يخيل لي ان الدرس الحقيقي من الثورات الدائره اليوم في الشرق الاوسط هو ان العدو لا يشترط ان يأتي دوما من الخارج وان النهب والطغيان في صورة استعمار اجنبي مسلح كما كان يحدث مع بداية القرن التاسع عشر والي منتصف القرن العشرين: صار اشبه بموضه قديمه طالما انه لا يصعب الاتيان بمثله من بين ابناء الوطن انفسهم وفي اطار من جشع الحكام –وساديتهم- والذي قد يعميهم –في سبيل احتفاظهم بعروشهم- او في سبيل النجاة من المحاسبه والعقاب- عن كل بصيره
ولا يخفي ان الفاشيه والبلشفيه والنازيه ومن بعدهم سائر القوميات الاخري مثل البعثيه والناصريه الخ كانت اقسي علي اهلها من القوي الاستعماريه التي كانت موجوده وقت ظهورهم: والنازيه والناصريه هي النماذج الامثل –في رأيي- من حيث جمعهما لهذين النوعين الاكثر تطرفا من اوهام مثالية القوه معا في قالب واحد: اوهام القائد العسكري واوهام الكاهن
لذا ليس غريبا اذا ما اتفق عبد الناصر وهتلر مثلا في اشياء عديده كما لو كانا خريجا مدرسه واحده: او اذا ما اتفق –ويالا المصيبه- مع الصهيونيه: وان اختلفت المسميات
واذا كان العصر الذي انجب تلك القوميات يعتبر فرويد ونيكولا ماكيافيللي Machiavelli وكارل ماركس وادم سميث وهيجل وداروين واينشتين بمثابة عمالقه يمرون عبر حشود من الاقزام فان انصار فرويد وماكيافيللي بالذات –وكانوا اغلبيه- وان لم يدركوا وجود عملاقيهم- فقد اتخذوا لانفسهم ابطال من بينهم ممن هم علي شاكلة هذين العملاقين وان انتهي بهم الامر الي انهم لم يعودوا يسمعون-وسط الضجيج - سوي صدي فقط لما ذهب اليه هذين العملاقين!
وفرويد هو الذي سلم تسليما مطلقا بالتوحش المتأصل لدي الانسان فربط الجنس وميل الانسان القديم الي العزله والعنف بكل سلوك انساني تقريبا: علي مستوي كل العصور: فخلص بذلك الي جانب تشاؤمي سوداوي في التفكير اتجه الي ان الحجب والضغط والحرمان اقدرعلي تفسير السلوك الانساني من ايمان وضمير وحياه اجتماعيه مكلله بقيم اخلاقيه وانسانيه رفيعه: اذ انه الصق الضعف الخلقي وفساد الفكر والفرديه ونزوة الشر بالطبيعه الانسانيه بحيث لا يكون اكثر العقول توقدا بمنجاه منهم في كل حين
ولا يخفي ان فرويد نفسه كان مشبعا بروح حضارته لدرجه انه لم يتمكن من ان يتجاوز حدودا معينه اقامتها له تلك الحضاره حتي اصبحت لتلك الحدود نفسها حدودا بحيث عجز تقريبا عن فهم سيكولوجية الانسان السوي والظواهر الميتافيزيقيه والروحيه التي تعمل بنشاط اكبر لديه في الحياه الاسريه والاجتماعيه: فالانسان –في نظر فرويد- ما هو الا حيوان متوحش ذاتي النزعه اشبه بذئب مفترس ليس مؤهلا للعيش في جماعه مع غيره من الحيوانات النباتيه غير المفترسه –مثل الطيور والاسماك والحملان- تلك التي يتغذي هو عليها وبالتالي فانه يجب التعامل معه كذئب مفترس وما علي ذلك من مزيد!
ولعل ما تميزت به تلك الحقبه من صراع بين المثاليه والواقعيه وبين الرومانسيه والتعبيريه (ثم السيرياليه) وبين الرأسماليه والاشتراكيه: وبين التشكك والايمان: اضافه الي ذلك الخلط الشائع –الموجود منذ الازل- بين الدين كرسالة روحيه واخلاقيه تخص الجميع وبين البيطرياركيه (كهنوت وازياء وناموس طقسي): ولم تكن الحرب تنقطع اذ كان العالم يخرج من حرب الي التي تليها ومن معارك اقليميه مثقله بالماسي والخراب الي اخري عالميه يتم فيها استعراض كل مظاهر القسوه الانسانيه من قنابل وصواريخ ومعسكرات تعذيب واسلحة دمار: كل ذلك لم يساعد فرويد علي استنتاج نظره اكثر تفاؤلا للحياه (وان تمكن من اكتشاف بعض الاكتشافات السيكولوجيه الرئيسيه خاصه تلك المتعلقه بتفسير بعض القوي الحسيه والبيولوجيه وتأثيرها علي شخصية الانسان وصحته النفسيه)
وهكذا تردي كل من ذهبوا مذهبه -وهم الاغلبيه الكاسحه من اجيال القرن العشرين –من مختلف بلدان العالم- في نفس خطأ التعميم عن طبيعة الانسان واستباحوا الافراط في التبسيط: وهي معركه خسرها الجميع في رأيي
اما ماكيافيللي فهو الذي قرر ان الوسيله الوحيده للحفاظ علي النوع الانساني (والسلطه السياسيه) هي اللجوء الي الخير والشر معا تبعا لمقتضيات الحال دون ان يتقيد الانسان بكل ما يعوق ذلك من اخلاق
اذ ليس من وظيفة الحاكم –في رأي ماكيافيللي- التقيد باخلاق وانما فرض القوانين فرضا وبأقسي درجات القوه والضغط وبأشد درجات العقاب وطأه ولا حرج عليه في سبيل ذلك البطش بأفراد رعيته مادام في ذلك تحريكا للمجتمع ومصلحة الجماعه
وهكذا فالشعب -في رأي ماكيافيللي- مقسم الي ثلاثة فئات: 1- من يعلم ويفهم الاوامر والتعليمات من تلقاء نفسه 2- من لا يعلم ولا يفهم الا اذا شرح احدهم له 3- من لا يعلم ولا يفهم من نفسه ولا من شرح الاخرين (وهو النوع المفضل له بطبيعة الحال) وهو تصنيف اخذ به ماكيافيللي نفسه عن رجل اخر لا يقل عنه وضاعه وسوقيه واستهتارا وسوفسطائيه هو هزيود (او ما يسمي بتصنيف هزيود للعقول)
وهكذا يتحول المجتمع –مع فرويد وماكيافيللي سويا- الي مجموعه من القطعان شبه الادميه المسخره لخدمة اجسادها –وجسد الزعيم الاوحد طبعا- المنقاده دائما وابدا في سبيل تنفيذ الاوامر والتعليمات (سواء تلك التي فهموها من تلقاء انفسهم او اجبروا علي فهمها) بحيث يحاول كل فرد منهم التجانس مع زميله تحت ضغط متواصل من الحاجات الماديه فيما تنتهي مشاريع اندماجهم الاجتماعي من زواج واحزاب ونقابات غالبا الي نظرات تأمليه فرديه ومصالح وحسابات منغلقه علي اصحابها تقضي علي كل علاقه اجتماعيه ناجحه في مهدها (طالما ان هذه العلاقه قائمه علي فكر وعواطف واخلاق تشكل بالضروره عقبه كئود –حسب رأيهم- علي طريق خدمة الحواس)
ووجه الخطوره هنا هو انه -ووفقا لهذا الفكر- فان كل مفكر مستقل وكل صاحب مبادئ بالفطره –بما في ذلك فرويد نفسه - هو خارج علي النظام ومستبعد تماما بل محروم من اقل حقوقه البدائيه في امن وثروه (ولا احد يتحدث هنا عن حريه ومواطنه وحقوق انسان بطبيعة الحال)
وان لم يكن غريبا بالنسبه لعبد الناصر (ضابط الجيش الذي تروق له فكرة ان يصبح فيلسوفا) ان يتخذ لنفسه مثل هذا الفكر المادي المغرق في القسوه والتشاؤم وينقله الي خلفائه (مع كل ما الصقه به من تحريف في صورة عواطف وطنيه تناقضت مع الفكر نفسه بحيث اصبح بامكان المنتمي الي هذا الفكر الانتقال من منتهي التطرف في القوه والواقعيه الي منتهي التطرف في المثاليه والرومانسيه وفي لحظه واحده) الا انه قد يكون الامر غريبا بالنسبه لرجل محسوب علي تيار ديني كحسن البنا: بحيث يعادل ذلك في غرابته حيوان خرافي من حيوانات الاساطير الفرعونيه القديمه التي كانت غالبا ما تتخذ من رؤوس الحيوانات والطيور–كالكلب والقط والتمساح والنسر وابو قردان- رؤوسا لالهه!
فالايمان الروحي عند حسن البنا ليس نوع سامي من انواع الحدس او حاسه سادسه (وهو لفظ استخدمه دونما اعتبار لمضمونه العلمي علي اية حال) تعمل مع باقي الحواس بحيث تقود الانسان الي ادراك بعد جديد تمحي فيه تناقضات الوجود ما بين الروح والماده (باعتبار انه لا يوجد تناقض اصلا وانما هو واقع واحد متكامل ومتسق ومستمر بعضه جلي –يراه الانسان- والبعض الاخر خفي)
وبذلك فالايمان الروحي ليس ايضا كما عرفه المفكر العظيم "بن سينا" بصفته "ادراك المعقولات من حيث انها جوهر روحاني :"Spiritual Substance بحيث يبدأ الانسان طريقه الي الايمان بالفكر اي من خلال قراءاته وملاحظاته وميوله الفلسفيه المتنوعه ومن خلال ادراكه لسلوك الطبيعه والكائنات –بما في ذلك الانسان- من حيث انه تجليات لروح ساميه صادره عن العقل الكلي للكون Universal Intellect تتحرك خلف ستار الماده لتدبر الاقدار من ميلاد ومحيا وممات: لتتبدي هذه الروح في النهايه في اكثر تحققاتها تأزرا في صورة احداث لا تخطئها عين علي مسرح التاريخ الشامل: تاريخ الطبيعه + تاريخ الحضاره الانسانيه + تاريخ العقائد والنبوات: او "مسرح الحياه" كما اعتاد يوسف وهبي ان يردد في افلامه (وبناءا علي ذلك –وبناءا عليه فقط- يتخذ الانسان لنفسه من المشاعر ومن المبادئ الفكريه والاخلاقيه ما يتناسب مع تلك النزعه الروحيه التي اكتشفها لتعينه علي فهم اوسع للحياه بحيث ينعكس ذلك الفهم علي سلوكه فيصبح الانسان –سواء علي مستوي الفرد او الجماعه- اكثر تحكما بحياته العقليه والروحيه بالتوازن مع حواسه)
بكلمات اخري: الايمان الروحي هو الثمرة الحيه والنتاج الثمين لنشاط العقل الانساني ولكل دراسه جاده تتخذ ضربا من ضروب المعرفه الاعمق اثرا والاسمي رؤيه والابقي تأثيرا: والانسان المؤمن لابد وان يكون قادرا علي ان ينقب تنقيبا دقيقا اشبه بعالم الاثار عن طريق كل ما تراءي له من علامات واستنتاجات غير منظوره –واحيانا احلام ونبوءات- ليضعها جنبا الي جنب الي جوار كل ما هو منظور ومعقول فيحصل بذلك -قدر الامكان- علي الصوره الاكثر شمولا: او ما يسمي "البصيره": اذ انه وان كان يدرس المعجز واللا منظور الا انه لن يتمكن من ادراك اللا منظور ومعرفته معرفه وثيقه الا بادراك اقرب الي الكمال لكل ما هو غير معجز ومنظور: وبحيث لا تعطل بصيرته الجديده تلك –كما شرحت- نشاط العقل الانساني بل تكمله وتتواصل معه
بمعني ان "البصيره" هي التوافق المجدود بين الحوافز الخارجيه (رسائل الايمان) والمزاج العصري واليقظة الفكريه للانسان: اذ لا يجب ان ننسي ان الغرض النهائي من البصيره هو الوصول الي حالة من النمو العقلي والوجداني القادره علي الجمع بين العقل والروح والحواس في نسق واحد متكامل دون فصل او اغفال
وكلنا يذكر قائد الغواصه في فيلم ماتريكس Matrix حين كان قادرا علي ان يميز بوضوح الرموز الخضراء التي تجري امامه علي الشاشه وما يقابلها من صور واحداث تدور في العالم الافتراضي (عالم الماتريكس) ليدركها كمن يعايشها وكما تدور دون حاجه لان يخوض غمار الولوج الي هذا العالم او ان يحلل كل رمز من هذه الرموز علي حده في كل مره: فيما يعجز انسان الماتريكس علي ان يدرك التفسير الحقيقي لتلك الرموز امام الابهام الذي يكتنفه حين يراها لاول وهله (ناهيك عن عجزه عن اكتشاف معاني لبعض الظواهر التي تحدث في عالمه حين يعود بالفعل الي ذلك العالم)
وقديما كانوا يصورون الانبياء والرهبان–رغم مظهرهم الفقير المتواضع- كما لو ان هالات من نور تشع ضوءا فريدا يكلل رؤوسهم ويتبدي علي قسماتهم والمعني الشكلي مفهوم الا ان المعني الجوهري قد يتعدي مجرد نور يشع منهم او اليهم اذ قليلا ما كان يسمح النبي او الراهب للغرور او للوهم او للكراهيه المظلمه المدمره او للعواطف الفارغه غير المفهومه او للتافه الثانوي من الامور بالتدخل وغزو نشاط حياته العقليه مهما بلغ من اقتحام العالم ومصائبه: انه يستعين بالحقائق في صموده وبالبساطه في معالجاته وبالموضوعيه في احكامه وبالتعدديه في مصادره اشبه بشجرة مثمره في مهب ريح عاصف يأتيها الريح من كل اتجاه ويرج اغصانها وثمارها ولكنها مع ذلك تبقي متماسكه اذ انها تملك من السيقان القويه المتجذره في تربة الارض ما يقيها مغبة السقوط
والملاحظ –بل المثير- ان بن سينا المسلم- لم يشترط ابدا ان يكون الانسان المؤمن منتميا لعقيدة الاسلام: ولكنه في المقابل يشترط علي المسلم ان يكون مؤمنا: اذ ان مرحلة الايمان –في رأي بن سينا- تسبق مرحلة العقيده: بحيث لا يصح لانسان ان يكون مزاولا لاي منهج ديني الا اذا امن اولا وبلغ مرحلة اليقين والا كان كمن يرغم نفسه علي شئ دون ان يواتيه المزاج الذهني والروحي الملائم لتبيانه وتناوله التناول الصحيح
وهكذا فالايمان الروحي لا علاقة له بعوامل الدم والثقافه ومحل الميلاد وانما هو –كما شرحت- نتيجة موقف تأملي -او عدة مواقف- يقوم علي قراءات متنوعه وفهم ورصد لظواهر الكون والروح والطبيعه والتاريخ والنفس والفلسفه والعقائد والمجتمع بواسطة العلوم التي تهتم بدراسة كل منها علي حده وبنفس القدر
فقد نستطيع بمساعدة العقائد ان نتصور الطبيعه والتاريخ خاضعين لقضاء الله وحسن ادارته للكون: وبنفس القدر نستطيع ان نتصور الانسان خاضعا لحركة التاريخ ورعاية الطبيعه: ولكننا لا نستطيع ابدا –باي حال- ان نتخيل رسائل الايمان الا جزءا لا يتجزأ من التراث الانساني: اذ انها وان كانت بداياتها وحي اعجازي من خارج حدود عالم الانسان: الا اننا لا نستطيع ادراك هذا الوحي وتفسير رموزه –ومن ثم الايمان بوجود عالمه- الا من خلال لغة ومفاهيم انسانيه بحته: والا فما قيمة الايمان ؟
هذا–بايجاز- هو جوهر وجودية عصر النهضه الايجابي الذي انتج العلمانيه: وهي وجوديه تصلح –في رأيي- لان تصنع نقطة التقاء مع المنهج المدرحي (المادي-روحي) الذي تمتاز به ملة النبي ابراهيم الكريمه في كل مراحلها بما في ذلك الاسلام: كما تصلح ايضا لان تصنع نقطة التقاء مع الفلسفات الانسانيه وميتافيزيقيات الاخلاق ذات المنهج القياسي القائم علي الحدس والاستقراء لعظماء مثل كانت وبرونو وسبينوزا اضافه طبعا الي المنهج المادي التجريبي الاستدلالي كالماركسيه والسبنسريه وما سبقهما او تبعهما من جهود هامه للغايه قام بها اناس مثل لوك وهيوم وديكارت ونيوتن ونتشه وشوبنهاور (مع تحفظي علي الجانب المتشائم منها)
اما الايمان الروحي عند حسن البنا فهو عطفه وهبه ربانيه وسر لا يعلمه الا الله: ومسرح الحياه في رأي حسن البنا يتمثل في الحرمان من كل ما هو "مادي" حرام واستهلاك كل ما هو "مادي" حلال في انتظار الموت لا عن ايمان نفعي بنعيم وسلام مقيم في حياه اخري وحسب وانما –وبادئ ذي بدء- بسبب خواء الحياه الدنيا وعدم جدواها (بصفتها زائله وليست سوي محل اختبار) ليقع بذلك في جانب مما وقع فيه المتشائمون الماديون من فصل تام –بل تضاد- فيما يخص العلاقه بين الروح والطبيعه: الروح والحضاره: الدين والتاريخ: من خلال ربط الدين بواقعيه متزمته دون ان يكون للروح نصيب بارز فيها
وهو فكر لا يختلف –في رأيي- عن فكر ظهر مع قدوم الحمله الفرنسيه الي مصر وانتهي الي ان "الدنيا لهم والاخرة لنا": ومع ذلك سرعان ما يتدارك حسن البنا الموقف ليبين لنا –دون برهان- ان الاشياء ليست بذلك السوء الذي تبدت به لاول وهله (مع نابليون) ولذلك فانه لا يجب ان يستسلم الانسان لهذا المنطق وكأنه قدر بل يجب عليه ان يفعل كل ما هو مستطاع "لينتزع" الدنيا ايضا "منهم" عن طريق ما اسماه "اسلمة" الحياه او تحويلها الي "حياه اسلاميه": فهو يعتبر كل ما تلا الاسلام بدعه وكل ما سبقه تحريف يجب ان يضع هو حدا له (فالملاحظ هنا ان حسن البنا لم يستشر احدا بشأن مفهوم موحد لتلك "الاسلمه" التي ينوي تطبيقها وموقع غيره منها)
ليس غريبا اذن والوضع كذلك انه يصعب الاستدلال علي الايمان الروحي الحقيقي - من وجهة نظر حسن البنا–عقليا او انسانيا او اخلاقيا او حتي اجتماعيا: وانما عاطفيا فقط ووفقا لما يؤديه "الفرد" من "عبادات": او بمعني اوضح وفقا لدور الفرد في "الاسلمه": فالايمان –في رأي حسن البنا- هو نتيجة للتدين والطاعه وليس العكس: اما العبادات فقد اقتصر جلها علي دائرة النسك والشعائر (الناموس الطقسي)
او ان يخلط بين مفاهيم مثل الايمان والاسلام طالما ان الخلط قام –ومنذ البدايه- علي فرضية ان الايمان نتيجه وليس سببا: او ان يلصق المثاليات والسمو الروحي بالرومانسيه والصوفيه: في حين تقتصر المثاليات –في رأيه- علي ما هو مذكور صراحة في الكتب (وحسب تفسيره لها) ومع ذلك فانه حتي هذا النوع الاخير من المثاليات لم ينج من اتهام بالرومانسيه والصوفيه: والملاحظ ان المعاني المجرده للقيم الاخلاقيه والسلوك الانساني الجمالي هي الشئ الوحيد الذي لا يفسره حسن البنا حرفيا!
فالاسلام مثلا قد لا يتمثل فقط في كونه اسما للمله بل ان للكلمه ايضا معني قيمي جمالي هو "التوكل علي الله" كما ان "السجود" قد لا يكون معبرا دائما عن الية سجود الصلاه بصورته الطقسيه بقدر ما هو –بالاضافه الي ذلك- اعلاءا لقيمة "التواضع" (وذلك لمن هو مهتم بدراسه اوسع للغه العربيه)
وهكذا ليس من الصعب ان نستنتج ان الشريعه-في رأي حسن البنا- ليست روح القانون وانما تطبيقه بحذافيره وبنفس مقاييس العصر الذي ظهرت فيه وبصرف النظر عن ظروف العصر الجديد الذي نحن بصدده: فالشريعه في رأي حسن البنا فوق القانون وفوق الدستور: وفوق الزمان والمكان: لذا فهي ثابته لا تتطور وانما العصر -والقانون والدستور- هو الذي يجب ان يصبح صوره كربونيه منها!
ومفهوم "فوق الزمان والمكان" او "صالح لكل زمان ومكان" هذا -في رأيي- هو مربط الفرس وهو حق تم تحريف مغزاه –بعلم او بغير علم- فانتهي الي باطل: اذ تم قسرا الخلط بين الثابت والمتغير: او بين القيمي المرتبط بمبادئ اخلاقيه وعبر ونبوءات وبين ما هو نفعي عاجل نشأ بناءا علي ظروف واحداث تاريخيه معينه لا يشترط بالضروره ان تكون موضع تكرار
في حين ان الله الثابت الازلي وان ارشدنا بنفسه الي وحي ما بواسطة رسول من البشر-وبلغة بشريه –لقصور ما في قدراتنا انذاك- فانه انما فعل ذلك وهو يعلم–بصفته الخالق- ان ذلك الوحي لن يصبح سلوكا انسانيا اصيلا الا اذا اصبحت تطبيقاته انسانيه بنفس قدر مثالية مبادئه (عصريه؟ حكيمه؟): بمعني حريه بكائن متغير يعيش عصورا متغيره – متطوره بالضروره- ما كانت لتتغير- او تتطور- الا بارادة الله وقضائه
فاذا ما اغفلنا هذا: اي اذا اغفلنا ان الانسان متغير بطبعه لا يليق به الا قانون متغير مثله وان الشريعه انما وضعت لتنظيم علاقاته ومصالحه العاجله: فان الخيار المتاح له في هذه الحاله هو ان يصبح الانسان وكل ما له صله به ثابت ايضا سجين ما يفرضه عليه هذا الثبات من اراء اشبه بالكائن الالي الذي لا يمت الي اللحم الحي بصله ليتوقف الانسان بذلك رهن حقبه زمنيه معينه وعند حد معين من التطور ويبدأ - حسب القانون الطبيعي- انسحابا تدريجيا من الحضاره بحيث لن يعني هذا الانسحاب بالنسبة اليه –في اي وقت- سوي مزيد من التراجع
ولا ادل علي الطابع الخطر لهذا "الفكر" الا ان ينسلخ الانسان عن تقديره لابناء جنسه فلا تجتذبه الحضارة الانسانيه ولا تحقق له ادني متعه فينفر منها ليصبح عدوا للحضاره وعدوا للانسان (متطرف؟ ارهابي؟)
وان كان مضطرا الا يعترف بذلك حتي فيما بينه وبين نفسه حيثما لا تسانده اراء الثقاة: الا ان الحقيقه انه يتجه -وباصرار له نفس قدسية الدين -ومع كل ما قد يلوك به لسانه من مديح في حق الانبياء- الي نقطة اللاعوده بحيث يصبح بامكانه ان يفعل اي شئ تقريبا في سبيل ما يسميه شرع الله ومحبة رسوله ودون ان يتقيد بأية اطر او مبادئ بعد ان اصبح هو نفسه –برأيه- وراء الخير والشر وفوق الاطر والمبادئ والممثل الوحيد لها في نفس الوقت! (وما ذلك الا لأن الانسان لا يفعل -في غمار دفاعه المستميت عن انتمائاته- اكثر من مجرد التعبير المنفرد عنها دون ان يكون من بين اهدافه ادراك او فهم حقيقي لهذا الشئ او ذاك: دع عنك ما يمكن ان يمر به الانسان من يقظه فكريه واكتشاف هويه وقدره ما علي الاستنتاج والاستبصار –كما شرحت- وهو ما لا يحدث ابدا فيما يبدو لاولئك الناس: وذلك هو السبب ربما في انهم غالبا ما ينتهون الي نتائج تكاد تكون واحده ولها لسان واحد بل وتشوبها نفس الاخطاء مع كل ما قد يبدو للبعض وكأنه مظاهر اختلاف)
وبظهور نسخ اخري من هذا "الفكر" يتجه المجتمع -بل النوع الانساني كله- وبشكل معدي- الي ما يشبه الانتحار الجماعي (ولا اتحدث هنا عمن يزرع قنبله في سوق من الاسواق او في دار عباده او من يرتدي حزاما ناسفا ليقتل نفسه وابرياء معه من نفس ملته او من ملل اخري لا ذنب لهم الا ان حظهم العاثر قد جمعهم معه في نفس المكان)
ولا شك ان الانتحار الجماعي لا يصنع حياه ولذا فهو ابعد ما يكون –طبعا- عن فكر وسلوك الانبياء
والعاقل سيدهش لا للتضاد والصراع الزائف الذي صنعه هؤلاء بين الدنيا والاخره: محبة الله ومحبة الانسان: العلم والايمان: الدين والحضاره: فصبغوا كل شئ بخليط غريب غامض متناقض ما بين تفاؤل وتشاؤم: بل لان ذلك يحدث فيما تظل الارض علي دورانها وتظل المجتمعات الانسانيه تظهر نفس الالحاح ونفس السعي الدائب للتعلم والتعارف والتحضر والتزاوج: واخيرا يظل المسلم مكلفا دينيا بغرس نبته واحده علي الاقل- وليس لغما او قنبله- وليس ماده دستوريه- وان كان ذلك هو اخر يوم له علي سطح الارض
فالحضاره -كالروح الانسانيه- هي في واقع الامر شئ ثمين للغايه لا يصح لنا استحضارها او الاستغناء عنها وقتما يحلو لنا كما لو كانت موضع تسليه او كما لو كانت بلا حاكم او ضابط او رقيب بل يجب احترامها وتحري وجودها في كل شئ وفي كل حين
بمعني انه كلما اوغل الانسان في التحضر كلما اوغل في الايمان والعكس (بشرط الا يتخلي ابدا عن انتمائه للطبيعه التي خرج منها والنوع الانساني الذي ينتمي اليه)
والرساله الدينيه هي رساله "تقدميه" بالنسبه للعصور التي ظهرت فيها بحيث نقلت البشريه من عصر الي اخر: واذا كنا بازاء قاعده فان هذا المبدأ لابد وان يكون ساريا ايضا علي كل العصور: بمعني انه لا يصح ان تكون الرساله الدينيه سببا في تراجعنا
وهكذا اذا كان رب اليوم هو رب الامس فان انسان ومجتمعات اليوم ليس بالضبط انسان ومجتمعات الامس: وتلك مشيئه ربانيه –كما شرحت- لابد من احترامها
بكلمات اخري: لن يتسني للرساله الدينيه ان تصبح صالحه لكل زمان ومكان الا بتحديث الافكار وتطوير الاساليب والتطبيقات لتنناسب مع العصر (مع الالتزام بصلب الدين ومضمونه)
والظاهر ان كل رساله في تاريخ المله الابراهيميه بجميع مراحلها نهاية بعيسي المسيح من الفرع الاسرائيلي ومحمد النبي من الفرع الاسماعيلي هي تجديد وتذكير للمله وتيارا اصلاحيا فيها تعمل من خلاله وتصدق ما سبقه فتجري في نفس السياق دون الابتعاد عن الخط الفقهي (اللاهوتي) الرئيسي: وبذلك لا يجوز لاي منها ان يكون له كيان مستقل مهيمن ينقض ما سبقه فيصبح الممثل –والمفسر- الوحيد للمله ويسدل بذلك الستار علي هذه الحقبه او تلك من التاريخ العقائدي: كما لا يجوز ان يزدري ما تلاه من معرفه او يجرها الي نضوب
وانا شخصيا عندما اقرأ القران لا اشعر باكتمال قيمة القراءه الا بما اذن الله لي به من فهم لمعاني الايات عن طريق الاطلاع علي المعاني المعجميه للالفاظ كما استعملها اهل ذلك الزمان ومقارنة ذلك بمعرفتي باللغات والعقائد القديمه والسيره الشريفه والتاريخ: مفضلا العام علي الفرعي: والشامل علي العام: والجوهري علي البديهي: والاصيل علي الرائج: اخذا في الاعتبار الظرف الزمني الذي نزلت فيه الايات والمغزي وراء نزولها فلا اقبل تفسيرات القدماء بصفتها يقينا مطلقا يعلو علي السياق الفقهي والتاريخي وانما بصفتها معينا لي في سبيل خدمة فهمي للنص
اذ يكفي قارئ القران الواعي المستنير ان يعلم ان ما ورد في القران من تحقيق يكفي لتفنيد اوجه الالتباس مع ما سبقه: وما سكت عنه القران لا يحمل وجه اختلاف (بل ويدعو تلقائيا الي تصديق): وان "الفهم" –وليس الحفظ او التبرك- هو المقصد النهائي من القراءه: وبهذه الطريقه –وبهذه الطريقه فقط- يصبح قارئ القران –في رأيي- قادرا علي التفريق بين ما هو قياسي متغير وما هو قيمي ثابت فلا يقع في مأزق الحرفية والابتعاد عن روح النص
وكثيرا ما يعتقد البسطاء من الناس ان اساليب الجبر والتسلط والتخويف والتهديد هي من قبيل الغضب لدين الله وانها تضفي علي العقيده نبض من حياه: وربما كانت توجد قديما بعض حالات يمكن ان يغتفر الانسان لنفسه فيها استعمال تلك الوسائل (مع ملاحظة انها كانت حالات محدوده وتكاد تكون خاصه بعصورها: اذ كان انتشار المله العربيه طوعي بالكامل بواسطة دعاه جائلين قدموا من الحجاز–بلا اجر- ليعرفوا الناس بقيمة الرساله (وكانوا في نفس الوقت نموذجا حيا لها) وبذلك لم يكن للفتوحات السياسيه –التي كانت موجهه اساسا ضد الرومان- باعتبار ان الرومان كانوا هم الطرف البادئ بالعدوان- فضل اي فضل في انتشار الاسلام بمعني ان الاسلام لم ينتشر بسيف او ولايه او قوامه او حد رده او جزيه او تكفير او هجره او غيره)
اما في عصرنا هذا فانه لا يصح ابدا استخدام مثل هذه الاساليب اذ انها في مجملها غريبه ومتقاطعه مع السياق بالاضافه الي الاساليب المحرمه اصلا مثل –ويحسن جمع الام وابنائها حيثما امكن- التمييز والتعصب الاعمي: الخسه والانتهازيه
وانه لمن دواعي المفارقه ان نجد البعض يتهمون غيرهم من ديانات اخري فيصورونهم كما لو كانوا التجسد الحي للخبث والالتواء والتامر ولا يستحون فهم -وكأنهم قضاه يدخلون حرم المحكمه "بشبشب"- اكثر الناس ترديا في هذا الدرك اذ يستحلون –الي جوار ذلك- بعض الاشياء التي تمس صميم العقيده في مقتل مثل الكذب والغش والغدر والرشوه والبخل والكبر وكتمان الشهاده وأكل الارث ناهيك عن ضياع فضائل جوهريه جليله هجرت منذ زمن طويل حتي صارت غريبه عن الدين مثل الاعتراف بالحق والاعتذار عن الخطأ واحترام الكلمه والوفاء بالوعد (والقسم؟) والصبر والمثابره والتضحيه والتسامح والصداقه والنظافه واتقان العمل: علي نحو يتم معه تلقائيا اباحة الحرام وتحريم الحلال واقامة الصلوات وتلاوة المحفوظات: كيما يبدو الانسان كأنه حامي حمي الاسلام: وهو هراء: اذ لا يتعد الامر اكثر من انهم برعوا في تبرير حالة الانكار –والفصام- التي يعيشونها براعه تثير العجب
وانا شخصيا عندما اقابل انسان -وليسمح لي المتابع الكريم ان اتحدث عن نفسي- يعيب علينا زمننا ويلصق "الزمن الجميل" و"العرق الاصيل" بكل ما هو قديم – ايا كان الزمن الذي يتحدث عنه- فيما يقطر فمه بسم زعاف ضد الحداثه والعلمانيه في الوقت الذي تشي فيه جميع تصرفاته بتجانسه التام معها: بصرف النظر عن محياه الخارجي واذا ما كان يوحي بانتمائه لايدولوجيا معينه او اذا ما كانت مسكنته وابتسامته الفوقيه تلك غير المفهومه والتي يتبعها عادة طريقة نطقه للحروف بهز الشفتين كما لو كنا بصدد فيلم من بطولة "يحيي شاهين" ثمنا باهظا لوقت الانسان وصبره: او اذا ما كان يكرر ما يقوله من لغو ثلاث مرات متتاليه اشبه بلعبه معطله او كما لو كان التكرار لا يعلم الشطار فحسب بل ويصرف الاشرار: فيلجأ الي وضع فكره فوق اخري او كلمه فوق اخري كما لو كانتا تشكلان تعويذه سحريه مثلا لفك الاعمال او يحشر قولا دخيلا غريبا عن السياق بين كلامه غالبا ما يكون كلمه قرانيه لا يفهم معناها كما لو كان الغرض من القران هو ان يتحول الي جمره يلقي بها الانسان في حجر سامعه ليمسك بها ما استطاع كيما ينتهي المتحدث من فقرته علي امل ان يظهر لذلك معني فيما بعد: فانني لا املك الا ان اشعر ببعض التردد قبل الدخول معه في حوار: وهو نفس رد الفعل تقريبا حين اهم بتناول الطعام في مكان ما مزين بالكامل بايات قرانيه بحجم سجادة صلاه فاصطدم لاول وهله باهمال صاحب المكان لاسلوب النظافه وغلاء الاسعار وشح وتدني الخدمه واساءة معاملة الزبون اذ سرعان ما اضع نقودي في جيبي وانصرف بلا التفات
فالهدف من الرساله الدينيه لم يكن ابدا الاستعراض والمظهريه الكاذبه او التعميه (اخفاء املاق فكري مع الظهور بما يخالف ذلك): او ان تصبح الرساله عبئا علي الواقع ومثاليات المجتمع فتستحوذ عليه بالكامل وعلي نحو مخيف ليصبح الانسان درويشا وقردا مسلسلا لها: وانما الرساله الدينيه هي –كما شرحت- رسالة تصديق وايمان وهدي وبصيره
فلا تصديق ولا ايمان بدون فهم وادراك: ولا فهم وادراك بدون بحث وتفكر واستدلال واستنتاج قدر الامكان: كما ان الايمان لا يمكن ان يكون ايمانا الا اذا كان اراديا ونابع من اختيار حر والا فقد كل مغزي منه
فالعلامه المميزه للعقل هي قدرته علي الحكم الحر المباشر علي الامور وان كل ما يسجله من اراء انما هو نتيجه لاقتناعه به بواسطة فكره الخاص والا كنا كمن نصنع نسخا بالكربون: وهناك فارق كبير–في رأيي- بين القبول والتوافق الفكري–او العاطفي او الغرائزي- وبين المحاكاه دون وعي
وانه مما يجافي العقل هدم ايمان مؤمن او التشكيك فيه –ايا كانت ديانته– حتي وان كان هذا الايمان لا يزال في طور التكوين- لاستبداله باخر في حين ان الايمان–او الدين- البديل ليس في واقع الامر الا مكملا للايمان القديم حسب شهادة الكتب السماويه نفسها: هذا في حالة اذا ما افترضنا ان ايمان الشخص "الهادم" ايمانا كاملا!
فاذا كان مما يعتبر خللا تربويا وسلوكا غير قويم ان يظن المرء غيره شرا مطلق او مخرفا بالكامل فان بداية هذا الخلل -بلا شك - ان يدعي الانسان انه –وحده- وما اكتسبه من معارف خير مطلق او كامل الاوصاف
واذا كان التعرف الي الكمال لا يتهيأ الا لاناس لا يتوافرون في كل زمان ومكان ولا يكون عددهم متي وجدوا من الكثره بما يجعل لهم صوتا مسموعا فليس غريبا ان يتدخل كل من هب ودب في التعليم فيحرمون من العلوم –او يحجبون منها- ما يشاؤون متي شاؤوا: في السر او العلن: بسبب او بدون سبب: فاخترعوا قوائم العلوم الحرام (او المتهمه بأنها الحاديه في مجملها) والعلوم المكروهه او الغريبه (كل ما يمنع تدريسه بحجة انه بدعه او "غير مبرهن اسلاميا") فاصبح التعليم مقسما الي ما يسمي التعليم الاسلامي والتعليم العلماني: حرام وحلال: جائز وغير جائز: بل وبلغت المهزله حدها عندما سمحوا بتعليم بعض الفصول وحجبوا اخري من نفس النسق فعطلوا بذلك حالة النمو المعرفي المطلوبه (علي الرغم من اتساع مداها بالنسبه للغير): والطريف ان علوم مثل الفلسفه والمنطق والبرهان هي غالبا من جملة العلوم المكروهه او "غير المبرهنه اسلاميا" ولذلك فلا يستطيع ابليس نفسه ان يفهم كيف سيبرهنون اسلاميا ما هو بحاجه الي برهان اذا كان البرهان مكروها! (ولا يستطيع ابليس ان "يفهم" بلا منطق او فلسفه)
وهكذا –في ظل هذه الحاله التي انحط اليها الفكر - اختفي علي ايديهم كل اثر لبحث علمي جاد حر وفقد التعليم الاساسي مغزاه فاصطبغ بلون ثقافه متشدده منغلقه تهوي التفسير الحرفي للامور: في حين اقتصر التدريس علي قراءة النصوص وتلقينها وحفظها والتعليق عليها (كما كان يحدث في العصور الوسطي)
علي ان هذا كله لا يشفي فضول المتابع بل يكاد ينبذه حين يدرك ان هذا النوع من التعليم يرافقه تربية الطفل علي اكتساب سمات الرجعيه الانتهازيه منذ نعومة اظافره مثل التعصب والتمييز والاستبداد وكراهية الاخر (والاستخفاف به) والازدواجيه والاستغلال والكيديه (كمرادف للنضج والذكاء:"فالضرورات تبيح المحذورات" : ما يذكرنا تلقائيا بمبدأ ماكيافيللي الخالد: الغايه تبرر الوسيله!) والفرديه والاذعان التام والمحاكاه وما يتبع ذلك عادة من الغاء العقل نهائيا: فالعقل في نظر هؤلاء نوع من الترف او سقوط في حبائل الشيطان او "قلة حياء" حسب البعض: لتصبح هذه السمات وسمات "الاذعان والمحاكاه" بالتحديد هي مركز جدلية هذا النوع من التربيه لأن معضلتي الحرية والابداع انما تدوران حولها: اذ لا يستطيع الطفل في هذه المرحله المبكره ان يحدد من نفسه ماهية الخير والشر بوجه عام وكيفية التفريق بينهما بواسطة المحاكاه كما لا يمكنه ادراك نوع الضرر الذي يمكن ان يصيبه فيما بعد –او يصيب به غيره- جراء هذا النوع من التربيه.
وهكذا تصبح هذه التربيه والتعليم "الاسلاميه" بالنسبه للمجتمع اشبه ما تكون بانوف المهرجين المصنوعه من الشمع او في افضل الاحوال اشبه بانف مصنوع من لحوم الاخرين بعيدا عن كل تجانس او ترابط
لا غرابة اذن ان ينتج الارهاب اجيال جديده ولا غرابة ايضا ان يخرج الارهاب من مدارس العلم ومن بين طلابه كما هو الحال في الصومال وافغانستان وباكستان
وما دمت اتحدث عن التعليم فلا يفوتني ان اسوق مثالا بما كان يحدث ابان عصر ظهور الاسلام: فانسان ذلك الزمان كان يلصق المعرفه بحرية البحث والحقائق العلميه المجرده في مناخ من الصدق تحولت معه دور العباده الي "جوامع" لكل صنوف العلم والفكر والابداع وحقولا خصبه للخير والمخترعات وكل ما ينفع الناس.
وهكذا انبثقت روح رائقه سائغه صبغت العلم بطابع موضوعي الي حد تفتحت الاذهان الي حضارات كان قد اندثر كل ذكر لها تقريبا مثل الحضارات الهنديه والزرادشتيه: بسبب انها كانت موصومه بالوثنيه او الالحاد:
واكثر من ذلك فقد دأب المسلمون الاوائل علي الاستعانه بغير العرب وغير المسلمين من العلماء في مجالسهم اذ اتسم ذلك العصر بالتسامح الديني والتسامي علي الاختلافات العرقيه والثقافيه بحيث اختفي كل اثر للتحيز والتعصب علي مستوي لم يعرف له العالم مثيلا قبل ذلك الا ربما في عصور الاسكندر الاكبر والبطالمه: الي حد استطاع معه "بن خلدون" ان يفرد فصلا كاملا في مقدمته سماه "حملة العلم في الاسلام اكثرهم من العجم" (ولعله اكتشف انذاك ان الرساله الدينيه بطبيعتها –خلاف ما كان شائعا في عصره من شعوبيه- هي "رساله عالميه" تتحول تلقائيا الي جزء لا يتجزأ من التراث الانساني والعقائدي بحيث لا يمكن اختزالها في سياسه او دوله او ثقافه او عرق او تفسير)
وقد ظهر هذا مبكرا جدا حتي ان عمر بن الخطاب -ومن بعده خالد بن يزيد- استدعي بعض علماء وفلاسفة العبرانيين والاغريق فترجموا له كتبا كثيره في الطب و الكيمياء والفلك والفلسفه من السريانيه واليونانيه والعبريه الي العربيه (بما يؤكد ان الفتح العربي كان سببا في عودتهم الي الاسكندريه)
فالعرب عند خروجهم من شبه الجزيره شعروا انهم في حاجه الي ان ينهضوا حضاريا -كما نهضوا اخلاقيا وروحيا- حتي يتمكنوا من مخاطبة الشعوب من قاطني البلاد المتحضره التي فتحوها: وهكذا سرعان ما ملئوا الفراغ باستيعاب اكبر قدر من العلوم فاستعانوا بمنبعين رئيسيين: احدهما اقليمي في الاسكندريه وانطاكيه وحران (دمشق وقرطبه وبغداد وقرطاجه والقاهره واسطنبول لاحقا) والاخر وردت اليهم مياهه من علماء المجوس والوثنيين والصابئه والعبرانيين اليهود والاريوسيين والنساطره وغيرهم ممن اغلقت مدارس روما واثينا والاسكندريه والقسطنطينيه - وهذا يبين حجم اضطهاد ما قبل الاسلام وفداحته- ابوابها في وجوههم
اذ لا يجب ان ننسي ان معجزة الدين العربي الاولي –والاساسيه- انه ظهر بين وثنيين لا يقرأون ولا يملكون ولا يعلمون غير ما ورثوه عن ابائهم من شعر وكهانه وموهبه فريده في الاغاره علي قوافل التجار ونهبها: مع بقيه من ملة ابراهيم رعاها اناس من بطن عبد المطلب بن هاشم بحيث لم تسمو بينهم او تظهر في ابهي صوره الا مع محمد النبي: ورغم ذلك فقد اقام الدين الناشئ الحجه وانتشر اولا بين من يقرأون ويملكون ويعلمون فكان اوسع انتشارا في المدن (حيث التجار والصناع من الاثرياء المتعلمين) عنه في البدو والريف
وليس من ضروب اختلاف ان المرأه في صدر الاسلام كانت تملك وتعمل وتقرأ وتعلم وتحكم بل وتشارك الرجل معاركه العسكريه: وقد اخيب فأل البعض عندما اقول ان الاهتمام بتعليم المرأه وتنمية وعيها ومنحها حقها في مساواه كامله بالرجل هو الضمان الحقيقي –والوحيد- الذي يقي المرأه والرجل معا زلفي الانزلاق في علاقات غير عفيفه. اذ انه برفع مستوي وعي المرأه تكتسب الضمير والنضج الكافي الذي تستطيع بفضله التفريق بين الخطأ والصواب واختيار الصواب باراده حره
وفي كتب السيره الشريفه ادله عديده علي ان المرأه كانت تعيش درجه عاليه من درجات الحريه والمساواه والنضج والاختلاط بالرجل الي حد ان المرأه كانت تستضيف الغرباء من رجال ونساء وتسافر معهم او وحيده دون زوجها كما ان النبي محمد كان يقيم المادب والحفلات والمسابقات -سواء داخل المدينه او في الباديه- يحضرها رجال ونساء دون تمييز. اذ كان الرجل يحاسب علي اخطائه كما تحاسب المرأه تماما دون اختلاف (خصوصا تلك الاخطاء التي تتطلب وجود كل من الرجل والمرأه معا لارتكابها) مع الاخذ في الاعتبار ان الرجل كان مطالب الي جوار النضج والمسئوليه بمبادئ اضافيه مثل المروءه والشهامه وغض البصر
وفي هذه المرحله المبكره لم يكن هناك وجود لشئ اسمه "ثقافه اسلاميه" ولا حتي ثقافه عربيه بحيث تجمع هذه الثقافه كل ما له صله بالمله العربيه في معين واحد مستقل: اذ كان الجميع –ايا كانت عقائدهم واعراقهم- يطلقون اللحي ويطيلون الشعور ويرتدون الازياء الرائجه في عصورهم ايا كانت اشكالها والوانها وسواء كانت تلك الازياء مصريه او فارسيه او شاميه او يمنيه او روميه: بل ان الرسول الكريم نفسه كان يرتدي من الازياء الاعجميه الشئ الكثير وبلا حرج
ولعله من البديهي ان نفهم انه انما اراد الا ترتبط المله بثقافه معينه فتصبح هي والثقافه شئ واحد ويصبح من حق الانسان ان يقرر اذا كان من يخالف تربيته وثقافته متوافق مع المله بوجه عام: اذ انه نفس ما وقع فيه الاقدمون من ديانات سابقه حين اكبوا علي الاسترسال في تفاصيل شكليه ولفظيه وطقسيه علي حساب الجوهر والفائده الاجتماعيه: بل ووصل الامر الي حد انهم فرضوا وصايه شبه كامله علي اتباعهم ليس في الشئون التي تخص الدين فحسب وانما في ادق شئون حياتهم بما في ذلك ما يخص الحياه اليوميه من مأكل وملبس ومكسب مادي وحياه زوجيه تحت بند الاقتداء بالرسول او النبي او القديس او تحويل مظاهر الحياه الي مظاهر "سماويه مقدسه": الي حد اصبح معه صاحب الفائده الاخيره من ذلك كله هو "رجل الدين" نفسه (خلاف ما يجب ان يكون عليه دور خادم دار العباده في حياة الناس اذ ان وظيفة خادم دار العباده الاساسيه ان يسهم في تنمية وعي المجتمع وذوقه ومثالياته ويضع الناس دوما علي طريق التعاون والتضامن والصدق دون ان يعطله عن فعل ذلك اية اهداف خاصه فرديه: باعتبار انه لا تناقض بين خدمة المجتمع وخدمة الله وان ممارسة الطقوس وقراءة النصوص ليستا بديلا عن تفعيل القيم الاخلاقيه والمسالك الخيريه التي ظهر الدين لترسيخها مثل اغاثة المحروم ونجدة المظلوم ومد يد العون للمتعطل والمريض والراغب في الزواج: ايا كانت ديانته)
وهو ما حدث لاحقا في العصور الوسطي ويحدث اليوم تحت بند تحويل مظاهر الحياه الي "مظاهر اسلاميه": وهذا في رأيي ليس من المله في شئ
ورأيي ان عجز البعض عن فهم بعض الظروف السياسيه والاجتماعيه التي رافقت ظهور الاسلام وما تلاه من دول وعصور منشأه ميراث طويل من الخلط بين ما هو سياسي وما هو عقائدي: فانساق البعض لايمان مطلق بهذا الخلط او ذاك بصفته من العقيده فصار من صميم العقيده وهو باطل
لابد وان اوضح هنا ان المسلم المحلي كان خاضعا للولايه العربيه ومحروما في نفس الوقت من حمل السلاح شأنه في ذلك شأن غير المسلم: كما ان المسلمين المحليين كثيرا ما شاركوا اخوانهم غير المسلمين ثوراتهم ضد الطغاه والعكس (في زمن كان الناس فيه يباعون ويشترون وكان الغازي المحتل كثيرا ما يفرض دينه علي رعيته كما يفرض ولايته: وكان اهل مصر بالتحديد ينتفضون ثائرين علي الغازي المحتل اذا حاول فرض ملته وبقاء المسيحيه كديانة –والقبطيه كلغه- للغالبيه العظمي من السكان حتي نهاية الحقبه الامويه (علي الاقل) هو خير دليل) الا ان ذلك لا ينفي ان المواطنون المحليون من غير المسلمين شهدوا في عصور لاحقه –بعد ان صاروا اقليه- موجات اضطهاد وظلم اقتربت في جانب كبير منها مما عرفوه قبل الاسلام
وبوجه عام فقد كثرت في العصور الوسطي الفتاوي والدسائس والنعرات وتفشت الاوبئه وتقلصت روح الايمان والوطنيه واستبد الحكام بالاهالي فنشأت عهود فوضي ونهب واغتيالات سوت فيها بالارض مستشفيات وسبل ومكتبات ومساجد واديره ومدارس علم –عمدا او بالصدفه- لصالح مدرسه واحده (الازهر) ظلت مقربه دائما من الحاكم دون غيرها لمجرد ان مناهجها نالت اعتراف منه وميلا اليها (او كما حدثنا ابو حامد الغزالي وكذلك بن رشد: تحول رجال الدين الي طالبي مال يجرون وراء الحكام ليحصلوا علي العطايا والهبات او علي نفوذ او مجرد رضاهم عنهم) ناهيك عن الحروب التي اندلعت – وطال زمان اندلاعها – بين امراء وسلاطين الاستبداد والفساد وبعضهم البعض (وهي الغالبه) او حروبهم مع الغازين (وهي الاقل)
وقد نجد ادله كثيره في كتب التاريخ علي انتهاكات العصور الوسطي التي ارتكبت بايادي عربيه كما رواها مؤرخون عرب مثل المقريزي وبن اياس والعمري والبغدادي وغيرهم: غير ان اهم مثالين –في رأيي- هي الانتهاكات –وان شئت قلت الفضائح- طرف المدعو قراقوش وغريمه الحاكم بأمر الله بداية بالقرن الثاني عشر الميلادي وما تلاه: وان ايسر وصف لطرق العقاب والتعذيب والقتل التي مارسها هذان الدمويان المتوحشان مع عامة الشعب وعلمائه لفرض مذهب معين –او الحفاظ علي مذهب اخر- انها كانت غير انسانيه: بل يمكننا تشبيه تلك الاساليب –باطمئنان- بنفس اساليب محاكم التفتيش علي الجانب الاخر من المتوسط والتي راجت في نفس العصور (عدا الاغراق في صحون الملوخيه المغليه والاخصاء و"الخزوقه" فهذه كرامات شرقيه اصيله)
وباستثناء ما عرفناه مع الظاهر بيبرس العظيم وبعض ملوك المماليك البحريه والعثمانيين من بعض مظاهر النهضه العلميه والنشاط الاجتماعي والفني والمعماري والعمراني -علي فترات متقطعه– لا تتعدي في مجملها القرنين من الزمان (اذ تكفل التتار وغيرهم –كما شرحت- بمحو بل استئصال كل ما كان له صله بحضارة تلك الايام وهي بعد في مهدها وبمجرد ان اطلت برأسها): لأصبح من شبه المستحيل ان نتقبل- بداية بعصر الخديو اسماعيل - اي ضرب من ضروب العلم والتكنولوجيا التي اتانا بها الغرب: ولما استطعنا الانتفاع من نظريات ومخترعات مهمه ملأت حياتنا بمنافع كثيره مثل المصباح الكهربي والراديو والتليفون والتليفزيون والكمبيوتر والثلاجه والسياره والطائره الخ: دون ان نكون زنادقه او سحره من اتباع الشياطين!
وان الانسان ليرتد بالنظر الي حقب ما قبل الحداثه والعلمانيه كما يرتد الي كابوس رهيب ملطخ بالدماء كف منذ وقت طويل عن زيارة الحالمين في منامهم: فيشعر الانسان بالاطمئنان للانجازات التي حققتها البشريه مع الديموقراطيات العلمانيه الحديثه وكيف انها اطاحت بالجانب الاعظم من قوي الشر والظلام فتقهقرت تلك القوي –ومازالت- ومعها الميل القديم نحو القتل والتدمير كاحدي عواقب الانجراف الي الطغاه المخادعين والكهنة المضللين: بحيث يبدو عالم اليوم مقارنة بالعصور الوسطي اشبه بالفارق بين موسيقي تشايكوفسكي وضجه من شخير وصليل وعويل: اذ يتراءي عالم اليوم متألقا بمدنه الراقيه الامنه (بلا بوابات او اسوار او حراس) وعمائره ومستشفياته ومدارسه ووسائل اتصالاته ومواصلاته وشوارعه المضيئه الممهده واسواقه العامره ووعي الناس الفطري–حتي في احلك الظروف- وفي اقل القري تحضرا- بقيم انسانيه رفيعه كالسلام الاجتماعي والمواطنه والديموقراطيه وحقوق الانسان والعداله الاجتماعيه –تلك التي لم تتعرف اليها العصور الوسطي في اي وقت- والنابعه من ايمان الناس بأن تلك القيم سوف توفر حتما لكل منهم نصيبا متساويا في حياه حره وكريمه وسعيده وعادله في وجود قوانين –ودساتير- محترمه تلقائيا من الجميع: وسواء كانت احكام القضاء –او الانتخابات- لهم او عليهم
ومعلوم ان حضارة الغرب هي حصيله من المعارف جمعت بين الفلسفه والرياضيات والكيمياء والاداب والفلك والطب والفنون لعلماء مسلمين بدأوا تاريخيا من حيث انتهي اخرون من حضارات سابقه كالحضاره الرومانيه والاغريقيه والمصريه والفينيقيه والبابليه والاشوريه والفارسيه الخ: من حيث انه لولا علماء افذاذ من امثال بن سينا وبن خلدون وغيرهم الي جوار تلاميذهم الاوروبيين ممن نسخوا وترجموا الكثير من جهدهم ونقلوه الي بلادهم وواجهوا في سبيل ذلك المطارده والتعذيب والاعدام الوحشي حرقا او علي منصة الجلاد بايدي اناس صنفوهم اليا كفره ومرده (في وقت كان مفهوم الغوايه بالتحديد ملتصقا بالعلماء المسلمين): لما عرفت اوروبا وامريكا نهضة العلم والصناعه في القرن السابع عشر وما انتقل العالم - بفضلهما- الي العصر الحديث
فيما اخترنا نحن اللحظه الفاصله بالذات لنتردد ما بين اللحاق بركب الحضاره او الاستماع الي اراء الجهلاء المتخلفين فبدونا عاجزين وبدأنا–من بعد صعود رافق ثورة مارس 1919 المجيده- هبوطا وانسحابا اختياريا في الوقت الذي صار فيه متعينا علي تركيا مثلا بقيادة اتاتورك العظيم اتخاذ قرار لا رجعة فيه
لا عجب ان تبقي الديموقراطيه في بلادنا –كالعلمانيه- دوما في طور التكوين لم تفارقه الا بقدر تفسير البعض لظواهر هامه للغايه تخص المجتمع -بل الانسانيه كلها- كالعلم والسياسه والفلسفه والفن والثقافه والتاريخ: وطالما ان الموضوع لا يخص الا طرف واحد علي طول الخط وهو الطرف الذي يدعي ان الدين- دين الجميع- موضع تخصصه: وهو سلوك لم يعان منه طه حسين واحمد امين ومحمد حسين هيكل فحسب وانما عاني منه ايضا بن سينا وبن رشد وبن خلدون!
واستطيع ان اقول وانا مرتاح الضمير ان العالم صار علمانيا بالكامل منذ نهاية الحرب العالميه الاولي علي الاقل: وبذلك فما من احد من احياء اليوم الا ولد ونما في رحاب العلمانيه: عدا ربما –ولكي اكون دقيقا -رهبان التبت وطائفة الاميش بالولايات المتحده وبعض قبائل الهند وافريقيا والامازون ممن فطروا علي البدائيه وبعض الهيبيز الفوضويين ومن بقي من جحافل طالبان والقاعده وسكان الشوارع المعدمين الذين –وبسبب انهم لا يجدون ملجئا يأويهم او عمل يوفر لهم قوت يومهم – لا يجدوا انفسهم مجبرين علي ان يكونوا ضمن اي تصنيف
اما عمال صيانة ما يسمي بالسلفيه غير الجهاديه والاخوان المسلمين من السلفيين ممن يحاولون ايهام الناس بانهم مختلفين: ليسوا في رأيي الا حفنه من "العلمانيين المفتعلين المدعين" او ان شئت قلت "علمانيين غير متحققين" : بمعني انهم لا يعترفون بما اضطروا اليه من علمانيه ويحاولون–رغم ذلك- انكارها وتكفير انصارها: فصاروا بذلك اشبه بابن غير بار او مريض الفصام الا انه -بالاضافه الي فصامه- مصاب بقدر من ضعف الرؤيه بحيث اصبح غير قادر علي ان يمد البصر قليلا كيما يكتشف ان العلمانيه ما هي الا حقيقه ماثله امامه علي نحو ما ادركتها بصيرته لها لأول وهله وستظل حقيقه واقعه بحيث لن يبدلها رفضه –او قبوله- لها
والامر علي خلاف ذلك بالنسبه لسائر الناس من العامه المغلوبين علي امرهم فالعلمانيه لا قيمة لها لديهم في ذاتها بل من خلال تطبيقاتها اذ انه لا يخلو الاعتراف بها من مخاطر بما يتجاوز مواجهة السيف المسلط عليهم من كهنه ودراويش التكفير المتسلطين ممن يدعون حيازة الفضيله والدين
والمعروف ان هناك وسيلتان للانفصال عن العصر: اما ان يظل الانسان دونه او ان يحلق فوقه ويتجاوزه: لذا نصيحتي دائما لمن لا تعجبه العلمانيه ويراها كفرا وشرا مستطيرا ان يتسق مع ذاته: فاما ان يحاول تجاوزها بادواته السحريه العجيبه ومعجزاته التي لا حصر لها (بشرط الا يتسبب ذلك طبعا في تخلفنا): او ان يكف عن استخدام ادوات ونظريات ومصطلحات لا تخصه (ويعود الي الصحراء؟)
ودع عنك ان السواد الاعظم منهم قد يترددون وقد يصبهم الارتباك اذا ما كان المطلوب منهم ان يقبلوا بالمسلك الاخير: ليس من شك ان فكرة العوده بالزمن الي الوراء او العوده الي حياة البدو وان كانت تؤرق احلام منتجي هوليوود الا انها علي مستوي الواقع امر مناف تماما للعقل ولا يوجد اي اساس يبرر النظره المتفائله الداعيه الي مصير مشترك معها
وانه مما يدعو للعجب (والحزن في ان واحد) الا يدافع الانسان عن افكاره الا من خلال افكار وقناعات الاخرين اي من خلال اشياء لا يؤمن بها اساسا (بل يكفرها ويزدريها): فينتهي به الامر الي ان يستخدم تلك الافكار والقناعات ضد صاحبها علي طريقة "حارب الشيطان بأدواته" (طريقة من لا فكر له؟): بل وقد ينسب لنفسه –اذ ما تعاظمت معه حالة الخوف والارتياب وجنون العظمه- وبطريقه كوميديه جدا- تلك الافكار والقناعات ويتحدث عنها كما لو كان اول من اكتشفها! وهو في ذلك اشبه ما يكون بدويله صغيره لا عملة لها ولا تستخدم الا عملات غيرها من الدول!
وهذا هو السبب ربما وراء ميل هؤلاء الي الحديث عن حرية التعبير بالتحديد دون سائر الحريات كلما استدعي الامر الدفاع عن هيئه او زي (ثقافه) ينسبونها الي الدين: في حين انهم يتبنون علي طول الخط منطق الحجب والمنع والرقابه والتخويف والتشدد في العقاب بل والعقاب الجماعي كما لو كانوا يستعيضون بتلك الاساليب عن عجزهم عن تربية النشئ تربيه انسانيه! او كما لو ان الدين غير مطابق للتربيه الانسانيه الذي تقوم علي الالتزام الطوعي بالفضيله العمليه:
بل ان من يجادل بالعوده الي الحدود القديمه يفعل ذلك قبل ان يتأكد من ان مثاليات الدين الاصليه كالصدق والامانه رائجه: فلا يمكن ان يكون مقبولا ان يقتصر حديث الدين علي العقوبات في حين لا يزال الجهل (والفقر والظلم والفساد) منتشرا -بل ومتأصلا- الي حد يكاد يسهم في استمراره من يسمون انفسهم "رجال دين" (ويحضرني هنا وصف "الكندي" لبعض رجال الدين في عصره –وكانوا قله قليله- بأنهم "عدماء دين"! بل لقد ذهب الي حد القول بأن وصف "رجال دين" او "علماء دين" غير جائز اسلاميا لأنه "من تاجر بشئ باعه ومن باع شيئا لم يصبح ملكا له: فهم اذن عدماء دين وليسوا علماء دين": كما قال)
ولا يمكن ان يكون مقبولا ان يقتصر حديث الدين علي الحدود القديمه في حين ان مبدأ "الاباحه والاثابه" هو المبدأ الرئيسي والعله الاصليه لكل فكر وشرع: وهو مبدأ ازلي جليل يباشر وظيفه جوهريه اصيله هي الدفاع عن استعدادات الانسان الفطريه لانماء كرامه وضمير طوعي حي يستخدم الانسان من خلاله ما حباه الله به –خلاف الحيوان- من قدره علي التمييز بين الخير والشر: الخطأ والصواب: واختيار الخير والصواب باراده حره. من حيث ان اختبار الحياه الحقيقي الذي خلق الانسان من اجله والذي بدونه يختفي اي وجود له في عالم التجربه والمسئوليه والحساب هو اختبار الاراده الحره: فلا خطيئه الا بحدوث خطيئه: ولا وازرة وزر اخري (والمتتبع للتاريخ العقائدي يكتشف ان الدين يتجه في واقع الامر نحو الاباحه والاثابه والتخفيف الي حد ان احكام التوراه والانجيل والقران كانت اخف الاحكام في ازمنة ظهورها حتي انها كانت موضع استخفاف الحمقي والاشرار ولا تسلم من استهانتهم بها فكانوا يروجون الي ان عقوباتها ليست شديده بما يكفي لتصبح رادعه)
اذن السؤال هو: ما هو جدوي التربيه اذا كان الانسان محروما ومنذ البدايه من حقه في خوض تجربه الاختيار الحر بين الخطأ والصواب التي خلق من اجلها؟ وما هو دور الايمان –والضمير- اذا كان الخوف –والخوف وحده- هو ما يحرك الانسان؟ وهل يطبق "الساده العلماء" الحدود القديمه علي انفسهم وعلي ابنائهم اليوم ليطالبوا بتطبيقها علي المجتمع ككل ؟
حسنا: تجربة السعوديه –وايران- تتحدث عن نفسها: فلم نر اميرا -او اية من ايات الله المزعومه- يتعرض للجلد او قطع اليد او الرجم او السجن او العزل من منصبه او يعامل علي الاقل بصفته بشر (الا في حالة اذا ما انضم طبعا الي المعارضه!)
ولا خلاف في رأيي بين القانون العلماني والشريعه الاسلاميه: فالقانون العلماني شرعي بالكامل والشريعه مطبقه فعلا من خلاله الي حد يجعل من غير المجدي اعلان ذلك في مضمونه والا كنا كمن يعلن المعلن ويعرف المعرف: كما ان الدستور المدني الديموقراطي بدوره مطابق تماما لصلب ومضمون العقيدة الاسلاميه من حيث انه لا يجب ان يفرق الدستور بين اديان وعقائد المجتمع بناءا علي عدد اتباع كل عقيده (اذ ان القران يحرم بنصوص قاطعه التعصب والطائفيه والاكراه في الدين)
ولا يخفي ان الدستور الطائفي يبدل اليا الدوله المدنيه الي دوله دينيه ويبدل الديموقراطيه الي طغيان اغلبيه نظرا لما يتضمنه من سمات تمييز –وتحيز- للاغلبيه علي حساب الاقليه سوف تهدد حتما وحدة نسيج المجتمع
ورأيي انه بدلا من ان يعمل الانسان علي تقليص الرساله الدينيه في دوله او سياسه او ثقافه او عرق او حضاره او حقبه تاريخيه يجدر به ان يعمل علي توسيع مدي ادراكه هو فينفض عن نفسه كل ما علق به من غبار تحيز وجهل والتباس او تسليم مطلق بهذا القول او ذاك لمجرد انه من التراث
ولا دليل علي انه كان هناك وجود –اي وجود- لدوله دينيه "اسلاميه" بما في ذلك دولة الرسول الكريم. اذ كان محمد النبي دائما ما يفرق بين ما هو سياسي وعلمي وثقافي وبين ما هو عقائدي وكذلك فعل خلفاؤه من بعده
حتي "السلطان" صلاح الدين بن ايوب نفسه –ايقونة الرجعيين- لم يدع –وما كان له ان يدعي يوما- ان دولته كانت دوله دينيه "اسلاميه" بل انه افرد لها اسما هو في الواقع اسم عائلته فكان عرشه يورث لاخوته وابنائه من بعده (الي حد انهم تنازعوه فيما بعد فيما بينهم فتحالف البعض مع اعدائهم – للاسف الشديد- من اجل الانفراد بالعرش وفي سبيل ذلك "ذبحوا" خلق كثير وتنازلوا عن اقطاعيات ومدن لاعدائهم من بينها القدس!) والايوبي في ذلك لم يتبع سنة محمد النبي (القران؟) وانما سنة من سبقوه من سلاطين الفاطميين والامويين الي جوار ارباب نعمته –طبعا- من العباسيين
وهكذا يكاد يكون الامر بمثابة مضيعه للوقت ان يلهث الانسان تحت وطأه النصوص الدينيه والاحكام الفقهيه الدارجه حول ما طرحه حسن البنا دون ذلك من ضروب تحيز لا تستند الي معرفه وعلم معروف فيما سماه "الاسلام السياسي او الاجتماعي او الاقتصادي" و "دولة الخلافه": اذا كانت البدايه بمثل هذا السوء
فاولئك الذين يتقدون حمية ويتناولون المسائل التي لا تكون محل مناظره بايراد اراء الفقهاء فيها والاستشهاد بالنصوص دون وعي هم–في حقيقة الامر-اناس يسعدهم ان يضعوا فهم الاخرين دوما في مجال مناظره لينالوا شيئا من الاطراء والتقدير (او الانتصار الرخيص) في حين انه كان يتعين عليهم ان يمنحوا لانفسهم فرصة "الفهم" و"الاستنتاج" بان هذا الفكر باطل منذ البدايه ولا قضية له: لو لم يكونوا قد فقدوا بالفعل هذا وذاك
اما تاريخيا: فاعتقد ان حسن البنا كان مولعا بفكرة واحده لا تفارق خياله هي فكرة "الامامه" (علي الرغم من ان الاسلام بطبيعته ليس دينا اكريليكيا بحيث يمكن ان نتصوره مختزلا في افراد لهم مراتب معينه تسمو علي مرتبة البشر لمجرد انهم اكتسبوا من العلم والورع مالم يكتسبه غيرهم بعد وانما هو -بالاضافه الي كونه دين لجميع المسلمين في مختلف بقاع الارض- يتعامل مع سائر اعراق وطوائف النوع الانساني بنفس القدر من الاحترام والمساواه) وقد يكون الدافع وراء ذلك -في البدايه علي الاقل- هو رغبته في انشاء كيان ينافس به الازهر (بل ويصبح بديلا له ان امكن) في اطار جهود ما سماه "نجدة الاسلام وخلافته من العلمنه والتغريب": في وقت لم تكن فيه ممارسات الازهر -ويؤسفني ان اتفق معه في ذلك- مثاليه: وكانت العلمانيه –عدوته- قد بدأت تطل برأسها ولاول مره مع اتاتورك وسعد زغلول: وبلا بديل
ولعله خطر علي باله ايضا منافسة كيانات اجتماعيه وخيريه تابعه لملل اخري كانت ذائعه في ذلك الوقت كجماعة الاخوان المسيحيين Christian brotherhood والاخويه اليهوديهJewish brotherhood والمجمع الصهيوني Zionist getting-together والصحبه الكاثوليكيهCatholic fellowship الخ
وهكذا تدرجت طموحات حسن البنا وتطورت بصوره اكثر وضوحا بمرور الزمان حتي صارت لا تتوقف عند الانشطه الدينيه والاجتماعيه والخيريه بل تعدتها الي الانشطه السياسيه فاشتغل بالسياسه ويبدو انه توصل الي اعتقاد ما مجهول المصدر بانه قادرا علي منافسة الاحزاب السياسيه -والفوز بالانتخابات- دون درجه علميه مناسبه ودون قراءات بل ودون مبادئ وحلول سياسيه (في زمن كان عامرا بالجهل والخلط وتزييف الحقائق (والمفاهيم) والفقر والعنف والدسائس والاغتيالات) بما دفعه –لاحقا- الي انشاء كيانا سريا عسكريا مستقلا -وملحقا في نفس الوقت- بالجماعه
وان انكر حسن البنا انكارا قاطعا صلته بهذا الكيان وانشطته الا ان هذا لا ينفي انه كان موجودا وان قادته كانوا –وظلوا- علي الرغم من تبرئه منهم -من اتباعه وانهم قاموا بالاغتيالات: بالضبط كما فعل غيرهم من الكيانات المنافسه ممن دأبوا علي انشاء فروعا عسكريه سريه لهم او ارتبطوا بعلاقات خفيه جمعتهم بعصابات الجريمه المنظمه (او بلطجية الانتخابات) في اطار الدفاع عن مصالح سياسة تلك الايام
ويقال ان كلمات حسن البنا الاخيره كانت "ابتهال" او 3 لعنات بالتحديد: الاولي والثانيه ضد الملك والملكيه والثالثه ضد كل من تسول له نفسه معاداة او معارضة او مجرد انتقاد جماعته (!) واغلب الظن انه نما داخله اعتقاد ان الملك هو من ارسل اليه من قتله او انه كان –علي الاقل- علي علم بذلك
ورغم تضارب انباء هذه الحادثه النبوءه ما بين تأكيد البعض لها وانكار البعض الاخر الا ان السؤال الاول الذي لا يزال يطرح نفسه: هل كان حسن البنا معادي فعلا للملك والملكيه؟
السؤال الثاني: وهل من عاقل كان لا يزال (بعد حادث اقتحام القوات البريطانيه المهين المخزي لقصر عابدين) يحتفظ بولاء –او حتي مجرد احترام- للملك والملكيه؟
الاجابه لكلا السؤالين هي: لا طبعا: فالملك والملكيه كانا مكروهان من عامة الشعب طوال فترة اربعينات القرن الماضي علي الرغم من كل المحاولات التي بذلها الملك انذاك من اجل التقرب منهم والتودد اليهم: اذ ظل الملك منتقدا في السر والعلن ومثيرا للغيظ والضجر والاحباط واستخفاف الناس به حتي رحل: كما انه –علي الجانب الاخر- لم يكن هناك من سبب يدفع حسن البنا لكراهية الملك والملكيه فالملك والملكيه هما من ساهما في ثراء حسن البنا وذيوع شهرته: كما ان الملك والملكيه كانا دوما اعداءا لاعدائه!
لذا فان ما حدث لاحقا –بعد تلك النهاية التعسه الحزينه- وما رافقها من لعنات- هو ان الملك سرعان ما رحل فعلا بعد مقتل حسن البنا بسنوات قليله واصطحب معه ملكيته: ولكن علي يد رجل –وهذا يبين حجم المفارقه وغرابتها- هو الد اعداء الاخوان المسلمين علي مستوي التاريخ (وفي نفس الوقت مشكوكا في انتمائه اليهم منذ ان كان صبيا في المدرسه) واهم من ذلك فان الاخوان المسلمين انفسهم سرعان ما تفرقوا في جماعات واتجهوا الي افكار اكثر تشددا –او اكثر تجانسا مع العلمانيه- حسب الزمن وحسب الحاله
الا ان هذا لا يعني ان حسن البنا وعبد الناصر كانا بالضروره من الاشرار: وانما يعني انهما كانا رجلان من اواسط الناس اسعدهما الحظ لان يعاملا –رغم اخفاقاتهما المريعه المتكرره والنتائج الكارثيه- معاملة العمالقه فاستثمرا شعبيتهما بشكل جيد: والارجح انهما –بحكم نشأتهما المحافظه وقراءاتهما المعدوده- كانا عاجزان -كسائر ابناء جيلهما- عن ان يتبينا في غمرة الاحداث ان سمات عصرهما هي وليدة ظروف سياسيه واجتماعيه وسيكلوجيه واقتصاديه معينه هي بدورها نتيجة ما وقع فيه قادة رأي تلك العصور من افراط في التبسيط والتعميم والاحكام المتسرعه بخصوص الطبيعه الانسانيه دون ان تكون الطبيعه الانسانيه من منظور عام: بحيث نظرا من خلال تفسير كل منهما للدين والحضاره والسياسه والتاريخ الي مشكله معينه من زاويه بعينها متأثرين بظروف عصر لا علاقه لها بالنظره العامه الشامله للاشياء فخرجا برؤي كانا مخلصان فيها كل الاخلاص الا انه نوع من الاخلاص الذي لا ينجي من التردي في مواقف فكريه اقل ما يمكن وصفها به انها مرتبكه وتحمل قدرا من الفرديه والحماقه: اخلاص الدببه
ومع ذلك فايا كانت تلك الرؤي فانها لا تصلح اليوم –في رأيي- لان تكون مرجعا الا للفئات التي ترغب في ان تظل محكومه بمنطق الساده والعبيد نظرا لما تتضمنه هذه الرؤي من حث علي الخضوع والاستسلام لقوه بشريه رادعه ورقابه وضبط وسيطره
وهي حقيقه اعتقد ان ورثة الرجلين من الخبثاء فهموها جيدا وادركوا ابعادها ولكن الارجح انهم انما ارادوه ارثا ماديا ودعائيا اكثر منه ارثا فكريا: فها هم الناصريون مثلا يتنازلون عن جانب كبير من ميلهم الازلي لتبرير الاخطاء ويعترفون بأخطاء عبد الناصر (كاستبداده بالرأي والسلطه مثلا وانتهاكاته لحقوق الانسان ونكوثه بتعهده اقامة نظام ديموقراطي تعددي احد اهداف ثوره 1952 (وهو مالم يكن جادا فيه طبعا في اي وقت لالتزامه بنظرية الزعيم او العادل المستبد): وهي اخطاء في رأيي -وان اقتصر الحديث عنها دون سواها - ليست فرعيه علي الاطلاق -او هينه- كما يصورها البعض بل هي اخطاء استراتيجيه مدمره عصفت وما زالت تعصف بأية ايجابيات اكتسبها الشعب في عصر عبد الناصر ايا كان حجمها):
وها هم اخوان اليوم ينشأون حزبا "علمانيا" لا علاقة له بافكار حسن البنا من قريب او بعيد (علي الاقل كما اعلنوا: وان لم يعترفوا بذلك فالسبب انهم ليسوا علي استعداد للتسليم بأنهم عاشوا طوال هذه السنوات ومنذ نشأتهم بلا قضيه!)
ورأيي ان المعركه الحقيقيه والتي يدور جانب منها اليوم: هي معركه ما بين العلم وجوهر الايمان الروحي الحقيقي في جانب وبين انصار الوهم والشكل والغلو والتشكيك والتضليل والجعجعه والوسوسه (والهلوسه؟) والتعصب والنصوصيه والوصايه وعبادة القديم (التغني بالماضي لمجرد انه ماض والاسراف في الاشاده به) في جانب اخر: او بين العلمانيه والخارجين عليها (والخارجين علي الثوره؟)
ورأيي انه لن تقوم قائمه لديموقراطيه اصيله في بلادنا الا من خلال اصولها العلميه: فالديموقراطيه ليست البيعه فعلا وليست الشوري ولكن ان شئت قلت هي البيعه والشوري في صورتهما العصريه (واكاد اري وجه الرسول الكريم يطل علي باسما بمزيج من رضا واعزاز وتواضع معربا عن سعادته تجاه ما توصل اليه عالم اليوم من تطور علمي وفكري وتكنولوجي معلنا باسلوبه الادبي البديع البليغ بان رسالته قد وصلت)
كما ان الديموقراطيه ليست تعددية الفكر القومي بحيث لا يخرج فكر او حزب -ولا يمر- الا من كنف "الحزب الجمعي الام"
ورأيي ان خلط المفاهيم العلميه او تحريفها او شطرها الي اجزاء هو نصف جنون: فليس هناك نصف-علمانيه او نصف-ديموقراطيه: كما انه ليس هناك علمانيه او ديموقراطيه "كاجوال" مثلا تستخدم لمره واحده –اثناء موسم الانتخابات- ثم تهمل بعد ذلك -او يعاد تدويرها- كما لو كانت وسيله من وسائل تنظيم الاسره
وهذا القول ينسحب علي سائر الاوطان التي تقوم فيها ثورات وعلي الاخص سوريا: فلا يصنع ديموقراطيه ودوله مدنيه من كان محرفا لمفاهيمها او منكرا لاصولها العلميه او بعيدا كل البعد في مسالكه العامه والخاصه عن المبادئ التي تصنعها (دع عنك من كان متعالي وافاق وكذاب ويستبيح–الي جوار كل هذا- دماء اهله ظنا منه انه انما سينجو بأفعاله تلك دون عقاب: كأبيه؟)
لذا فرأيي اننا لا يجب ان نخدع انفسنا طويلا فننتظر رؤي وتوجهات ديموقراطيه ممن دأبوا علي خلط الوطنيه والخطابه في دور العباده بالسياسه فأكثرهم "وسطيه" و"اعتدالا" مازال خارج دائرة التصنيف بحيث يصبح من الصعب وصف اي منهم "يمين متشدد" مثلا (طالما انهم لا يزالون يكفرون العلمانيه –والعلمانيين- ولديهم فكر انقلابي مضاد لها)
وموطن الخطر اذا ما سايرناهم هو انهم سيجعلوننا لعبتهم وسيعملون علي استدراجنا في كل حين في كل ما يخص –او لا يخص- الدين والوطنيه واضعين الشعب دوما في دائرة المشكوك في هويته وانتمائاته الدينيه (والا لما امتثل لما يسمونه تغريب او قوانين موضوعه): فيظل الشعب محكوما دائما بتفسيرهم الخاص للهويه والوطنيه والدين والتاريخ والجغرافيا والعلم وسيتم ذلك في صمت اذ نادرا ما يجرؤ احد علي مناقشتهم فيما يدعون انه لهم وحدهم وسنتلقي الاوامر من عل
فواضح تماما ان المقصود من الماده الثانيه من الدستور (الساقط) والديموقراطيه –حسب فهمهم الشخصي لها- هو تعبيد الطريق باتجاه ما يسمي "مجلس شوري العلماء" او مجلسهم هم بالتحديد باعتبار انهم هم "العلماء" ومن ثم يصبح لهم وحدهم -من خلال استحواذهم علي مجلس الشعب- حق "الشوري" و"البيعه" و"الولايه" والخلافه وغير ذلك دون غيرهم من العلمانيين "الضالين" ممن لم يهتدوا بعد علي ايديهم او من كانوا علي غير دينهم: وهي بلا شك محاوله للقفز علي الديموقراطيه من خلال ثغراتها كما فعلوا من قبل في "فتح غزه" ومن ثم نصبح تلقائيا بصدد عوده جديده الي الحدود القديمه (كما طالبوا هم انفسهم في ميدان التحرير) وهي ايضا عوده جديده الي "الدوله الدينيه" ومحاكم تفتيش العصور الوسطي ولكن هذه المره تحت ستار من الدين الاسلامي
ورأيي ان السبيل الوحيد المهيأ لان نحافظ علي احترام الناس للعلمانيه والديموقراطيه والدوله المدنيه هو تطبيق القانون بجديه وحيده ونزاهه علي الجميع دون تمييز اضافه الي فعل كل ما هو ممكن لفصل المؤسسات القضائيه عن المؤسسات التنفيذيه وترسيخ سبل استقلالها: بالتوازي مع دعم ايمان الناس بجدوي وجود القيم الديموقراطيه والمثاليات (روح الله) في حياتهم ولا سبيل الي ذلك –في رأيي- الا بتوفير ادني درجات الحياه الكريمه من مأوي وملبس ومأكل وعلاج ووظيفه وحياه اسريه ناجحه ذات مقاييس انسانيه وتربويه واضحه قائمه علي تنمية قدرات الانسان علي التفرقه بين الخير والشر واستفتاء الضمير ونبذ الجريمه باراده حره (بحيث يكون للحكومه دور في التحقق من توافرها): الي جوار تعليم حافل بالمعاني والحقائق المجرده: قائم علي الحجه والمنطق والبرهان: طاهر من الايدولوجيات والفتاوي والمحفوظات: مثير لملكتي البحث والابداع
الا ان هذا الضرب من الخلاص غير متاح –في رأيي- دون درجه عاليه من درجات التعامل الجدي مع الدعوه الدينيه بشكلها الحالي:
والعمل الدعوي في هذه الحاله ليس في حاجه الي براجماتي حافظ بقدر ما هو بحاجه الي مفكر وفيلسوف: باعتبار ان المعالج لقضية الايمان هو انسان يتصدي لنسق فكري بالغ التعقيد اقرب الي الكمال قائم علي رؤيه رائقه واضحه تتسم بدرجه عاليه من درجات الصدق والموضوعيه والشفافيه الذهنيه والحساسيه الروحيه والنفسيه ومن ثم يقتضي ان يكون علي درايه وافيه بعلوم الفلسفه والنفس والطبيعه والانسان والاحياء والكيمياء والكون والتاريخ ناهيك عن العلوم الروحيه والعقائد بحيث يصبح قادرا علي ان يجمع ما بين العام والشامل: المثالي والواقعي: الروحي والمادي: الحضاري والعقائدي: الفردي والاجتماعي: المحلي والعالمي: فيعيد ملكة الايمان الروحي الي معينها الاول لتصبح نضره نقيه دون ان يضطر الي ان يعود بالحضاره الاف الاعوام! (وهي نفسها مرحلة العبقري الحكيم)
والهدف من ذلك طبعا هو الا يختلط الحابل بالنابل لدي البسطاء من الناس فيذهلهم انتماؤهم لدين معين عن المغزي الحقيقي للايمان: ناهيك عن ان يتسبب ذلك في اغترابهم عن موضوع الحضاره نفسه –كما شرحت- لصالح اسرافهم علي اظهار عواطفهم تجاه ذلك الانتماء فينتهجوا طريق التطرف: ولا يخفي ان طريق التطرف هو الذي يحول خيارات الانسان السياسيه الي مجرد تفضيلات طائفيه
في حين ان العمل السياسي يختلف عن العمل الدعوي في انه موجها اساسا الي الفكر والحواس قبل العواطف والانتماءات الدينيه: من حيث انه عمل اداري تنفيذي يصب جام همه علي رصد اهداف ووضع –وتنفيذ- خطط وبرامج اذ انه عمل البحث عن حلول لخدمة المجتمع: ولا يخفي ان مجتمع تتنامي –وتتعاظم- فيه العاطفه بلا حدود كمجتمع تتنامي–وتتعاظم- فيه الغرائز والملذات بلا حدود: ما يلبث ان يتجه نحو ضحاله وخواء لن يكونا بالسوء الذي بديا به لاول وهله الا حين يتحول المجتمع بالكامل الي مجتمع اخرق خليع لا تتوافر لافراده اية معرفه حقيقيه ذات عمق وترابط عما يتحدثون عنه:
لذا فالهدف الاسمي من العمل السياسي هو خلق حالة اتزان مجتمعي ما بين العقل والحواس من جهه وبين المثل والعواطف من جهه اخري: او بين العلم والتعليم والصحه والاقتصاد والامن وبين الانشطه الاجتماعيه بشكل عام (بما في ذلك الانشطه الدعويه والخيريه والثقافيه والفنيه والرياضيه بكافة انتماءاتها واشكالها) والعاقل يعلم انه لا يمكن فعل ذلك الا اذا تحول العمل السياسي الي عمل عام موجه لجميع طوائف –وفئات- المجتمع دون تحيز لفكر ديني او وطني معين لا يعبر في واقع الامر الا عن ثقافة وتربية صاحبه
ففي العملية السياسيه يتخذ الفكر موقعه في المنظومه اشبه بنغم الكمان في المقطوعه الموسيقيه اذ تغلب انغامه علي سائر النغمات: بحيث يمكن ان نتخيل المكون الاجتماعي–وحتي الفردي-من فكر وحواس وعواطف ومثل تعمل جنبا الي جنب ماضية في معزوفتها بلا نشاذ: اي دون ان يعزف احد العازفين فقرة غريبه او يسطو علي فقرة غيره: كما يحدث للفرق المبتدئه التي تزحمها عشوائيات الفرديه والجهل والارتجال: حيث تختلط وتتداخل النغمات المتنافره من كل مقام فلا نسمع من بينها نغمه اساسيه واحده
والمعزوفه الديموقراطيه في هذه الحاله لن تبدأ ولن تكتمل الا بايقاظ عقول الناس وضمائرهم والاخذ بايديهم نحو الحياه السياسيه والاقتصاديه التي يستحقونها: في وجود رجال ونساء يؤمنون بانه لا بديل للديموقراطيه الا الدكتاتوريه: وانه لا عمل سياسي الا اذا كان ديموقراطيا: ولذا فهم يستخدمون كافة ادوات–ودرجات- النضال والتضامن وبكل ما اوتوا من قوه وحجه وحكمه واراده وذكاء وابداع لتحقيق اهداف الديموقراطيه من حريه وكرامه وعداله ومساواه
ورأيي ان التركيبه الكيميائيه للامور في صورتها الحاليه هشه وغير مأمونه وتنبئ بكوارث لا يعلم نتائجها الا الله: فالشعب لن يقبل العوده الي الدكتاتوريه مهما كان السبب: ومهما كان الثمن: كما انه لن يبتلع في صمت-او ينخدع- بديموقراطيه مزيفه كما كان يحدث من قبل: الناس يرفضون ان يكونوا عبيدا بعد اليوم: لقد ارتقوا اخلاقيا وفكريا في ايام بقدر ما احتاجه غيرهم ليستيقظ ضميره لعقود
والسؤال الازلي: من خرج الي النور اولا: البيضه ام الدجاجه؟ وهو–لمن لا يعلم- سؤال جدلي لا اجابة له في صفحات الكتب: له عندي اجابه وهي في مثل هذه الظروف التي لا تحتمل الكثير من التعقيد: " الدجاجه اولا"
ولابد وان اشرح هنا ان حالة التعرض للفساد والاستبداد لو طالت–وبشكل متواصل- لا تتسبب فقط في ضعف الوعي العام: وانما في اعاقه نفسيه وذهنيه قد يكون لها اعراض انتقاميه تقتضي فترة نقاهه قبل المخاطره بتنظيم انتخابات (لا خصوصا اذا كانت تلك الانتخابات لا ترتكز علي قواعد علميه ديموقراطيه سليمه وراسخه) فالمنتقم هنا –ثمرة هذا النوع المتعجل من الانتخابات- المشكوك في نزاهته- الانتخابات الاولي والاخيره- ليس علي استعداد لان ينتقم من مجتمعه الذي تسبب في عذابه وحرمانه فحسب (خصوصا اذا كان هذا المجتمع في نظره كافر وضال ومتواطئ) وانما علي استعداد لان ينتقم من نفسه واهله ايضا: اذ ما من دافع اخر للانتقام -بالنسبة اليه- سوي الانتقام
كما ان اي تصوير للامر كما لو كنا بصدد الحفاظ علي أشياء لها علاقه بالماضي السحيق تم تمجيدها –طوعا او قسرا- لسبب او لاخر (ودفن المصائب؟): يضعنا في دائرة ضيق الافق ويعطل الاجيال الجديده حتما عن الحداثه -والديموقراطيه- التي يسعون اليها: فأيا كانت اهداف الاجيال القديمه لم يدع احد منهم انه حققها بالكامل في زمنه: ومن ثم لا يصح –وليس من النبل- ان يجرجرها معه في زمن غيره
كما لا يستطيع اي منا ان ينكر ان قيمة الحاضر تنبع من خلال دوره في صنع المستقبل وليس من خلال قدرته علي استنساخ الماضي.
اذا كنتم تريدون الماضي عودوا الي الماضي: لن تحققوا التوازن بين الماضي والمستقبل بهذه الطريقه
ورأيي اذا لم تفسح الاجيال القديمه جوارحها بالكامل لهذه الثوره -منحة الخالق- وتفضلها علي كل ما سبقها: وما لم تتبع تلك الاجيال بصيص من نور ابتدعه هذا الشباب النبيل المبدع الحر من لا شئ تقريبا: فاننا لن نتمكن ابدا من ان نتطهر من اكاذيب الماضي واوثانه ونصنع شئ - اي شئ- لمصر: اذ سنظل دائما في دائرة الجدل البيزنطي لا نخطو خطوه واحده نحو الامام
والاهم: لن نتمكن من ارضاء ارواح الشهداء الذين مازالوا يتطلعون الينا–من قبورهم- فيفرحوا -او يتألموا- لكل ما نفعله –او لا نفعله- من اجلهم
ورأيي ان القيم والمبادئ التي سينحاز اليها الجيش في هذه المرحله: تقدميه او رجعيه: دوله مدنيه او دوله دينيه-عسكريه: ديموقراطيه او استبداد: اضافه الي شكل وحجم هذا الانحياز: هو الذي سيحدد اذا ما كانت هذه الثوره مستمره الي ما شاء الله او ستتحول الي عمل سياسي سلمي في اطار ديموقراطي جاد (كما حدث –من قبل- بفضل عظماء مثل سعد زغلول وكمال اتاتورك)
ونصيحتي: لن ينجح العمل بالطرق الكلاسيكيه: كما لا يمكن ان تمشي الهوينا عندما يجب ان تسرع: ولا يمكن ان تحيك الثياب بالتقطيع والترقيع والتوسيع والتضييق عندما يكون عليك ان تشتري ثوبا جديدا (دع عنك طبعا موضوع استرداد العافيه حتي يملأ الانسان هذه الثياب) كما لا يمكن ان تكون بحاجه الي طبيب فتحضر دايه!
الناس الافضل يريدون الافضل: والغالب ان المسئولون الحاليون ليسوا قادرين علي ملاحقة سرعة الاحداث من حولهم: ربما بسبب ضعف ما في الرؤيه او الذاكره (بحكم السن؟): لذا فخير لهم –ولنا- ان يتركوا غيرهم يعمل وليستريحوا: او ينضموا لصفوف المعارضه: ربما سوف يكتشفون من خلال ذلك اولويات الوطن الحقيقيه وما يجب ان نسعي الي تحقيقه
ولابد ان اشرح ان الخروج الي المعاش او الراحه او الانضمام الي المعارضه ليس عيبا –كما يتصور البعض - وانما هو امر صحي تماما وحتمي واكثر امتاعا واثاره: واكثر امانا: واتعشم ان يطول
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق