"قال ما منعك الا تسجد اذ امرتك؟ قال انا خير منه: خلقتني من نار وخلقته من طين" (قران)
والسؤال: هل كان يمكن للشيطان ان يسقط في مأزق الفردوس المفقود بدون هذا الاعتزاز المفرط بالنفس؟ وهل اعتزازه بذاته –وان كان مبني علي اساس- يصلح لان يكون مبررا لتوريط الاخرين معه في الغوايه؟
في البدايه لابد وان نتفق ان اية محاوله للاجابه عن هذا السؤال سوف تفضي بنا مباشرة الي المبادئ الاولي لسيكلوجية الشر
بما يوحي ان الافتتان بالنفس والحرص الشديد -في نفس الوقت- وبشتي الطرق- علي اغواء الغير وان ادي ذلك الي الا يعترف المرء بنواقصه ويندم عليها وان ادي ذلك الي تدمير المعبد علي رأسه ورؤوس الجميع هي الفكره البكر والثمره الاولي وبداية الطريق نحو الشر (والجريمه؟)
في حالة الشيطان كان الخيار بسيطا: لكي يناشد كبريائه الذي هو الحياة نفسها بالنسبة اليه فقد وجد من عنصره–وعنصره فقط- ذريعه لان يتحدي اطروحة السجود:
اما الانسان -والانسان الحديث بالتحديد- فالمصير-وان كان مشابها- الا ان الدوافع اكثر تعقيدا بقليل:
انا خير منه: انا ابيض وهو اسود: انا خير منه: انا من عائلة كذا وهو من عائلة كذا: انا خير منه: انا مواطن اصيل وهو اجنبي دخيل (او هجين): انا خير منه: انا غني وهو فقير: انا خير منه: انا مؤمن وهو كافر: انا خير منه: انا رجل وهي امرأه: انا خير منه: انا وزير (او مشير) وهو غفير (او عاطل):
انه بدلا من ادراكه لحقيقة ان البشر كلهم مخلوقون من عنصر واحد ولاجل مهمه واحده هي التعلم والعمل والتحضر والبناء والتعاون والسعادة: ومجاهدة عدو واحد متمثل في الهدم والخوف والفراغ واليأس والقبح والسلبيه والانتهازيه (بحيث لا فضل لبشري علي اخر الا باجتهاده في المهمتين معا وبنفس القدر): بدلا من ذلك يفرض علي مجتمعه المزيد من مفاهيم التمييز والتعصب والرجعيه ايا كانت صبغتها وفقا لما يعتقده في نفسه من تفوق عقلي او جسماني او ثقافي او ديني
بكلمات اخري: "يتشيطن" الانسان حين يعجز عن ايجاد علاقه بين الروح والعنصر: الفرد والجماعه: الانتماء والموضوعيه:
كلما سقط في بحر غروره اسير غبائه وضيق افقه وتحيزه ليدرك ذاته ككل وليس جزء: رازحا تحت رحمة قضايا ثانويه للغايه وشكليه ومستنفذة الصلاحيه بحيث لم تكتسب قيمه الا بتقادم شهادته او شهادة الاخرين عليها (وليس لان لها قيمه حقيقيه) او لانها مرتبطه بالعالم المريض الذي بزغ منه والذي يحمله فوق رأسه بكل جراثيمه جاعلا منه منهاجا له ورفيقا لقدره لمجرد انه الف نواقصه ومفاهيمه المغلوطه
وهكذا تكاد تكون قاعدة بالنسبة لي انه كلما اطلت حالة من حالات الشقاء الانساني كلما كان من المتعين علي ان ابحث فورا –واشير- وانا معصوب العينين الي انسان فاشي متسلط
ولكن من هو الفاشي المتسلط؟
في البدايه لابد وان نتفق ان الانسان الفاشي المتسلط ليس بانسان عظيم ينشد العظمه: وانما -وفي افضل الاحوال- انسان عادى جدا -او أقل من العادي- حصل –بطريقه او باخري- علي مركز عظيم
لذا فهو غالبا ما ينظر الي الصفات التي تصنع العظمه مثل الصدق والامانه (اعتراف الانسان بالفضل وان ينسبه لصاحبه) والشهامه والموضوعيه والتواضع واتقان العمل (الخ) باعتبارها اشياء لا علاقة لها بالفطره الانسانيه السويه او اشياء قادمه من عوالم اخري غريبه لا تشبه عالم الانسان ولا تتوافق مع نوازعه بل حشرت عليه حشرا او ابتكرها الانسان -في افضل الاحوال- ليواري اهدافا مجهوله باخري معلنه (لا تتجاوز غالبا الغرائز الاساسيه مثل التغذي والتناسل الخ) وبالتالي فهي لا تستحق منه -ان لم يكن لها علاقة بما هو بصدده- اي اذا كانت لا تطعم جائع ولا تغطي عريان- الا كل تجاهل وانكار: او تقديرها وفقا لما تستحق باعتبارها ترف (اذا كان يقوي طبعا علي تحمل نتائجها)
والحق اننا اذا ما حاولنا ان نفهم الطبيعه السيكولوجيه لطريقة تفكير الطغاه والانسان صنيعة الطغيان ربما نعجز ولوجدنا انفسنا ولاول وهله امام حاله جديره بالدهشه والتأمل:
وليس غريبا فهذا "الفكر" لا يمت الي اللحم الحي بصله (ناهيك عن حقوق وحريات وحقوق انسان): اذ يقوم هذا "الفكر" اساسا علي ان الضلال في التغيير وان الخير في الثبات وان العجز والميل الي الخطيئه هو شئ فطري تماما متأصل لدي الانسان يوجه ارادته بما يجعل من المستحيل ان يقوم الانسان -علي اساس من طبيعته– وبدافع شخصي نابع منه- بما هو صواب (ناهيك عن ان يصبح مواطنا فاضلا مفكرا) لان شره الطبيعي لا يساعده: وبذلك فالنموذج الامثل لادارة شئون الانسان هو الضغط والكبت والحرمان والحشد والترهيب بعقاب
او كما في المزمور: "صرت كالبهيم عندك ولكني دائما معك" فلم يعد له من قوة الاراده ان يختار بل مثله مثل الحمار يترك نفسه لمن يمتطيه: فاذا ما اوقعه حظه العاثر في طريق الشيطان فكان الشيطان هو صاحب شرف "الركوب" فذلك لانه لم يجد من بني الملائكه من لديه الدافع في فعل ذلك: او هكذا فهموا المزمور
وهكذا قد لا تصبح الحريه في هذه الحاله اكثر من مجرد كلمه في مهب ريح عاصف من الكلمات او مجرد خيار من الممكن تفصيله او ترقيعه او الاستغناء عنه تماما اذا اقتضي الامر: طالما ان الانسان–وحسب هذا الفكر-لن يكون قادرا ابدا علي ان يتسامي علي منطقه الارضي (علي الرغم من اهميتة) في سبيل ادراكه لجوهر المحسوسات (اي ان يصبح انسانا مفكرا قادر علي ان يميز الصحيح من الفاسد فيدرك الكل وهو مجرد من المحسوس كما قال القائل)
بكلمات اخري: الفاشي المتسلط لا يؤمن بالعقل بقدر ايمانه بالقوه: ولا يؤمن بالمثاليات بقدر ايمانه بالماده: ولا يؤمن بالتعاون ومحبة الانسان بقدر ايمانه بالخوف والقهر: وبذلك فهو لا يؤمن بشئ الا اذا كان مرتبطا به وبشبكة مصالحه فاذا ما ارتبط الامر باناس "ليسوا هو" او ليسوا من شيعته فهو قبضة من تراب لا قيمة لها
وتتضح اكثر شخصية الفاشي المتسلط حين نتأمل مقولة لهتلر يشرح فيها الرغبة في السيطرة على أنها "نتيجة منطقية لصراع الأنسب والأقوى": انه يصبح في حاجه شبه دائمه إلى شخص يتحكم فيه حيث أن شعوره بالقوة يكمن في انه متفوق وانه سيد إنسان ما: فمن رغبته في السيطره يستمد لذته وأمانه
وسواء انتهج الفاشي المتسلط ايدولوجيه معينه (وطنيه او دينيه) او لم يفعل فهو يعتبر نفسه–وايدولوجيته- دوما علي صواب (فيما لا يكف غيره عن الخطأ؟) وهو في ذلك ليس في حاجة الي برهان فقوته وقدرته علي السيطره هي البرهان:
حتي في اسوء حالات عجزه وشيخوخته فانه يواصل نزوعه الأعمى نحو السيطره والانفراد بالرأي والسلطه الي ان ينمو هذا النزوع داخله الي درجه مميته الي حد يتجاوزه هو شخصيا ويشل قدرته علي الفعل والفكر والاحساس: وعند هذه النقطه تظهر ساديته ووحشيته الي اقصي درجه وينتشر سعاره ويصبح عدوانيا اشبه بمقامر او مدمن المخدر يفعل كل ما في وسعه وكل ما من شأنه الحصول علي "جرعته" في السيطره (وهناك علاقه -في رأيي- بين طول فترة هيمنة الفاشي المستبد علي رعيته وبين درجة عدوانيته وبين خضوع الناس له في نفس الوقت بحيث انه كلما طالت فترة حكمه كلما ازدادت وتشعبت روح العدوان لديه وكلما انتشرت مشاعر الخوف والكراهيه والشهوه للقوه والحنين للخضوع: وبالرغم من ان هناك دوافع معينه شائعه مثل توافر الاحتياجات الاساسيه مثلا من مأكل ومسكن وتعليم وحب وجنس تلعب دورا في تلك العلاقه الا ان الفروق بين الطغاه–في رأيي- غالبا ما تكون غير قائمه علي اساس: اذ ما هو الفارق بين قاتل ابدان بامتياز وقاتل عقول بامتياز او وسط ما بين الاثنين؟)
وليس غريبا والحال كذلك ان يتنازل الفاشي السادي المتسلط في سبيل ساديته ووحشيته عن اصدق المبادئ الفكريه والاخلاقيه التي طالما امن بها في شبابه او ان يصبح ما من احد قادر علي فعل شئ –اي شئ- دون اذن مسبق منه (دع عنك نقده او مساءلته او محاسبته)
وهكذا غالبا ما ينتهي الامر بان ينتهج هذا الانسان طريقة امساك العصا من المنتصف او "توفيق الاضداد" او "الصلح خير" او "المساواه في الظلم عدل ومساواة الحاكم بالرعيه ظلم" الي غير ذلك من صور النموذج الابوي التقليدي بدرجاته ومستوياته: بداية ب"سي السيد" علي مستوي الاسره ثم "عمده الزوجه الثانيه" علي مستوي القريه ونهاية بالفرعون المخبول ذلك الذي لا يكف عن تمثيل دور الاله Play God علي مستوي الوطن باكمله
اذ يصل في هذه المرحلة الي قناعة بان اولي خطوات صنع الولاء ان يكون هو نفسه فوق المبادئ الفكريه والاخلاقيه فالمبادئ بالنسبة اليه –في هذه الحاله- صارت من شأن الرعيه (لعب عيال؟) والفخ الذي لا يجب علي العاقل ان يسقط فيه:
وهو لا يكذب عندما يتحدث عن حبه لوطنه اذ ان هناك دائما شعور ما جارف بالحب لا يستطيع أن يحيا بدونه: لكنه في نفس الوقت لا يستطيع أن يحيا بدون شخص يشعر انه الاداه العاجزة بين يديه ولموضوعات تخصه وبناءا على شروطه.
فهو يهيمن ليحب ويحب ليهيمن وهو يرشد من يحبه الي الأشياء التي ترضيه وتضمن استمرار هذا الحب (والهيمنة) مثل المديح الدائم او التظاهر بالغباء أو بالحذاقه والذكاء او تمجيد التوافه من الافكار والاعمال واعتبار هزائمه نكسات او انتصارات: وهكذا حتي تصبح معادله الحب والهيمنه تلك لا شعورية تماما لدي العامه البسطاء إلى درجة انه لم يعد يطلبها بل يكتسبها كما لو كانت من قبيل المسلمات:
ولا فارق حينئذ بين زوجته واولاده وبين عسكري الخدمة الذي يحرس قصره ويتحمل سبابه أو حتى الشحاذ المسكين في الشارع الذي يضع في يده علما وصوره ودعاية انتخابيه (واحيانا رشوه) ويحثه –او يجبره- علي الخروج في مظاهرة لتأييده او التصويت له: فموضوع الحب هذا– بالنسبة اليه- كموضوع المبادئ والافكار- هو شئ نسبي تماما ومتوقف عما يمكن ان يعنيه هذا الحب واذا ما كان مصحوبا بولاء
وهكذا وككل حب مفروض من طرف واحد لا يطفو زيفه إلا عندما يواجه خطر الفصام وعندئذ يصبح تنازله عن منصبه مصدر قوته ضربا من ضروب المستحيل: اذ لن يحدث ذلك إلا بفصام قسري بائن اقرب الي الموت: لقد اصبح الموضوع شخصي جدا بالنسبة اليه فبدون احتفاظه بمنصبه مصدر قوته يصبح مفرطا في حق نفسه او بعباره اخري: يصبح "فاشلا" امام كل من اقنعهم بقدراته الخارقه
وكأي مرض نفسي او عقلي او روحي لا رجاء من علاجه الا بمعزل عن الأسباب التي ادت اليه
والفاشي المتسلط غالبا ما يعيش في عالم ظاهره رصانه وبراءه وباطنه سلسله لا نهاية لها من المكائد المدبره والدسائس الرخيصه والعواطف المصطنعة المقحمه التي يضعها جنبا إلى جنب بحيث ينظر فيها ولا يرى إلا نفسه.
والفاشي المتسلط غالبا ما يكون لديه قدرات اتصاليه او خطابيه فذة (او يكتسبها لاحقا من أناس حوله أكثر قدره منه وهؤلاء يصبحون بحق أصدق أصدقائه). وهو يستخدم هذه القدرات لغسيل العقول او حصرها في ايدولوجيا بعينها الي جوار ما تحمله خطبه –عادة- من تهديدات مبطنه وتهما مفبركه يمكن تفسيرها علي اكثر من وجه ووعود وايحاءات بمؤامره علي البلاد او لإيهام الناس بقدرات لا يمتلكها وبطولات لم يحققها.
ولا يجب ان تخدعنا صورة الراشد الرزين العطوف التي يحاول الظهور بها فهو في داخله صبي طائش اخرق بحجم رجل يعاني خواء نفسي وفكري ومعرفي وروحي رهيب وعلي نحو متضاعف (ربما نتيجة توقفه عن التعلم عند حد معين؟): واكثر من ذلك: يتوقع من الجميع ان يصبحوا مثله ولو علي حساب كل ما خبروه وفهموه من معارف: ولذلك فهو خطر
وليس من المستغرب ان يتملص من وعوده ومسئولياته ويلقي بها -في اول فرصه- في عرض الطريق فهو الي جوار انه يكره الالتزام بالوعود والمسئوليات يظن انه اكبر من الوعود والمسئوليات:
انه يدرك جيدا حجم التضحيات التي بذلها–او لم يبذلها- حتي حصل علي كرسي السلطه وان هذا الكرسي هو ما يجعل لحياته معني وقيمه ويعصمه–في نفس الوقت-من المسئوليه والحساب: ولذلك فاللعبة بالنسبة اليه ليست لعبة مناظرات او تحالفات او مبادئ ومعارك فكريه (هو في غني عنها وقد تنتهي بان يختار الناس من هو اكفأ منه) او ان يبدع برامج وسياسات ليحل مشكلات او ان يكشف عن حقائق ويصحح مفاهيم او ان يحاول تحقيق احلام الناس (ويحلم معهم): وانما هي لعبة نفوذ وشهره واكاذيب ومصالح ودفاع عن قوته وقوت عياله
وليس غريبا الا يكون هناك من فارق بين الوطن وأسرة الزعيم فالوطن هو اسرته واسرته هي وطنه او صار هو الدولة كما كان الامر في اوروبا القرن الثامن عشر:
او بعباره اخري: المنصب بالنسبة اليه ليس من اجل ان يخاطر به وانما لكي يحتفظ به فمن ارادة البقاء يستمد ارادة الحياه (ارادة البقره الحلوب؟) ومن المنصب يستمد قوته وسيطرته
وربما هذا هو السبب في ان الفاشي المتسلط غالبا ما ينتهج الاسلوب البوليسي المخابراتى في حكمه دع عنك طبعا السيطره علي مصادر الرزق (وما الي ذلك من وسائل توريط لمن حوله في الفساد) فحتي يحقق اهدافه (الهيمنه والولاء) فهو يستغل نقاط ضعف شعبه وكل من حوله اقصي استغلال: وسلاحه في ذلك طبعا هو اثارة الخوف من ضياع الرزق او من عدو خارجي (لا وجود له غالبا): فهو قادر علي ان يجرد الناس من كل شئ وفي طرفة عين (ليكونوا عبرة لغيرهم؟): فهو المانح وله الحق إذن في استعادة ما منحه على نحو كامل وبأثر رجعي
وطبيعي والحال كذلك ان يقضي جل حياته في محاولات متواصله لتبرير بقائه في السلطه علي انه جزءا من مصلحه عامه او انه الصالح العام نفسه (بعد ان تحول العام الي خاص طبعا) وان يسد كل السبل أمام ظهور منافسه او معارضه او ان يصف اي محاوله لاسقاطه–واسقاط نظامه- علي انها مؤامره او فتنه او تفتيت وتقسيم للوطن تمهيدا لتدخل خارجي او حرب اهليه لابد فيها من منتصر (فيما نجد ان نظامه تغذي–ونما- اساسا علي اغراق البلاد في هواجس فتن طائفيه وعرقيه بين ابناء الشعب الواحد والتخويف من ظهور–ولنتأمل التعبير- مصائب و"زلازل" اقليميه ودوليه في حالة اذا ما اختفي: باعتبار ان وجوده لا غني عنه او صار متساويا مع بقاء العالم كله)
فاذا ما قدر لاي معارض مستقل -بعد كفاح مرير- ان يفسح لنفسه مكانا او يكتسب شعبيه- سواء في ظروف طبيعيه –او بفعل ثوري- كيما يخدم وطنه في موقع الرئاسه: سرعان ما يصطدم بحاله هيستيريه من الهجوم والاستهجان والاتهام والاستخفاف به لمجرد انه تحدي "الزعيم": بحيث يكاد البعض يجرونه جرا ويفتكون به وهم معتقدين تمام الاعتقاد انهم انما عثروا فيه علي ضالتهم في عدو او محرض: فالزعيم -او الامام- غير قابل للاستبدال: وكلامه غير قابل للمناقشه: اذ لن يتمكن احد ابدا–مهما فعل-وكما شرحت-من ملء الفراغ المريع الذي سيخلفه في حال رحيله (متناسين ان "الزعيم" او "الامام" الملهم نفسه لم يصبح كذلك الا بناءا علي فراغ وبعد حالة استبدال غير شرعي لزعيم او امام باخر سواء بالوراثه او بانقلاب او بالنيابه او بالتزوير: وانه ما من فارق حقيقي بين الظلم الذي يتم في عهده او عهد سابقه او في فترات التحول والفراغ)
ولانه يظن انه مستحق لان تمتد حياته في الاجيال التاليه فهو يبحث–علي طول العالم وعرضه- عن قرين له فيه نفس صفاته يقع اختياره عليه ليخلفه: وقد تكون المواصفات المثاليه في هذه الحاله انسان يكون بمثابة التابع المخلص الامين والخادم المطيع وسندا وكاتما لاسراره والضد–في نفس الوقت-وعلي طول الخط- لكل من عداه بحيث لو قدر له ان يمتد عمره قرونا طويله فانه سيظل ابدا لدي الاجيال المتتابعه في نفس المكانه الرفيعه
ولكم يكون من الشائع والحال كذلك ان يكرس الحاكم الفاشي المستبد كامل جهده لتحويل المنصب الرئاسي الي مجرد وظيفه او عمل اداري بحت بكل ما يحمله من عبق الروتين والبيروقراطيه: بحيث لا يكاد يكون المرء قادرا علي التفرقه بين الرئاسه كعمل معاشي يتقاضي الانسان عنه اجرا نظير ما يقوم –او ما لا يقوم- به من واجبات (حسب المفهوم الوظيفي للكلمة): وبين الرئاسه كواجب وطني واخلاقي يتطلب علم ودرايه وجداره ومهارة اتصال وصبر وسعة افق ومبادئ فكريه سياسيه واقتصاديه واجتماعيه ذات رؤيه استراتيجيه تتجاوز حدود الايدولوجيات والمطامع الفرديه وتضع في اعتبارها اولويات المجتمع: وبين الملكيه الخاصه التي لا يصح ان تذهب الا لمن يختاره الرئيس او من هو قادر علي دفع الثمن: فبدون هذه التفرقه تتحول الرئاسه (ايا كانت الشعارات المرفوعه) الي مجرد وظيفه ميري او ارث شخصي ينتقل من شخص الي اخر
بمعني انه يكرس –بوجه عام- وعلي مستوي الشعب كله- الي سيكولوجية الموظف البسيط الذي اقصي ما يحلم به هو ان يحصل علي علاوه او مكافأة او تكريم او تحسين اجر او درجه والذي يري الفشل المطلق فيمن يفضلون الاعمال الخاصه او الحره (مع احترامي طبعا لفئة الموظفين: خصوصا اولئك الذين لا يستبعدون التقاعد او الاستقاله من حساباتهم ومن يرفضون "العمولات"): ليصبح المجتمع في هذه الحاله اسير مناظره حيه ما بين شخصيتين: شخصية "المنتمي" لوظيفه او عمل او جهه او شخص معين وشخصية "لا منتمي" ويلسون او ذلك الانسان النكره "الفاشل" في نظر مجتمعه –وحكومته- والذي لم يسعفه حظه ليجد وظيفه تلائمه -او لا تلائمه- او ان يهاجر كلية ليعيش جحيم خواء فكري ونفسي وروحي واقتصادي رهيب فيفتقد المغزي من الحياه نفسها او يتقزم المغزي في مجرد بقائه حيا! (وانا ممن يرون انه من الخطأ الجسيم اقحام التسامح علي الحقائق فنمتنع عن ذكر اساءة المسيئ ذلك لان ما من عمل مميز مبدع يخرج الي حيز الوجود الا متي وجد انسانا لديه من القدره علي الحكم علي الاشياء حكما جامعا شاملا: كما ان الذي لا يذكر سوءا لاحد لا يحق له ان يذكر خيرا فالحقيقه هي كلا الامرين معا السئ والحسن: والتأدب في دنيا الحق كائن دخيل غريب بل وعنصر بالغ الضرر في معظم الاحيان لانه يفرض علينا ان نصف الاعمال الرديئه او التافهه او السطحيه بعكس حقيقتها وهو ما يؤدي الي الاحباط المباشر للهدف من احراز كل ما هو جيد واصيل)
بحيث انه اذا ما قادت المقادير كلاهما (المنتمي واللامنتمي) او احدهما الي قصر الرئاسه سواء بمحض ارادته او بواعز من زوجته او لاداء مهمه تخصه او بواسطة احد اقاربه من العاملين او بغرض تلبيه دعوه بحيث تصادف ان تشابه اسمه -او قسمات وجهه- مع احد المشاهير او ظهر في احد برامج التوك-شو يمتدح الزعيم او لمجرد انه ضل الطريق: وحدثت المعجزه-وتهيأ له الشرف العظيم- واصبح-بين ليلة وضحاها- من المقربين يكون نموذجا حيا مناسبا لذلك الخادم المطيع
وهكذا ليس غريبا ان نجد انفسنا في نهاية الامر امام رئيس كان في وقت من الاوقات شبيها باحدي شخصيات نجيب الريحاني الهزليه والتي غالبا ما تنسب التفوق والقيمة الي الصالح والطالح معا حسب المصلحه او حسب نفوذ وثروة الانسان فيما تنسب الشقاء لرب العباد!
او ذلك الذي يسأل –اول ما يسأل- حتي قبل ان يستبدل "اليونيفورم" الميري كيف سيكون راتبه وحوافزه وبدلات منصبه الجديد: وفي اي درجه من درجات الميري: واذا ما كانت هذه الدرجه اعلي او ادني من الدرجه التي طالما حلم بها (فليس من المقبول ان يخدعه احد والا اصبحت مؤهلاته محل شك):
وانسان هذا شأنه لا يعتبر ان من مقتضيات واجبه خدمة الناس (كما يردد هو نفسه مرارا وتكرارا في خلواته): فهناك دائما من هو اقل منه في المرتبه من يستطيع –وعلي استعداد- ان بفعل ذلك نيابة عنه: بل العكس هو الصحيح اذ اصبح من الواجب علي الجميع التسابق في خدمته ومنحه قدر اكبر من المديح والتكريم بلا راحه وبلا انقطاع
فهو قد بلغ بالرئاسه –حسب رأيه- قمة الهرم الوظيفي ومن ثم يحق له التكريم: وليس غريبا ان تتحول السياسه–وفقا لهذا النوع من التفكير- الي لعبة كراسي موسيقيه او "مسرحيه" هزليه من مسرحيات النجم الواحد الرائجه هذه الايام او ان تختلط السياسه بالاقتصاد بالجريمه (خصوصا اذا ما نجح الطاغيه في تحييد تام للقضاء والبرلمان وافسادهما) وبالتالي مجموعه لا نهاية لها من "الصفقات" ودون حتي تقديم الحد الادني من الخدمات
لكن ويا لها من مفارقه: الفاشي السادي المتسلط غالبا ما يبحث عن شخص اخر مثله أقوى منه–واكثر ساديه وتوحشا- يستحق خدمته ليدين له بالولاء: حتي اذا ما اصبح هذا الشخص الاخر ضعيفا او فقيرا او ظهر من هو اقوي او اثري منه فانه يغير ولاءه فورا وبسرعة البرق وبدون تفكير إلى الشخص الاقوي او الاثري: وهو على استعداد لأن يفعل ذلك يوميا –عشرات المرات- إذا اقتضى الأمر. ولا يشعر بغضاضة فالمسأله في رأيه ليس لها علاقه بمبادئ فكريه او مشاعر انسانيه او قيم اخلاقيه او روحانيه او أية صفة شيطانيه بل هي نتيجة منطقيه واقعيه يشعر بان علي الجميع أن يفهموا ابعادها ومن ثم يحذو حذوه:
انه -في قرارة نفسه –وكما شرحت- صار لا يؤمن بان ما يفعله له علاقه بالخير او الشر: الخطأ او الصواب: او ان عليه الاختيار بين نقيضين: فهو الخيار الملائم الوحيد دائما وابدا: وهو اللحن الرئيسي في مقابل صوت الجوقه وعقرب الساعات في مقابل عقرب الثواني (ربما لانه لا يؤمن اصلا بالخطأ والصواب او الخير والشر؟)
حتي اذا ما دنت ساعة الحساب فان اول –واصعب- ما يمكن ان يسأل به نفسه هو: كيف حدث هذا؟ لقد فعل المستحيل من اجل الا يأتي هذا اليوم: وقد لا يتردد في هذه الحاله بالتضحيه بشعبه كله بما في ذلك أقرب المقربين إليه (إذا ما تأكد له انه–او انها-من الممكن أن يشكل خطرا او تهديدا او من "المتامرين" عليه) فهو لم يعرف قط قيمة الحياه -او قيمة الانسان- حتي يخشي عليه من الموت!
ومشكلة الانسان المتسلط -في رأيي- انه لا يملك حس بالتاريخ اذ غالبا ما يتصور التاريخ كائن خرافي أهوج يتحرك بعشوائية وطيش من اجل هدف نهائي مطلق هو عدم لا نهائي: وانه -لتحقيق هذا الهدف- يفعل ما يريد في الوقت الذي يريد متلذذا بإخضاع الجميع لارادته وارادته فحسب. وارادته هذه هي قصه طويله مؤلمه من الاسي والاحزان بل والرعب: وبذلك فالتاريخ –في رأيه- ما هو الا سجل لضروب المتعه العاجله او بما هو متاح منها وكذلك من العذاب والصراع والخداع والبشاعه والحطة والمذابح –والمحارق- الجماعيه المفزعه
وهكذا فان اكثر الناس قدرة على فهم–وصنع- التاريخ-في رأيه- ليس الاكثر تعقلا او الاكثر عذوبه بل هم الأكثر وحشيه وتعاليا: والأكثر حقارة ونذالة واستهتارا في نفس الوقت: اذ ان هؤلاء –في رأيه- خارج إطار محاسبة التاريخ لأنهم ببساطه مثله ويفعلون ما يفعل
وعند هذه النقطه غالبا ما يظن الفاشي السادي المتسلط ان التاريخ ما هو الا تكرارا لاحداث متشابهه (تماما كما هي قطع الزجاج الملون الذي يظهر في منظار الطيف بتشكيلاته المتباينه) بادعاء سخيف ساذج طفولي مثير للضحك ان التاريخ انما يكرر نفسه–اذا ما تكرر- تيمنا بحوادث وشخصيات بعينها تنال جانب من اعجابه او اعجاب عدد كبير من الناس ولذا وجب –في المقابل- تكرار ما فعلته تلك الشخصيات بحذافيره حتي يصبح الانسان في الجانب الامن علي الاقل: وهو مخطئ طبعا:
فالتاريخ لا يدعو الناس الي تكرار اخطائهم بل الارجح انه يمنحهم فرصة اخري نادره ليتجنبوا الوقوع في الخطأ وفعل ما هو صواب
كما ان الانسان لا يصنعه التاريخ فحسب فالتاريخ يصنعه ايضا الانسان
ويوم يصبح في وسع الانسان الاطلاع علي التاريخ اطلاعا كاملا وفهمه فهما موضوعيا وافيا فانه سيتعرف –حتما- علي نفسه ويكتشف جوهر وجوده كانه امام مراه: وكيف ان هذا الجوهر فذ وحتمي وله علاقه بفلسفة كامله لها مغزي ومعني ومسار ولها منطق يضبطها هو منطق الحياه او كما ذهب "هيجل": "المنطق العظيم" الذي يتحكم في الكون بحيث يجعل من عالم الانسان ليس سوي جزء بالغ الصغر في اله عظيمه لا يعلم الانسان منها الا ما هو علي مقاسه ولكنه رغم ذلك يعلم ما يكفي لان يدرك انه حتي وان كان هناك الم وخبث وصراعات وفناء في هذا العالم الا ان تاريخ الطبيعه –والكون- اجمالا- انما يتوجه نحو تطهر كامل من ادران هذا الخبث الذي يخلفه الانسان: اي نحو خير نهائي
اما الانسان الذي يصنعه "الزعيم" او "الامام": ذلك الانسان الموظف الذي تحدثت عنه منذ قليل: فهو انسان قدر له ان تكون خطواته اسرع من عقله وبصيرته اضعف–واقصر- من مدي رؤيته واحلامه لا تتجاوز كرشه! اذ اصبحت كل احلامه منصبه علي فعل كل ما يمكن فعله من اجل تسلق هرم -او جبل- حاجاته الذاتيه ظنا منه انه بهذا النوع من الارتقاء قادر علي النهوض بمجتمعه او اعانته علي تحقيق اهداف عامه ساميه كما اعان نفسه ومع ذلك فهو لا يرتقي الا كما يرتقي طابور النمل قدر العسل بحيث تتدافع كل نمله في حومة صعودها المحموم للحصول علي نصيبها من الغذاء ممتطيه ظهر اختها باعتقاد منها انها ستكون بتجاوز -او ربما سحق- اختها الضعيفه المحرومه اكثر قدره علي خدمة اهداف الخليه
انه ذلك المجتمع الطبقي نفسه المتمثل في عسكر وعمال وذكر خليع كل مهمته التزاوج والتكاثر وملكه تنتظر بكبرياء في مكان ما بعيد لا رابط بينها وبين ما يدور حولها –ومن اجلها- من تطاحن وصراع: ولا يغرنك ان ما يجري في عالم النمل له قيمه جماليه او روحيه من اي نوع فليس من شيم النمل احراز فضيله او انماء حقوق وحريات او اكتساب كرامه انما هو نوع من التعاون المتوحش القائم علي سخره ووصوليه ومجون وقهر وانتهازيه: بعباره اخري: القيمه الوحيده للتعاون في عرف النمل تتمثل في تحقيق الهدف: والهدف هو الوصول الي الطعام وجمعه باقصر السبل وفي اسرع وقت: انه الاسلوب الامثل للحياه في نظر النمل: تغذي بقدر ما تستطيع -ومالا تستطيع- قبل ان يتغذي غيرك عليك! وبذلك فما نراه من جثامين نمل طافيه علي سطح العسل ما هو الا نمل غرق في حومة نهمه حيث لم يجد من مغزي اخر بعد ان وصل الي القمة سوي الموت
فاذا ما طبقنا ذلك علي البشر فان اقرب مثال لهذا المجتمع-بلا شك- هو مجتمع السجون!
ولنتصور المشهد المدهش: قلعه ضخمه من الزجاج علي جزيره شبه منعزله (وان كانت عزلتها تلك معنويه اكثر منها ماديه) تحتوي علي زنزانات مفتوحة الابواب ومع ذلك لا يمكن للغالبيه العظمي من المساجين مغادرتها لان العالم الخارجي –من جانب- بالكاد يقبل ايدي عامله غير مدربه وغير متعلمه تعليم جيد (اذ ان عنده من المشاكل الاقتصاديه والاجتماعيه والسياسيه ما يكفيه): ولان السجان –من جانب اخر- يفتقد –بجوار الصدق- الي الضمير فهو لا يكف عن اخفاء اخطائه وانكار جرائمه والقاء مسئولية كل تصرف طائش يقوم به علي اكتاف السجناء فيفرض عليهم عقابا جماعيا الواحد تلو الاخر: وفي نفس الوقت يفعل كل ما هو مستطاع ليقنعهم بان كل ما يحدث بالخارج شر مطلق وان الاعداء يتربصون بهم في كل مكان بما في ذلك البلدان التي تقود الحضارة والحريه (باعتبار انهم يريدون اغواءهم باسم العلم والحريه) وبذلك فان عليهم حتي يهنأوا ان يسلموه–واعوانه- عقولهم وذاكرتهم فيقبلون كل ما يقدمه لهم –ايا كان حجمه- مغلقي الافواه (مع ملاحظة ان مكتب ادارة السجن هو المكان الوحيد المغلق دائما والمبني بالطوب): لا لأنهم لا يعرفون معني–او قيمة- الحريه ولكن لانهم صاروا –في رأي السجان وثلة الرجعيين المهزومين اليائسين - عاجزين عجزا مزمنا عن التخلص من سيكلوجية السجين (الخوف من الحريه؟) تماما كما ان السجان صار بدوره عاجزا عن التخلص من سيكولوجية السجان (والحرامي؟): وهم في ذلك–في رأي هؤلاء- ليسوا نملا فحسب وانما جراء صغيره ايضا اذا ما تحرك شئ نبحوا واذا ما ظل الجو ساكنا عادوا الي زنزاناتهم مجرد ظلال علي حائط!
حتي اذا ما اتيحت لهم –لسبب او لاخر- فرصة التحرر من السجن والثوره علي السجان ووجدوا انفسهم لدي اعتاب باب السجن اذا بطائفة الرجعيين –بانواعهم- يعودون اليهم ليسألونهم: ما الذي يدعوك الي المغادرة ؟ وهل ستضمن لك الحرية نفس حصتك (المجانيه) من الزاد وبنفس الجوده ؟ وهل ستكون قادرا علي الحفاظ علي تراثك وهويتك وعقيدتك ؟ (متناسين انهم انما اكتسبوا كل ذلك في واقع الامر في محبسهم وبالتالي فان غالبية ما اكتسبوه انما هو بالضروره نتاج سيكلوجية الاستبداد والفساد والخوف والعبوديه والجهل والانتهازيه والانغلاق والانعزاليه–اخلاق السجون-ولذا فهو في مجمله محل نظر)
وهكذا قد يكون من الصعوبه بمكان ان يسأل الانسان نفسه في هذه اللحظه بالتحديد اسئله بسيطه للغايه وخطيره في نفس الوقت مثل: من انا؟ وماذا كانت تهمتي؟ وماذا اريد لنفسي ولابنائي ؟: ناهيك عن ايجاد اجابه دقيقه لها
وليس غريبا فالانسان مدمن سيكلوجية السجين قد يفقد –الي جوار عقله وذاكرته وضميره- كل دافع حي يدفعه الي التقدم الي الامام: ولن يفيده في هذه الحاله الخروج من سجنه: اذ تصبح حريته لا قيمة لها ولا تعني شيئا بل ويمكنني ان ازعم بكل ثقه ان تلك الحريه لن تذهب به ابدا الي ديموقراطيه طالما انه اينما ذهب صار سجنا متنقلا لنفسه او طالما ان هذه الحريه لم تسهم بدور ما في تطوير ذهنيته وتنمية اليات متصله بها وقوانين للحفاظ عليها: بل والاسوء قد يعود به هذا النوع من الحريه الي الوراء فيستبدل سجان باخر او ايدولوجيا رجعيه باخري مثلها او ربما اشد رجعيه ليجد الانسان نفسه بدلا من العوده مثلا 50 او 70 او حتي 100عام الي الوراء اذا به وقد ولج لتوه الي عصر "مسيلمه الكذاب" حين كان المسلمون الاوائل لا يزالون يجاهدون للخروج من ظلمات العصور القديمه المحنطه (ايا كانت الصبغه التي تغلف الية تلك العوده: وطنيه او عقائديه):
انها الازدواجية نفسها التي تكتفي بمنح –او الحصول علي- جزءا فقط من كل شئ: جزء من الحريه: جزء من الكرامه: جزء من اهداف الثوره: جزء من العدل: جزء من المساواه: جزء من السعاده: جزءا من العلم: جزء من الديموقراطيه اذ ان كل ما يحركها هو بناء حدود وسدود واسوار لكي يحتفظ الانسان دوما بمنطق النمل: منطق الساده والعبيد: او منطق عبادة القديم (باعتبار ان كل قديم اصيل وان كل قديم مفيد):
وهي دائره لن يخرج منها هذا الانسان ابدا -في رأيي- خصوصا اذا ما ظل يلازمه اعتقاد واحساس زائف بالعجز والخوف او اذا ما ظن ان الديموقراطيه مقتصره علي الانتخابات (ناهيك عن طريقة الانتخاب نفسها والتي تعتبر مثلا ان انتخاب العلمانيين او غير المسلمين من شأنه "اغضاب الله" او نفاق او كفر او منح "الولايه"–وحسب هذا الفكر-لمن لا يستحقها) واولئك لن يسمحوا بتغيير الا اذا كان –بدوره- جزئيا او لن يسمحوا به مطلقا
انها ازدواجيه جبانه لا تثق في الحريه ولا تؤمن بخوض التجارب والمخاطر والمعارك الفكريه ولا تثق في اجيال جديده قادره علي تنمية وعيها واحلامها وقدراتها بطريقتها الخاصه وحسب مقاييس عصرها وعلي رأس ذلك لا تثق في قدرة الناس علي التمييز بين الخطأ والصواب: الخير والشر (بمعني انها لا تثق حتي في نوع التربيه والتعليم الذي تقدمه لابنائها)
بل وليست قادره-في نفس الوقت–وهذا يوضح قدر التناقض- علي ان تكتم حقدها وعدائها الدفين لتجارب الديموقراطيه الاصيله القائمه علي العلم والفكر والحريه غير المهجنه بالفتاوي والتطرف والتعصب.
واستطيع ان اذهب لما هو ابعد فاقول ان ثقة هذه الازدواجيه في قدرة التاريخ علي حكم الطبيعه وعالم الانسان ومعالجة مشاكله بنفسه–وهو قادر- غالبا ما تكون موضع شك (طالما انها تنتظر دائما مصيبه-او فوز غير مستحق- تجبرها علي التحرك في الاتجاه السليم)
بما يعني ان الدوافع التي تجعلها نصف-حره ليست دوافع اصيله نابعه من ادراكها لمشكلة الحريه نفسها وقيمتها وانما دوافع مصطنعه وعارضه غالبا ما يكون الباعث الاصلي من ورائها مصالح طارئه بحيث يظهر زيف هذا الايمان حين لا يتطابق مع هذه المصالح او حين تصبح الافكار التقليديه الجاهزه اقدر علي امداد الانسان باهلية صنع القرار وراحة البال او حين لا يكون قادرا علي وصف الانكسارات بصفتها انكسارات
وازعم ان هذه هي معضله المجتمعات التي تتحرر لتوها من الاستبداد والفساد: ولا اعلم كم من المرات تذكرت وانا اتأمل ما يحدث اليوم من ثورات في منطقة الشرق الاوسط مرحلة استعادة الملكيه في فرنسا (ارستقراطية القرن التاسع عشر) تلك التي ظهرت بعد سقوط نابليون الامبراطور (وليس نابليون الثائر) مباشرة اي بعد ان فقدت الارستقراطيه الاصليه -ارستقراطية القرن الثامن عشر فما قبله- امتيازاتها علي مدي ربع قرن من عمر الثوره الفرنسيه: فانتجت ارستقراطيه مفتعله من العسكر السابقين من "محدثي النعمه" (الذين كانوا يوما –كنابليون- ومحمد علي-من الطبقات الدنيا المضطهده)
وهي بالمناسبه مرحله لم تخرج في مجملها عن قصص لاناس من عوالم مجهوله بعيدة الشبه بعوالم الناس البسطاء–رغم ان ابطالها كلهم كانوا يوما منهم- اذ ظلوا يعيشون داخل قصورهم المترفه المنعزله بالكامل عن المجتمع بحيث لا يجمع بينهم سوي عواطف مصطنعه يغلب عليها طابع التكلف والركود والغرور والسطحيه والجشع المادي والانحلال الخلقي ومع ذلك ولانهم لم يكونوا قادرين علي مواجهة نظرات الخدم (ممن كانوا لا يختلفون عنهم كثيرا من الناحية الثقافيه) واستفساراتهم المكتومه عن مصدر ثرواتهم وحقيقة جرائمهم التي ارتكبوها لاكتساب هذه الثروات والحفاظ عليها: كانوا يدفعون مبلغا من المال لكل خادم -سرا- كيلا يحتزوا رقابهم اذا ما واجهوا ما واجهه لويس السادس عشر وزوجته عام 1793! (طالما ان عودة هؤلاء الشبان من الطبقات الادني ممن كانوا يتمتعون بثقافه عاليه -مثل روبسبيير ودانتون او حتي نابليون–مازالت ممكنه)
بحيث لم يختلف الحال –برأيي- في مجتمعاتنا عن هؤلاء الا بمقدار ما قضيناه منذ عصر محمد علي والي اليوم بلا حريه: أي ما يتجاوز قرنين من الزمان: بمعني اننا امام قضية استبداد وفساد مفزعه وبمعايير تاريخيه: تعرضت من خلالها مجتمعاتنا لظلم مروع –مصحوبا بعنف وقتل وخسه ووحشيه بما لا يقاس- بحيث امتد هذا الظلم وتواصل الي حد انه امات لدي بعض المعاصرين مشاعر الظلم نفسه واخرس الالسنه فاعتاد جانب من الرأي العام دوما علي الا يقف في وجه الظلم ويطالب بالحقوق: فيما يقضي الانسان حياته كلها متصورا انه لا يملك امكانات كافيه تؤهله لتغيير شامل كامل باعتبار ان العدل–ومرة اخري-وان كان مصحوبا بقسوه وعنف وانتهازيه وجهل وانتهاك حقوق انسان اهم من حريه وكرامه وعلم ومساواه: وهكذا فقد اصبح علي هؤلاء ان يختاروا دوما ما بين مزيد من العدل المستبد او قليل من الديموقراطيه
وفي هذه الحاله يمكنني ان افهم ان القيمه الوحيده من الانتخابات الحاليه هو الهاء الشعب وتوجيه انتباهه وطاقاته باتجاه "بشائر" ديموقراطيه التي لن تزيد طبعا -وباي حال- عن كونها بشائر (لمجرد ان الانتخابات ليست مزوره هذه المره مثلا: وكأن مشكلتنا كانت –فحسب- في معضلة تزوير الانتخابات) الي غير ذلك من قضايا لا علاقة لها لما نحن بصدده من تغيير شامل كامل من قريب او بعيد: لا لشئ الا لان الانسان لا يمتلك شجاعة كافيه لمكاشفه اخطائه امام نفسه وامام الاخرين او لانه لا يملك حاسة التدخل المبكر لوضع خطط وحلول لمشاكله او الاستعانه بخبرات الاخرين وبشئ من التواضع والموضوعيه والمسئوليه ودون ان يكون هم الانسان الاول اكتساب شعبيه (هي شعبيه رخيصه –برأيي- ومفضوحه وتكاد تكون دوافعها غير اخلاقيه اشبه بممثل سئ دخل مجال التمثيل بالواسطه -او بالصدفه- واظهر ثقل ظل عرفه القاصي والداني ومع ذلك مازال متشبثا بالتمثيل والتمثيليه:
والحق ان الشعبيه لا تجئ الا عن طريق عمليه بطيئه غايه في التعقيد: اذ لا يكفي ان يكون الانسان مشهورا مثلا ليحصل علي شعبيه: خصوصا اذا ما تم ذلك في بيئه يكثر فيها اولئك الذين يتلقون الاوامر بشكل واسع: اذ نجد في بيئه كهذه الشخص متوسط الذكاء مثلا يظل طوال حياته يحاول ارغام شخص اخر اكثر تميزا–خطوه اثر خطوه- كما لو كنا بصدد عملية ترويض- علي تقديم الولاء له- فيما يقف فوق رأس هذا الشخص نفسه ليخبره ماذا يفعل (ودون ان يعترف له بفضل) وهكذا تستمر العمليه حتي ينتاب الجموع احساس ما عارم ناجم عن شبه اتفاق بالقرف: وذلك هو بالضبط وضع كل شعبيه غير اصيله لا يستحقها من يحصل عليها: اذ سرعان ما يكتشف الناس الحقيقه –وهي ظاهرة لا محاله- فتقل شعبية الانسان متوسط الذكاء وقد تتلاشي تماما في لحظة واحده فيصبح مكروها وتصبح شهرته نقمة عليه اذ ان مالا يعرفه هذا النوع من الاشخاص متوسطي الذكاء ان القانون الطبيعي هو ان الشخص الذكي يميل الي مصادقة من هو ذكيا مثله: لذا نصيحتي دائما للانسان النابغ الذي تأخرت عليه شعبيته وشهرته: لا تيأس: والي ان يتحقق لك ما تستحق فانه يجب عليك –حتي وان كنت قد اجتزت كل المراحل بنجاح- الا تفقد تركيزك ورشاقتك وثقتك في نفسك واحساسك بالتوقيت واكثر من ذلك الا تفقد ايمانك بمن تكون ومحبتك لمن تحبهم ويحبونك حتي تتضاءل العوائق وتحصل علي ما تصبو اليه: او تجد من تتوافر لديهم من الامانه ما يجعلهم يرجعون الفضل لصاحبه)
ولا اعتراض لي علي فكرة الانتخابات او موعدها وانما اعتراضي ان تجري الانتخابات علي طريقة "بختك يا بو بخيت" دون اعداد ديموقراطي جيد للمواطن العادي وباقل قدر من الثقافه والوعي السياسي (بل والديني) وفي ظل حالة غموض رؤيه وانتهازيه سياسيه (اذ مازال الدين يستخدم في السياسه علي مرأي ومسمع من الحكومه وعلي خلاف القانون بل ان بعض الاحزاب ذات الصبغه الدينيه لم تتعهد -الي اليوم- في برامجها باحترام حقوق وحريات المرأه والاقليات وحقوق الانسان والاتفاقيات الدوليه: وهذا برأيي لا ينبئ بتعدديه سياسيه وتبادل سلطه وانما "صدام ديني حضاري" سيبقي دائما وابدا طالما ان الوعي السياسي والديني مازال غائبا او بكلمات ادق: طالما انه يحصل علي مالا يستحق من المديح والاطراء)
وفي ظل غياب امني وحكومي شبه تام (ربما بسبب انه مازال لدينا حكومه "ناني" قليلة الحيله (و"ناني" بالمناسبه هو اكثر الالفاظ تأدبا) لم تجرؤ يوما-وطوال الاشهر الماضيه- علي محاولة اكتساب سلطات تمكنها من اداء مهامها او مجرد لفت نظر المجلس العسكري الي مسئولياته الامنيه والوفاء بها: تلك المسئوليات التي صارت-ومنذ بداية الثوره- ضمن جداول اللوغاريتمات)
فاذا ما ادخل المتابع الكريم كل هذا في اعتباره فانه سيدهش لا لتباطؤ الحكومه في بلوغ الديموقراطيه (ناهيك عن سائر اهداف الثوره) بل لان البعض ظن انها ستدركها اصلا: فما ان ينقلب السحر علي الساحر ويتبدل الهذر جدا وتزحف النيران ويمتد حريقها الي يد من اشعلها وتقوم قائمة ميدان التحرير اذا بنا نجد من يدعو الي فرض حل امني جديد او تشكيل حكومه جديده يصبح علي رأس مهامها–مرة اخري- الامن والاقتصاد فيما يصبح علي الشعب البحث عن "مثيري الشغب" المجرمين الذين حاولوا افساد "عرس" الديموقراطيه (بضم العين) والاضطلاع بمسئولياته–في نفس الوقت- في –احم- "تربية الاولاد" (بأعتبار ان الثوره هي التي افسدتهم) ثم لا بأس بعد ذلك من الظهور بمظهر البطل المغوار الذي حمي الثوره والشرعيه والمباني الحكوميه من البلطجيه الاشرار "المنقضين علي الثوره" بالداخل والخارج (وان تسبب ذلك الاستهتار المغلف بالاجرام في استشهاد العشرات واصابة المئات)
وهكذا في وضع كهذا ليس غريبا ان يجد الثوري والسياسي والمفكر-والانسان الذي لم ينجب اولادا- نفسه وقد حشر حشرا وسط حومه اعصاريه منعزله كل همها استدرار صمت "الشرفاء" والايحاء –وبعد كل مصيبه- بان الامور ستجري علي ما يرام حسب "خريطة الطريق" او انها في ايد امينه (باعتبار ان امينه اخت شريفه) : وليس غريبا والحال كذلك اننا كلما خطونا خطوه اذا بنا نعود-تارة اخري- الي نقطة الصفر لنتحدث عن هدوء واستقرار وضبط نفس الخ وكأن شيئا لم يكن
وانني –وايم الحق- لفي شك مريب من ان ارباب المعاشات قادرون علي صنع ديموقراطيه فالديموقراطيه لا يصنعها اناس نشأوا وقضوا عقودا طويله في خدمة الدكتاتور -واسرته- دون ان تظهر علي اي منهم اعراض الثوره (او حتي مجرد نزلة برد): او من درجوا علي احتقار شعوبهم والبحث عن اقصر –واعنف- الطرق للنجاة من المحاسبه
والارجح ان البعض مازالوا يظنون ان الديموقراطيه هي الانتخابات (الاولي والاخيره؟) وان الانتخابات حتي تكون حره فانه يجدر بها ان تكون بلا وعي وبلا قانون وبلا اخلاق اي دون اعداد جيد للمواطن علي جميع المستويات معرفيا وفكريا وذوقيا وروحيا: بحيث يستطيع المواطن ان يدرك الفارق بين السياسي والوطني والديني والاخلاقي وبالتالي يحكم حكما جيدا علي من هو قادر من السياسيين الاضطلاع بالعمل السياسي اكثر من غيره ودون ان يضطر الي خوض جدل سوفاسطائي في كل مره بشأن المفاهيم
ولا ينبغي لنا ان نتعزي عن تلك الحاله المؤسفه من اعادة تدوير المفاهيم وتفصيلها علي مقاس اصحابها علي اساس انها ستستمر او علي اساس ان السواد الاعظم من الناس لا يكونون احكامهم وفقا لتفكيرهم الخاص وانما وفقا لاحكام من الثقاة ممن يظنون انهم اقدر علي الحكم منهم -وان لم يكن الامر كذلك- فالناس البسطاء غالبا ما يكون لديهم بعض التشكك ازاء ادراك ما في السياسه –ومصطلحات السياسيين- من تعقيد خاصة اذا ما تعمد حفنه من المضللين تبسيط المعقد وتعقيد البسيط او لصق ثقافه متطرفه ومعرفه محدوده–وما هو اندر نفعا –واقل صدقا من هذا وذاك-بالسياسه والدين
او الاستمرار -ولاخر قطره في دمه- علي وصف العلمانيه والدوله المدنيه بالكفر والالحاد (وهما كفر طبعا بالنسبه لمن لا يعلم ومن لا يهتدي): او المناداه بنظام مختلط (كشري يعني) ما بين برلماني ورئاسي عن طريق توزيع المهام ما بين الرئيس ورئيس الوزراء متجاهلا ان هذا الكلام لا معني له مطلقا في دوله ذات تعدديه حزبيه اذ انه يفترض مسبقا الا ينفرد حزب واحد ابدا بادارة الحكومه ومن ثم تنفيذ برنامجه كاملا: بمعني اننا سنعيش -في ظل هذا النظام- حكومة وحده وطنيه علي الدوام نحاول من خلالها التوفيق بين الرئيس ورئيس الوزراء!
او التمادي في التغزل بالشعب بلا وعي كما لو كنا قد انتقلنا من مرحلة رياء السلطه الي مرحلة رياء الشعب متناسيا–صدفة او عمدا- اننا مازلنا بعد في البداية وانه مازال امام الناخب المصري طريق طويل لكي يكتسب الوعي السياسي والثقافي كيما ينتخب وفقا لمبادئ وبرامج سياسيه بحته
او وصف الناخبين بانهم كل الشعب -او كل الناخبين- في جميع مراحل العمليه الانتخابيه- وهم ليسوا كذلك- بل واكثر من ذلك يستدير –هو نفسه –علي الجانب الاخر- الي ميدان التحرير فيستهين بمليوناته ويصف الثوار بصفتهم لا يمثلون الشعب بما في ذلك ما يسمي الاغلبيه الصامته (ولا احد يعلم من بالضبط من حقه التحدث نيابة عن اغلبيه صامته واذا كانوا صامتين فلماذا لا يتحدثون بل لماذا يجب ان يتحدث احد نيابة عنهم اصلا؟) ظنا منه انه قادر بذلك علي خداع الناس او ان جهله وانتهازيته من الممكن ان يظلا خافيين (وهو واهم طبعا فما من جهل او انتهازيه الا ويتكشف امرهما شأنهما في ذلك شأن كل شئ زائف وغير اصيل: ولو بعد حين)
ولابد وان اشرح هنا ان ما يحدد درجة رقي او تحضر اي شعب او حكومه هو حرص الناس علي تكريم الشهداء والمصابين والضعفاء والمحتاجين والعنايه بهم –ناهيك عن اولئك الابطال الذين ضحوا بحياتهم او اصيبوا اثناء ثوره او معركه حربيه- اذ ان هؤلاء هم شرف الوطن وكرامته ومن ليس قادرا علي ان يصون شرف وطنه وكرامته يصبح مبدأ صيانة الشرف بل ومناقشة المبدأ معه -بوجه عام- محل جدل
والمفاجأه ان الثوره مستمره وان لها رساله واهداف وان اهدافها كلها مشروعه وان الرجال والنساء الشجعان الذين قاموا بها –ومازالوا- لديهم من الصلابه ما يجدد ارادتهم ذاتيا علي الدوام بحيث يصبحون اكثر عزيمة واصرارا علي التضحيه في سبيل ما يؤمنون به كلما مر الزمان: لقد صاروا مصدر الهام: والفارق كبير -في رأيي- بين ملهم ومستلهم: او بين محبه طوعيه للوطن وخوف منه: او بين اناس لا يحركهم سوي الضغط والاهداف الفرديه والفئويه واناس يحركهم الفكر والمبادئ الاخلاقيه والصالح العام ومستقبل الوطن
واري انه من المهم ان الفت النظر هنا الي ان التحيز الي الانسان المتميز وتكريمه وبناء نوع من الشراكة–والمصارحه- معه لا يتناقض مطلقا مع مبدأ المساواه: فمبدأ المساواه يضمن مساواه في الفرص والحقوق والحريات الاساسيه دون تحيز لعرق او جنس او نوع او ثقافه او دين او طبقه (وهي تشمل طبعا من يدير شئون البلاد كما شرحت): وبذلك فالمساواه لا تعني ابدا اضاعة مبدأي التميز والخصوصيه Indviduality او تدمير روح النضال والمبادره والمنافسه واضطهاد اصحابها: فليس من العدل او المعقول ان نساوي بين العلم والجهل او بين الذكاء والغباء او بين السلبي والايجابي او الخطأ والصواب او الخير والشر او التقدم والرجعيه: كما انه ليس من العدل ان نساوي بين الثائر الذي يسعي الي تنمية ذوقه وذوق مجتمعه والنهوض به وتحريكه الي الامام وبين المنساق لمغريات السلطة والمال والخمول ذلك الذي لا ينزعج من فكرة الخضوع لسلطه مهيمنه رادعه علي الدوام وان اضطرته الظروف الي ان يخلط بشكل شبه متعمد بين الاستقرار وبين الركود والسلبيه واللامبالاه:
بما يعني ان حرمان الفرد المفكر الواعي الساعي للتفوق من حقه في التكريم بناءا علي تفوقه (ثم تشجيع الجاهل علي جهله والكسول علي كسله والرجعي علي رجعيته والغبي علي غبائه والانتهازي علي انتهازيته) هو في حد ذاته حرمان للمجتمع من عقله وقلبه وضميره (روحه؟) وتجريفا لقدراته (والا اصبح التعليم الاساسي مثلا –وحسب هذا الفكر- نوع من الترف بحيث يتساوي فيه المتفوق وغير المتفوق)
ولنتشه وصف طريف–علي لسان زرادشت- يصف فيه الانسان الساعي الي الكمال كما لو انه بهلوان سيرك يسير علي حبل مشدود بين برجين في مقابل حشود من الغوغاء من رواد السوق ممن يقفون علي الحياد مراقبين يلهثون تحت وطأة العديد من الاراء الدارجه واحكام الثقاة والتكهنات ينتظرون بلهفه عبور البهلوان الي الجانب الاخر ليصفقوا له اذا ما نجح (او يسخروا منه اذا ما فشل): ولكن وفي تلك الاثناء قد يحدث شئ فبينما هم واقفين–ومازال نتشه يتحدث- قد يطور احد المهرجين من اصحاب الدم –والعقل- الخفيف في نفسه شعورا ما بالمشاركه وهكذا قد لا يسلم الامر من قفزه مباغته يستقر بها المهرج علي كتفي البهلوان المسكين فيصبح البهلوان بذلك امام تحد جديد: اما ان يتوقف قليلا ليزيح عبئ الوافد الدخيل المتمثل في ذلك المهرج الحشري الذي قفز علي كاهليه (ثم يستجمع قواه تارة اخري ويكمل الرحله) او يكمل رحلته علي اية حال مجازفا باحتمال تأخره عن منافسيه او تعثره لتزل قدمه ويسقط من عل
والحكمه هنا هي: كما ان قفزه عارضه سخيفه من مهرج جاهل مغرور قد تتسبب في تعطيل –او اسقاط- انسان متعلم متميز مجتهد يعرف طريقه ويدرك ما يجب عليه ان يفعله فان اطمئنان الانسان المبكر بعبور امن دون اسباب كافيه تدعوه لذلك قد يتسبب ايضا في سقوطه وهو بعد في منتصف الطريق: لذا لزم علي الانسان النابغ المتميز ان يكون مستعدا للتعامل مع كل الاحتمالات
او كما قال "ميشناه" الحكيم: ان لم اكن لنفسي: فمن سيكون لي؟ وان كنت فقط لنفسي: فماذا انا؟ وان لم يكن الان: متي؟
لابد وان يكون في استطاعة ثوار التحرير (في القاهره والمحافظات) الذين حرضوا وبادروا وناضلوا وقادوا الشعب–والجيش-الي الثوره ان يقرروا اذا ما كانوا سعداء–او غير سعداء- بالاجنده الحاليه للتغيير او اذا ما كانت الاجنده تتناسب–او لا تتناسب-مع طموحاتهم السياسيه والاجتماعيه والاقتصاديه وطموحات شهدائنا (ناهيك عن اجيال المستقبل)
لابد وان يكون في استطاعتهم ان يشعروا انهم اتخذوا القرار السليم حين فضلوا مصلحة البلاد علي مواجهة ما بدا في حينه–والي اليوم- وكأنه تطوع جبري اقدم عليه العسكر-اشبه بهاجس قهري- لادارة المرحله الانتقاليه منفردين وما يكون قد كلفنا هذا من اعباء اقتصاديه وامنيه مؤلمه (ظهرت مؤخرا في الموجه الحاليه من حشود المصابين والشهداء الابرار نتيجة الاستخدام المفرط للقوه مع المعتصمين والمتظاهرين والاستهانه بارواح –وجثث-المواطنين العزل) لمجرد انهم بدوا -الي وقت قريب- ملتزمين بعدم توجيه سلاح –ومدرعات- الشعب الي الشعب
واجد صعوبه بالغه في حصر عدد المرات التي اقترح فيها الثوار ونخبة السياسيين والمفكرين–طوال الاشهر الماضيه- حلولا استراتيجيه وسياسيه –ازعم انها كانت هامه للغايه- لادارة المرحله الانتقاليه او حتي مجرد تعديل المسار المريب المعوج الذي مضينا فيه دون ان يجدوا علي الجانب الاخر–للاسف الشديد- من يملك ملكة الاستماع او عزيمة التغيير او شجاعة الاعتراف بالاخطاء واصلاحها
او تلك التي قارن فيها البعض انفسهم باخرين من دكتاتوريات مجاوره تخوض –ومازالت تخوض- حروبا ضد شعوبها فيما تترنح في طريق سقوطها المحتوم علي طريقة فرعون: "اغرق ولكن لن اغرق وحيدا: وانما ساخذ جيشي معي" او "اسقط ولكن لن اسقط دون ضجه": دون ان تتحول انظارهم ولو مره باتجاه التجارب الديموقراطيه الاصيله او تلك التي تحولت حديثا الي الديموقراطيه: متناسين اننا قمنا بثوره وان ثورتنا –وكما هو مفترض- نجحت وان المطلوب هو تطوير هذا النجاح
ولذلك فالسؤال الذي اجده ملحا اليوم في نظري هو: هل مجلس "لم ولن ولع" (ذلك الذي يروقه جدا ان يصبح "مجلس قيادة الثورة") سيكون باستطاعته التجانس مع دوره الاصلي في الحكومه–والدوله- حسب المقاييس الديموقراطيه الجديده والتي ستحتم عليه الاستغناء عن غالبية ما اكتسبه في عهود قديمه من امتيازات ثم العوده ليصبح منخرطا –كغيره- في "وزاره" تتلقي –وتنفذ- التعليمات وتكرس جم جهدها لعملها– وعملها فقط - اذا كان سلوكه الدائم هو وضع نفسه علي طرفي نقيض مع ثوار التحرير كلما تطلب الامر تغيير جذري حقيقي؟ (مع ملاحظة ان اعضائه جميعا بلا استثناء قد تجاوزوا سن المعاش (وبالتالي ثقافه العصر): سواء تمكنوا من اخفاء ذلك او فشلوا: سواء مكثوا في مواقعهم او قدر لهم الله ما يقدره لسائر خلقه: واتمني ان يعيشوا الي الابد ليثبتوا عكس ما اري o-0)
ورأيي ان الحكومات التي تتجاهل الظلم وتستهين بارادة الشعوب وتكتفي بالتعامل مع المشكلات اقتصاديا او امنيا (مع ملاحظة ان الحل الامني في حد ذاته –وان تم دون خسائر بشريه- ينبئ عن افلاس وفشل ذريع وضيق افق بلا حدود ويقود حتما الي مزيد من الظلم (وبالتالي مزيد من العنف والاحتجاج): كما ان الحل الاقتصادي ليس من شأنه وضع حد للمشكله وانما هو بمثابة تأجيل لها) هي حكومات تنتحر فيما تظن انها تحاول النجاه!
واغلب الظن ان هذا النوع من الحكومات لا يهتم باكثر من اضاعة الوقت واطالة امد الثورات قدر الامكان علي امل ان تنطفئ جذوتها او يتم تفريغها من مضمونها او تصاب بالاحباط ومن ثم يحصل كل طرف علي اكبر قدر من المكاسب واقل قدر من الخسائر وتنتهي المشكله
فالتفكير -مجرد التفكير- في استقاله طوعيه او خروج الي المعاش او تفرغ كل انسان لاداء ما يتقنه وما يتقنه فحسب اصبح بمثابة عيبا او امر جارح للكرامه او "تخوين" (مع الوضع في الاعتبار اننا نتحدث عن انظمه بلغت من الفساد والاستبداد بحيث لم يتوقف فيها ذلك عند حد معين بحيث يمكن لاي انسان عاقل من ان يثق فيما يحدث اليوم كما لو كان مختلفا عما سبق: وانا لا افهم بالمناسبه: ما معني ان تكون استقالة فلان تحت تصرف علان او ان اقدم استقالتي عدة مرات ولا يقبلها احد فأعود الي عملي كما لو كان شيئا لم يكن او كما لو كان عملا بالسخره)
ويلوح لي انه ما كان يصبح لحديثهم اليوم عن الثوره والديموقراطيه اية اهميه لولا ثوار التحرير ولولا ان هذه الثوره المجيده بعثتهم من مرقدهم:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق