير مفهوم في احيان كثيره ولا يعكس الواقع- هو دائما صواب وهو دائما علامة تفرد ونبوغ وبذلك فان الابهام والطلاسم تكون غالبا–حسب تفسيرهم- نتيجة عجز الشعب عن الفهم وليس بسبب فكر خاص بصاحبه ناجم عن مفردات غير واضحة المعالم او غير صائبه في جملتها او بسبب عدم وجود فكر من اساسه يستحق عناء الاصغاء بل مجرد مسكنات لتلطيف الواقع فيبقي الحال كما هو وكما يروق لهم وحسب مصالحهم) وهكذا ينجح الكوكتيل الغامض–مؤقتا- في ان يدفع بالوضع الي الاستقرار (طالما ان هناك دائما شئ اخر في الموضوع!). ولعل اقرب مثال لذلك هو ان نري صاحب مثل هذا الفكر يدعو الي اشياء مثل "دوله مدنيه" و"حقوق مواطنه" و"حقوق انسان" (كبديل ربما عن الديموقراطيه ؟) بينما هو يكرس في الواقع لدولة امن وحمايه عسكريه بكل ما يتبع ذلك من انتهاكات تظهر نواياها واضحه في مقولات مثل "حقوق الانسان لا تعلو علي حقوق الامن والحمايه" (ويعلم الله ماذا يعني هذا سياسيا وقانونيا ودستوريا: الي هذا الحد يحتاج المرء الي محامي او الي محو اميه سياسيه ليفهم الجديد من المصطلحات!) ولكنه رغم ذلك يجد في هذا جوابا علي سؤاله الخاص مشكلته الكونيه: ارضاء غروره (بالبقاء في الحكم طبعا لاستكمال تمثيلية الظهور بمظهر العاقل الرزين واعادة الامور الي صالحه ولو حاول خداع اهله اكثر الناس معرفة به). ومع ذلك قد يستمر معه هذا "الكوكتيل" وقد يعتبره نموذجا ينبغي ان يقتدي به الاخرون حرفيا لمجرد ان له علاقه بفكره ما طرأت علي ذهنه وهو يتحدث مع زوجته عن عصر أو جيل او شئ ما احبه: مهما اخفي هذا "الكوكتيل" من اخطاء ونواقص -بل ومصائب فكريه- ومهما كانت الافكار الاخري ممنوعه ومحجوبه ومطارده ومحاصره ومهما كانت الفتره التي يعيشها بطلنا هذا قصيره. فهو يريد ان يبدو اصيلا وعاقلا (بمعني "رتيب") في اسرع وقت ومهما كلفه الامر حتي علي حساب عصر وفكر جيل جديد. وهكذا تنتهي القصه بدوامه من دوامات "بوسيدن" الخياليه هي دوامة كل "الكراكيب" الفكريه التي اصر علي الاحتفاظ بها والمنتقاه حرفيا من فكر كل عصر تقريبا والتي لا يجد الانسان فيها لنفسه الا مزيد من الحيره والغموض وخسران الذات. وقد لا يبلغ ابدا نهاية الاسطوره اذ غالبا ما تنتهي به حيرته الي التحيز و الطيش اللذان طالما فر منهما او الي رفض -او قبول- كل شئ علي طول الخط! وهكذا يجد نفسه بارادته بعيدا كل البعد عن العالم العاقل الرزين كما لو كانت حياته كلها جنونا عابرا عاشها كشبح وسط الفوضي التي صنعها والتي كان يسميها نظاما. مما يخيب امل المتابع الذي كان ادعاء التعقل والرزانه قد خدعه تماما وشتت انتباهه.

حسنا! اعتقد ان اغلبنا مر بهذا -بصوره او باخري- سواء انقطع هذا الفكر "الكوكتيل" عند نقطة ما أو تواصل واستمر. فلا يخفي ان المذهب العام للناس هذه الايام هو ان يصنع كل جيل مسخا أو صوره طبق الاصل قدر الامكان من جيله في الاجيال التي تليه ليري نفسه فيها ربما ويتمم بذلك –حسب رأيه- انتقال حالة توريث القيم تلك التي يتزامن معها غالبا توريث كل شئ بما في ذلك ما لا يملكه الانسان (كالمنصب مثلا) كيما يستمر النهر علي جريانه! وهو بالمناسبه مذهب معروف في مجتمعات اخري ايضا وقديم قدم ظهور الانسان علي سطح الكره الارضيه مارسه الانسان في عصور العبوديه والوثنيات القديمه كما يمارسه اليوم في رحاب الاديان السماويه وفي رحاب العلوم والتكنولوجيا. (ونصيحتي: لا تقبل بسلوك او فكر لمجرد انه موجود في مكان ما علي سطح الارض او لانه ميراث ادخره لك ابوك! فان لم تضمن الاجيال القديمه حتمية استقلال –قبل استقرار- الاجيال الجديده فان النتيجه الحتميه هي التخلف والركود والانهيار وهكذا اصبح استكمال النضال من اجل التغيير و الاستقلال –اي من اجل الاستقرار الحقيقي- واجب لا مفر منه)

ولذلك فقد يكون السؤال هو: ما الذي يحتاجه الشعب المصري اليوم في تلك اللحظه التاريخيه الفارقه– وما هو الشئ الاكثر الحاحا: الخوف ام الحريه؟ الامن ام الكرامه؟ الجهل ام المعرفه؟ الفاعليه ام الخمول؟ المجتمع ام الفرد؟ الديموقراطيه ام الاستبداد؟ الرجعيه ام التقدم؟ المسئوليه ام اللا مبالاه؟ الحياة ام الفراغ؟ فاذا كانت الاجابه هي الخوف والجهل والرجعيه والخمول والاستبداد واللا مبالاه والاسراف علي الملذات وعبادة الفرد (عناصر الموت والفراغ) فهي عناصر موجوده بالفعل في حياتنا وبكثره ولها سوق رائجه طرف كراكيب الحزب الوطني الحاكم وعشش فراخ الرجعيه الجاهليه ونعرف نتائج وجودها. واذا كانت الاجابه هي الحياه بكل ما تعنيه هذه الكلمه من حريه وكرامه ومعرفه وديموقراطيه وفاعليه حياتيه وتقدم فلقد علمنا الشعب التونسي الكريم –ومرة اخري قانون الطبيعه– ان قوي الحياه وقيمها لابد وان تنتصر في النهايه وان الامن صنيعة الشعوب وجد اساسا من اجل حماية حقوق الانسان وحرياته من المجرمين والنصابين والافاقين وليس من اجل حماية حاكم من الشعب أو حماية الشعب من حقه في اختيار الحياه التي تناسبه. وهكذا لابد من عوده دائمه –وبصوره شبه مستمره- لقيم النضال والا توقفت الحياه وخمدت وخمدنا معها –ولعنتنا الاجيال القادمه- دون ان ترحم شيخوختنا.

ولذلك فليس السؤال ابدا في رأيي: اي "الكراكيب" أو "عشش الفراخ" خير وانفع (أو اقل ضررا وأكثر استقرارا أو أكثر احتراما لحرية الكلام): وبالتالي ليس السؤال: اي القيم الجميله الاصيله تستحق مكانا لها وسط الكراكيب وعشش الفراخ وايها يمكن استبعادها. كما ان السؤال ليس كما ذهب البعض (كما لو كان قد دخل دوامة بوسيدن فعلا): هل يشبه هذا الشعب-او هذا النظام- ذاك ام لا (فيستحق بذلك استخلاص العبر واعتبار التجربه) أو هل هذا الشعب مؤهلا -أو جاهزا- لان يثور وليسترد حياته وكرامته وحريته؟ (وهل هناك شك؟ وما هي نوع المؤهلات ؟ ومن المسئول عن عدم توافرها؟ اذ يخيل لي ان المشكله معكوسه تماما: فهناك شعب تجاوز بامتياز القدرات العقليه والنفسيه والذهنيه والخلقيه والثقافيه "للنظام" الذي يحكمه وتفوق عليها وهو اكثر شعوب الشرق الاوسط حاجه للتغيير والتحرر والنهوض كما ان هناك –علي الجانب الاخر- "نظام" متصلب يخلط بين التصلب و الرصانه ذاهل الفكر تماما عن مصلحة الوطن اشبه بمخمور لا يفيق من الشراب لم يكن مؤهلا في اي وقت لان يكون "نظاما" وهو اب روحي لكل "انظمة" وشرور المنطقه ينخر فيه السوس وتقوم ضده حاله من الفوضي بعد ان تغير العصر وتخلي عنه حلفاء الخارج وتركوه ليواجه مصيره المحتوم: غير انه –ويالا العجب- غير عابئ رغم ذلك بخطورة اللحظه التاريخيه التي تمر بها مصر والمنطقه وهكذا نراه سادرا في غيه ثابتا علي عناده يدعي الحكمه والوقار والاستقرار (استقرار من بالضبط؟) و يواجه الناس بما يعلم انه ليس حقيقيا مدعيا حماية مصر من الفتن الداخليه والتطرف والارهاب بل ومدعيا الشعبيه وهو ليس مهتما في الحقيقه بأي من ذلك (طالما انه يستبعد نفسه تلقائيا من كل دور من شأنه اصلاح وتنمية البلاد ويلقي بواجباته علي اكتاف الشعب): فالمهم انه ما زال موجودا و "بصحته" و"مسنودا" (بحقوق الامن والحمايه؟) اي انه تعامل مع الموضوع برمته بمحمل شخصي بحت متبعا في ذلك طريقته الازليه المعروفه: خوف و"حنس" واكسب الوقت وانشر الاكاذيب واقلب الحقائق رغم كل الانتهاكات من اجل ان تفل ارادة معارضيك وينقلب الوضع لصالحك ويستقر النظام!": وبذلك لا يملك المتابع الا ان يشيح بوجهه وهو يعلم ان الفوضي والكراكيب وعشش الفراخ هي التي ستستقر مع كل ما تردده الحكومه من تعاويذ سحريه مثل "عودوا الي منازلكم" و "عدم الاستقواء بالخارج" و"الشأن الداخلي" و"الامن القومي" و"المصلحة الوطنيه" ومستقبل الاجيال (اي اجيال؟ ربما المقصود هؤلاء الذين تسحقهم عربات الشرطه والاطفاء تحت اطاراتها؟ او يطلق عليهم البلطجيه -والخيول والجمال –الشرطه سابقا- بالقنابل الحارقه و الطوب والاسلحه البيضاء والناريه علي السواء؟) ليخفي بذلك هذا "النظام" المتداعي المنبوذ ما لم يتمكن من فعله طوال ال 30 سنه الماضيه في سبيل رقي المجتمع ونهضته وما ورط الشعب فيه –علي الجانب الاخر- من تخلف وفوضي وتخويف ورجعيه وفرقه علي طريقة "فرق تسد" الميكيافيليه الشهيره بدعوي "استقرار" قد يقتضي ان نواجه من اجله مصيبة وجود حقيقيه اذا ما استمر!).

وبالتأكيد ليس السؤال كما ذهب البعض وساروا في هذا الجدل ( الجهل؟) الي نهايته -في لحظه من لحظات العبث اللا متناهي- التي قد لا تخلو احيانا من مفارقه أو سخريه لاذعه لا تضحك احدا في الحقيقه لخلوها من اي مغزي: هل الموت في سبيل الحريه والكرامه والعداله والمساواه حراما أم حلالا - انتحارا ام شهاده؟! (وما حكم موت الفاسد ذو المنصب علي كرسي منصبه مثلا في ظل نظام بيروقراطي مركزي فاسد بامتياز قائم علي ازدواجية المال و السلطه اي قائم علي استبعاد مبدأ العداله الاجتماعيه تماما من حساباته: هل هو شهيد المنصب مثلا؟ ما حكم الدين في هؤلاء الطواغيت الفاسدين الكاذبين محتكري الاسواق مزوري ارادة الشعب؟ ولماذا لا يتحدث احد عنهم فيما يتحدث الكل عن المسكين الذي فقد رباطة جأشه في لحظه يأس–اثر ظلم وقع عليه- واشعل النار في جسده اعرابا عن معارضته للظلم حتي الموت: من الضحيه ؟ من القاضي ؟ من الشهيد ؟)

غير ان الشئ المربك حقا–المحير-في رأيي- الي اقصي حد- الموحي بالحاح لما الم بنا من انحدار الي مجاهل مظلمه -قد لا تكون شرا في رأي البعض- وانما علامه من علامات التفوق الذهني والمفهوميه (الكوكتيل؟) والقدره علي التحليل-ان يحاول البعض تفسير سلوك من اقدم علي اشعال النار في جسده (جراء ظلم وقع عليه) بانه -كما قيل- من اجل "لفت الانظار" أو "حب الظهور والشهره" أو بدافع التقليد (موضه يعني) وليس بغرض –احم- الموت! وهو ما يقود عادة الي اسئله هي بشكلها هذا –في رأيي- تعني المشاركه في حوار سكاري منه الي حديث الواعي الفطن مثل: هل اشعل النار في جسده بجد يعني أم هزار؟! وكيف نفسر ان اغلب من نجحوا في اشعال انفسهم من المصريين –وهم خمسه الي الان حسب التقارير الرسميه- انهم لم يشتعلوا اشتعالا كاملا مثل "الشهيد" بوعزيزي وانما اشتعال طفيف مؤقت لا تتجاوز نسبة حروقه ال 5 %؟!    

وهكذا يمكننا تصور الامر علي هذا النحو: كل سؤال يحمل السؤال الذي يليه في جوفه فترة من الوقت -قد تطول أو تقصر- حسب الظروف- فاذا جاء موعد المخاض يخرج علينا احد "الحكماء" (السكاري؟) من تلامذة "فرويد" من المصابين بلوثه عقليه غالبا نتيجة تعرضهم لما لم يتمكنوا من تحمله من امراض عضال لاناس يعالجونهم علي الارجح (او نتيجة تعرضهم لفرويد نفسه!) او احد "الكهان" من "المشاهير" الذين يتقاضون راتب شهري نظير ما يضفونه علي الفرعون من صيت ومجد تليد أو فتوي (اثر هاتف في المنام ربما وان لم يتمكن صاحب الهاتف احيانا من اظهار الرقم ربما لخطورة و"حيثية" المتصل) أو احد الوزراء من كبار القوم "ذوي الميول" الفنيه "الثكافيه" ليطرح كل منهم اجابات وهكذا يتشكل الفكر المتخلف الرجعي-أو العصري- كما يتشكل الجنين في بطن امه- ويبدأ في النمو وفق عوامل كيميائيه وفيزيائيه مرتبطه غالبا بالمزيد من الاسئله المتخلفه الرجعيه -أو العصريه- واجاباتها ونوع المشروب! فيستحوذ المخلوق العجيب الوليد علي عقول وقلوب الاجيال الجديده البريئه الطاهره -الذين لا ذنب لهم سوي انهم جبلوا علي تصديق تلك الهيئه العقليه من المتحدثين -الشاهده علي قدرة الله- التي لا تناسب بين تركيباتها ولا انسجام- ويرسخ بذلك المخلوق المشوه البشع في ذاكرة المكان وسلوك الكائنات.

ولكن مره اخري: ما الذي يحتاجه الشعب المصري اليوم في تلك اللحظه التاريخيه الفارقه– وما هو الشئ الاكثر الحاحا ؟

ومع ذلك فان ترف الاختيار بين الانواع المختلفه من الاسئله او بين فكر الماضي وما ينبغي للحاضر والمستقبل قد لا يتاح الا لمن يجدون القدر الكافي فقط من المبالاه فغالبا ما يجد الانسان من يقول له: حقا؟ وماذا يعني هذا؟ فليكن: فليحدث: دعه وشأنه: اعطه فرصه اخري: دعه يستمر: دعه يكمل (ولو علي جثثنا)!

ولعل هاملت شكسبير هو أقرب مثال للتعبير عن حالة الصراع الفكري –صراع الاجيال-  ذاك في الادب الانجليزي القديم. اذ ان هاملت تعالج تطور نفسية ذلك الامير شبه الاسير في قصره مع اهله المستبدين المجانين الذين جننوه –اذا صح التعبير- وادراكه بان الانتقام–خصوصا من الاجيال السابقه- لا يعتبر من الحوادث البسيطه النادره كما تصور في البدايه يحدث فقط في زمن "العين بالعين والسن بالسن..." وانما هو –وكما صار يشعر بالحاح- حل وان كان حل "قاسي" بعض الشئ و"غير مرضي" للبعض الا انه الحل الوحيد لمشاكله مع نفسه واهله والمجتمع ككل.

فالاجيال الجديده ليسوا في حاجه –في رأيي- لمن يطعمهم ويزفهم الي بيت الزوجيه كما يزف الدجاج الي عششهم -اذا صح التعبير- بقدر ما هم بحاجه لمن يحررهم ويشعرهم بالامان (الامان المادي والروحي والعقلي معا) ثم يدعهم يقفزون متوثبين في وجه العالم ليعلنوا عن أنفسهم وعن الهويه العصريه الجديده التي اتخذوها لانفسهم وبانفسهم: وأكثر من ذلك في حاجه لمن يتركهم يدرسون –بحريه- اختياراتهم في الحياه و يعيدوا تقييم تجارب الاجيال السابقه وترتيب وتصنيف اعدائهم واصدقائهم –أو اولئك الذين طالما صنفتهم الاجيال السابقه اصدقاء واعداء- بناءا علي تلك الهويه الجديده. فيكونوا بذلك مسئولين-علي الاقل- عما اختاروه لانفسهم من مواقف دون ان يضطروا الي مواجهة وجوديه من نوع ما مع ابناء "ليليس" الاشرار مثلا اولئك الذين يجوبون العالم فسادا واغواءا وسحرا للبشر (واسماك القرش؟) كما تقول الاسطوره بينما هم في الحقيقه –عكس ما قال الاباء- مجرد بشر من ابناء حواء: ليسوا ملائكه ولا شياطين! أو مواجهة "الحقيقه العنيده غير المصدقه" كما وصفها  دكتور جونسون في رائعته "راسيلاس أمير الحبشه" وهذه نكته: فراسيلاس هذا امير–اشبه بهاملت- غير انه -بخلاف هاملت- كان يعيش في طوباويه اجتماعيه غريبه للغايه تدعي بالوادي السعيد: حيث كل شئ في هذا الوادي منضبطا تماما ومنظم الي درجة ان كل فرد من افراد المجتمع مرتبط بدور ما يعرفه مسبقا هو بالتحديد دور واحد يؤدونه جميعا علي اكمل وجه: ان يدور كل منهم حول نفسه في دوره لا نهاية لها من اللذه الحسيه الجسديه اشبه بحالة سعار! وهكذا اصبحت اللذه في عالم راسيلاس (العالم الذي اختاره له ابوه) مرادفا لكل ما هو حياتي وقرينا –في نفس الوقت- لكل ما هو وطني وطاهر وشريف أو "الحقيقه العنيده غير المصدقه": طالما انه ليس هناك من حقائق الحياه ما هو متاح غير ذلك بطبيعة الحال!

لقد شرح جونسون في راسيلاس نفس ما شرحه شكسبير في هاملت وان اختلفت الخاتمه: مشكلة "حبس" جيل كامل او عدة اجيال من أجل خدمة عالم او عصر صنعه جيل سابق يخصه وحده (حتي لو كان هذا "السجن" مثالي تماما وفقا لمعايير من صنعوه: هل يغير هذا كونه سجنا ؟): أو مشكلة الاجيال "المحشوره" بين العصور –اذا جاز التعبير- مع كل ما يملكونه من عقول وقلوب عظيمه و فعاليه حياتيه قادره علي ابداع عصر جديد ومتميز ومتطور بيد انهم ليسوا قادرين–رغم ذلك- علي مواجة الواقع (واقع الاباء) او حتي الخروج بعصر ما "وسطا" يجمع ما بين التضاد لتهدأة الموقف! فالذين من المفترض ان يفسحوا لهم الطريق مشغولون غالبا ببناء "سدود عاليه" من اوهام واكاذيب لحجب الحقائق عنهم لاخفاء عجزهم –ربما- وبالتالي اضافة عنصر جديد من عناصر اللا فائده الي منظومة الخلل الاجتماعي التي عانت بالفعل –في وجودهم- كل ما له علاقة بهم أو كل ما هو سطحي ومحبط وعديم القيمه (طالما ان الهدف من الحياه البشريه في نظرهم هو: اطلاق الشهوه أم تعطيلها ؟ وليس أن يعيش الانسان حيا وحرا وفاعلا)

وفي جملة واحده يلخص دكتور جونسون المشكله قائلا علي لسان راسيلاس: "يلوح لي دائما ان للانسان حاسه سادسه أو قابليه اخري بالاضافه الي حواسه يجب ان تطمئن وتشبع قبل ان يكون سعيدا السعاده الكامله". واذا كان هاملت قد واجه وثار وانتقم فان الامير الحبشي راسيلاس قرر التنازل عن ملكه باراده حره وهرب مع رفيق له مغادرا –بصوره نهائيه- واديه السعيد (الذي لم يكن يوما مصدر سعاده بالنسبة اليه): خرج ليصنع عالمه الشخصي الخاص المحدود في مكان اخر (أي مره اخري وفقا لما يقدره له الاخرون) فقد ادرك ادراكا نهائيا-كهاملت- انه -بما اكتسبه من قيم ومعارف وطاقه- لن ينسجم ابدا مع واقع الوادي السعيد– العالم الذي رفض كل خلق قويم وفضيله اصيله وفكره عميقه من اجل بلوغ ما سماه البعض الاستقرار أو نظرية دعه وشأنه أو "الحقيقه العنيده غير المصدقه" فأصبح راسيلاس بذلك كمكون فكري ضد كل ما يؤمن به هذا العالم علي طول الخط. راسيلاس–كهاملت- يريد ان يفعل ما هو صواب ولكنه غير قادر علي مواجهه عالم ابيه الطافح بشده بكل ما هو محسوس حتي بات عالم اللذه ذاك عالم هش باهت ميت (ربما بنفس درجة هشاشة وموات –ويالا المفارقه- وادي العذاب الذي عرفه موسي النبي) وبذلك فهو عالم في رأيه رخيص لا يستحق المواجهه (مع ضرورة التفريق طبعا بين خروج راسيلاس وخروج موسي النبي فموسي النبي الثائر اصطحب معه شعبا بأكمله وبني مجتمع فاضل جديد قادر علي مواجهة واقع الاباء والتفريق بين ثمرتي الخير والشر لذا لم يكن خروج موسي هروبا أو حتي خروجا بمعناه التقليدي الضيق وانما كان في الواقع انتقالا الي عصر جديد لم يكن بعيدا كل البعد عن الوادي المقدس نفسه الذي خرج منه أو عالم فرعون ذلك الملك الاحمق المنكوب بغروره الذي شاء له القدر ان يواجه الغرق في النهايه ويخسر جيشه حتي يكف عن المطاردة - باعتبار ان ارض كنعان كانت-جغرافيا- انذاك- جزء لا يتجزأ من مصر او الامبراطوريه التي اندحرت لتوها).

كما لو كانت الحياه مختبرا يجرب فيه الانسان تجاربه الحياتيه بناءا علي اختيارات مسبقه اختارها بالفعل -قبل ميلاده- ربما في حياة الاباء او في حياه سابقه: وهكذا فهو في رحلة هروبه الدائم تلك من الموت الذي يطارده يبذل كل الجهد ليعثر علي اجابه لسؤالين رئيسيين: ماذا ستصنع بحياتك لتجعل من واقع هذه المطارده محتملا ؟ واذا وقع المحظور ومت–وهو امر واقع بلا جدال- كيف ستساهم بموتك هذا في اسعاد جيل جديد؟

اجابة هاملت كانت واضحه: لابد حتي يصارع الزلزال العقلي الذي انتابه والمسمي احيانا "الخوف من الموت" أو "الخوف من الحياه" أو "الخوف من الانتقام" أو "الخوف من التحدي" او "الخوف من الحريه" او الخوف بشكل عام ان يستمر في تحدي ما يري انه باطل ومزيف وان يصارعه: لابد له -مهما كان الامر الذي يواجهه- الا يكف عن المواجهه فبالمواجهه فقط يمكنه ان يتغلب علي الموت (باعتبار الموت الجسدي في سبيل هذه الغايه النبيله موت شريف بل بدايه لحياه جديده): فباصرار الانسان وارادته لا يموت الانسان بل ينال (كبوعزيزي) اعتراف الحياه به وبعصره وبحقه في ان يكون مستقلا وهانئا وكريما.

بكلمات اخري: ينطلق الانسان بالتحدي وراء الحدود الممنوعه –حدود الموت- والعالم الحسي المصنوع –العالم الموروث- ليكتشف الفطره الطبيعيه ويتعرف علي نفسه ومن ثم يحررها. فالانسان لن يكون موجودا الي الابد ورغم ذلك حتي يكون "حيا" لابد وان يصبح حرا (اي موجودا) ليتخلص علي الاقل من عار الفتره التي قضاها جبانا ومدجنا وفاسدا ومجنونا! فما فائدة ان يهرب الانسان من عالم ميت -أو من الموت نفسه- اذا كانت الحياه التي يتمسك بها هي الجنون بعينه: اذا كانت الحياه لن تتحقق ابدا –في اي مكان- الا بمواجهه اخري مع الموت؟

واذا كان هاملت مندفعا بعض الشئ في ثورته –حسب البعض- وطائشا في تصرفاته فان الشعب التونسي علمنا بثورة الياسمين- وخلال فتره زمنيه قصيره- العلاقه الازليه بين الحريه والمسئوليه: كما لاح لنا من خلال هذه الثوره تفحص القيم الاشد عمقا الاكثر دلاله مما كنا عليه من قبل: أو المغزي الحقيقي من هذه الحياه.

لقد كانت المجتمعات قديما -حتي تستطيع ان تفخر بنفسها -بين المجتمعات الاخري- كمجتمعات قويه قادره علي التحدي والنهوض من الكوارث -ناهيك عن هزيمة الاعداء- حريصه علي ان يتوافر لديها في مجتمعاتها تلك ثلاث انماط من البشر: 1- المتعلم المثقف العاقل حاد الذكاء 2- الخلوق الحكيم الشهم المؤمن طيب القلب 3- المخلوق الكابوسي المرعب الغريزي زير النساء: أو الاخوة كارمازوف: "ايفان" و"اليوشا" و "ميتيا" علي الترتيب. فكان لابد من "ايفان" و"اليوشا" مع "ميتيا" ليقفا معادلين له: وكان لابد من "ميتيا" كيلا يفقد المجتمع حيويته وخشونته وشراسته وحسه بحواسه وغرائزه منحة الطبيعه: ارادة البقاء.

أما اليوم فيبدو لي ان مجتمعات الشرق الاوسط في مرحلة بحث دائم شبه متصل عن اشخاص علي شاكلة "ايفان" و"اليوشا" في حين لا يبدو لي -علي الجانب الاخر- ان امامها اي حل الا بمحاولة كبح جماح "ميتيا" قليلا او ذلك المخلوق البدائي الشهواني متبلد الاحساس (الذي لم يعد خشنا وشرسا بالضروره) والذي لا يحب شئ ولكنه يحب كل شئ: الذي لا يبالي بشئ ولكنه يسخر كل شئ في خدمة غرائزه و يود–مع ذلك- ان يكون محبوبا وحكيما وعاقلا اي ان يكون "ايفان" و "اليوشا" ايضا دون ان يزاول فكر اي منهما بالضروره! وهي-بذلك- مجتمعات لا تستطيع ان تدعي في اشكالها تلك –بسبب الاستبداد- انها مجتمعات "حيه" وانما تستطيع فقط ان تقضي هذه الحياه وتذهب وخلفها ما تيسر من "القلل" مالم تعط الفرصة لاجيال اخري جديده موجوده فعلا وقادره علي المساهمه في بناء عصر جديد.     

ويحضرني في هذه اللحظه -وسط عاصفه من المشاعر–وبشكل يكاد يكون ملحا- ذلك الكهل الذي ظهر أمام كاميرات التليفزيون في احد شوارع تونس الرئيسيه في اليوم التالي مباشرة لهروب الدكتاتور اذ صاح الكهل باكيا عندما رأي الكاميرات: لقد انتظرنا طويلا من أجل هذا اليوم - انظروا الي هذا الشعر الابيض لتدركوا طول فترة الانتظار - كنت اتمني ان يتم ذلك بيدي وبيد جيلي فاتخلص من عار هذا الشيب اما وقد تم فالحمد لله.    

السبت، 15 يناير 2011

99 % من أوراق اللعب بيد الصين؟! (4-4)

ويمكننا هنا أن نرسي قاعده ذات صلاحيه عامه - قد يتقلب لها اينشتين في قبره - مؤداها أن: 99 % قد تساوي 1% أحيانا والعكس صحيح: 1 % قد تساوي 99 % المعلنه اذا تغيرت الظروف والمصالح والقوي أو"السبوبه" (كما شرحنا) أما في الحالات العاديه (حالات الاستنزاف) فان ال 99 % تبقي كما هي دون تعديل (مع الاحتفاظ بدرجه من درجات "عدم الانحياز" بطبيعة الحال).

وطالما أن الحكومه لا تشرح شيئا مم تفعل كما لو كنا بصدد فيلم تجريبي صامت من نوع ما – وليس بالضبط "الزوجه الثانيه" ارث الستينات- نحن مسئولون أيضا عن فك طلاسمه: لذا يجدر بالمتابع الفطن – الحريص علي وقته – ما استطاع لذاك سبيلا - أن يتأمل ما يحدث من أحداث ويحاول ان يستنتج –  في صمت طبعا - سياسة الحكومه ويربطها بهذا المبدأ الهام: 99 % من أوراق اللعب بيد أمريكا + 1% حره + "شوية" عدم انحياز –ثم ربط هذا ايضا بما قاله الغير (أعني كل من خاض حوار ما مع حكومة الحزب الوطني والحكومات أخري دون أن يتسني لنا نحن –الشعب- حضوره للأسف الشديد) وبذلك نفهم – علي الأقل- أو نشارك – بدرجه من درجات الوعي- فيما تريده لنا الحكومه من واقع فنكون قد صدقنا مع انفسنا.

ولعلنا نذكر السنوات الأولي لتولي رئيس الحزب الوطني الحالي رئاسته للحزب الوطني عندما سألوه – أمد الله في عمره - عن سياسته الخارجيه وان كانت ستختلف أو ستتشابه مع سياسة سلفه فأكد بما لا يدع مجالا للشك أنه ماض قدما علي خطي الرئيس الراحل (ولا أحد يدري علي وجه اليقين ان كان يقصد عبد الناصر أو السادات – أو كليهما- ولكن الأرجح أنه كان يقصد السادات: 99 % من أوراق اللعب بيد أمريكا + 1% حره + "شوية" عدم انحياز – وهي - كما شرحت - سياسة عبد الناصر أيضا في أواخر أيامه) غير أن رئيس الحزب الوطني أوضح - بايمائة لها معناها - أن أسمه – في الواقع – محمد حسني مبارك (أي أنه سيفعل ذلك بطريقته)

و ذلك – في رأيي – عنوان صادق: فلو كان السادات قد كتب له أن ينجو من حادث المنصه المشئوم عشرات المرات لما تمكن من أن ينفذ استراتيجيته تلك: 99 % من أوراق اللعب بيد أمريكا + 1% حره + "شوية" عدم انحياز- بنفس هذه الدقه علي الدوام! ولعل هذا هو ما أدركه رئيس الحزب الوطني - في وقت ما - اذ نراه في السنوات الأخيره من القرن العشرين وقد أصبح جل تركيزه منصبا علي تنمية علاقات منفرده بالولايات المتحده بل ومحاولة الانفراد بها تماما وكأن مصر بصدد زواج رومانسي من نوع ما قائم علي حب. أي أن نسبة 99 % طرف السادات كانت علي وشك أن تصبح 100% أو أنها أصبحت كذلك بالفعل – في وقت ما- وربما كان ذلك مثلا حين توقف الحديث تماما -لأول مره- عن الحياد الايجابي وعدم الانحياز –وبدأ الحديث –وبكثره- عن "مؤتمر" دولي لمكافحة الارهاب (العرض الذي لم يلتفت اليه -أو يناقشه- أحد أبدا الي اليوم رغم الحاح رئيس الحزب الوطني مرارا وفي كل زياراته تقريبا علي عرضه!) وقد أتاح ذلك لمن أسعدهم الحظ – في تلك الفتره القصيره - فرصة الاختيار بين مزيد من الترف والرفاهيه والثراء السريع والغني الفاحش ومزيد من الظهور والسلطه في جانب – وبين مزيد من الفساد والانتهازيه والمحسوبيه مع مزيد من السطحيه والفراغ (وبالتالي الانزواء عن العالم) في جانب اخر. ولا غرابة اذن – والوضع كذلك- أن يكون نتاج تلك الفتره من عمر مصر قائم اساسا علي الاستهلاك والاستيراد العشوائي المتضاعف لما تهيئه التكنولوجيا الحديثه من أدوات الرفاهيه والترف المصممه اساسا لارضاء الحواس الجسديه-والرغبات- وليس بالضروره حل مشاكلنا. في حين تراجع كل ما عدا ذلك من أدوات الفكر والمشاعر والذوق والفن والادب تراجعا مخيفا أشبه بنهايه. كما لو كان عام 2000- عام الاعلان الرسمي عن هوجة "الخصخصه و البنوك" - اشبه بمفترق طرق أو ثوره خفيه مخمليه من نوع ما: ربما هي نفس الثوره التي تحدث عنها مرارا أمين تنظيم الحزب الوطني الحالي وقال أن ابن رئيس الحزب الوطني –رئيسه- قد قادها ؟ تلك التي ذكرته بأجواء اكتوبر 1973 كما قال أو تلك الاجواء العظيمه الطاهره التي "شبع الجميع من المتاجره بها" الي حد انها تحولت فيما بعد الي اجواء "انفتاح" من نوع ما: كانت له اليد الطولي–بالتأكيد- فيما اشعله من احداث تلته ما بين سلبي وايجابي مثل مظاهرات يناير 1977 المجيده والطائفيه الدينيه واخيرا اغتيال السادات ؟ هي–اليس كذلك؟ لابد وانها هي!

وقد نجد قرينا في التاريخ القديم لتلك الحاله أو الثوره الخفيه المخمليه التي تتحول –بوعي أو بدون وعي- الي ظاهره اجتماعيه عريضه (ومن ثم الي احداث عنف عشوائي متنوع ما بين ثوري حر مخلص وطائفي مقيت مفرق وانتهازي لصوصي يتسبب -عادة- في رد فعل شعبي راديكالي كاغتيال حاكم أو طرده خارج البلاد –ربما لانها تمت دون اختيار حر من الشعب؟).

ففي تاريخ دول الاسرات الفرعونيه القديمه قرينا لتلك الثوره الخفيه المخمليه وبالتحديد في عصر امون-حتب الثالث (والد اخن-اتون) الذي يعتبره التاريخ مضرب مثل لأبهة الشرق لحبه الشديد للبذخ واقباله علي الانهماك في الملذات مم جعل المؤرخون يعدوه بحق "سلطان" مصر الفرعونيه – اذا صح لنا ان نختصر بذخ الشرق وابهته في كلمة "سلطان" (واذا صح لنا أن نختصر ثورة رئيس الحزب الوطني وابنه المخمليه الخفيه في كلمة: "خصخصه"). فلقد بذل ملوك النصف الاول من عصر هذه الاسره (الاسره 18) أو ما يعرف بالدوله الحديثه جهودا جباره وخاضوا معارك ضاريه رهيبه - كادت تكلف مصر- في اية لحظه – مواجهة نهايه دراميه اليمه لا قيام لها من بعدها ولكنهم بانتصاراتهم الرائعه العظيمه صاروا بحق حكام العالم القديم وصار ما لا حصر له من الثروه والغني العريض يتدفق عليهم من ملوك البلاد الاجنبيه التي فتحوها في الشمال والجنوب والشرق والغرب حتي اضحت طيبه -في عصر حت-شب-سوت وتحت-موس الثالث- عاصمة الامبراطوريه بل عاصمة العالم كله انذاك بلا منافس: تجني الثمار وتتمتع بأزهي ما وصلت اليه البشريه من مظاهر الرفاهيه والرخاء وهكذا بدا الامر وكأنه ان الاوان لمصر -مع امون-حتب الثالث - أن تستريح!

ويا لها من مفارقه حزينه وكأن القدر قد شاء أن تكون نهايه تلك الاسره العظيمه (وبالتالي عصر بأكمله) بيدها هي - وليس بأيدي أعدائها– ففي أوج لحظات السعاده والنشوة والزهو بما تحقق والاستمتاع بملذات الحياه خرج علينا "اخن-اتون" (ويقال موسي النبي أيضا) بثورته الدينيه التي فككت الامبراطوريه وأغرقت البلاد في دوامه من الصراعات المحليه الدمويه استمرت عقود (الي بداية الاسره 19). ولعل اللوحه التي أقامها "توت-عنخ-امون" في الكرنك في الأعوام الأولي لحكمه بعد أن قام بترميم المعابد التي هدمها أو خربها سلفه اخن-اتون لخير ما يفسر لنا ما كانت عليه مصر في هذه الفتره: "لقد تهدمت معابد الالهه والالهات... وهجرت هياكلها وأصبحت أكواما عاليه... وأصبحت الأرض شذرا مذرا وأدارت الالهه ظهرها للبلاد... واذا صلي انسان لاله يسأله النصح لا يأتي اليه أبدا واذا دعا الانسان الهه أيضا لا تأتي اليه أبدا... لقد أوذيت قلوبهم لأنهم حطموا ما سبق عمله" ولكن هذا ما كان مصري ذلك الوقت يراه اذ انهم اعتبروا ثورة اخن-اتون زندقه وهرطقه لم يحدث لها مثيلا في أي عصر وكان لزاما علي توت-عنخ-امون (خلفه) أن يرضي الالهه الغضبي لعلها "تأتي لمن يدعوها أو يسألها النصح" وتعود بذلك الحياه – حياة الترف والخلاعه - سيرتها الأولي! وما غاب عن ذهن الملك توت والكهنه –انذاك- هو انه لا شئ – في الحقيقه - يعود سيرته الأولي.

وكان عذرهم أن مصر-بل الانسانيه جمعاء- كانت لم تزل في مراحل التكوين الأولي في عالم بدائي تماما يغلي كالمرجل تسوده القلاقل والغزوات والمجازر الجماعيه والانتهكات الغريبه (الي درجة شيوع التضحيه بالبشر و"التغذي" عليهم في معابد الالهه!) عالم راكد و بطئ تتناوب فيه قوي الصعود والهبوط علي المسرح السياسي الدولي كل عدة قرون من الزمان. ولم لا فلقد كان التاريخ الانساني نفسه اشبه بطفل يحبو وكان عالم اليوم بكل خبراته وعلومه وذوقه وأساليب تطوره كما لو كان حلما يتشكل في ذهن هذا الطفل. ولذا لم يكن مطلوبا منهم انذاك أن يستوعبوا ما لم يتعلمه اباؤهم!

ولكي نعطي فقط صوره -بهذه المناسبه- عن تلك الظاهره الغريبه "ظاهرة الانهماك في الترف السلطاني" التي تحدثت عنها منذ قليل وقلت انها صبغت عصر امون-حتب الثالث بأكمله -أكثر من أي عصر اخر سبقه- لابد وان أشرح أن ذلك العصر كان ولا شك ثوره من نوع ما علي كل ما سبقه: ثوره في الفن والسياسه والعلوم والادب واسلوب الحياه بل والمجون أيضا وعلي حد سواء. اذ نجد–في كتب التاريخ- الفرعون المصري- وهو يتفنن في الاستمتاع بحياة المجون والترف أو ثورته المخمليه الخفيه التي ابتدعها مع –ويا لا العجب- زوجته الوطنيه المخلصه "تي" وابنه المخلص -المتمرد علي التقاليد لاحقا- "امون-حتب الرابع أو "اخن-اتون" هاملت عصره: حتي انه لم يلبث أن انهكته الشهوات في اواخر ايامه وارتسمت علي ملامحه علامات الرخاء المنهك المكدود بعد أن تجرع صنوف اللذه ما لا حصر له- في نهم واسراف. فالتاريخ يتحدث عن صولات وجولات قام بها المدعو امون-حتب الثالث في سبيل "انتقاء" و"اقتناء" العذاري الأجنبيات ممن يفدن الي بلاطه ممن كان يتزوجهن أو يكتفي –فقط- بحظوة ضمهن الي جناح حريمه (الجناح الذي كان يعج بالفعل بالغواني الحسان ممن استحضرهن من الاقاليم التابعه له بالاضافه الي سيدات القصر الاخريات اللاتي وفدن في عهود سابقه الي جانب الملكه "تي" -طبعا- زوجته وضرائرها الحسناوات).

فهذا –علي سبيل المثال- خطاب ارسله امون-حتب الثالث الي أمير بلاد "غازر" اسمه "ميلكيلي" يقول فيه: انه في حاجه الي 40 فتاه من أجمل فتيات المدينه –مدينة "ميلكيلي"- ممن يتميزن بوجوه جميله وقوام ممشوق بشرط الا يكون في احداهن ما يعيب –و يستطرد  الفرعون المصري بعد ذلك مؤكدا: وسأتخذ من هذه الهديه مقياسا لحسن ذوقك وخبرتك! وخطابا اخر ارسله الي المدعو "شوباندو" احد امراء سوريا يطلب منه ارسال 20 عذراء واوفد رسولا الي "عبدي خيبا" امير اورشليم يطالبه بارسال 21 فتاه من ابكار بلاده وأخيرا يحدثنا التاريخ أنه ارسل 4 مرات يلح في طلب 30 عذراء من حليفه "دون شراثا" ملك الميثاني (العراق) وفي المره الخامسه اجيب الي طلبه. وهذا بالطبع كل ما وصلنا من هذه الخطابات بما يدل علي ان صاحبنا كان منغمسا في "العسل" حتي اذنيه فيما كان ولاء الأقاليم البعيده –والقريبه- بل والمحليه منها داخل وادي النيل- ما بين برود وخفوت وزوال: اذ انه كان مرتبطا -علي الارجح- بعدد السرايا والمحظيات اللواتي يرسلهن كل ملك أو أمير أو حاكم مقاطعه الي الفرعون: وكانت النتيجه الحتميه أن ازدحم وادي النيل والبلاط الملكي بوفره من هؤلاء السرايا والمحظيات وخلا تماما من كبار رجال الدوله الذين ذهبوا بدورهم –وبشكل منطقي- الي مجاراة الفرعون في هوايته المفضله: استجلاب المحظيات الصاخبات من الخارج والتدله معهن في حياة الترف والنعيم (فيما يتجرع عامة المجتمع من المتعلمين والاميين علي السواء خارج القصر كؤوس الضنك والحرمان؟): فقامت ثوره "ماعث" (الحق) الدينيه كثوره مضاده علي ثورته وخسر بذلك الدوله والفكر (بصعود التنافس السياسي بين فكره وفكر معاصريه لصالح فكر معاصريه). وبذلك انتهت الامور علي نحو مخالف تماما للفكر المصري الخالص بل والمتزمت والمنحاز تماما للتقاليد القديمه الرصينه ذات الصله بوادي النيل فحسب وضد كل ما هو اجنبي (خارج حدود وادي النيل) بالضروره وعلي طول الخط: ذلك الفكر الذي بدأ به امون-حتب الثالث دولته بدعوي المضي علي خطي من سبقوه من الفراعنه الاقوياء من ذوي الدم الملكي المصري النقي (رغم كونه هو ذاته -امون-حتب الثالث- نصف ميثاني!) اذ تراجع كل ما من شأنه أن يذكر الشعب بقومية مصر وادي النيل الوادي المقدس المبارك ببركات الالهه المحليه (التي صارت لا تستجيب الدعاء) ورموز البطوله والحكمه والسياسه والسحر والكهانه الذين اصروا –رغم تغير العصر ورغم اصرار الهتهم فيما يبدو علي اهمالهم وتجاهلهم- علي اعتبار التفسير المصري العنصري للدين والدم واللغه علامة طهر ونقاء وكبرياء وطني مقدس: فقد تكشف وايم الحق نفاقهم واكاذيبهم بعد أن اكتشف المصريون أن اقوال افواههم لم تكن في الحقيقه سوي قناع من الاكاذيب يضعه فرعون وحزبه كلما ارادوا ان يبرروا لانفسهم كل ما يفعلونه من ماسي تجاه الشعب. وربما كان لتلك الظاهره الغريبه في نهاية الامر (الترف السلطاني والخلاعه: ثورة الفرعون) جانب ايجابي مضئ من نوع ما في جزء كبير من كل ما تلي ذلك من احداث: فالحياه علي كوكب الارض بوجه عام –والتاريخ البشري–بوجه خاص- تميل نحو مزيد من التعارف و التلاحم والاختلاط بين البشر وليس التصادم والتنافر والاختلاف.

فحتي الصدامات الطويله عبر التاريخ والتي طالت بعض الحضارات والاديان والعناصر البشريه -وبعضها البعض- لم تسهم-في الحقيقه- سوي في تحقيق الغرض الاساسي والمنطقي وشبه المؤكد منها جميعا (ومن الوجود البشري بوجه عام): وهو التعارف والتلاحم والاختلاط ومع قدر كبير -وشبه متفق عليه- من الحريه والكرامه والمساواه. وهو الدرس الذي تعلمه اخن-اتون متأخرا قليلا –فيما يبدو– ومن بعده تعلمه ملوك بني اسرائيل وأهل أثينا القديمه وكذلك الاسكندر الاكبر أيضا –بصورة ما- حيث ان هؤلاء هم من نثروا البذور الأولي لما نسميه اليوم بالعولمه والديموقراطيه والسلام العالمي وحوار الحضارات: وتبعهم في ذلك بعض أباطرة الرومان ممن امنوا بدور ما للدوله في الحفاظ علي درجه من درجات التنوع الثقافي والديني داخل المجتمع وامنوا ايضا بدور ما للبرلمان داخل منظومة ادارة الدوله. من اجل ذلك لم يكن هذا التجمع العجيب لكل هؤلاء الغواني في وادي النيل -في عصر اخن-اتون– في الحقيقه- شر كامل- بل كان له اثر ايم الاثر في تغلغل وامتزاج عناصر حضاره اخري اجنبيه -ودم اجنبي- في عروق وقلوب المصريين الأوائل ومن ثم ساهم في انفتاحهم علي الشعوب الاخري حولهم قرون طويله قبل الاسلام والمسيحيه -بل وقبل اليهوديه كذلك أقدم ديانات النبي ابراهيم.  

اذن توقفت –لسبب ما- فترة الخطوبه –وتراجعت مظاهر الترف السلطاني- وعاد رئيس الحزب الوطني من رحلة تكساس الشهيره – حزينا غاضبا الي درجة انه امتنع عن الذهاب الي الولايات المتحده لخمسة أعوام تاليه دفعه واحده. وأي كان حقيقة ما حدث (يا حرام!) في تلك الرحله المشئومه فان كل الشواهد تدل علي أن الظروف التي طرأت فيما بعد اضطرته الي تغيير سياسته: سياسة الخطوبه وزيارة الشعائر المقدسه في واشنطن: أي انه اضطر –علي الجانب الاخر – فيما يبدو- الي التنازل تماما عن عرض الزواج والعوده سيرته الأولي-ربما- الي استراتيجية سلفه السادات (وهي- كما شرحت – نفس استراتيجية سلفه عبد الناصر أيضا بعد يونيو 1967): 99 % من أوراق اللعب بيد أمريكا + 1% حره + "شوية" عدم انحياز: أو الاستنزاف: طالما أن تلك الاستراتيجيه قدر قدره الله لمصر لا مهرب منه ولا بديل–اشبه بقسم يقطر دما علي شاهد قبر-من اجل فعل كل ما من شأنه المضي قدما علي خطي الزعماء الراحلين الاجلاء الطاهرين -الذين طالما اسعدونا في الحقيقه- وبقيادة الزعيم الحالي-طبعا- الذي اسعده الحظ ونال في حضورهم قبضة من اثر أو قبس من عبقريه ونبوغ بلا حدود: أي انه علي وشك ان يمضي بنا علي اثر لم يكن وليد تفكيره ووحي فلسفته بل هو مأخوذ حرفيا من كتب وسياسات من سبقوه! والسؤال: هل يمكن أن نكون اصدقاء لامريكا –وشاكرين لنعم الزعماء الاقدمين-في نفس الوقت- دون استنزاف أو انفتاح أو استعراض أو سياسة مؤتمرات ودون عروض زواج؟

اذ لم يكد عام 2004 أن يكتمل حتي انطلقت شرارة خلافه مع بوش الابن (ومع شارون) الي العلن –وبدا أن رئيس الحزب الوطني علي وشك أن يتفرغ اخيرا –ولله الحمد- للسياسة الداخليه. ولكن ليس كل ما يناله المرء يدركه –فيما يبدو- فها هو ذا رئيس الحزب الوطني يشرع -فورا – ربما قبل عودته - بزيارة رسميه الي روسيا وفرنسا شيراك (ويعلن عن زياره هامه الي الصين) مع التأكيد بأن تلك الزيارات ليست عشوائيه تماما كما توحي وانما تأتي في اطار جذب الاستثمار وتنمية علاقات خارجيه مع الاصدقاء "من أجل خلق استراتيجيات جديده" (لتعويض فشل استراتيجيه قديمه مثلا؟).

وكيما يتسني له أن يفكر فكرا أصيلا خالصا خاصا به – متفردا تماما وغير دارج – حديثا ومتفقا مع ظروف العصر - بل وجدير بالخلود – ولو لبضع لحظات – اذا به يروج لعالم متعدد الأقطاب (أي متصارع بالضروره اشبه –ربما- بعالم القرن ال 19: جنة الانفتاح والاستنزاف!) في الوقت الذي اظهر فيه –بطريقة ما- غضبه علي بوش وشارون –بوجه خاص- اذ سخر امكاناته تقريبا لنقدهما. وقد يبدو مألوفا –والوضع كذلك- أن نجد رئيس الحزب الوطني يتحدث -أيضا – كما لو كان قد اكتشف شيئ لتوه- عن علاقات مصر القديمه بالصين وروسيا وفرنسا عبر العصور وقيادة مصر لمنظمة "عدم الانحياز" في دورتها المقبله (كما لو ان بينهما ثمة علاقه!)

ومرة أخري يجدر بالمتابع الفطن – الحريص علي وقته - أن يتأمل ما يحدث ويحاول ان يستنتج – في الخفاء- حل لتلك الفزوره أو ما الذي يفعله الرئيس بالضبط. اذ نتيجة لتلك السياسات الغامضه انتقلت مصر–وبصوره شبه مفاجئه -شبه راديكاليه - من خانة الخطيب الحبيب الولهان المتيم الي درجة الهوس بأمريكا (الي درجة "التنافس" مع اخرين بالمنطقه من أجل الحصول علي ابتسامة رضا) الي خانة "المتمرد" العنيد غير مأمون الجانب (حسب ويكيليكس).

وبالطريقه نفسها يشرع رئيس الحزب الوطني– داخليا –الي سياسة مقابلات واجتماعات ومؤتمرات عدم انحياز من نوع اخر. فمع ظهور "كفايه" ومع "مبادره" تغيير الدستور "التاريخيه" عام 2005 فسوف نراه يجمع ما بقي من فلول اليمين واليسار من المعارضين وغيرهم من المستقلين والاخوان (غير المصنفين ربما لأنهم محظورون أحيانا – مستقلون في أغلب الأحيان) بيد ان هذا التجمع العجيب لم يكن الا في مكان اكثر غرابه هو مائده الحزب الوطني! وهكذا وبتناغم معين–ودون تدخل منه شخصيا- نجد الجميع يدينون بولاء غريب لما يسمي "الدوله" (بدلا من الجمهوريه؟) ورئيس الحزب الوطني بالتحديد رئيس هذه الدوله (المصنف: يمينا بالضروره – الا حين يرغب هو -طبعا- في غير ذلك اذ أنه يميل الي تصنيف نفسه بنفسه بصفته "وسطا" والقلب الحنون الذي يجتمع الجميع في رحابه وحول مائدته) وهكذا تحول البرلمان بل والحياه السياسيه بأسرها الي ما يشبه مقهي راقي هادئ في مول تجاري كل من فيه مشغولون بساعة حائط معطله عن العمل تشير عقاربها – دائما - الي توقيتات محدده لأكثر الأشياء والأحداث شيوعا في هذه "الدوله": مقابلات وزيارات رئيس الحزب الوطني الخارجيه والداخليه! أو نبات غريب مكتمل النمو ومثمر– دائما– ولكن ثمره أشبه بثمار نباتات الزينه ليس بطعام -أو شراب- أو كيف- لأحد وبالتالي ليس في حاجه الي جمع و حصاد: ومع ذلك نجدهم يسقونه ويعتنون به ونجد رئيس الحزب الوطني يجمعه و يحصده بنفسه بل ويرحب بهم عند باب المقهي داعيا الجميع الي مائدته الزاخره بثمار هذا النبات الغريب وكأن لسان حاله يقول: مدوا ايديكوا يا ولاد وكلوا ما بتاكلوش ليه؟ الصلح خير وكلنا مصريون! وهذا مطلب (الصلح) ربما لا يبدو لأول وهله في غاية الصعوبه الا أنه ليس في مقدور أحد تنفيذه بتلك الصوره الفريده المبهره الا من يملك حس وخبره وخيال رجل كرئيس الحزب الوطني وابنه القادرين–دون غيرهما- علي انجاب مثل هذا "الفكر" الأصيل البديع: "الجديد" تماما: الصالح لكل زمان ومكان: الصلح بين الأطراف والأفكار المتنافره- اذ انه قاصر علي قدرات معينه هي قدرات العبقريه نفسها التي تتجسد بنفسها ومن تلقاء نفسها.

وفي كل الأحوال: تبدو تلك السياسه (سياسة المقاهي والمؤتمرات) مناسبه تماما ومثاليه اذا كان الأمر يشبه ما يحدث بين أعضاء الحزب الوطني وبعضهم البعض من تكتيكات وصراعات مال ونفوذ اذ تشبه تلك الصراعات والتكتيكات –بشكل عام- أكثر ما تشبه مباريات الجولف أو بولة "بلاك جاك" يكسب فيها الجميع! اذ في ظل اكثر لحظات الصراع دراما وتطورا نجد في النهايه –وبشكل يكاد يكون دائم- شخصا ظريف يقوم من مجلسه ليروي نكته أو يفتح "زجاجه" أو يلف "سيجاره" ليصلح بين المتخاصمين والمتشاجرين و يفتح الأبواب المغلقه علي مصرعيها ليخرج الشيطان ويدخل الوسطاء القادرين علي الاصلاح (والغلابه جامعي الفتات بتوع الانتخابات) أو يترك الأبواب "مواربه" اذا كانت المشاجره ساخنه بعض الشئ والألفاظ غير ساره لعل وعسي يتطلب الأمر طرد أحد أواعادة الاعتبار لأحد أو ايواء عدوا من اعداء أحد المطرودين "لاغاظة" المطرود واغاظة العدوين ورد كيد الخونه الناكرين للفضل والمعروف الذين اشعلوا نار العداوه وأطفأوا نار الشيشه اذ أن الهدف الأساسي –طبعا- من تلك السياسه هي اعادة الجميع– ان أمكن- في رحاب "الدوله" أو مائدة مؤتمرات رئيس الحزب الوطني -مركز العالم ومدرار نعمته-  العامره بالاكل و"الاكلين" بشرط أن يأكلوا طبعا ويشاهدوا –في صمت- المباريات والمساسلات والاغاني!

فحكومة الحزب الوطني ولانها متسقه تماما مع ذاتها و"واقعيه" وواثقه من نفسها ولا تخفي غير ما تبديه فهي لا تروج لتلك الشعارات الفارغه علي شاكلة الحريه والديموقراطيه والمساواه والكرامه الانسانيه والتعدديه الفكريه اذ يفضلون "الشمبانيا" و"البرون-بانيه" وصوص "الجبنه الزرقاء" و"الماش" و"الستيك" علي الديموقراطيه والمساواه والكرامه الانسانيه وهم في ذلك منطقيون تماما مع أنفسهم ثابتون علي مبدئهم من حيث أنهم يعتبرون أي جهد في سبيل الديموقراطيه والمساواه والكرامه - يؤدي الي المعاناه - ولا يبذل في خدمة "الشمبانيا" و"البرون-بانيه" و "صوص الجبنه الزرقاء"  و"الكاليفورنيا" و"الواجيو بونفاير" و"الاوك" و"الروست" و"اللوبستر"  و"الاوزي" و"الرومي" و"السوشي والساشيمي" و"الكيوي" و"الشيري" و"البراون شوجر" و"سمك القرش": هو ضربا من البلاهه والسفه وغرابة الأطوار وتحقيق بطولات في معارك فارغه (هي بالضروره معارك "صبيه" مش فاهمين "بيتسلوا" عواطليه فاشلين ماعندهمش شغله أو "مزه" تلمهم أو تستثمر جهودهم في شئ ما له علاقه "بالمسئوليه" تلك المسئوليه التي تتلخص – في رأيهم – في الاغراق في خدمة الاراده الحسيه وتحقيق أهداف الفرد الاقتصاديه ووظائفه البيولوجيه من اكل وشرب ونوم وتناسل واخراج: فعبودية العقل والروح والجسد وخضوعهما التام الكامل–كالأجراء- للبطن والفم والفرج ورئيس الحزب الوطني هي– في الحقيقه – كل المؤهلات المطلوبه لكل من يطمح في "مصير مشترك" مع هذه البلاد ومن ثم مواصلة "العيش" وتربية العيال).

واستنادا الي التشابه بين أزمة الجزائر وأزمة المياه مع اثيوبيا وبين ازمة رحلة تكساس وما سبقها من ازمات: يلوح لي أن تلك السياسه نفسها كانت وراء اقدام حكومة الحزب الوطني– أخيرا- علي اقحام نفسها في قائمة الدول المقاطعه لحفل جائزة نوبل للسلام الذي عقد مؤخرا -منذ أسابيع قليله- في اوسلو بالنرويج. وأعترف أن هذا الاظهار الصريح غير المسبوق لتضامن مصر مع الصين وعدم حضور الحفل –ربما لأول مره في التاريخ– مع الوضع في الاعتبار أن الجائزه ذهبت للمعارض الصيني "ليو شياو باو" المدافع العتيد عن مبادئ الحريه والديموقراطيه والتعدديه السياسيه: اعترف ان هذا التصرف الغريب خدعني–في البدايه- الي درجة انني ظننت ان رئيس الحزب الوطني واعوانه بصدد "الاعلان" فعلا عن استراتيجيه جديده تماما بدأت تتشكل بالفعل من خلال سياسة مصر الخارجيه اشبه باعلان السادات.

اذ قد يبدو الأمر محيرا – للوهله الأولي – خصوصا لمن يظنون - ومازالوا يظنون- مثلي-  أن في امكان مصر ابداع خير مما كان أو اولئك الذين يطمحون الي العوده مره اخري–علي اقل تقدير- الي مبدأ السادات القديم بكرا غضا طريا بلا مساس كما كان في منتصف السبعينات أو حتي اولئك الذين ما زالوا يدورون حول أنفسهم في دوائر ليقنعوا أنفسهم أن الديموقراطيه والحريه بزعامة رئيس الحزب الوطني–و ابنه- مازالت ممكنه. وقد يبدو محيرا أيضا –وبنفس القدر- لمن يظنون –أو لا يظنون- أن نوبل جائزه حقيقيه وأن "ليو شياو باو" رجل عظيم – كنلسون مانديلا - يدافع عن مبادئ معينه من شأنها سعادة الصينيين: فوفقا للحزب الوطني: نوبل جائزه وهميه ذات دوافع سياسيه تامريه أمريكيه بالضروره والدليل فوز نجيب محفوظ والسادات وزويل والبرادعي بها وعدم فوز انيس منصور وفاروق حسني ومبارك ويوسف ادريس وهم أحق بها وأهلها: وبذلك وفقا لبعض أعضاء الحزب الوطني أيضا: "ليو شياو باو" هو- في الحقيقه – مدعي واختراع أمريكي للي ذراع الصين علي طريقة "اضرب الطويل يخاف القصير أو كتف السايب يذعن المربوط" أو شئ من هذا القبيل (والقصير المربوط المقصود هنا طبعا هو كوريا الشماليه) ولعلها ليست مصادفه أن هؤلاء– أنفسهم –يروجون أيضا لمقولة أن ويكيليكس (وأسماك القرش) "قد" تكون مؤامره اسرائيليه للسيطره علي كوكب المريخ! (باعتبار أن كوكب الأرض يرزح بالفعل تحت سيطرة اليهود وباعتبار أن أسماك القرش ليس من حقها أن تدافع عن نفسها ضد من يلتهمونه في حفلاتهم الخاصه الماجنه وباعتبار أن "مكنة" "أسانج" في "اسكت-هولم" و السويد والنرويج واسرائيل وأسماك القرش– و ناسا – كلهم "حبايب"!)

فبنظره سريعه لقائمة الدول المقاطعه نجد – الي جانب الصين ومصر – أسماء مثل: روسيا وفيتنام والسودان وتونس بن علي والجزائر والسعوديه وكازخستان وكوبا والعراق وايران وافغانستان وهي جميعا دولا مصنفه: "غير حره" (وفقا لتقرير"الحريه في العالم" السنوي الذي يقيم الحقوق السياسيه والحريات المدنيه لجميع دول العالم) بالاضافه الي الصين ومصر بطبيعة الحال. ثم مره أخري نجد في التقرير دولا مصنفه "نصف حره" كالمغرب وباكستان وفنزويلا. ثم صربيا وهي الوحيده المصنفه - وفقا للتقرير- دوله حره (ولا يخفي طبعا السبب وراء وجود صربيا مع روسيا في قائمه واحده). بينما لا نجد مثلا –وفي مفاجئه غريبه شاهده علي قدرة الله- اسماء مثل كوريا الشماليه و سوريا و ليبيا. 

أقول بدا الأمر بالنسبه لي وحتي بالنسبه لبعض أعضاء الحزب الوطني الحاكم –فيما أزعم- وكأنه تصرف غريب وشاذ وغير مفهوم أو انه تصرف عبقري للغايه بحيث تعجز عقول عاديه كعقولنا عن ادراكه ادراكا كاملا أو حتي فهمه اذ وفقا للتغيير المقترح ستنضم مصر الي محور يتشكل حاليا هدفه الدفاع عن الدكتاتوريه–فيما يبدو- وبقياده الصين وقد يضم –ايضا- روسيا وبعض الدكتاتوريات العربيه والبلشفيه السابقه المصنفه غير حره وغير ديموقراطيه حسب التقارير الدوليه. في مقابل سائر دول العالم – تقريبا–سواء تلك الحره الديموقراطيه بالفعل أوالذين هم في منتصف الطريق وليسوا بالضبط أحرار وديموقراطيين أو ليسوا بعد (الدول نصف-حره) أو"المترددين" الذين مازالوا ينتظرون غير بعيد يطمحون لأن يكونوا كذا ولا يفعلون شيئا ازاء ذلك بل يؤجلون الأمر لاخر رمق ليروا أي الفريقين يفوز فينضموا الي الفريق الفائز أو حتي هؤلاء الذين ليس في خططهم ابدا أن يكونوا أحرار ديموقراطيين -لسبب ما صحي يمنعهم- بيد أنهم يفضلون– رغم ذلك – جانب الدول الحره الديموقراطيه لضمان استمرار نجاحاتهم الاقتصاديه.

واذا كان الأمر كذلك اذن كل ما هو مطلوب أن تعلن مصر انضمامها الي الحلف الجديد رسميا وتتمسك بأن تكون مصر هي دولة المقر مع ضرورة أن يكون الأمين العام للحلف الجديد مصري الجنسيه دائما وابدا. ومن ثم تدعو الدوله المصريه الي اجتماع استثنائي عاجل بشرم الشيخ تحضره دول الحلف. وأمام ضجيج مراسلي القنوات ووكلات الانباء الحاشده ستدور المناقشات –والكاميرات- وربما يعلن الحلف الجديد الحرب علي حلف الناتو واسرائيل وينتهي الأمر! أعني تنتهي أزمة المناخ! الي هذا الحد خدعتني "الدوله" المصريه.

فالكل يعلم أن حكومة الحزب الوطني لن تشارك في هذه الحرب. بل ستنكب علي عملها في جد وحياد ايجابي – غير مباليه "بتسلية" المنتقدين – أو مديح المادحين. ويا ليت الأمر بهذه البساطه فلا يخلو الأمر من مخاطر والسلام يبقي دائما صعب المنال. وهذا هو زين العابدين بن علي وزوجته وقد تركا وظيفتهما وتفرغا اذ لابد وانهما يبحثان الان عن "عمل" في مكان اخر ومن الممكن ان يساعدا ولعل المجلس انسب مكان وها هو ذا العقيد القذافي–ايضا- الذي قل أن حظي زعيم شرق أوسطي بمثل ما حظي به هذا الرجل من اهتمام الناس: جاهز تماما ودائما لقيادة المجلس الجديد بصفته أقدم زعماء المنطقه في الحكم وبالتالي أكثرهم خبره. فربما يتمكن من اقناع الصين- بعد انتصارها الساحق المذهل– بنشر "الجماهيريه" الي جانب الدكتاتوريه واحلالهما محل الجمهوريات والملكيات علي حد سواء وربما يتمكن –ايضا- من اقناعها بتطبيق الشريعه اذ اكاد اؤكد انها فكرته هو وليست فكرة رئيس السودان الشماليه (الذي ربما يسهم انضمامه الي المجلس وانتصار الصين -وتطبيق الشريعه- في الغاء امر القبض عليه) أو ربما لا - لا أحد يدري علي وجه الدقه – أيا ما كان الأمر- من الان فصاعدا لابد وأن ننصت جيدا فكل شئ ممكن.             

الخميس، 13 يناير 2011

99 % من أوراق اللعب بيد الصين؟ (3-4)

والسؤال: هل من أثر مازال باقيا من فكر"الأستنزاف" هذا في الواقع السياسي المصري؟ واذا كان الجواب هو نعم: هل هناك رابطه من أي نوع بين استنزاف الخارج والفساد الذي نخر نخاع السياسه الداخليه حتي أصبح اليوم أشبه بعلامه لا تخطؤها عين كبرج القاهره مثلا؟ حسنا! أزعم أننا لسنا في حاجه للوك وديكارت ونيوتن وفولتير مثلا لننعم بفهم ما مؤداه أن استنزاف الخارج وفساد الداخل قرينان ولهما –للاسف الشديد- رابط مصنوع –ربما- من نفس الماده الخام التي أوحت للساده موظفي الدوله -ضباط ومدنيين- أن يعلنوا حربا "للتبضع" علي هامش معارك الاستنزاف العسكريه ثم يعلنوا هوجة "انفتاح" -والتي "فتحت" الطريق لفتوحات أخري عديده مثل "سداد ديون مصر" و " شركات توظيف الأموال" وأخيرا هوجة "الخصخصه والبنوك "-علي هامش معركة اكتوبر ومعاهدة السلام (ثم حرب الخليج والحرب علي الارهاب بالترتيب).

ولنفس السبب فان الاستنزاف والفساد مرتبطين –أيضا- بالرجال الذين صنعوه (وربما يكون لذلك علاقه بتلك الصدفه العوراء التي جعلت من جيل الستينات والسبعينات الجيل المهيمن علي مقدرات السلطه والمال والشهره الي اليوم؟ ربما بسبب عدم وجود علاج شافي لهذا العوار النادر العجيب في أي مكان بالعالم يروق للحكومه؟). اذ يكفي أن نتتبع –مليا- القسم الأعظم من ثروات هذا الجيل المهيمن (اللهم لا حسد!)- كما تعد علينا حكومة الحزب الوطني مثلا أجهزة التكييف والهاتف المحمول والسيارات- لنصل الي نتيجه مؤداها أن هذه الثروات الطائله تطورت من اللا منظور تقريبا (قبل عام 2000) الي أن أتخذت- وفي فتره زمنيه قياسيه لا تتجاوز العشر سنوات - أشكالا أكثر وضوحا –وأكثر شرعيه- كما تطورت صنوف البكتريا الي كائنات اكثر تعقيدا ومن ثم دلفت الي عصور الديناصورات. وعندما أقول ديناصورات فأنا أقصد المعني الحرفي للكلمه لدرجة أن المرء يهتز بعنف - كشجره في مهب ريح قاسيه– ويتساءل مستغربا: من هؤلاء؟ ومن أين أتوا؟ وما الذي يفعلونه بالضبط؟ ولحساب من؟ وما هي أهدافهم؟

فعلي مستوي العلاقات الخارجيه يخيل للمتابع أن حكومة الحزب الوطني تتعامل مع حلفائها وأصدقائها علي أنهم مصدر دخل قومي للبلاد أو فرصة لاستثمار أو سلفه أو معونه أو "سبوبه" و تحاول -رغم ذلك- جاهده فرض احترام الجميع لها – ولنا - فرضا –علي طريقة "حسنه وأنا سيدك" الشهيره: فاذا ما لامها أحد– في الغرف المغلقه- علي ما يظن أنه غدر أو خسه أو دنو أو وصوليه أو انشغال مفرط ببلوغ مكانه اقتصاديه مرموقه (علي حساب الغايات الانسانيه الاخري كالكرامه مثلا) أو انتهرها دون أن يشرح أسباب ذلك ثم استغل أول مناسبه -كمباراة رياضيه مثلا- ليفضحها (ويفضحنا معها) وينتقص من قدرها (وقدرنا معها) أو حتي خاطبها برقه –كصديق- موضحا لها أن هناك ما بين الشعوب ما هو أعمق وأشمل من الأنشطه الاقتصاديه والرياضيه (بفرض أن العلاقات الاقتصاديه والرياضيه هي علاقات تبادليه تقوم بين الشعوب -في المقام الأول- علي خلفية جهود اخري متنوعه تشمل الاجتماعي والعلمي والثقافي وليست قاصره علي دبلوماسيه اقتصاديه-رياضيه جافه بين طبقة حاكمه -تدعي الديموقراطيه- وباقي الدول والشعوب) تبادر حكومة الحزب الوطني –ما ان تسمع ذلك -فورا بالرد–وبكل تعاظم ووقار منشي– وبنظرات بارده كنظرات سمك القرش البرئ المسكين الذي اصطادوه في شرم الشيخ- مدعومه بكل قنابل الدخان اللغويه علي شاكلة: السياده الوطنيه والأمن القومي والخصوصيه الوطنيه (الخ) لتذكر الجميع بفضل مصر التاريخي علي العالم والمنطقه ومعاناة الشعب المصري وسوء حظه بسبب الحروب والاستعمار والفقر المدقع عبر العصور نتيجة لذلك بل ومعاناة حكومة الحزب الوطني–أيضا- مع الشعب: ربما بسبب جهله وكسله وسطحيته وركوده وقصر نظره (عكس الحكومه طبعا) ومن ثم افتقاره الي المقومات التي من شأنها أن تجعله اجتماعيا و ديموقراطيا ومتعلما -كما يقال أحيانا في العلن ؟ أو ربما بسبب افتقاره –أيضا- الي القدرات الانسانيه والخلقيه والعقليه والنفسيه والذهنيه - كما يقال أحيانا في الغرف المغلقه ؟ أو ربما بسبب الغياب الكامل "لحكومه" يمكنها أن تغير كل هذا- اذا كان موجودا–كما تقول المعارضه؟ يصعب التيقن: ولكن الشئ المؤكد أن الأمر ينتهي–عادة- بابتسامه خفيفه ثم هزة رأس (علي سبيل العتب طبعا) وكأن لسان حالها يقول:"لم جعلتني أقول ما لم أكن أرغب في قوله؟" مم يجعلهم -بامتياز- سلاله لمعلمهم الأكبر عمدة "الزوجه الثانيه" الذي رجته زوجته -أمام الحاحه الذهاب الي غرفة نوم زوجته الجديده ليدخل بها- أن يستعفف و"يستحي علي شيبته" ويمكث معها تلك الليله أيضا -اذا كان يحبها- بل وهددت بفضحه بعد أن ضاقت بهرائه واستمراره في تبرير الأمر علي أنه انما "يرغب في الذهاب لانجاب ولي العهد" (كما لو كان بصدد وظيفه بيولوجيه بمفهومها الفيزيائي الكيميائي المتجرد الذي لا علاقه له بأي متعه حسيه سيتطوع هو بالقيام بها علي سبيل التضحيه وفي سبيل الواجب) واعتقادي أنه لا يوجد في أي مشهد من مشاهد السينما- مصطلح يؤدي ذات المعني– بعيدا عن التكلف والاصطناع - الا ذلك المشهد اذ أنه بسينمائيته البسيطه الطريفه يصبح في دنيا الواقع دالا للغايه فهو قرين–في رأيي- لأكثر نماذج وأساليب التبرير لدي حكومة الحزب الوطني شيوعا.

غير أن الواقع الداخلي–بعكس الفيلم- لا يبدو دائما شيئا طريفا مسليا بل يكون شيئا لا يطاق خصوصا لمن لا يزالون يحتفظون بقدرات عقليه ما في هذا الزمن الصعب ولا يعانون الشغف بوضع "الفطامه" (فطامة التبرير والالفاظ المبهرجه البهلوانيه) أو ارتداء قلنسوة "الحكمه" التي تشبه –أحيانا-  قلنسوة الرضع (تغطي الجبهه وتعري القفا) ثم الظهور رغم ذلك بمظهر العاقل المتزمت الوقور!

فعلي المستوي الداخلي تروج حكومة الحزب الوطني لمبادئ ربما لا تستقيم مع صورتها الحقيقيه في الخارج مثل الفرديه والخصوصيه والاستقلاليه والاهتمام بالخاص (وترك العام للحكومه ؟) والرضا بالقليل والعصاميه بمعني الاعتماد علي الذات كليا بتعفف وتفاني وتسامي دون النظر لما يملكه الغير و دون اللجوء لأحد (وبالتالي التعفف والتسامي عن أي صوره من صور التضامن الاجتماعي كالمروءه والشهامه وانكار الفساد).

أضف الي ذلك بعض المبادئ الكونفيشيه التي ما زالت رائجه في مصر الي اليوم– ربما أكثر رواجا من موطنها الأصلي بجنوب شرق اسيا: مثل "تقديس" الوالدين-وليس برهما فحسب: و تبجيل الوالد أو الزوج أو صاحب العمل بصوره خاصه بصفته الممول الرسمي للأسره أو "فاتح البيت" حسب التعبير الشعبي الدارج. وذلك بدوره يعني- وبشكل يكاد يكون دائم- أن يتدهور مبدأ احترام الأب أو الزوج أو صاحب العمل الي حد الطاعه العمياء وتبرير الخطأ وعدم المحاسبه لمجرد أنه أسعده الحظ وصار أبا أو زوجا أو صاحب عمل! وقد يتزامن ذلك مع نوع سخيف من الزيف المرضي كاصطناع العواطف بل واصطناع الغباء (أو الذكاء) أحيانا للتعبير عن هذا الولاء. ولا يخفي أن هذا يتبعه –بالضروره- تمجيدا لكل ما له علاقه بالشخص هدف التمجيد بما في ذلك ماله ومنصبه بطبيعة الحال. ويتم ذلك –طبعا- بتلقائيه شديده وبتعبيرات متأنقه طبيعيه تماما ودون أن يتساءل أحد عن الطريقه التي حصل بها  صاحبنا هذا علي المال أو المنصب: فهم يبررون ذلك التمجيد عادة بأنه من أجله هو -وليس لأنه صاحب منصب أو مال- أو ربما بسبب أنهم "مؤدبون" ولا يملكون سوي فعل كل ما هو لائق بدافع انساني بحت وبدافع من هذا الأدب أو ربما بسبب عبقريته الفذه في جمع المناصب والمال –اذا كان لديهم من الجرأه –والصراحه- ما يكفي لمثل هذا القول. ولا يخفي أن تلك الجرأه –وهذا الأدب -وهذه الصراحه- غالبا ما تكون مرتبطه –في الوعي الداخلي لكل منا- بنمط معين للشخص هدف التمجيد فالفقراء العاديين علي سبيل المثال غير الناجحين اقتصاديا واجتماعيا –وان كبر سنهم- يتعرضون في الغالب لخليط غامض متداخل من كلمات كالاحاجي متداوله دون أن تكون مفهومه -بالضروره- و تكون نتيجتها حرمان ذلك الفقير العادي كبير السن من أي تمجيد (حتي يتخلص من فقره ربما؟). كما أنه غالبا ما يختلط الأمر بين كون الشخص هدف التمجيد أبا أو زوجا أو صاحب عمل وكونه شيخا في مسجد أو قسا في كنيسه أو استاذا في جامعه أو ضابط شرطه مسئول عن تنفيذ الأحكام والقوانين أو قاضي أو حاكم للبلاد "في مقام الوالد أو الجد": فالكبير كبير والكبير له التبجيل (وان قال كلاما فارغا غير مفهوم أو أقدم علي مصيبه اخلاقيه!): ومن لم يكن له كبيرا فليتخذ كبيرا -كما في الأمثال! وهم بذلك لا يترفعون فقط عن محاسبة الكبير علي اخطاء ارتكبها في حقهم ولكنهم لا يحاسبونه علي الخطأ بوجه عام.

وهذا هو الشئ الخطير حقا: اذ أن ذلك الشخص الكبير أصبح -في نظر المجتمع- "معفي" تماما من مبدأ الخطأ والصواب أو الحلال والحرام وهو ما يعني–بدوره- أن المجتمع فقد كل قدره علي "فلترة" قيمه ومثله العليا "طالما أن ما من أحد يعلم ماذا يفعل كل مثل أعلي محترم ليحصل علي ماله أو منصبه – أو ماذا يفعل ليحتفظ بهما". ولا يخفي أنه في مجتمع كهذا يندر أن يطالب صاحب الحق الضعيف صغير السن بحقوقه من كبير السن القوي لأن مجرد المطالبه تهدد امتياز كبير السن القوي في الاعفاء من "المسئوليه" و "الحساب": اذ يملك كبير السن القوي أن يتبرأ من وعوده كلية -بل ويتبرأ من صاحب الحق نفسه- في طرفة عين وهو يعرف أنه سينجو بفعلته تلك لأن الغالبيه العظمي من أفراد المجتمع - من الضعفاء صغيري السن- مجبولون علي اجتناب كل ما من شأنه لومه (أو التلميح بلومه) والا أصبح ولاءهم –وتمجيدهم–  له موضع سؤال. فلا كرامة ولا حقوق الا ما "يمنحه" كبير السن القوي ووفقا لشروطه وفي الموعد الذي يحدده.

وماذا يحدث عندما تتحول قيم المجتمع ومثله العليا الي قيم و مثل عليا "غير مفلتره"؟ لا يحدث شئ! يتجمد كل شئ: اذ أنه في وضع كهذا يتحول المجتمع –بأكمله- الي "خادم" لقيمه و مثله العليا من الأفراد "غير المسئولين" و"غير المحاسبين" في حين نجد -علي الجانب الاخر- مسابقه وقد تشكلت للتو بين كل مثل أعلي "غير مسئول" و"غير محاسب" ومنافسه في سبيل حصول كل منهم علي التمجيد اللائق به –أو ما يظن أنه يليق به- بكل السبل وحسب شروط كل منهم وفي أسرع وقت: وبمرور الوقت يعجز المجتمع -في ظل حالة صراع الديكه تلك- عن انتاج المزيد من القيم والمثل العليا (ربما لأن هناك من يتأكد دوما من عدم حدوث ذلك؟): و بمرور الوقت تتحول كل قيمه وكل مثل أعلي "غير مسئول" و"غير محاسب" الي عاله علي المجتمع بل مفرقا ومعطلا وكابتا له -وليس جامعا ومحركا الي الأمام كما يجب أن يكون. وبتكرار هذا يفقد المجتمع كل صوره من صور الكرامه والحريه والعداله الاجتماعيه و كل صوره من صور المساواه نهائيا وبلا رجعه.

واغلب الظن أنها قيم موروثه منذ الأزل (أي منذ أجيال العبوديه والوثنيات القديمه) لم يتم مراجعتها أو تحديثها في أي وقت (بناءا علي ظهور الأديان والالغاء النهائي للعبوديه)  بل أقدم كل جيل علي قبولها –وتوريثها- للجيل الذي يليه كما هي دون تعديل -كما لو كانت كتاب مقدس من نوع ما- رغم تناقضها مع بعضها البعض أو تنوعها ما بين سلبي وايجابي - ورغم انتهاء صلاحيتها العصريه والفكريه. اذ تقضي تلك القيم –بوجه عام- بأنه لابد لكل فرد من أفراد المجتمع من سيد يكفله ويحميه وبالتالي لابد لكل سيد أو كفيل أو حامي من خادم أو مملوك (حتي يأتي الوقت الذي يتحول فيه الخادم أو المملوك بدوره الي سيد أيضا و في وقت ما): فالاب سيد الابن والمعلم سيد التلميذ والرجل سيد المرأه والمتدين سيد الملحد والغني سيد الفقير والمضيف سيد الضيف والحاكم سيد المحكوم والا انقلبت الايه (حاشا لله) وصار العكس هو الصحيح: أي صارت الفوضي هي النظام وصرنا ساده بلا عبيد أو عبيدا بلا ساده أو كلاهما معا (أشبه بما يحدث اليوم؟)  

من جانب اخر تسمح سياسات حكومة الحزب الوطني الداخليه بقدر لا يستهان به من الاستخفاف بتاريخ وثقافات –وأحيانا مذاهب واديان- الأقليات وشعوب المجتمعات الاخري في حين لا تشجع بالضروره قراءه موضوعيه وشامله للتاريخ والأديان والثقافات: بل كل الشواهد تؤكد أنها تشجع –فقط- كل ما من شأنه انسياق افراد المجتمع لمفهومها الخاص –القاصر غالبا- عن كل ذلك ومن ثم الانصهار في المجموع القيمي السائد بدعوي اننا مجتمع "شرقي" متفوق –بالضروره- لمجرد أنه شرقي و له "خصوصيه وطنيه" تاريخيه معينه ينفرد بها عن غيره من المجتمعات. وتفعل حكومة الحزب الوطني ذلك –عادة- بوعي أو بدون وعي-  بدعوي عدم الانقياد للفكر الاجنبي أو بدعوي الأصاله والتمسك بالجذور (حتي لو كان هناك نقصا معيبا بالغ السخف أو كبتا أو سوء فهم أو اضطهاد أو وعي قيمي مشوش ما زال في مرحلة الصراع كيما يصوغ نفسه في شكل فكر محدد أو شرخ في عماد الفكر نفسه –وبالتالي في الهويه- يهدد المجتمع ويؤدي الي انقسامه وتصدعه)

ولا يخفي أن منطق التفريق بين ما هو وطني واجنبي أو بين ما هو شرقي وغربي - ذكوري وأنثوي-  ديني وعلماني- فرعوني وعربي- قبطي واسلامي ثم ربط ذلك كله بالهويه الوطنيه (مع تشجيع الانصهار –أوالتكيف- مع ما هو سائد من قيم كما هو دون تعديل): هو منطق عسكري ايدولوجي شمولي من اثار القوميه العربيه المصريه –اختراع عبد الناصر والسادات- لا ينسجم مع العصر ولا يتسق مع مبادئ الفرديه والعولمه والمواطنه والحوار والديموقراطيه (التي ما زالت تروج لها حكومة الحزب الوطني-وبكل بتبجح- الي اليوم). وهو ما يوحي بما لا يدع مجالا للشك أن هذه الحكومه ليست جاده  في تطوير الوعي القيمي للمجتمع من ثقافه ومعتقدات وتعليم واساليب نمو (ونضوج) لتتماشي مع العصر الذي نعيشه واساليبه (ناهيك عن المستقبل): بل والأسوء ليست جاده في اتاحة الفرصه لظهور عقول عظيمه حره ليقوموا بالمهمه نيابه عنها. وبذلك فان غرضهم يكون–في الحقيقه- وفي أغلب الأحيان- أن يخفوا عن أنفسهم –وعن الغير- أغلب ما قد يعترضهم من مشاكل اجتماعيه و تعليميه و ثقافيه و أن يخفوا –أيضا- أنهم –في حقيقة الأمر- عاجزين تماما عن تقديم أي حلول لتلك المشاكل. فهم يريدون التظاهر بمعرفة ما لا يعرفون – والتفكر بما لا يفكرون – وقول ما لا يقولون: لينالوا ما لا يستحقون! حتي صرنا –كما الاخرين- غير قادرين علي التعرف علي أنفسنا وعلي الأخرين! فالانسان اذا كان لديه حلول أو يريد الخير فعلا للوطن أي طريق يختار؟ الاخفاء والابهام أم الوضوح؟ مواجهة المشاكل والاعتراف بها وايجاد حلول لها أم الهروب؟

ومع ذلك فان المتابع يخطئه التوفيق اذا ما ظن أن الأسوء انتهي عند هذا الحد اذ أن سياسات حكومة الحزب الوطني الداخليه تسمح -أيضا– بهامش لا يستهان به من السطحيه والسوقية والحماقه (الي درجة الطيش الذي نراه جليا في شوارع قاهرة اليوم علي مستوي الأفراد للاسف الشديد) بل والتبجح بالفاحش –في أحيان كثيره- وبالخطأ كما لو كان الخطأ حق نابع من صواب: كما لو كانت الحقيقه تكون أكثر جمالا متي تعرت أو متي صارت فاحشه ودنيئه ومفروضه فرضا علي الجميع! (بينما لا تستحق الحقيقه –غالبا- أن تكون عاريه-أو جميله- أو فاحشه- أو مفروضه اذا كان من شأنها كشف فساد أو محاكمة مفسد) ويتم ذلك من خلال ثقافه ثقيله خامده استهلاكيه الي درجة النهم في اتجاه كل ما يخص اشباع الرغبات الحسيه –بالتحديد- اشباعا كاملا- وعلي رأسها الغذاء والجنس والوظيفه –طبعا- بصفتهم جل ما يصبو له الوعي البشري اذا ما تجلي في صورته الوجوديه الشامله: صورة عمدة "الزوجه الثانيه" أو "المسدس العجوز" Ancient Pistol في رائعة شكسبير "هنري الرابع" : ذلك المراوغ الأحمق الذي يغلف حتي الأفكار العاديه - ومهما بلغت درجة تفاهتها وضالة معانيها ودنوها الحسي - بغلاف البلاغه والحكمه والوقار حتي أنه في أحد المشاهد يقبل حاملا خبر وفاة الملك واعتلاء ابنه –هنري الخامس- العرش فاذا به بدلا من الاعلان المباشر عن الخبر يلف ويدور ويستمر في لغوه فلا يقول ما عنده الا بعد أن يتهدده أحد الحاضرين بالقتل! وذلك –ربما- هو تفسير ذلك الطوفان الحسي اللفظي السطحي بلا حدود الذي اجتاح حياتنا يلتهمها التهاما –وبلا عقل -وبلا قلب- ومنذ اللحظات الأولي لظهور الحزب الوطني في السلطه في منتصف السبعينات -وعبر عنه "فكر" ذلك الحزب -واصحابه -قديما وجديدا- تعبيرا واضحا مع كل ما تبع ذلك –طبعا- من تطور-ما زال مستمرا- وفي نفس الاتجاه: أي اتجاه افساد الادراك بفنون اشباع الرغبات الجسديه والحفلطه اللفظيه الي درجة الاستحواذ استحواذا كاملا علي المبادئ والمفاهيم: روح الشعب.

و بينما يتم ذلك بطريقه اليه بحته وباسم قيم اخلاقيه أو روحيه أو اجتماعيه أو جماليه نبيله كالصراحه والبساطه والتبسط والوضوح والواقعيه والثقه بالنفس: نجد أن تلك القيم تضاءلت -بدورها- واتخذت مصطلحات ضبابيه للاستهلاك المحلي منفصله تماما عن مفهومها الأصلي: فيما نجد –علي الجانب الاخر- حكومة الحزب الوطني–وربما لنفس الاسباب- لا تعترض ابدا علي تفشي أوبئه اجتماعيه وثقافيه خطيره مناهضه لتلك القيم علي طول الخط: كالكذب والخداع (باسم النضج والشطاره) وفساد الذمه والتكتم الشديد عن اشياء قد يبدو من البديهي جدا الحديث عنها من أجل فائدة انسان ما ولتحذيره (والا فسدت أو ضاعت تلك الفائده ضياعا نهائيا وضاعت معها حقوقه). وبذلك فان حكومة الحزب الوطني لا تدع للشعب من الخواطر الجانبيه ما يشتت ذهنه طالما أن كل ما يفعله هو كل ما "يشتهيه" (وهو كل ما يخطر بباله): عاريا تماما و بسيطا ومن واقع حياته: الواقع المزيف الحزين المزين بالنهم والسطحيه والاكاذيب والبخل والجبن والركود والوصوليه والهدم والاستهلاك والاستعلاء علي الاخرين وكراهية السعاده لهم ؟

الواقع الذي لن "يتطهر" أبدا--فيما اتصور- الا باستئصال "شياطين" الفساد والاستنزاف من رؤوسهم و معالجة تلك الحالة المرضيه الصعبه من الفصام بين ما تقوله الحكومه وما تفعله: اذ لا يشترط –في واقع كهذا أن يمثل الرئيس -علي سبيل المثال- أو أي فرد من عائلته قدوه أو مثل أعلي لأحد لأن الدوله رسميا ليست ملكية برلمانيه -كما كانت في عهد فاروق- وانما جمهوريه رئاسيه (ولو شكليا علي الأقل): وبذلك لا يشترط –أيضا- أن يتقمص الحزب الوطني –دائما- روح دكتور جيكل "النظيف" "الشريف" "الرشيد" "الطيب" "المبروك" العالم ببواطن الأمور صاحب المبادئ المحترم الذي يدعو –عادة – الي ضرورة استحقاق المال (أو المنصب) بالعلم والعمل والجهد المتواصل والكفاءه والصبر والمثابره والأمانه دون واسطه من أحد: اذ لا تظهر تلك الروح الا حين لا يكون مطلوبا منهم الخضوع لأي من تلك المبادئ التي يروجون لها وهذا المبدأ الأخير بالتحديد! ربما لأن جميع أعضاء حكومه الحزب الوطني -بلا استثناء- من "الساده" الأثرياء الكبار ممن تجاوزوا السن المدعمين بقوات الطوارئ المحليه المسلحه -ومن ثم من المعفيين أيضا –بالضروره- من المسئوليه والحساب؟ أو ربما لأنهم "مسئولون" فقط عن التحقق من تنفيذ المبادئ والقوانين وليس الخضوع لها ؟

يصعب الجزم: لكن لا يخفي أنه في ظل الرأسماليه الحاليه التي يجمع فيها الحزب الوطني بين حماية أمنيه غير مسبوقه تستخدم فيها مرافق الدوله من جيش وشرطه وقضاء من جانب ومحتكري الأسواق من رجال أعمال (وموظفيهم) وموظفي الدوله مدنيين وضباط محالين الي المعاش من جانب اخر (حيث يتوقف- بديهيا- ما يقدمه هؤلاء من خدمات علي درجة انشغالهم– أو عدم انشغالهم– بأعمالهم الخاصه: في حين تواصل الحكومه مطالبة الشعب بالضرائب والمسئوليات: ومنها مسئولية اعتماده علي نفسه –طبعا- في تدبير لقمة العيش: بالفساد ربما أو الهجره أو الجريمه أو العمل لدي شركات وجهات أجنبيه مشبوهه): أو ما يسمي–اختصارا- ازدواجية المال و السلطه. وفي ظل بيطراركيه دينيه متمثله في الأزهر والكنيسه مموله وتابعه تبعيه شبه كامله لحكومة الحزب الوطني كما لو كانوا موظفين لديها: نهمه للغايه لنيل الاطراء والمديح والمناصب دون أن تقدم في المقابل سوي القليل جدا –والانتقائي- من الخدمات وفي الوقت الذي تحدده (بالاضافه الي مجموعه الفتاوي الدينيه والسياسيه –طبعا- التي يطلقونها من حين لاخر –بوعي أو بدون وعي- في اتجاه التأييد الأعمي لسياسات حكومة الحزب الوطني وشخصياتها- بدلا من أن تكون سببا لخير المجتمع و رقيه و رشاده ونهوضه وتقدمه). وفي ظل نقابات وأحزاب سياسيه شبه مدجنه -شبه مموله- شبه منسوخه- من ثقافة و أفكار و تنظيمات وسياسات الحزب الوطني. وفي ظل قضاء مستسلم تماما لانتهاكات الحكومه (طالما أن أحكامه تؤجل أو يستشكل عليها ولا تنفذ ولا يعترض علي ذلك أحد).

وفي ظل انتخابات غير حره (باعتراف منظمات المجتمع المدني المحليه و الدوليه) و في ظل عدم وجود أي صوره من صور ما يسمي بالتداول الحر للسلطه: أي انتقال الطبقه الحاكمه لتصبح محكومه –أحيانا – والعكس: وبالتالي عدم وجود مشاركه شعبيه في صنع القرار السياسي: بل يوجد–نتيجة لذلك- تطرفا في الاستئثار بالرأي -أو التشيع له-:"فما يقره الرئيس منحه وما نطلبه رجاء وما يسمح بمعارضته معارضه وما عدا ذلك فهو تسليه".

أقول في ظل كل هذا يبقي الشعب (المصدر الرسمي لثروه البلاد) ممولا رئيسيا –وخاضعا- –أيضا- لسياسات وثروات وثقافات هذه الحكومة وبالتالي ممولا وخاضعا –أيضا- "لشرعية" استمرارها في الحكم و بصوره تكاد تكون مطلقه و شبه أبديه!

ومهما يكن من أمر تلك الملكيه الجمهوريه– أي كان أسمها- التي ليست بالضبط ملكية فاروق- بل أشبه ما يكون بملكيه من ملكيات دول النفط (دون نفط ؟)- فقد تحول الشعب فيها الي فرصه ما لضريبه أو سلفه أو خصخصه أو"سبوبه" أو "نقطه" – علي طريقة اللمبي– وربما تطور الأمر ليواجه لحظة ابتزاز صريح يقتضي"فديه" (لا أحد يعلم علي وجه اليقين طالما أنه ليس باستطاعة الشعب أبدا اختيار من يحكمه). وبذلك فان حكومة الحزب الوطني- وفي تلك الجزئيه بالتحديد – متسقه تماما مع سياستها الخارجيه.  

وبتحليل بسيط: يعاني المجتمع ككل-وليس طبقه "تحت خط الفقر" فحسب (حوالي 40 % من تعداد السكان)- من "واقع" الحزب الوطني ورئيسه وحكومته التي تعاني بدورها من حاله غريبه من حالات التشنج و"التحنط" الفكري كما لو كان قدرا هي مجبرة عليه أو كما لو كانت محاوله من محاولات المصري القديم لادخار "ذكاء" عقله "المحنط" من أجل حياه أخري هو مقبل عليها أكثر "ذكاءا" بالضروره! أو كما لو كان الأمر "غمه و ستزول" – كما يقال في الأمثال و علي لسان المسئولين- وهو ما يثير–بدوره- المزيد من علامات الاستفهام حول مؤهلات أعضاء هذه الحكومه العلميه والثقافيه بل وحتي النفسيه والعقليه! اذ يحدث هذا أمام تفاقم متزايد لقضايا محوريه لا تحتمل المخاطره (ربما لأنها متفاقمه أصلا منذ أجيال وتتعلق بأرزاق ومصائر أجيال) مثل البيئه والثقافه والمياه والطاقه والتعليم والصحه والمناخ (الخ) ويستتبع ذلك ظهور مظاهر مؤسفه يأن تحت وطأتها المجتمع بأسره نتيجة حادث ارهابي أو مباراة كرة قدم أو حكم قضائي لم ينفذ أو نتيجة لسياسات رجعيه متخلفه استعراضيه تعاني بخلا في الانفاق وخللا في التخطيط وتضخم متزايد في حجم الدين العام وفي أقساط الديون الخارجيه (نتيجة التأخر عن الدفع) يوازيه تضخم متزايد في حجم الانفاق الحكومي بل في حجم الحكومه نفسها وفي بيروقراطيتها ومركزيتها وبالتالي تضخم متزايد في فسادها والفساد بوجه عام.

ويحدث ذلك في ظل اقتصار الاقتصاد المصري علي عدد محدود جدا من الاسواق وخطوط الانتاج (اذ تتركز الانتاجيه –في الغالب- علي روافد قليله للغايه مثل الانشاء والسياحه والعقارات والفن والرياضه والافتاء الديني) وفي ظل سياسة احتكارات سوق ولوائح معطله وغياب الرقابه علي البنوك (وعلي الرأسماليات المتوحشه سواء محليه أو عابره للقارات) وتوعيتها لتقوم بخدمة المجتمع الذي تتكسب من خلاله أو منافستها حكوميا اذا اقتضي الأمر. وفي ظل توسع في الاستيراد (لا يقابله –بالضروره- توسع في التصدير: اذ لا وجود لسياسة تنظيم انتاج أو تنظيم استهلاك ولا وجود لاكتفاء ذاتي في أي مجال) وفي ظل فوضي غير مبرره في اسعار المواد الخام وفي ظل عدم وجود الية عامه "مسئوله" و "محاسبه" لخلق و ابتكار فرص عمل جديده وفرص استثمار وفرص مشروعات صغيره (بسبب عدم وجود حوافز من أي نوع أو بسبب عدم صيانة ما هو متاح بالفعل أو بمعني اخر: عدم وجود مشروعات حكوميه كبري للطاقه والمياه والصرف والمواصلات ولتدريب وتوظيف العماله): في ظل نظام ضريبي وجمركي-ونظام اجور-غير عادل (بل رجعي ومتخلف). وفي ظل غياب كامل لنقابات حره تحمي العاملين من بطش الرأسماليات (والحكومه؟): في ظل عدم وجود "ثقافة" عمل أساسا (وبالتالي بطاله مقنعه وكسل وجريمه وهجره عشوائيه أشبه بهروب وعدم احترام لقيم العلم والعمل والوقت). وأخيرا في ظل ثبات غريب في مصادر الثروه والدخل القومي للبلاد (وبالتالي حجمه وقيمته) وفي ظل أزمه عالميه طاحنه.

ولا يبدو غريبا والوضع كذلك أن تواصل معدلات التضخم والبطاله والأميه والمرض ارتفاعها المذهل وتواصل-في المقابل- معدلات النمو والانتاج الوطني GDP انخفاضها المذهل وبلا أي تدخل من الحكومه وكأن لسان حالها يقول: دعه "يسقط" دعه يمر! ولا أحد يسألني كيف ستمول حكومة الحزب الوطني مشروع الطاقه النوويه الذي تتحدث عنه هذه الأيام - فالحكومه لا تشرح شيئا ولا يحاسبها أحد!

بيد أن الشئ المدهش (والمقلق) حقا: أن كل هذا يحدث بينما تواصل حكومة الحزب الوطني –وبلا مبالاه غريبه - خسارة كل شكل من أشكال التعاطف الداخلي والخارجي حتي بات من شبه المستحيل أن نتوقع من هذه الحكومه أن تنجح – في أي وقت قريب- فيما فشلت فيه مرارا من قبل: قيادة الشعب الي صوره من صور الاصلاح المالي والاقتصادي (أوالثقافي أوالاجتماعي أو الزراعي أو البيئي بطبيعة الحال).

وبعلاقة ما يمكنني أن أجزم أنه بقدر ما يقل وعي المجتمع بما يحدث وما يجب أن يحدث: بقدر ما يزداد ميل الحكومة للتخلص من أعبائها والقاء تبعية تلك الأعباء علي أكتاف الشعب (وبالتالي يقل وعي الحكومه أيضا بما يحدث وما يجب أن يحدث): وبقدر ما تفرض الحكومه حالة من الغموض والتعتيم ازاء ما تفعله (ربما لتجعل من واقع "استخدام" الشعب والسيطره عليه من طرف حكومه عاجزه أكثر احتمالا ؟). في حين يزداد –علي الجانب الاخر- ميل الجيل القديم من الشعب للصمت والخوف والانسحاب من أي مواجهة قد تؤدي الي صدام مباشر مع الحكومه (وتظهر ايجابيات ذلك الجيل فقط في المجالات المسموح له فيها–ضمنيا- بالايجابيه مثل متابعة بطوله رياضيه مهمه أو الأفلام والمسلسلات والاغاني علي سبيل المثال).

 وهو مثل يجدر بنا – نحن ملح الارض من الأجيال الجديده البريئه التي تربت – ربما دون علمها - في رحاب الفساد والاستنزاف والحروب والاستبداد والخصخصه - ان نقتدي به ونجتهد فلا نسمح لأحد أن يتدخل في شئوننا الداخليه –لتغييرها- مهما بلغ من اقتحام مشكلات العالم ومصائبه وشركاته وبنوكه ومنظماته ووسائل اتصالاته لبيئتنا الداخليه. فاثارة العواصف لا يخدم الا اعداء الوطن وهم في هذه الحاله المعارضه والاخوان وكفايه و شباب 6 أبريل والبرادعي والبرلمان الموازي وحماس واسرائيل وايران وسوريا والجزائر واثيوبيا (وما خفي كان ويكيليكس!). ولنا في واقع الستينات عبره: فما هو جزاء من كان يحاول المطالبه بحقوقه في الكرامه و الحريه و الديموقراطيه الا أن يحرم منها تماما بالاعتقال والتعذيب وخسارة مصدر رزقه - فيشكروا الحزب الوطني علي أنه حرمنا منها بأقل خسائر!  

ومهما بلغ صوت الضمير الانساني داخلنا من حده و رقي – ومهما علت أنغام الحريه والكرامه الانسانيه تنبهنا الي الجوهر الخالص العاقل للوجود وللتاريخ وللروح الانسانيه في تجردها الطاهر المتفوق –دائما –بالضروره- علي مظاهر (ومطالب) الجسد – و مهما بلغ ايماننا بوجود ديموقراطي ناجح في أماكن أخري من العالم المرئي المحسوس فانه لا مفر من الخضوع –رغم ذلك- لواقع الحزب الوطني الضحل الالي المشوه: واقع قوة الطوارئ والسلطه والمال: عالم ارادة الجسد - ربما لأن البعض "أفتوا" بأن هذا الواقع هو مصر؟ ولأنه مصر فقد سبغ الله عليه –بالضروره- مسحه من رضاه؟ و حتي نكون مؤمنين -ومصريين حتي النخاع- فانه يجب علينا-بالضروره- أن نكون واقعيين؟!

وعلي أية حال - وكيلا نبتعد عن الموضوع- عندما يعلن السادات أن 99 % من أوراق اللعب بيد أمريكا (وكأنه اكتشف ذلك فجأه) لابد وأن ننصت جيدا: فربما يعني أن ال 1 % المتبقيه ما زالت حره طليقه رهن الأستخدام!