اما الصعوبه التاليه التي تعترض طريق اهداف الثورات والعمل من اجل رفعة الوطن ونهضته ومستقبله: ناهيك عن القصاص لارواح الشهداء: فتتمثل في ذلك الركام الهائل من الاخبار والاراء ذات المستوي الفكري المتواضع المبني علي مجاملات وعواطف وبالونات اختبار وانصاف حلول بل واكاذيب - للاسف الشديد- في محاوله للاستحواذ علي اذن الرأي العام كما تستحوذ مجموعه من الدايات علي عقل طبيب التوليد فيقفن في طريق كل ما تعلمه من خلال سنوات دراسته الطويله في الجامعه كما تعيق الحشائش الضاره سنابل القمح عن النمو حتي يتاح لها ان تنتشر وتغطي وجه الارض
اذ يكون البعض بسبب "الخوف من المعرفه" ربما او ربما "الخوف من الحقيقه" (وهو مرض معروف) قد تقبل بعض هذه الاراء في معمعان من الضجيج تعلو فيه اصوات دأبت علي الاستسلام المطلق لقانون التكيف والتجانس (قانون ما قبل الثوره) فيما يتحفز البعض الاخر-ممن لا يملكون وازع من ضمير- فيحاولون التلاعب بموازين العداله -وحقائق التاريخ – بدافع نفعي –وايدولوجي- بحت
اذ ان اقوي انجازات الرجعيه وغاية مرادها ان يكون الانسان "عبدا للقديم" فيصبح غدا علي ما هو عليه اليوم وما كان عليه بالامس وبذلك فهم يتجنبون كل ما هو حقيقي وتقدمي بدافع الوفاء لما هو رائج لان ما هو حقيقي وتقدمي معطل–بالضروره- لما هو رائج: وطالما ان ما هو رائج قرين –بالضروره- لكل ما هو اصيل!
لذلك مهما تعلم اي منهم ومهما اكتسب من خبرات فان العلم لا يغنيه شيئا ولا يستبق منه في ذاكرته الا ما هو مثار اهتمامه او ما قد يرفع من قدره لدي العامه من الناس.
وبينما يستمر الانسان في العنايه بمظهره وفرديته في معناها الضيق المحدود عنايه فائقه فانه لا يعير جوهر الامور –ومصلحة البلاد- الا اهتماما متقطعا فينظر اليها نظره هامشيه او نظرته الي زي يغطي عورته ويمنحه مظهرا اجتماعيا معينا: فيتحول الانسان الي متسابق لا يباري في صغائر الامور غير عابئ بقضايا مجتمعه تلك التي يعبر التفاعل الايجابي معها عن مشاعر الانتماء ورد الجميل لهذا الوطن.
اذ ان انهماكه بالكامل في تلك الحياة لا يوفر له متنفسا لغيرها: كما لو كان الانسان يهرب من مواجهه مع نفسه الي مواجهه مع مجتمعه: وان كثيرا من الناس لتزحف ازياؤهم علي عقولهم وتغطي ضمائرهم فتفضح ضعف ارادتهم وتعري خوار عزائمهم
والعامه –في هذه الحاله- عندما ينتهون الي حالة التعصب والاقبال علي المظاهر والرائج من القول -دون تفكير- فهم معذورون تماما وحججهم منطقيه: فمثلما لا يجد معظمهم من المال والتقدير الا ما يفيض عن حاجة الاغنياء المتعلمين فيجدون القدر اليسير او قد لا يجدونه: فانهم في حال ايمانهم بالعلم والمبادئ والحقوق والحريات لا يجدون ايضا الا القدر اليسير او قد لا يجدونه: وبذلك فان هذا النوع الاخير من الايمان- في حال وجوده- لن يزيد الامور -بالنسبة اليهم- الا تعقيدا
وهكذا تستمر الحياه اشبه بمسابقه من مسابقات ارض الخوف Fear Factor: من هو الاكثر قدره علي ابتلاع اكبر قدر من الحشرات او من هو اكثر قدره علي تغطية –او تعرية- اكبر جزء من جسده فينال الفائز بذلك المزيد من الثياب والحشرات!
وهذه طبعا بالنسبه للانسان العاقل الحكيم ليست حياه بالمعني المفهوم وانما اشبه "بمرستان" عقلي لا يجب ان يتأذي فيه الطبيب من عدوان المرضي وصياحهم الا بقدر ما يجب ان يهديه تفكيره لما سوف يفعله في حال اذا ما اختفي كل امل له في علاجهم
والانسان العاقل الحكيم لا يبحث عن الحقيقه –دع عنك موضوع العلاج- في النور وانما بين الظلال
وازعم انها معركة الرمق الاخير (او "حلاوة الروح" حسب تعبير العامه) بالنسبه للطرف الذي يعلو صوته ويصغر حجمه كلما مر الوقت: او الفريق الذي يحفظ ولا يفهم: ويتكلم ولا ينصت: ويشعر ولا يفكر: ويجبر ولا يخير: ويفضل الشكل والاستعراض علي الجوهر: واولئك –في رأيي- لا نصيب لهم في المستقبل
والبدايه اطلت بوجهها فعلا من خلال احداث الشهر الماضي:
فلا ضير في اوج هذا الصدام الرهيب من اختبار اراده ومبادئ امام محاولات الضغط وتشويه السمعه وتصوير الثوار كما لو كانوا غير مصريين بما يكفي (غير عنصريين؟) باعتبار ان كلنا مصريون وان الثوره شعبيه وما الي ذلك من خلط اوراق واستدرار عواطف لتقليب الرأي العام علي الثوار واضعاف ثقة الشعب فيهم كما لو كان دورهم قد انتهي عند هذا الحد. او لدق اسافين بين الثوار وبعضهم البعض في سبيل اعلاء مفاهيم لها –في رأيي- صبغه ماكيافيليه مثل ما يسمي "فصائل الشعب" و"الشعب والجيش" كما لو كنا نتحدث عن متنافسين متكافئين في كل حاله: او كما لو كان الثوار الذين حرضوا وقادوا الشعب الي ميدان التحرير وواجهوا في سبيل ذلك الموت والاخطار–ومازالوا- لا تقدير لهم ولا تكريم ولا دور
او كما لو كان المطلوب هو نزول الملايين الي الشوارع في كل مره لدفع الحكومه باتجاه تنفيذ اهداف ومطالب الثوره او كما لو كان الوضع الطبيعي هو ان ينشغل جنرالات الجيش-ربما بسبب ضيق الوقت- بحكم المدنيين (والمحاكمات) عن مهامهم الوظيفيه التي يفرضها عليهم القانون: اذ ان ما يبدو لي ظاهرا –وبوضوح- هو ان الشعب لم ينعم يوما بأمن منذ قيام الثوره –وحتي اليوم- كما ينعم به مثلا نزلاء سجن طره!
وهكذا وحتي يصبح الموضوع مثيرا بما يكفي قد لا يخلو الامر من حلقه من حلقات مسلسل جمعه الشوان او رأفت الهجان (من سالف العصر والاوان) وما قد يتبعها عادة من عمليات كشف مفاجئ عن "عملاء" ذابوا في ايدي العداله كما يذوب الزبد في وهج الشمس وقد لا يكون مستبعدا ايضا القبض علي صحفيين اجانب وسط المتظاهرين (ثم اخلاء سبيلهم بضمان محل الاقامه) طالما ان ذلك يتم في حدود السؤال (فالسؤال ليس حراما) وان كان السؤال كافيا طبعا لاثارة الشكوك وخلق مناخ من التوجس من شأنه تسليط سوط "الامن القومي" و"الشأن الداخلي" علي الثوار والاعلام الحر ومصادر المعلومات: كما لو كان المطلوب هو الانفراد التام بالشعب وعزله عن المجتمع الدولي بعد عزل الثوار عن الشعب (منطق مألوف؟) ومن ثم منع المجتمع الدولي من التدخل لانقاذه في حالة حدوث انتهاكات او انحراف علي طريق التحول نحو الديموقراطيه
وهكذا قد تكون النتيجه ان ينتهج الاعلام الحر ومصادر المعلومات سياسة انغلاق وتقوقع و"رقابه ذاتيه" ازاء كل ما له علاقه بالجيش والمجتمع الدولي (ربما لدرئ "التهمه" مقدما عن انفسهم؟) فيما يتحول انتباه الرأي العام -علي الجانب الاخر- لهذا النوع المثير الغامض من القضايا بحيث تضع هذه القضايا حدا –ولو مؤقتا- لشعبية مرشحي الرئاسه التقدميين كلما ارتفعت (او كل من يرفض جملة وتفصيلا الفكر الاستعلائي الاستعدائي ضد عرق او جنسيه او حضاره او دين او اي ايدولوجيا تدعو الي الانغلاق والانعزال وتشكيل عصابات اقليميه باسم الوطنيه والدين) امام هذا العدد الهائل من خطباء المساجد والعسكريين السابقين ممن يرون في انفسهم جداره الترشح للرئاسه والعمل السياسي: والسبب يعلمه الله
والغريب ان هذه الجهود تشبه –الي حد كبير- نفس الجهود التي دأب نظام الرئيس المخلوع علي القيام بها ضد رجل بحجم البرادعي مثلا بما يدعم الاعتقاد بان شيئا لم يتغير بعد وان قوي الرجعيه مازالت مسيطره
وهكذا قد تحصل "نظرية المؤامره" علي "براءه" هذه المره ايضا: ولا احد يعلم براءة من بالضبط: الرئيس المخلوع ام النظام؟ وعلي اية حال اذا كان احتمال البراءه وارد: فما الذي يمنع ان تتحول محاكمات الرئيس المخلوع وعصابته -فيما بعد- الي محاكمه للثوره والثوار؟
وقد تتضافر الظروف ويسعف البعض الخيال الي الدرجة التي يصورون فيها للشعب كما لو كان قد انخدع بالثوره مثلا وان "البلطجيه" المجانين ممن حرضوا علي الثوره وبادروا بها انما "فتنوا" الشعب وقادوه الي ضلال: فاندفع الشعب بدوره في لحظة غضب (وهو غضب لا يخلو من طيش) ثائرا علي رئيسه المخلوع بعد ان صدق كل ما قيل عنه فظلمه (يا حرام!) واقصاه عن الرئاسه مضيعا مستقبله (في عز شبابه) بل وانزلق فيما انزلق فيه الثوار من عماله وخيانه فتامر مع العالم كله ضده: وهو نفس المنطق الذي يجعجع به مخبول طرابلس الغرب: الا ان وجه الاختلاف هنا هو انك كان يمكنك ان تستمع اليه في القاهره وفي ميدان "روكسي" بالتحديد: او تقرأ مثيلا له في صحف "التابلويد" الرسميه (المتحولون سابقا) والتي تحولت الشهر الماضي -ما بين بداية الاحتجاجات والاعتصامات وذروتها- ثم عادت –دون خجل- 180 درجه بين اونة واخري (اشبه بمقياس ميزان معطوب او الحبيبه الارستقراطيه في رواية "احمر واسود" لستاندال التي تتذبذب مشاعرها تجاه حبيبها العامي الفقير فتارة تهيم به حبا الي حد التذلل وتارة تتعالي عليه الي حد النظر اليه كحشره او خنزير!) الي حد انني لم استطع –في وقت من الاوقات- ان اتبين الفارق بينها وبين مطبوعات هيئة الشئون المعنويه بالقوات المسلحه (وميدان "روكسي" وان كان يبعد عن منزلي دقائق معدوده الا انه صار بالنسبة لي -وكلما مررت به- اشبه بخراج قدم ممتلئ بالصديد لا يكف عن الالم -والنزيف– كلما مشيت عليه مسرعا محاولا تجاوز الميدان او كعوامه تحمل اجساما "ثقيله" تطفو علي سطح الماء وقد تصمد العوامه المسكينه قليلا لبعض الوقت –تبعا لما تحويه من هواء- الا ان الهواء–مع ذلك- ما يلبث ان يتسرب وتتهاوي الاراده الزائفه للعوامه امام الحمل الثقيل فتتحول الي خواء: او كسيرك يؤدي فيه القرود دورهم في الاستعراض علي اكمل وجه وان كانت القرود –ايا كانت درجة تدريبها- تفضل التوقف احيانا عما يقوم به من حركات لمراقبة الانسان الذي يتابعها فما لا يدركه الانسان هو ان القرود تعشق مراقبة الانسان اكثر مما يعشق هو مراقبتها!)
ليس غريبا اذن –وسط هذا الجنون- ان يبتعد المجتمع الدولي بدوره قليلا عن كل ما يخص الشعب والثوار بل وقد يتصورون –خلاف الحقيقه- ان الثوار غير مؤهلين بما يكفي لاقامة علاقات دوليه سليمه (عدا روسيا طبعا لانها –بالاضافه الي ايران- من الدول "الليبراليه" جدا التي تحترم مفهوم "الشأن الداخلي" الي اقصي حد الي درجة انها لا تتدخل لوقف المجازر في حال حدوثها)
فالمفارقه هي انه اذا كان الثوار سيتحولون –يوما- الي سياسيين كيف يمكن ان يتصورهم الانسان ضالعين في علاقات دوليه منفتحه علي العالم اذا ما قاطعوه اثناء الثوره ؟
في حين ان المجتمع الدولي كان له دور هام –بلا شك- في اقصاء الرئيس المخلوع والاعتراف بالثوره: وان انكر ذلك من انكر: كما اننا في بلد منفتح علي العالم مثل مصر –علي خلاف كوريا الشماليه مثلا- وفي ظل وجود طاغي لثورة الاتصالات يصبح كل شئ تقريبا –شئنا ام ابينا- مكشوفا للانسان العادي في اي مكان علي سطح الكره الارضيه من اقصاها الي اقصاها (بما في ذلك القدرات العسكريه) دون حاجه للطرق التقليديه في التخابر وبث الفتن: تلك الطرق التي يكاد يكون قد عفا عليها الزمان
ولكن هل الثوار والصحفيون الشرفاء مسلوبو الاراده وبلا قضيه -وبلا مبادئ-الي درجة انهم من الممكن ان ينساقوا الي اراء اجنبيه –قد تتفق معهم احيانا بلا شك- ومن ثم ينقادوا الي ما يسمي الوقيعه بين الشعب والجيش: لمجرد انهم انتقدوا قادة الجيش الافاضل – من اصحاب الخطوه - علنا؟!
كما سيظل هذا السؤال مثارا الي نهاية الثوره: من هو بحاجه اكثر الي ضمانات ودعم دولي: النظام (الذي سيظل دكتاتوريا طالما ان شيئا لم يتغير بعد) ام الثائرون عليه ؟
ولا يخفي ان اتهامات بالعماله -ان لم تكن حقيقيه- قد يكون لها عواقب خطيره للغايه. فناهيك عن تشويه سمعة الفرقاء السياسيين والنيل من كرامتهم قد تنتهي هذه الاتهامات غالبا الي عداوات وحروب مع بلدان اخري فيما يظل الرأي العام بمعزل عن الادله والحقائق لا يصل اليها الا كما يصل السجين الي زنزانته اسير ما يتلوه عليه حراس السجن من ارشادات (ولحسن الحظ اننا لم نر مع المتظاهرين الجدد شعارات "العداله الاجتماعيه" تلك التي ترتفع اليوم في شوارع تل ابيب والا اضطرت الحكومه الي حذفها من قائمة اهداف الثوره بصوره نهائيه او استبدلت سائحي العريش وانبوب الغاز من المرتزقه المتحمسين مثلا بسائحي "زواج المتعه" و"الكبسه" و"الفودكا" و"سمك القرش" من خلال دفاعها المستميت عن حق هؤلاء في هذا النوع او ذاك من السياحه –والاستثمار- حيث يقضون عمرتهم السنويه الميمونه في شعائر غايه في العفه وحسن القصد لا يدخرون فيها مالا او جهدا لاكتشاف مصر المعاصره كما لم يعرفوها من قبل)
ومشكلة هذا النوع من الاتهامات انها تقوم علي ادعاءات جهاز يقوم عمله اساسا علي السريه وبالتالي فان اي دليل يتقدم به الي القضاء او الرأي العام سيكون حتما ناقصا او مجهولا نظرا لسرية المعلومات التي قد يهدد الكشف عن جانب منها "الامن القومي" (مع ملاحظة ان مفهوم "الامن القومي" نفسه لا يحمل -ومنذ يوليو 1952- تعريفا محددا واضح المعالم: كما ان المفهوم لم يستحدث علي الرغم من تطور علاقات السياسه الدوليه بين مصر والعالم بمرور العقود: الي درجة ان البعض دأبوا علي استخدامه –والي اليوم- كما لو كان كلمه الغرض الاساسي منها هو ان "تخض" سامعها –وربما العفاريت ايضا- لمجرد تكميم الافواه وليس من اجل ان تكون مفهومه)
وبالتالي عادة ما يكون المطلوب من الرأي العام هو ثقة عمياء وتصديق اقرب الي اليقين الديني بان تلك الجهه (الجهه السريه التي لا يذكر اسمها عادة لنفس دواعي "الامن القومي") لن تقول الا الحقيقه
ولا شك ان رصيد قديم من الخوف والانعزاليه والتسليم المطلق بكل ما هو سري وغامض لمجرد انه سري وغامض قد يقوم بدور في اكمال الفراغات (الي جوار المانشتات الحمراء طبعا والمسلسلات)
بينما الحقيقه هي اننا جميعا من البشر وقد يسقط الساده الضباط –خصوصا في زمن الثورات- فيما يسقط فيه البشر من تقدير خاطئ مهما اتيحت لهم من حسن نوايا وادله ووسائل تيقن (مع ملاحظة اننا لا نعرف المعايير التي يتم علي اساسها اختيار اي منهم)
ولطالما سألت نفسي: لماذا لم يكتشف الغير ابدا عميل مصري واحد طوال السنوات الماضيه في مقابل عشرات الحالات التي يكتشفها جهاز مخابراتنا الهمام؟: هل بسبب اهميتنا (بصفتنا محور الكون) ام بسبب حنكة ويقظة وحسن تدريب–وحسن حظ- ضباطنا الدائم: ام بسبب تخلف الاخرين وغبائهم الي حد انهم لم يعودوا قادرين علي التراجع خطوه واحده امام اغراء السقوط المتكرر في شباك الكشف عنهم اشبه بفراشات لا تكف ابدا عن الحوم-بالحاح منقطع النظير- في وميض مصباح او هالة قديس! (مع ملاحظة ان علاقتنا بمن يتجسسون علينا لا تتحول ابدا الي الاسوء)
والتاريخ يخبرنا ان سلاح البحث عن عملاء والقبض عليهم كان يستخدم حتي في عصور ما قبل الميلاد حين كانت الامور تصل بين الدول -او بين الحاكم وشعبه- الي درجة ظهور نذر حرب او ثوره: وقد حدث هذا في زمن اخن-اتون بعد ما وصلت الامور الي طريق مسدود وفشلت كل محاولاته اقناع كهنة امون في ان يمتثلوا لفكره "الاتوني" الجديد وفشلت كل محاولاتهم –علي الجانب الاخر- في ان يتراجع هو ايضا عن "غيه" -حسب رأيهم- ويعود الي الشكل المعتاد للعقيده الوثنيه والذي يولي الناموس الطقسي وصور الالهه من بشر وحيوان اهتماما يفوق اهتمامهم بجوهر القيم والمسالك الانسانيه والاجتماعيه: وحجتهم في ذلك ان الغلبه ستكون حتما - وفي نهاية المطاف- للمتوارث القديم وليس للاله البدعه الشبيه بالهة الاجانب الذي قدمه اليهم اخن-اتون: وان اتخذ هذا الاله لنفسه صفاتا واسماءا اصيله ومعروفه في الكهنوت المصري: وان ادعي الفرعون –وهو تلقائيا ابن الاله المعبود- ان اتون ابا والها شخصيا له: فهذا لن يغير من طبيعة "الكفر" شيئا اذ ان "اتون" هذا –حسب الكهنه- بل وحسب وصف اخن-اتون نفسه- "القوه الكامنه والحراره المشعه" في رع (قرص الشمس) وليس رع!
وبعد ان انتشرت الثورات في مختلف انحاء الامبراطوريه المصريه المنهاره واخذ الجو يتلبد بالمؤامرات فبدأ الكهنه يحيكون له المكائد ويرسلون اليه من يريد القضاء عليه (حتي بعد ان هجر طيبه ورحل الي مدينه جديده انشأها بنفسه): فما كان من اخن-اتون الا ان شن عليهم حملة شعواء تخللها شكلا من اشكال الحرب النفسيه في صورة عمليات قبض علي جواسيس –كان بعضها ملفقا طبعا وبلا دليل- قام بها رئيس شرطته المدعو "ماحو" اذ كان الغرض الاساسي منها –فيما يبدو- الارهاب. وتوحي صور الجواسيس المرسومه علي جدران مقبرة ذلك الماحو وكانوا ثلاثه بأن احدهم مصري اما الاخران فكانا من الاجانب اذ يشي شكل لحيتيهما الغريبه وشعورهما المسترسله–علي غير عادة مصريي ذلك الزمان-بانهما كانا من الكنعانيين
وقد تكون لعبة "العملاء" و"المعارضين والموالين" و"البلطجيه" و"الجماعات المسلحه" مناسبه في الدكتاتوريات المتهاويه التي مازالت تقاوم ثورات شعوبها بسلاح شعوبها (تلك اللعبه التي لن تدوم طويلا –برأيي- حين تظهر النيه الحقيقيه لهذا الدكتاتور او ذاك من مدعي الاصلاح ودرجة استجابته لمطالب الشعب): ولكن ان تستخدم تلك اللعبه في المجتمعات التي تخلصت بالفعل من الدكتاتور–او هكذا ظنت- فذلك هو الشئ المريب حقا ولا يعني هذا الا ان ذلك الذي يبدع تلك الافكار العظيمه –من وراء الكواليس- يكون من مبدأ الأمر وفي لحظة الابداع ذاتها غير شاعر بصلته بالواقع وبالعالم من حوله وبالمهمه الملقاه علي عاتقيه وبالاجيال الحاليه والاجيال التي لم تولد بعد: وان احساسه بامتداد وجوده عبر التاريخ- بهذه الطريقه- ما هو الا وهم مشكوك فيه اشبه بخمر لن تدوم سكرته طويلا بل سيعود المخمور الي وضعه الطبيعي كما كان كيما يكون لكل من استخف بهم واساء اليهم- في نهاية المطاف- كرة اخيره عليه لن تكون دون مقابل
ولا افهم كيف يتسني لدكتاتور دموي خسيس ومتعالي (وكذاب؟) كدكتاتور سوريا (وسوريا هي اولي حضارات المعموره الي جانب العراق) ذلك الذي يعادل عمر فساد نظامه عمره هو شخصيا: ان يقنع احدا بانه يتجه حثيثا نحو الديموقراطيه بل ويشترط علي الاحزاب الناشئه ان يلتزموا بهذه الديموقراطيه قبل الولوج الي ما سماه عمل سياسي: بحيث يكون مكلفا بوضع القوانين والاشراف علي تنفيذها بل ومراقبه جودة هذه الديموقراطيه المزعومه كل ذلك دون ان يتطلب الامر ان يخلص البلاد من نفسه اولا!
ربما بتصور ساذج –كدأب غيره- ان الديموقراطيه هي الحوار والاحزاب والانتخابات (وبس) ولو اضطر في سبيل اتمام تلك الديموقراطيه الي ممارسة اقصي درجات الوحشيه البشريه بما في ذلك قتل المدنيين العزل في الشوارع او اعتقالهم وتعذيبهم ومطاردتهم الي خارج بلادهم او وضعهم تحت ضغط معنوي وحصار عسكري وسياسي واقتصادي واعلامي يومي رهيب؟
وان اضطر الي وضع نفسه احيانا -رغم كل الجرائم والانتهاكات التي يرتكبها في حق شعبه- في سياق وطني بتصريحات اقل ما توصف به بانها بلهاء مثل ذلك الاعلان الفدائي الذي اعلنه مؤخرا وانتهي فيه الي ان الجولان –احم- سوري: كما لو كان ذلك خبرا مثلا او حين اعلن -بتحيز طفولي- ان احدي قارات العالم قد اختفت بالكامل –بالنسبة اليه طبعا- من الخريطه!
او حين اعلن من وراء منصة الامم المتحده بنيويورك (ويعلم الله كيف حصل علي تأشيرة الدخول)-وبعد وصلة الاكاذيب- كالمعتاد - ان البديل الوحيد لسقوط نظامه هو تنامي خطر التطرف والارهاب والتقسيم (في حين ان حكومته تأوي–وتمول- اعتي عصابات التطرف والارهاب بالمنطقه بجميع انواعها تلك التي قسمت اوطانها الي طوائف وجماعات مسلحه!)
اما الحقيقه الظاهره لكل من له عينين انه بينما يفعل ذلك فانه لا يفقد الامل ابدا في كل ما يمكن عمله من اجل خطب ود المجتمع الدولي مرة اخري بما في ذلك الدول التي يعاديها ويسبها علنا والتي قرر شطب بعضها من الخريطه: ربما من اجل استكمال فيلم "اصحاب ولا بيزينس"؟ ربما لانه من خصائص الطبيعه البشريه ان الناس في مختلف الاقطار والعصور ينسون وانهم –الي جوار ذلك- غالبا ما يعانون بلاده في الجغرافيا؟!
وهي حاله ليست فريده بل متكرره ولها ما يشبهها في الواقع الاقليمي الحالي وتحدث كل حاله منهم امام متابعة البعض من اقارب دراكولا اولئك الذين يتصرفون اليوم كاباطرة الرومان القدماء حين كانوا يقبلون علي حلبات المصارعه متحفلطين في ملبسهم ومركبهم مع كل ما جلبوه معهم من وسائل تسليه وطعام وشراب لمشاهدة المتصارعين وهم يتقاتلون او تفترسهم الوحوش الكواسر فيما يتلذذون هم باستمتاع-وساديه مفرطه- بالاشاره لمن يستحق –او لا يستحق- الموت في نظرهم: لا فارق لديهم بين الضحيه والجلاد
وكثيرا ما يحضرني حين اتابع هؤلاء وهم يتحدثون عن "الشأن الداخلي" (فيما يتعاقدون سرا من اجل توريد شحنة كلاشينكوف او قمح فاسد او بغايا) قول هاملت حين عاتب امه الملكه التعسه الزانيه صائحا (واضعا صورة ابيه الي جانب صورة عشيقها بين يديها): هل لكي عينان؟ هل تبصرين؟: فهم–واحسرتاه- رغم اتقانهم للفرجه والمشاهده - لا يبصرون!
بيد ان هذا يحدث في الوقت الذي يصر فيه الثوار الكرام مع كل ما يملكونه من حس مرهف وعزة نفس ومشاعر وطنيه وذكاء وثقافه مميزه علي الخروج الي الشارع في رمضان- وغير رمضان- مواجهة سجانهم وشكوكهم ومخاوفهم بشجاعه فائقه - ودمي يغلي من اجلهم- لا يملكون سوي مبادئهم وقوت يومهم مدركين مسبقا طبيعة الاهداف التي يكافحون من اجلها اشبه بعاصفه تبتلع في طريقها كل ما تمر به
وسواء كانوا شاميون او يمنيون او بحرينيون او ليبيون وسواء كانت اعمالهم نضالا او سياسه او شعر او فن يقفون في كل الازمنه متفردين يناضلون كالابطال نضالا لا يتوقف ضد جحافل الرجعيه والفساد والاستبداد: ولذلك ليس غريبا ان يفعلوا ذلك اليوم ايضا ("فلا نامت اعين الجبناء"؟)
واذا كانت الاعمال العظيمه لا تحصل عادة علي ما هي جديرة به من تقدير وتكريم الا متي وقفت امام "محكمة الزمان" حيث يطهر التاريخ نفسه بنفسه من كل ما علق به من جرائم: وسواء كانت هذه الجرائم تخص افراد او اوطان: فان مصيرا مغايرا يكون من نصيب الاقوال التي تلتحف برداء الحكمه والحجج القانونيه والتي تصدر عن بعض ذوي المواهب المحدوده وتبدو –لحذق اصحابها- كما لو كانت قائمه علي اساس (اذ غالبا ما يتم الدفاع عنها بحميه وتعالم حتي تصيب اكبر قدر من الصيت والشعبيه وتحتفظ بمكان لها في وجدان الناس فتصبح محل تحيزهم ولو لبرهه) ومثل هذه الاراء من الممكن ان تنجح بالفعل في ان تصبح رائجه ومشهوره لمجرد عدم وجود من يعرف كيف يدحضها: الا انه متي ظهرت الحقائق –وهي ظاهره لا محاله- ينتهي مجد تلك الاراء في لحظه واحده والي الابد
وهناك امثله عده علي هذا الصنف الاخير من الاراء ولنأخذ منها مثلا "التمويل الاجنبي"
وبنظره واحده الي الواقع الاقتصادي المصري في ال 60 عاما الاخيره يمكن بسهوله ان نستنتج ان مصر كانت –ومازالت- للاسف- ولنكن صادقين مع انفسنا- تحت طائلة التمويل الاجنبي بالكامل وسواء كان هذا التمويل بناءا علي رغبه رئاسيه منفرده او بموافقه شعبيه
وقد لا نجد من بين الاف طرق التمويل التي ظهرت في مختلف الميادين ومن مختلف الدول الا طريقه واحده معلنه من كل الف طريقه جديره بان تكون سريه (وان لم تكن بالضروره متهمه بالاختراق والعماله): ما بين طرق تمويل لاغراض ايدولوجيه واقتصاديه وعسكريه (كتمويل السوفييت ودول شرق اوروبا) او تمويل ملوث بالمصالح الفرديه البحته ايدولوجيه واقتصاديه والتي تطفح بروائح عمولات ومؤامرات (كتمويل ممالك النفط واحيانا–بصوره غير مباشره-ايران) او القروض والمعونات العسكريه والمدنيه طرف دول العالم الديموقراطي الحر ومنظمة الامم المتحده: وما ذلك الا لان حكومة الرئيس المخلوع دأبت علي القاء واجباتها ووزر اخطائها علي اكتاف الخارج والشعب الفقير (وتفرغت بالكامل للبيزينس؟) الي درجة انه يخيل لي ان الحكومه تورط نفسها في كمائن لا حصر لها اذا ما فتحت علي نفسها –علي الملء- موضوع التمويل
فالواقع يقول ان الحكومة مازالت تلعب هذا الدور المزدوج: من يحصل علي التمويل: ومن يراقب الاخرين كيلا يحصلوا عليه اشبه "بارجوس" حارس البوابه –ذو العيون المائه- بحيث لا يكاد يمر مال او متاع - ومهما ابتدع صاحبه من حيل- محاولا عبور بوابة الواقع السياسي المصري الا وانشقت الارض عن ارجوس يسأل العابر اذنا او تصريحا بالمرور: وان تنكر الممول في زي مستثمر مسكين مدعيا العته والسفه: وان اصطحب معه من لا يقلون عنه ترديا في متاهات خضم لا حدود له من الجهل والضلال فاصطنعوا حوارا عبثيا كيما يسمح له ارجوس بالدخول: لن يتسني لاحد ابدا خداع ارجوس اذ لن يمر احدا عبر بوابته الا باذنه. اذ ان نظره واحده من اعين ارجوس الخبيره الرائده في فن الاحتيال والتمويل كفيله بكشف المستور
ومع ذلك تصعقني مفاجات الحكومه حين تدعي الغفله وتسمح بعبور من تحب علي امل ان يحب الشعب من تحبه الحكومه: ليكتشف الناس مثلا وبمحض الصدفه ان المستثمر المسكين مدعي العته والسفه انما هو مبعوث العنايه الملكيه راعي الرجعيه الانتهازيه وحامي حمي ناهبي ثروات بلادهم الاصلي فيعتذروا له لعدم استيعابهم لحقيقته –من اول وهله- ويحيونه علي براعته في التنكر (التي لا تقل عن براعته في التمويل)
وبمناسبة "النهب" عندي فزوره:
هل هناك علاقه بين الاموال المنهوبه وبين السلف والمساعدات التي تتدفق علينا اليوم –بكرم- عبر البحر الاحمر؟
اذ يخيل لي ان من واجب الحكومه ان توضح الفارق بين السلف والمساعدات وبين المسروقات (والا فسوف ننفق السنوات في حفر "الانفاق" في محاوله للهرب من الحقائق كما فعل الراهب الكهل في "الكونت دي مونت كريستو" حين وجد نفسه في النهايه –وبعد طول حفر- في زنزانه جديده! وقد لا يكون من سوء الظن انذاك ان يربط الانسان بين هذا النوع من السلف والمساعدات وتلكؤ الحكومه وتقاعصها عن "دمقرطة" الحياه السياسيه والاجتماعيه في مصر: مع ملاحظة ان الحكومه تتجاهل وبغرابه شديده السلف والمساعدات التي يعرضها عليها صندوق النقد الدولي والعالم الحر والتي غالبا ما تكون مراقبه ومشروطه وفقا لما تبذله الحكومه من جهد علي طريق انتقالها الي الديموقراطيه)
خلاصة القول: الشعب من حقه ان يعرف كل شئ دون تعميه: فالشعب ليس رهينة احسانات احد وثورته ليست للبيع: واكرر ثورة الشعب ليست للبيع سواء علي طريقة "من لم تستطع اتقاء شره الديموقراطي فاشتره" او غيرها
وقديما قالوا: هناك ما يسمي "احساس": لكي تكون قادرا علي ان تتهجأه لابد وان تضيف اليه حرفا السين! كفي ألغازا وفوازير؟ الحل صعب؟ رمضان كريم؟ "كي-بوردك" ليس به حرف السين؟ الحرف معطل؟ لا احد يريد ان يتكلم؟ المجرمون–من الاخر- لن يعيدوا الاموال الا بشرط وقف المحاكمات؟ هناك مكان ومهرب متاح دائما للاموال والمتهمين اذا ما اصر الشعب علي المحاكمات؟
اذن سيقع عبء البحث عن حلول علي الشعب وحده –فيما يبدو- وكالمعتاد ×-0
فليس من الصعب ان نستنتج ان هناك دائما علاقة طرديه بين الظروف السياسيه او ان شئت قلت الظروف الثوريه (باعتبار اننا مازلنا نعيش مرحلة تغيير النظام او مرحلة ما قبل العمليه السياسيه برمتها: وانه مما يدعو للعجب ان يخرج البعض في هذه المرحله بتصنيفات مثل "سياسي هاوي" و"سياسي خبير": وخطورة هذا النوع من التصنيفات انها تفترض اننا كنا نعيش في اي وقت في ال 60 عاما الاخيره حياه سياسيه من اي نوع (دع عنك الديموقراطيه طبعا) او كما لو ان الخبره السياسيه لها علاقه بالاعتقال والتعذيب وانتفاضات الجوع وتظاهرات الاتحاد الاشتراكي والحياد الايجابي والعصا والجزره وامساك العصا من المنتصف وتوريث الرئاسه عبر نائب او ابن وما الي ذلك من لغو) ما بين تصاعد الاحتجاجات والاعتصامات وبين تحرك الحكومه: نوعا وكما وكيفا: بحيث انه كلما زادت حدة تلك الاحتجاجات والاعتصامات كلما تحركت القضايا وتنوعت الاجراءات واصبحت اكثر سرعه وشده
اذ توحي تصرفات –وتصريحات- الحكومه –ولاول وهله- اننا اذا لم نتطوع بالعفو والسماح عن مجرمي النظام الساقط (بصفتهم مصريين؟) ونغلق ملف المحاكمات سنبقي دوما في دائرة الثوره ومن ثم لن يتسني لها ان توفر لنا الامن وتطور الاقتصاد: وبالتالي لن نتمكن من الانتقال بالسرعه الكافيه الي حياه ديموقراطيه سليمه (باعتبار انها لا يمكنها ان تفعل اكثر من شئ واحد في نفس الوقت!)
في حين ان المشكله قبل الثوره كانت في عدم وجود حياه سياسيه واجتماعيه ديموقراطيه ومن ثم كنا عاجزين -حسب احصائيات ومقترحات صندوق النقد الدولي- عن تطوير الاقتصاد: بمعني ان الامن –ايضا- اصبح اليوم هدفا في حد ذاته اضافه الي الديموقراطيه والاقتصاد! (والامن يسأل عنه من هو مسئول عنه حسب القانون اذ لا علاقه للثوار بتفجير انبوب الغاز مثلا او انتشار الجريمه بالمدن والمحافظات: والملاحظ ان الحكومه توجه كامل بصرها وتشير باصابع الاتهام الي كل ما يحدث في ميدان التحرير بصفته المعطل الرئيسي لجهودها: كما لو كان بينها وبين ميدان التحرير ثأرا شخصيا مثلا!)
وهكذا اذا كان الشئ الوحيد الذي تقدم الي الامام بعد الثوره هو تنامي الاحساس بالمسئوليه الاجتماعيه والسياسيه وما تبع ذلك من تكاتف تجاه مبادئ واهداف ومطالب معينه (من بينها محاكمة مجرمي النظام الساقط طبعا ليكونوا عبرة لغيرهم) فان الموافقه علي منطق العفو يعني اننا سنتخلي حتما وبارادتنا عن المكسب الوحيد الذي حققناه حتي الان بفضل الثوره والذي خسرنا في سبيله –بسبب اخطاء الحكومه وحدها- كل شئ تقريبا: وهذا طبعا منطق تفريط وتمييز وهشاشه وليس منطق عفو ولا مكان للتفريط والتمييز والهشاشه مع الانسان العادل المحب لوطنه المقبل علي بنائه المتطلع الي الامام
فلا تعارض بين الرحمه والعدل ولكن العدل يجب ان يسود في النهايه بحيث يصبح المبدأ هو ان كل المصريين -ايا كانت مناصبهم- الرئيس قبل الانسان العادي البسيط سواسيه امام القانون
مع الوضع في الاعتبار ان حكمة القرون هي: اذا بدأنا بمحاسبة الكبير سيشعر الصغير حتما بقيمة العدل والمساواه (والكرامه؟) ومن ثم سينتشر العدل: كما انه "في الظروف الاستثنائيه يتخذ المرء خطوات واجراءات استثنائيه"
ويخيل لي ان قدرات العبقريه المتوافره في اكثر اجهزة مخابرات العالم كفاءه–تلك التي تكاد تفوق قدرات البشر –ليست قادره وحدها علي حصر اخطاء هذا "المجلس العسكري" السياسيه والاستراتيجيه القاتله التي تسببت –قبل اي شئ اخر- فيما يسمي الوقيعه بين الشعب والجيش (ورأيي ان من يفصل الشعب عن الجيش او طائفة من الشعب عن اخري هو الذي يصنع الفرقه والوقيعه)
وايا كانت الشعبيه التي يحاول المجلس اكتسابها فهي "غير مفهومه" وليس بحاجة اليها طالما انه -وكما يقول- سيبتعد حتما –في النهايه- عن الحياه السياسيه
والمتابع الفطن يدرك بسهوله ان محاولات المجلس اكتساب شعبيه لم يقابلها خطوه واحده في اتجاه تحقيق اهداف المرحله الانتقاليه –ناهيك عن اهداف الثوره- لتصبح تلك الشعبيه –علي الاقل- سببا ودفعا الي الامام (تلك الاهداف التي تتباعد عنا اليوم رويدا بحيث اصبح من غير المستطاع ان تعود الينا مرة اخري من تلقاء نفسها: كما عادت وزارة الاعلام) ويدرك ايضا ان المراسيم والاعلانات العسكريه تلك التي تهبط علينا في كل مره –الواحده بعد الاخري- كما لو كانت وحي منزل من السماء- تمضي عكس اتجاه التغيير (وما قد يتبع ذلك من صعوبة تغيير الوضع الجديد (القديم) الا ربما عن طريق مراجعه شامله لكل ما فعله العسكر في الفتره الماضيه (بالحذف او الاضافه او التعديل) علي طريق بناء النظام الديموقراطي المنشود)
ويتراءي لي ان هناك من بين من انضموا الي الثوره –حسب ما فهمنا- ممن هو قريب من غرفة صنع القرار- من يجد في نفسه –لسبب او لاخر- فوق الحساب بل وبديلا للديموقراطيه
اما علي الجانب الاخر (جانب الثوار): فاي صعاب واي حصار رهيب قد تلقاه قوي الثوره قبل ان يتاح لهم ان ينفضوا عن كاهل مصر اثار النهب والجهل والاستبداد والتواطؤ والاذعان وغير ذلك من الممارسات الكفيله وحدها بان تزحم الطريق وتسد المسارب في وجه كل انسان شريف يريد ان يطور بلده قبل ان يصل الي المكان اللائق به في الحكومه وفي قلوب الناس؟
وظني انه يوجد شبه اتفاق علي ضرورة استقلال القرار السياسي وبناء دوله مدنيه ديموقراطيه حديثه بحيث يكون لهذه الدوله شق اقتصادي انتاجي تشاركي يبتعد تدريجيا عن السلف والمساعدات: دون ان تكون فعاليات صنع القرار- او الشعب- بمعزل عن التزامات مصر الاقليميه والدوليه: ناهيك عن مد جسور التعاون والشراكه مع الاصدقاء الذين يشاركوننا الاهداف والمبادئ الديموقراطيه
ورأيي ان في ابعاد القوي المعاديه للثوره (وللديموقراطيه) حتي فيما يخص الاستثمار -وان اعادوا الاموال المنهوبه- غنيمه: فما يمارسونه من حيل وما ينشرونه من ترهات ثقافيه تنطوي اكثر ما تنطوي علي سخره وبذخ ومجون وسطحيه ومظهريه استعراضيه وما يحاولون جنيه من تسهيلات الي حد التأثير سلبا علي الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي المصري: جدير بتجنبهم عملا بالحكمه الشهيره: الوقايه خير من العلاج
فلا يجب ان نغفل الدور المزدوج الذي يقوم به اليوم ملوك وامراء الثراء والمسكنه لتفادي انتقال الثورات الي بلادهم (بمحاربتها في بلادها؟) والذي يتنوع ما بين توفير ملجأ ومأوي للدكتاتور و–احم- "حريمه" والاموال التي نهبها او دعمه علنا او سرا بالمال والسلاح والقوات والمحامين والعلاج (ثم تأنيبه علي ما يفعل مع شعبه وهو روث ابل طبعا اذ انهم انفسهم من سيرسلون القوات لمحاربته اذا ما اتفق المجتمع الدولي علي ذلك!)
ولا يجب ان نغفل ان خطر هؤلاء انما يتمثل في انهم مازالوا "يملكون" اصدقاء لهم في الدول التي حققت فيها الثورات–ولو جزئيا- بعض اهدافها وان اصدقاءهم اثرياء ولهم بعض النفوذ وفوق ذلك مازالوا ابناء برره لفكر "الريال الابيض ينفع في اليوم الاسود" وما قد يتبع ذلك عادة من استغلال محن الوطن لصالحهم ولصالحهم فقط: وهو بالمناسبه نفس الدور الذي يلعبه الرئيس المخلوع في زنزانته وحتي اليوم (فاذا ما احس المتابع الكريم اني بهذا الكلام اتجني عليهم فليتأمل جهد ما قاموا به ولاكثر من 30 عاما (بالتضامن مع المخلوع) من اجل "استخدام" الشعب المصري (كفالته؟) باقل الاجور وما رافق ذلك من محاولات طمس هوية وسلب كرامه واستبدالهما بذلك الخواء والتصحر الفكري المريع الموجود حاليا بين انصار الرجعيه الانتهازيه بوجه خاص)
وازعم اننا عندما نتحدث عن واقع ديموقراطي في كامل بقاع الشرق الاوسط يكون فيه من المتاح للحملان ان يتصادقوا مع الذئاب والعكس دون ان تفترش طريق هذه الصداقه اي مهالك فاننا نتحدث عن مستقبل مازال في طي الغيب: وهي مرحله مقبله بلا شك سيكون فيها المشروع الديموقراطي –في رأيي- اكثر نضجا واكتمالا
ولا يتوهمن احدا ان الامور ستنصلح من تلقاء نفسها فلا نهايه لمحاربة الفساد والظلم والطغيان: والانتهازيه الكاذبه كالدكتاتوريه الموتوره لن يتغير طبعها وان اتخذت اشكالا تتباين فيها حدة الخير والشر من شخص الي اخر ومن جيل الي جيل: ولذا فالديموقراطي المخلص نادرا ما تتاح له فرصة الراحه لانه يكون قد سخر نفسه بالكامل للنضال بدرجاته واساليبه وصنوفه
وعلي اية حال فان الفارق بين الحقيقه والخيال او بين الانسان الجاد والانسان الهزلي او بين الحلول السياسيه والحلول الاستراتيجيه: او بين الحلول السياسيه والمسكنات: هو بالضبط كالفارق بين التوربيني وقطار الصعيد طرف مولانا الخديو اسماعيل المتأخر دائما المثير للفزع غالبا نتيجة لما يحدث فيه من حوادث (عكس اخيه المحظوظ القابع في متحف السكه الحديد الذي اتته الشهره في عز شبابه) حيث ينتظر المواطن الشريف (قاسي القلب الذي يرفض العفو عن القتله واللصوص) علي رصيف المحطه بانتظار ظهور "حكومه ثوريه" بمعني الكلمه تسترد له قصاص شهدائه ومصابيه وتستعيد اموال الشعب المنهوبه: وقد يتصور ان بامكانه فصل المؤسسات القضائيه والتشريعيه عن التنفيذيه ودعم اوجه استقلالها علي سبيل بناء دوله مدنيه حديثه ونظام ديموقراطي سليم: وقد يحلم ايضا بدستور يحتضن كل اديان وفئات المجتمع بنفس القدر من المساواه: في ظل مواطنه وحقوق وحريات: فاذا به يستيقظ علي صوت مولانا الخديو اسماعيل (حيث يخرج المواطن المسكين الي المعاش او يلقي ربه وهو مازال في دائرة عرض المتهمين وفحص الادلة والاستماع الي شهادة الشهود)
ويعلم كل من اوتي من علم انه اذا مضت وتيره "المحاكمات" و"الاصلاحات" علي ما هي عليه الان (اي دون تغيير ديموقراطي جذري صادق وفعال حسب المقاييس العصريه) واذا حان موعد الانتخابات دون عزل كل من كان له صله بالنظام الساقط عن الحياه السياسيه (وعلي رأسهم نائب الرئيس المخلوع ورئيس وزرائه صاحب مقولة "البونبون والملبس": بكلمات اوضح: كل من لجأ اليهم هذا المخلوع وقت محنته) ودون مراجعة شامله للقانون ومؤسسات الدوله (بالغاء او تعديل او اضافة) ودون رقابه دوليه: فان نزاهة تلك الانتخابات–في رأيي- خصوصا الرئاسيه منها- ستكون حتما موضع شك.
اذ ليس هناك اية ضمانات تمنع ان تمضي تلك الانتخابات لصالح اعضاء جمعية "روكسي للعفو والسماح" او غيرهم ممن حصلوا علي مباركتهم من الفلول وممن يخلطون السياسه بالدين (ويتساوي معهم هنا ما يسمي بحزب الوفد الجديد: ورأيي انه لو عاد سعد زغلول الي الحياه ورأي حزبه علي هذا الحال لتبرأ منه فورا كما يتبرأ صائغ الذهب من اسورة "نحاسيه" مزيفه ظن انها تشبه احدي اساوره بل لتبرأ من "النحاس" نفسه: ان لم يكن قد فعل!)
وستكون النتيجه ان تتجه الامور حتما الي صدام جديد -ونهائي هذه المره- بين اصحاب الفكر التقدمي النزيه ومعهم السواد الاعظم من الشعب في جانب والرجعيه بشقيها القومي والمتشح بالدين في جانب اخر: تلك الرجعيه التي تريد عودة "ريما" الي احضان ذلك الثالوث المرعب متقادم المفاهيم: "العسكر والكهنه والرعيه الصامته": باعتبار ان هذا الثالوث -حسب ظن البعض- هو مصر وان الدكتاتوريه بالنسبه "للامن القومي" و"الهويه الوطنيه" و"الدروشه الباذنجانيه" اكثر امانا من ديموقراطيه ليبراليه قد تتخذ القرار وتجدد الافكار وتحاكم من بقي من الاشرار
والثوار التقدميون هم -بلا شك- صاحبو الانطلاقه والفضل الاول في هذه الثوره: ولمن نسي
ويخيل لي ان الوضع الحالي ليس انقساما سياسيا بالمعني المفهوم: وان راق للبعض تسميته كذلك: اذ انه ليس في رأيي خلافا بين مبادئ سياسيه او برامج وسياسات وانما هو انقساما بين عقائد وتفسيرات دينيه اثارها الفريق الرجعي من لا شئ تقريبا بحيث استطيع ان ازعم اننا اذا ما سمحنا باستمرارها سيستدرجنا هذا الفريق حتما مرة اخري الي مزيد من الجدل الديني بحيث تصبح الدعوه الدينيه من صميم اهداف الثوره: وهي ليست كذلك: اذ لم تكن الثورة يوما ثوره دينيه: واولئك الذين يرفعون اليوم شعارات دينيه (ظنا منهم ان هذا هو ميدانهم الذي لن يتجاسر احد علي الاقتراب منه) لم يرفعوها مع المراحل الاولي للثوره حين كانت الثوره بعد في مهدها وقبل ان تحقق اولي اهدافها باقصاء الرئيس المخلوع: اي بعد ان حررتهم الثوره من محبسهم الاختياري او الجبري فانضموا اليها: ما بين الخضوع التام للحاكم وتحريم الخروج عليه وبين الخوف منه وتكفيره هو شخصيا: ما بين تواجد محدود لم يكن ملحوظا قبل "موقعة الجمل" وبين ايحاء ما بتجاوب وتفاعل عقلاني منفتح مع الثوار التقدميين تحت شعارات علمانيه بحته (هي نفسها الشعارات التي يرفعها اليوم الثوار التقدميين من انصار الدستور المدني والدوله المدنيه دون اختلاف): وارشيف احداث الثوره شاهد وموجود
وهكذا فان الانقسام ليس بين فريق يريد دستور اولا واخر يريد انتخابات اولا
ولكنه في الواقع انقسام ما بين اناس يريدون تغيير سياسي واجتماعي واقتصادي حقيقي ومستمر وفعال وفي اطار من العلم والحداثه واناس يريدون المحافظه علي نفس الدرجه من الجهل والرجعيه بادعاء ان العالم –وليست مصر وحدها- علي ضلال وانه بحاجه الي من يهديه ويعيده الي عقيدته وشريعته الضائعه -من وجهة نظرهم- والتي قد تضيع الي الابد اذا لم يستمر فريق الرجعيه المتشح بالدين في موقع القياده–والسياده-بصوره دائمه! وهو امر مستفز طبعا وغير صحيح: فنحن لسنا كفارا وهؤلاء ليسوا علماء -ولا ساده- والعالم لا يمر بأزمه دينيه والشريعه ليست ضائعه: بل هي مجموعه من الهلاوس في ذهن البعض نشأت -ربما لقلة علم او في اطار بحث الانسان عن قضيه- وتتراوح كل واحده من هذه الهلاوس في درجتها-حسب الحاله-ما بين حده وخفوت: ورأيي ان الالحاد هو الذي يمر بازمه: وان الازمه في مصر هي ازمة فكر وعلم وتربيه ديموقراطيه وبذلك فهي ازمه سياسيه (اجتماعيه وثقافيه وتعليميه واخلاقيه) في المقام الاول: وبالنسبه لفريق الرجعيه المتشحه بالدين قبل غيره: فما من احد يريد انتزاع الدين –ايا كان مسماه- من حياة البشر: بل هناك من يريد فرض رؤيته الدينيه (تحت مفهوم مخادع وفضفاض اسمه الاسلام السياسي) ليحقق من خلالها اهداف نفعيه: سياسيه واجتماعيه واقتصاديه
وعلامة ذلك ان يخرج المرء بمقولات مثل: هذا هو الاسلام: وهذا هو القران: وهذه هي الشريعه: والاسلام هو الحل: ومن"لا يعجبه" الاسلام والقران والشريعه (يقصد فهمه الشخصي لهم) فهذه مشكلته (مرتد يقام عليه الحد؟ كافر؟ منافق؟)
بكلمات اخري: الانقسام هو ما بين اناس يريدون ان يفعلوا شئ حقيقي من اجل وطنهم واناس يريدون من وطنهم ان يفعل كل شئ من اجلهم: وفوق ذلك يفرضون عليه ما تيسر من ترهات فكريه ونظريات ملتبسه باسم الدين ليس لها اي اساس علمي او سياسي او حتي ديني في رأيي (الي جانب مكتب "الارشاد" خاصتهم طبعا)
فحتي وان انتهي العوز بالانسان الي ان يتخذ من الدعوه الدينيه صنعه للتربح والشهره: فينصب نفسه متحدثا رسميا للمله او ملاكا حارسا (بلا جناحين؟) للاصاله والهويه ولو استخدم في سبيل ذلك كافة الحيل لصرف الانتباه بمحفوظاته عن جوهر الرساله: او ليظل الناس تحت وصايته لاطول وقت ممكن باقل علم ممكن: فانه ليس من حقه ابدا ان يعيد الرساله الي محليتها وظروفها السياسيه الاولي (مع احترامي الشديد لتلك الظروف اذ انه لولا انها لم تكن ظروف باعثه بالكامل علي رضا الله: ولولا ان الله قد علم من اهل تلك العصور قصورا معينا او كره منهم سلوكا او فهما خاطئا تراكم عليهم وشغلهم عما هو حقيقي وقيم وجميل: لما كان من سبب لان يرسل اليهم نبي او رسول) فينزع عنها -مع كل ما لاقاه انبياء الله من عنت وبدائيه في سبيل نشر الرساله- ما حققته من نجاحات طوال قرون طويله جعلت منها ليس فقط "رسالة عالميه" وانما "رساله حضاريه" نفعت –وما زالت تنفع- الجنس البشري كله: بحيث تجاوزت شهادات الافراد والمجتمعات والدول ودلفت الي صميم الفكر والتراث الانساني والعقائدي: وان انكر ذلك من انكر
ورأيي ان الخلاف اذا ما ظل في اطاره السياسي فهو طبيعي جدا ومفهوم وغير ضار- بل نافع- وهو قديم قدم التاريخ: فالانقسام السياسي والتحزب والتفرع داخل الحزب الواحد ما بين يمين ويسار: معتدل ومتشدد: هو طريق التعدديه السياسيه وعلامه من علامات الديموقراطيه: وطريق التعدديه هو الذي سيضع مصر حتما امام خياراتها وتحيزاتها الحقيقيه: اذ ان الاختبار الحقيقي الصعب الذي يظهر من خلاله معدن الانسان الديموقراطي الاصيل: هو اختبار الحريه
اما خلاف العقائد والتفسيرات الدينيه او خلاف ما وراء السياسي فهو يتحيز رأسا وينتقل بنا –في طرفة عين –من السياسي الي العقائدي ومن الفكري الي العاطفي ومن الخاص الي الشامل (دون المرور حتي علي مرحلة العام): وهو خلاف –في رأيي- غير مناسب بالمره وغير مفهوم وضار ليس فقط لانه يفرض نفسه علي اهداف الثوره ويخرجها عن مضمونها السياسي والوطني: بل لانه يقود الي فتن دينيه خطيره حتي بين ابناء الدين الواحد (اخترعها طبعا الفريق الذي بني جل فكره علي التمييز والتكفير)
والدليل انه عادة ما يمتد هذا الخلاف الي اختلاف جديد بخصوص مفاهيم هي في الاصل علمانيه بالكامل ولا يمكن الاختلاف حولها والا خرجنا –مره اخري- عن اطار العلم والعمل السياسي (وعدنا الي المدرسه؟) وانا اقصد هنا اشياء كالديموقراطيه والدوله المدنيه: اذ غالبا ما تكون نتيجة اي حوار مع هؤلاء بشأنها هو في الغالب محاوله للاتفاق حول المفاهيم نفسها او محاوله لتلافي اتهام بالكفر او النفاق!
وطالما تحدثنا عن النفاق يمكننا ان نتصور–ولمن يهمه الامر- كم سيكون اشمئزاز الانسان عظيما لو علم ان النفاق هو ان يتصور الانسان ايمانه ممكنا عن طريق اجبار نفسه علي مبادئ ومشاعر معينه ليس لها قيمه وجدانيه او منطقيه حقيقيه داخله متصورا ان الشكل والناموس الطقسي كفيلان وحدهما بحل المشكله: ناهيك طبعا عمن يجهر بها كما لو كانت ارثا شخصيا له واضعا نصب عينيه –رغم ذلك- تحقيق مارب نفعيه معينه لا علاقة لها بمبادئ او مشاعر
ومره اخري لمن لم يتابع احداث الثوره او نسيها: استفتاء التعديلات باطل وغير دستوري لان الاستفتاء قام علي دستور سقط بفضل الثوره: وبالتالي فان كل ما هو مترتب عليه كالاعلان الدستوري باطل كذلك وغير شرعي ولا قيمة له: خصوصا اذا كان الاعلان يشتمل علي عدد اخر من المواد لم يتم الاستفتاء عليها: كما ان الرئيس المخلوع "تخلي" عن منصبه وسلطاته بطريقه غير دستوريه لجهه غير مكلفه بتولي الرئاسه حسب هذا الدستور: تلك الجهه التي اعترفت بالثوره (ومن ثم اعترفت تلقائيا بسقوط الدستور) كما فعل العالم اجمع
والاصرار علي نتيجة هذا الاستفتاء وما يسمي "الاعلان الدستوري" لن يغير في رأيي من الواقع شيئا: وواقع الحال يقول اننا نعيش اليوم بلا دستور وفي ظل ثوره مستمره وان "المجلس العسكري" ذلك الذي "استعار" الشرعيه دون استفتاء شعبي مسبق وواضح ومستقل: ينفرد بسلطه تتجاوز مهامه الاصليه المكلف بها حسب القانون بل ويخرج بمراسيم قوانين ومواعيد انتخابات دون استشارة الثوار: وكما يقال واقع الحال كفيل بأن يمنح الحقائق الف لسان
والرجعيه المتشحه بالدين خرجت –في رأيي- علي الثوره - وما كادت لتشارك فيها- حين خرجت عن اطارها السياسي وحين تشبثت باستفتاء باطل لدستور ساقط (بل وقد نجد منهم من يدعو -دون مواربه- الي عوده الدستور الساقط نفسه كما لو كان طريقنا الي سر الخلود): فيما خرجوا عن القانون الذي ينظم العمل السياسي حين رفعوا الشعارات الدينيه (ولا اعلم ما هو سبب صمت الحكومه حيال ذلك اذ يكاد هذا الصمت يصم الاذان!)
اما علي الجانب الاخر –تيار الرجعيه القوميه- فان مفهوم الثوره نفسه صار -بالنسبة اليهم- يحتمل التحريف والمغالطه واذا ما كان المرء حين يتحدث عن "الثوره" يقصد انتفاضه او حركه او انقلاب: واذا ما كان يقصد ثوره (ثم يصمت): فهل يقصد ثورة يناير المجيده المستمره حتي اليوم او ثورة يوليو 1952 (تلك الثورة التي لم يتحقق من اهدافها - في رأيي- ناهيك عن اهداف الشعب- الا القليل ولصالح المنتفعين بها علي مدي العقود: وهي ثوره بدأت عمليا علي مستوي الشعب في يناير 1952 ثم اكملها –اذا جاز التعبير- عبد الناصر وشلته من معجبانية سلاح "الفرسان" (وليس فرق واسلحة الجيش بالكامل): وربما لهذا السبب كلف عبد الناصر مبكرا صديقه الصدوق بقيادة "وزارة الحربيه"–بعد ترقيته خمس ترقيات دفعه واحده- ليؤمن له خاصرته ازاء اي محاولة انقلاب قد تظهر ضده من جانب الجيش: وهو ما حدث بالفعل (الانقلاب) من خلال حادثتين شهيرتين الاولي: ما سمي بتمرد سلاح المدفعيه (مع بداية تلك الثوره) والثانيه: بعد هزيمة 1967 مباشرة وقام به عبد الحكيم عامر نفسه للاسف الشديد) اضافه طبعا الي شلة عبد الناصر من المدنيين صنيعة "تأميم" الملكيه واملاك الشعب علي حد سواء: وكانت مهمتهم ان يؤمنوا له خاصرته –علي الجانب الاخر- ضد العسكريين!
والغريب ان البعض مازالوا رغم الهزائم المنكره والماسي الرهيبه القادره وحدها علي ان تتحدث عن نفسها- ربما بسبب الخيال الواسع او الزهايمر- اقول مازالوا- بمازوخيه مفرطه- يمجدون ثورة يوليو 1952 ويطلقون عليها "الثوره الام": وقل ما شئت عن الثوره الام والصقها ما شئت بتاريخك الشخصي كلما واتتك الفرصه فيما لم تشارك فيها اصلا! (ولا اعرف لماذا يروق للبعض التحدث عن "ام" ما لكل شئ كما لو كانوا يأبون الا ان يستعيضوا بهذا الحديث عن حنان مفقود!) فيما يبدو الامر لي وكأنه تشبث من جانبهم باجواء ماض عزيز عليهم الي حد انهم يرغبون في تكراره عشرات المرات ان امكن كيلا ينقطعوا عن التواجد فيه! وعذرهم ان ذلك الماضي شهد ازهي سنوات شبابهم –او ان شئت قلت سنوات "صباهم"- وانا اتحدث هنا عن اجواء كان يبحث فيها المرء لنفسه عن دور في "الليله"-اي ليله- وفقا لمبدأ: "زين البوصه تبقي عروسه" وان اكتفي –مضطرا- فيما بعد- بدور ارجوس حارس البوابه
ورأيي ان ثورة يوليو 1952 انتهت "رسميا" في مايو 1971 بعد ان انقلب ابناؤها انفسهم عليها فيما انتهت "عمليا" في يناير 2011 بثورة الشعب
ورأيي اذا كان لثورة يناير المجيده "ام" فهي مصر وشعب مصر وثوار مصر: ومصر التي اتحدث عنها لم تولد بعد
وان الانسان ليمر في رحلته الي الحداثه بمضللين وبمتاهات رهيبه اشبه بصحراء محفوفه بالمخاطر والتي لا يستطيع الانسان تصورها الا بعد ان يراها رأي العين: ونصيحه مخلصه لكل من تراوده نفسه الدخول في جدل مع احد السوفاسطائيين (او الذهاب في رحله عبر الصحراء) ان يتزود باقل المتاع والا فسيكون مرغما علي التخلص من معظم ما تعلمه -او قرأه- في حياته
اذ يبدو لي ان منطق ايجاد الحجه تلو الاخري لمجرد التشبث بالرأي يشبه مذهب بطليموس الطريف في ثبات الارض حين قال: "لو كانت الارض تدور–كما يدعي فيثاغورس- لكان ذلك قد تمخض عن عدد من الظواهر ينبئ عدم وجودها بأن الارض ثابته لا تدور": وان سميته منطق فقد فعلت بعد ان استبعدت من مخيلتي كل تعريف عرفه الانسان للمنطق قبل وبعد بطليموس
اذ ان الهم الاول للاراء المروجه للخرافات المعاديه المنطق والجوهر ان تخلصك من فكرك اولا كيما يتاح لها فرصة صب قوالبها كامله: كيما يصبح صاحبها قادرا علي ان يضرب في رأسك طولا وعرضا فلا تكون الغلبه الا له. ويسري هذا علي سائر شئون الحياه اليوميه بقدر ما ينسحب علي الحياه الفكريه والسياسيه
وهكذا فاكثر ما يتعين علي الانسان الاحتراز منه هو التردي في الانسحاب من عالم العقل: فما انقطعت الاسباب الا وتكشفت وان توارت لوهله خلف الحجاب
فالعواطف شئ حسن جدا وجميل وضروري خصوصا اذا ما كانت عواطف صادقه ولكن حتي العواطف الاصيله بحاجه دائمه الي عقل يحكمها والا تحولت الي شئ اشبه باحدي العاهرات او بضاعه مستعمله تتداولها الايدي من كل حدب وصوب: لذا فالانسان الواعي حاضر الذهن لا يتنازل ابدا عن عقله لعلمه انه بالعقل وحده يستطيع الانسان ان يفرق بين الغث والنفيس: الحقيقي والزائف: فيختار ما هو صادق وحقيقي
والانسان في كل مرحله من مراحل صعوده علي درج الهرم الفكري والمعرفي يتهيأ له ضبط درجة صعوده متي اراد من واقع الدرجه التي يهتم عقله بالصعود اليها: فكلما ارتفعت تطلعات الانسان -وارتقي في التجريد- كلما اقتربت افكاره الي النظره العامه (السياسيه) ثم الشامله (الاستراتيجيه)
والحق انه قد لا يتاح هذا الاختيار لكل انسان الا فيما ندر فالانسان السطحي مثلا المغرق في الملذات الجسديه و ضروب اللهو الصبياني المتحفلط في الاعتناء بمظهره علي حساب جوهره–كما لو كانت الحياه الماديه هي كل شئ- المنصرف تماما الي النفاق الاجتماعي والمجاملات الفارغه هو انسان غير قادر علي التعرف الا علي ما هو فردي وبديهي وشكلي وطقسي وامني واقتصادي من حيث انه لا يستطيع ان يمتد بفكره الي ما وراء ذلك: اذ تظهر قدرته علي مزاولة ملكاته العقليه في مرحلة العام (السياسي)–ولا اتحدث هنا عن مرحلة الشامل (المفكر) - ضعيفه
وهذا كله بسبب ان مرحله العام تتطلب درجه عاليه من درجات الموضوعيه والصدق مع الذات قد لا تتوفر له. اذ من الصعب علي البعض ان يتراجع او ان يبادر بالايمان بحقائق من شأنها–اذا ظهرت-فضح اكاذيب واخطاء وقوالب تقادم ايمان الناس بها وتبنوها لاجيال الي حد تراكمت معهم في وجودها منافع لا حصر لها من الصعب الاستغناء عنها
ولذلك لا يجب ان نندهش ان هناك اناس باعداد غفيره عبر التاريخ ممن عاشوا وماتوا بادعاء من تفوق عقلي او روحي دون ان يجربوا ابدا تجربة العام تلك –ناهيك عن تجربة الشامل- ولو مره! بما يجعل من هذا النوع من التجارب بالنسبة للبعض من اندر عطايا الطبيعه: لا لانهم لا يملكون المؤهلات العقليه والروحيه المناسبه - حاشا لله- ولكن لانهم لم يهتموا ابدا بخوض التجربه وتحمل تكاليفها
وهذا هو السبب ربما وراء النظره السلبيه التي يتبناها الانسان السطحي صاحب الميول الفرديه تجاه المفكر والسياسي بوجه عام اذ كثيرا ما ينظر اليهما نظرته الي "ديك رومي" لا يصلح ولا تتسني الافاده منه طالما كان حيا! فاذا ما افلت من الذبح والشي–لسبب او لاخر-ظل دائما وابدا مثار سخريته واستهزائه او هدفا للحشو والتسمين!
ولذلك فالنصيحه المناسبه دائما هي الا تنقطع عن الاطلاع والبحث والتفكير–كما ان لاعب الكره لا ينقطع عن التمرين- حتي لا يعتاد ذهنك علي البديهي والبديل علي حساب العام والشامل والاصيل وحتي لا تألف السير علي الدرب المطروق فتغترب عن ذاتك باقتفائك خطي الساذج والسطحي والدخيل
وهذا بالضبط ما كنت اعنيه حين تحدثت عن ضرورة تسلح المرء "بفكر سياسي" له رؤيه استراتيجيه عالميه لا تخلو من نظره اجتماعيه علميه و"حكيمه" لها مقدره علي الخروج بحلول واستنتاجات تجمع بين المثالي والواقعي وتتسامي علي الخاص من اجل الصالح العام ومن اجل مستقبل هذا الوطن
واعلم ان الانتهازيه لن تكف عن ان تبحث لنفسها عن دور او قضيه او منافع خاصه فرديه وهي بذلك كالطفيليات لن تتفق ابدا مع حلول عامه ومبادئ فكريه وانما مع ميول ضحله وقوالب ومحفوظات: من حيث انها تتواءم مع الانتصارات علي حساب الانكسارات باعتبار ان الانكسارات تعبير ضمني عن غضب الله (وهذا سخف طبعا اذ لم ينج من الابتلاء بها حتي الانبياء) ومع خوائهم واستعداداتهم الفرديه: لذلك غالبا ما تقف الانتهازيه عقبة كئود في طريق الانسان الشريف صاحب المبادئ لتعوق جهده ورغبته في نهضة بلده: فافكار وتصرفات الانسان الشريف صاحب المبادئ لا تعرف –ولا تعترف- بسمات الانتهازيه المخزيه ولذلك فان الانتهازيه تستعيض عن ذلك بانها لا تتوقف لحظه عن مهاجمته واتهامه في شرفه وكرامته: خصوصا اذا ما اتجه الانسان الشريف صاحب المبادئ احيانا الي الفذلكه والتعقيد والجدل الفرعي: فينال من النجاح اقل مما كان سيكسبه لو انه تصرف بصوره اسرع واكثر تركيزا (لذا –ولكي يتعلم من اخطائه- فانه يجب عليه ان يتصرف بصوره اقل ترددا واقل استعلاءا في المره التاليه)
او كما قال احد الحكماء: "الفكر الجيد يزداد جودة كلما كان مركزا وبعيدا عن الجدل الاجوف والعواطف المبالغ بها" (وهي نصيحه اراها ثمينه لمن يكره الصداع ومرارة الاسبرين في ان واحد)
لا مجال للعجب اذن ان يطل علينا بعض "الحانوتيه" من دعاة العسكره والحزم والضرب بيد من حديد فيذهبوا الي حد تشبيه ثورة مصر بلعبة شطرنج (اذا جاز تشبيهها بلعبه من اي نوع): فبعد تحليل عميق –وبعد درس في الشطرنج- الذي يبدو كما لو كان لعبتة المفضله- ينتهي "المحلل" الي تفويض مطلق للجيش ليقوم بدور اللاعب المهيمن الذي يخضع له الجميع فلا تمثله اي قطعه علي الرقعة فيما تقلصت مصر و"فصائل" الشعب فيما هو متاح من القطع كل حسب اهميته حسب رأيه. وليت الامر اقتصر علي ذلك بل تعداه الي حد انه اقترح ان يضحي اللاعب (الجيش) بأي قطعه فورا مهما كانت قيمتها في سبيل تحقيق الهدف (حماية الملك): بدعوي ان هذه هي الطريقة المثلي للعب الشطرنج
ولا تعليق علي اختيار الجيش بالتحديد ليكون اللاعب المهيمن فيما يتحول الشعب وثواره من مالكين اصليين لكل شئ- بما في ذلك الارض والنهر والجيش والشرطه والتاريخ- الي بيادق خشبيه لا يسمع المرء لها صوتا ولا يري لها حركه (ابعد من الحركه التي يحددها لها من يحركها) بل علي العكس يتم التضحيه بهم فورا في سبيل انقاذ البيدق الكبير (مصر)
وما دام الامر كذلك فلا تعليق علي طريقة اللعب منفردا فالمعروف ان لعبة الشطرنج هي لعبة بين طرفين وليس طرف واحد يحرك قطعه -وقطع غيره- كالمجنون حسبما يري دون منافس (اذ يغيب في هذه الحاله المغزي من اللعب: الربح او الخساره): الا ان عدم وجود تعليق هو ما يجعل لعبة الشطرنج نفسها كمثال اختيارا غير موفقا منذ البدايه: اذ يخيل لي ان اللعبة عباره عن معركه عسكريه ليس فيها ما يوحي بحياه اجتماعيه او سياسيه او اقتصاديه لمجتمع مدني وظيفة الجيش فيه ان يحمي حدوده ويحارب اعداءه لا ان يحكمه: علي عكس العاب اخري مثل لعبة الحضاره او بنك الحظ Monopoly او لعبة كرة القدم FIFA مثلا (بشرط ان يكون من حق اللاعب او الجمهور طرد حكم المباراه خارج الملعب واستبداله باخر!)
بما يوحي ان صاحبنا هذا لا يحلل الوضع في بيته او علي مكتبه وانما -في افضل الاحوال- بالمقهي المجاور. وهو ما لن يساعده في ان يجني من ثمار جهده هذا الا ما قد يحصل عليه احدهم في حال اذا ما فاز في مثل هذا النوع من الالعاب (شاي وليمون؟)
اما الشئ المزعج –والمخيف- هو اننا نتحدث عن رأي نخبة من المتعلمين المكلفين بتنمية ذوق ووعي وثقافة المجتمع
لا عجب اذن ان يخرج علينا في حومة تحليل المقاهي تلك من يدعي بكل ثقه ان "القوميه" هي البديل الامثل للتطرف الديني والتخلص مما سماه التبعيه كما لو كان التطرف القومي يختلف عن التطرف الديني: او كما لو كان الرجل يعترف –ضمنا- انه بصدد استبدال ايدولوجيه باخري اشبه بعملية غسيل مخ بحيث يكون الهدف الهاء الشعب بقالب عن اخر (وليس الايمان باهداف ومفاهيم ومبادئ القوميه التي يدعي القوميون انها نبيله)
وسؤال لمن يروج لقوميه جديده: اليس جديرا ان نعيد اولا تقييم التجربه القديمه والدور الذي لعبته جامعة الدول العربيه -ومنذ انشائها- فيها قبل الاقدام علي تجربه جديده؟ اليس منطقيا ان يذهب احد هؤلاء القوميون العرمرم الي صاحب مقولة "مصر امنا" مثلا –قبل غيره- ليستوضح اذا ما كان حقا –او هذرا- علي استعداد لاقامة قوميه حقيقيه؟ واذا كانت الاجابه هي نعم: ما هو موقف –وموقع- ما يسمي "مجلس التعاون الخليجي" من هذه القوميه؟ اذ يخيل لي انه لا يصح مناقشة "قوميه ام" دون ان نحدد موقف –وموقع- "الوطنيه الابنه" فيها
والاهم: ما الدور الذي يمكن ان تلعبه الديموقراطيه من خلالها؟
بكلمات اخري: ما هو رأي القوميه في النظم التي مازالت ترفض الديموقراطيه وتناصبها العداء سواء علي مستوي من يوفرون مأوي او مسانده عسكريه او مصدر تمويل لهذا الدكتاتور الساقط او ذاك او غيرهم من الاخوه الجزارين من قادة الدكتاتوريات التي مازالت قائمه الذين لا يتوانون لحظه عن سفك دماء شعوبهم امام عيون من يتفرجون عليهم –يوميا- من حولهم وهم بفرجتهم تلك وحدها - بلا شك- متامرين؟
او ان يقترح اخر -مع احترامي الشديد له- ان يتولي ضابط جيش بصرف النظر عن اسمه او خبراته السياسيه - وسواء مازال في الخدمه او تركها- رئاسة مرحلة انتقال البلاد الي دوله مدنيه ديموقراطيه!
وليس في اعتراضي علي تولي ضابط جيش منصب سياسي اي انتقاص من شأن ضباط الجيش او تحيزا ضد اي منهم ولكن لان ضابط الجيش -علي مستوي الجنس البشري كله- ليس من طبيعته ان ينشئ حوارا او ان يستمع لنقد او معارضه وذلك لارتباط ضابط الجيش بقواعد نظاميه معينه امنيه في مجملها لا علاقة لها برسم –وتنفيذ- برامج سياسيه لمدنيين وانما لها علاقه بالاوامر والضبط والربط وتسلسل القياده بحيث لا يجب ان نتوقع منه سوي ان يكون ملتزما بها (والا اصابته نوبه من تراخي وعدم يقظه وخسرنا بذلك جميع معاركنا!)
اذ يفسر ضابط الجيش–تلقائيا- ولاول وهله- النقد والمعارضه كما لو كانا تحديا له او خروجا علي اوامره او استهانه بها او تنازلا منه يتطلب شكر وعرفان. او كما لو كان محاوله للوقيعه بينه وبين غيره ("فصائل" الشعب ضد "فصائل" الجيش) لصالح طرف ثالث (اجنده؟) او هجوما علي المؤسسه العسكريه (التي ينتمي اليها) بوجه عام يقتضي دفاع ومن ثم عداوه شبه مطلقه (طالما ان الناقد او المعارض سيصر هو الاخر علي الدفاع عن حقه في نقد جيشه: في زمن تعاظم فيه دور العسكر في الحياه المدنيه الي حد انفرادهم بكل شئ تقريبا بما في ذلك السلطه والثروه والدين والوطنيه كما لو كانت تلك الاشياء تخصهم وحدهم: فيما تقزم الوطن وتاريخه بل وتاريخ العسكريه المصريه نفسها في مجموعه من الافراد وفي عمليات اكتوبر 1973 بالتحديد: في موجة سعار كان هدفها دوما المبالغه في تمجيد كل ما هو عسكري علي حساب ما هو مدني الي الحد الذي جعل من المؤسسه العسكريه –ويؤسفني كثيرا قول ذلك- اذ انها المؤسسه التي تخرج منها وينتمي اليها اقرب الناس الي- اشبه بدوله داخل الدوله او امتداد طبيعي للاستعمار القديم: مع ملاحظة انها فقدت بعد نجاحها في عمليات اكتوبر 1973 الكثير من اهدافها وان لم تتمكن وحدها–بمنأي عن الدبلوماسيه المصريه- من استرجاع الارض)
وهي نفس النتيجه تقريبا بالنسبه لرجل الدين المشتغل بالسياسه (او ذلك الذي بدأ صعوده الي العمل السياسي –ناهيك عن عالم المال والشهره- خطيبا مفوها في دار عباده): اذ انه غالبا ما ينتهي به الامر الي اوهام من نفس نوع اوهام مثالية القوه تلك التي تتولد في ذهن القائد العسكري (الذي يظن نفسه زعيما سياسيا) ولكن -هذه المره- لاسباب عقائديه
ومن هذا يتضح كيف انه ليس من قبيل المصادفات ابدا ان تجتمع رجعية الوطنيه العسكريه مع رجعية الطبيعه الشكليه للتدين في خندق واحد ضد الليبراليه او اي فكر تقدمي من شأنه تحريك البلاد الي الامام وسواء كان هدف هذا الاجتماع وطني او عقائدي او كليهما
وعلي اية حال لابد وان يتذكر كل تقدمي مخلص ان السبب المباشر في حالة الانقسام التي يعيشها المجتمع المصري حاليا هو خوف العامه البسطاء من ان تكون الافكار العلمانيه –مهما كانت درجة ايمانهم بها - ليست كافيه –كما قد يوحي لهم البعض- لارضاء الله (وان كانت كافيه طبعا لان تطل نظرية المؤامره برأسها –كلما واتتها الفرصه- لتحاول السطو علي الرؤوس وانتزاع الفضل من الثوار التقدميين الذين فجروا الثوره بشجاعه واذنوا بافول عهد الاستبداد: متجاهله ان الثوره وحدها هي التي وضعت حدا لحالة الاضطهاد والتواطئ الجماعي تلك التي كنا نعيشها والتي تسببت في اشاعة احساس زائف بوحدة الرأي لم تكن موجوده بالفعل: اجبرنا عليها الرئيس المخلوع)
ولذلك لابد وان يوضحوا لهم –في رأيي- ان الهدف ليس القياده في حد ذاتها وانما الهدف ان ننهض ببلادنا ووعينا واخلاقنا بصوره تمكننا من التحكم في حياتنا بشكل افضل في وجود العلم والدين: فالدين لا يتعارض ابدا –ولا يجب ان يتعارض- مع العلم ومع خير وسعادة وفلاح وتطور البشريه
وكما شرحت فان الانتخابات –حتي في حال نزاهتها- لن تتمكن وحدها من صنع ديموقراطيه وانما هي اداه من الادوات بحيث لا يصح ممارستها الا في وجود بناء ديموقراطي سليم يسبقها: فلن تتمكن الانتخابات –وحدها- من منع ظهور حاله جديده من حالات الاستبداد المقترن بالفساد كما انها لن تمنع ابطال الحاله القديمه من ان يتحولوا -مرة اخري- الي سياسيين.
بكلمات اخري: صندوق الاقتراع ليس مسابقه سحب يانصيب لمن يدركه الحظ وينتهز الفرصه: ولكن الفوز في الانتخابات هو –في رأيي- بداية الطريق الصعب نحو المسئوليه ونحو تفضيل العام علي الخاص والعلم علي الجهل والاهداف علي البرامج: بحيث يبذل المسئول المنتخب كل الجهد لتنفيذ الوعود التي قطعها علي نفسه لخدمة مجتمعه واضعا حقيبة ملابسه في مكان بارز بصوان مكتبه في استعداد دائم –ومنذ اليوم الاول- للرحيل
ولا اظن ان احدا يستطيع ان ينكر اليوم –مهما كان موقفه- وسواء كان موقفه هذا مبني علي عواطف هشه او اخري مدعومه بفكر- ان هذا الرئيس المخلوع بذل –اكثر من سابقيه- جهودا منقطعة النظير لكي تظل الافكار اليبراليه والتقدميه منفصله عن الغالبيه العظمي من الشعب هائمه خارج دائرة كل ما يخص الحياه السياسيه والعسكريه وداخل دائرة الفقر والعوز والكبت والظلم والقذاره والجهل والتطرف والمرض والركود: بحيث ظلت تلك الغالبيه تنظر الي كل نشاط علمي عقلي مبدع بوصفه ضربا من غرابة الاطوار: او مبعثا علي غضب الله: يحتقرون اولئك الذين استهدفوا المعرفه والحقيقه كما لو كان ما يفعلونه يخلو من اي ترابط او معني فلا يعد عملا يعود بفائده علي المجتمع: بينما يحصل علي التقدير كله وكل مغنم مادي ومكسب ادبي ومعنوي غيرهم من اصحاب الاعمال العضليه ومن الرأسماليين الاثرياء ممن ظلوا-وفقا لنفس الجهود- بمعزل كامل عن الشعب: منصرفين الي ماربهم الشخصيه من بيزينس وخلافه بحيث لا تتسق اقوالهم ابدا مع افعالهم: فاذا ما اضفنا الي ذلك افتقار تلك القله الثريه الي سلامة التقدير والمقدره الحقه في الحكم علي قيم الاعمال- و اردئها- وانغماسهم فيما انغمس فيه ذلك الرئيس من جشع وفوقيه: لادركنا المصير المحتوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق