حتي ندرك كيف ان الاحساس بالتفوق العرقي او الطائفي او الثقافي هو احساس زائف في مجمله وغير اصيل يكفي ان نعلم انه عندما استولت الفاشيه علي السلطه في ايطاليا وروسيا والمانيا في النصف الاول من القرن العشرين (وانا عندما استخدم كلمة "فاشيه" انما اشير الي المذهب التسلطي الشمولي بوجه عام او نموذج ما يسمي بالمستبد العادل) لم يكن السواد الاعظم من الناس في تلك البلدان مهيئين من الناحيه الايدولوجيه علي الاقل نحو افتتان شاذ بالقوه وكراهية الاخر: لا احد منهم كان لديه قبل ذلك الشعور الجمعي العارم بان وطنه هو سوبرمان زمانه او كامل الاوصاف او محور الكون وان غيره لا شئ: وانما اكتسبوا ذلك فيما بعد عن طريق الايدولوجيا–والتها الدعائيه- تلك التي اقنعتهم-وبعد الحاح- بان مشاعر التعصب والغطرسه طبيعيه تماما وان النزعه العدوانيه–كالغرائز-جزء من الطبيعه البشريه بل مغروسه بالكامل في بناء الانسان البيولوجي والنفسي بحيث انهم بدونها لا يكتملون ولا يكتمل انتماؤهم للوطن او الدين
ثم -وقبل ان تبدأ الحرب مباشرة- لم يكن كثير من الناس في هذه البلدان علي وشك ان يعتقدوا بان مشاعر الانتماء وحب الوطن او الدين تلك نفسها من الممكن ان تتسبب في مثل هذا التنوع العجيب من نزعات الشر والانتقام والماسي الرهيبه والدمار الشامل: ثم مثل هذا التوق–علي الجانب الاخر-للرضا بالقليل او الخضوع للظلم والجهل والخوف والقهر
لم يكن هناك سوي قله قليله فقط من الناس يدركون الاجابه علي سؤال: والام يمكن ان يوجه الانسان عواطفه وطاقاته وغرائزه (والتي تميل عادة الي الفرديه والتوهج بل والانفجار) اذا لم يوجهها للدفاع عن وطنه؟
والاهم من ذلك: كيف يحقق الانسان ذاته ويحافظ علي حقوقه وحرياته (ناهيك عن كرامته واستقلاليته وسعيه الي التنافس والجداره والعوده الي الجذور) في مجتمع كبير من الممكن ان يفترسه ويلتهمه: اي دون ان يتحول في نهاية الامر الي مجرد ترس من التروس بلا عقل او روح تميزه ؟
لقد زعزعت القوميات -التفاؤل اللا محدود–تفاؤل القرن التاسع عشر وما سبقه- بأن الانسان قادر علي ان يحافظ علي فرديته دون ان ينصهر بالكامل في الحشود والعلاقات
والواقع ان القوميات ولدت في البدايه من اجل هذا السبب الرئيسي: دمج الانسان الفرد داخل المجتمع وحشد جهوده (ولو عنوه) من اجل مصلحه عامه: مع وعد بان حكومه قويه كفيله في حد ذاتها بان تحميه وتمنحه فرص رزق وتؤمن مستقبله
وكانت تجربه جديده فلم يكن السواد الاعظم من الناس–حتي ذلك الحين- قادرين علي النظر ابعد من الانتماء الي الاسره او القبيله او القريه او الحي او المدينه او بشكل ادق: المساحه الجغرافيه التي يستطيعون ان يتجولوا داخلها بلا مشاكل امنيه خطيره: كما لم يكونوا قادرين–وبنفس القدر- علي النظر ابعد من الحاجات والمنافع الاقتصاديه الفرديه المحدوده
فلم يسبق ابدا ان عاش البشر-ومنذ ظهور الانسان علي سطح الارض- مثل هذه الحاله الرائعه التي نعيشها اليوم من اتصال وتواصل وتخاطب: اي من خلال كونهم اعضاء في مجتمع محلي او دولي واحد
وبالطبع لم يكن هناك حديث عن "علاقات دوليه" او "قانون دولي" او "عولمة" او "حوار حضارات" الخ: فلم تكن العلاقات الدوليه القائمه انذاك مؤهله لاكثر من مجرد التبادل التجاري والاستعمار والحروب (وتبادل الاسري؟)
وهكذا ظلت النزعه نحو التوسع او التجهز للمعارك العسكريه ضد جماعات وافراد من ثقافات او اديان او اعراق اخري هي الغالبه حتي علي مستوي ابناء البلد الواحد:
باختصار: كانت البشريه-خصوصا في منطقة الشرق الاوسط- لا تزال تعيش ظروف عنف واستبداد وغليان معقده للغايه ومتأصله خلت تقريبا من اي وعي اجتماعي او سياسي بل خلت حتي من رأي عام فلم تكن المجتمعات بعد قادره-في ظل بدائية تكنولوجيا الاتصالات والمواصلات- علي صنع رأي يوحد بين جمهور عريض من الشعب علي اساس من مبادئ سياسيه او اجتماعيه (ومن ثم ارتبطت تلك العصور اكثر بالحروب الاهليه والنزاعات القبليه والثورات القائمه علي مطالب اقتصاديه فئويه ومقاومة المحتل)
بل ان مفاهيم واساليب التعليم والتربيه التي كانت سائده انذاك لا يمكن مقارنتها بما يحدث اليوم اذ كانت قاصره في غالبها علي ما يمكن ان يقتنصه الفرد–وبصوره عشوائيه-من حفظ او تلقين في حلقات الدرس والكتاتيب بحيث اختلطت فيها الفتاوي بالاجتهادات والمشاعر بالافكار (الي ان ظهر جيل جديد اصبح قادرا علي الخروج بنظريات وتطبيقات قائمه علي منهج علمي منظم )
واذا كانت عملية ميلاد الدول والحضارات شديدة الندره وشديدة الختل للعيون والالباب بحيث تجعل المرء يقف امامها مشدوها كما لو كان بصدد ظاهره عجيبه نادرة الحدوث: فان ميلاد القوميات تنسحب عليه شروطا مغايره تماما:
ولا اعلم لماذا كلما قرأت عن موضوع ظهور القوميات ذاك في القرن التاسع عشر وما تلاه اعود بذاكرتي الي فيلم "حديقة الديناصورات": من حيث ان استنساخ مثل هذا النوع من الوحوش القديمه البائده القادمه من عصور سحيقه لا يمكن التنبؤ ابدا بعواقبه:
ومع ذلك قد تتكرر التجربه الاف المرات ويتكرر فشلها دون ان يتصدي احد علي مستوي الجنس البشري كله لمنعها: بل واكثر من ذلك يحاول الانسان "تجويد" فشله فيجمع فيه محتويات فكره ومشاعره او جزء منها لتكون النتيجه فشل مضاعف ليس علي مستوي التجربه وحدها وانما علي مستوي ادراكه-وادراك الاخرين- لتراثه لتكون النتيجه –في العاده- ازمة هويه
وعلي هذا النحو توجد مئات الحالات التي لا تكون فيها القوميه اكثر من مخدر او مسكن لحماية اتماءات معينه او حماية النظام السياسي القائم من نقمة النقد والناقدين والمعارضه والمعارضين او عباءه لاخفاء مثالب يكون فيها "الزعيم" من الضعه والخسه وحطة النفس ما يجعله بعيدا عن الفطره الانسانيه السويه وفي نفس الوقت بعيدا عن السؤال والحساب (ليستمر في تنصله من وعوده او التهرب من مسئوليات افعاله او ما لا يستطيع ان يفعله)
بل قد يصل الامر ان تساهم القوميه وبشكل اساسي في استنساخ زعيم من زعيم اخر ليستنسخ بدوره تجربة زعيم ثالث وهكذا (ومعروف ان هتلر نفسه كان يتمني ان يكون نسخه معدله من نابليون ونابليون كان يتمني ان يكون نسخه معدله من الاسكندر الاكبر الخ)
ومع ذلك وبمراجعه سريعه نجد ان الغالبيه العظمي من الاحزاب والحركات الوطنيه والقوميه التي ظهرت ونجحت في اكتساب اتباع تأسست كلها علي ظروف وطنيه عاجله لا يشترط ان تستمر وعلي مبادئ سياسيه واقتصاديه ذات منهج ديموقراطي:
الي حد جعل ميشيل عفلق مثلا-احد مؤسسي القوميه العربيه-يكتب يوما: "الحل امام العرب هو الوحده وطريقهم للوحده من خلال الديموقراطيه":
وفي حالة الصهيونيه-ايا كان وجه الاتفاق او الاختلاف معها- وهي لا تختلف في واقع الامر عن اي قوميه اخري- نجدها حافظت-ومنذ بدايتها-والي اليوم-علي مبادئها الديموقراطيه: بل انها اعطت المرأه حق التصويت والترشح لاي منصب حتي قبل ان تحصل علي هذا الحق في بريطانيا:
ومع ذلك -وبشكل عام- فان الصفه الاساسيه لكل وطنيه او قوميه هي انها مهيجه ومحرضه وحاشده: انما درجة التهييج او التحريض او الحشد هي التي تتفاوت من مجتمع الي اخر: ومن وقت الي اخر
وهكذا وفي حالات كثيره تستغل القوميه الظلم الذي وقع علي شعب او تلعب علي وتر التفوق علي طرف اخر ومعاداته (غالبا ما يكون بدوره قوميه اخري) او ابتكار عصبيات داخليه واتهام اطراف بالتامر والعماله الخ كيما تستمر مشاعر التمييز والتعصب متقده: فالقوميه تسأل الناس ان يكونوا دوما عاطفيين واصلاء وشرفاء و"رجال" ومنتمين وتسألهم–في نفس الوقت- ان يضحوا بعقولهم وبكل ذلك-وفي لحظة واحده- في سبيل الامن القومي والصالح العام والاستقرار (وهي مصطلحات غالبا ما تتولي القوميه وحدها مهمة تحديد معانيها واهدافها وخططها)
وهكذا قد يكون من الصعوبه الحديث عن هذا النوع او ذاك من القوميات دون ان نتحدث عن عصبة الدعائيين الديماجوجيين او اولئك الذين يتصدون لمهمه الترويج للايدولوجيا واقناع الناس بها: وهم في الغالب عناصر مدفوعه بمشاعر وقتيه هوجاء او مشاعر موروثه او مشاعر مأجوره وموظفه بصوره مباشره او غير مباشره من جانب السلطه لا تملك الا ان تؤدي ما هي مجبره عليه من مهام:
وما لا يصدقه العقل يصدق علي هؤلاء فيما يتخذونه من حيل لا يمكن ان يكون صاحبها ابدا انسان شريف منها مثلا انهم لا يكفون عن استعارة قحة العامه البسطاء للتواصل معهم والتأثير الرخيص عليهم دون ان يكون هذا من شأنه تعديل او تطوير قيم وحقائق ومشاعر ومفاهيم ملتبسه لديهم:
ويتزامن مع ذلك عادة استخدام شعارات وطنيه او دينيه علي طريق استدرار عواطف الشعب نحو ولاء اعمي للايدولوجيا او لكل ما يقوله ويفعله الزعيم (باعتبار ان الزعيم الجهبذ وحده هو الذي يعرف دائما علي نحو افضل بافضل ما يكون حين لا يكون هناك دليل او برهان فلا دليل او برهان في وجوده!)
انها نفس ايدولوجيا "الفرعون" كما شرحت مسبقا: اللعب علي تأكيد انه وحده المطلع علي ما هو خاف وهو الخاف عن كل من هو مطلع: صانع الفضل والكرامه والكبرياء وموحد البلاد: وانه "الفحل" اسر النساء: "الاسد" الشجاع الشديد في بطشه (ايا كان نوع الاسد طبعا: فارسي او سيبيري: ذكر او انثي: فكل الانواع نجدها بالسيرك): قاهر الاعداء: المحبوب من "الجميع": فلولاه لما دخل احد مدرسه ولما وجد احد عملا شريفا او شرب كوب ماء نظيف: ولما اتم طفل فطامه او وجد من يمسح له–احم- لعابه (والفقره الاخيره من عندي):
فيما لا يخلو الامر من مديح-علي الجانب الاخر-"لادراك العامه الفطري" لكل ما يقال وما يجب ان بفعلوه: وان خان العامه البسطاء احيانا الحكم الراجح (وهو شئ مفهوم طبعا في رايي ولا يدعو الي الخجل فمهمة الانسان الرئيسيه في الحياه هي ان يتعلم ويعلم والا اصبح اي حديث عن عملية تغيير او تطوير او تنميه او حتي اصلاح لا معني له): ولو انتهي الامر الي افساد النظام التعليمي والتربوي والثقافي وبشكل شبه متعمد وتفريغه من مضمونه لنجد منهم من يصب نقمته علي العلم والعلماء والثقافه والمثقفين خصوصا المستنيرين منهم او المستقلين او المعارضين ثم يدعو العامه البسطاء الي احتقارهم علي طريقة: ايها الوغد: كن وطنيا مخلصا واقرأ ما هو بلغتك او ما يعبر عن دينك وهويتك او اشتر ما هو محلي من صنع بلدك الخ (ويجب علي الانسان الواعي الفطن ان يتنبه الي ما في افكار هؤلاء من خداع فينظر الي هذا النوع من الاقاويل بشئ من الحذر بل التوجس والارتياب)
وكم يصدق هذا في المشاحنات التي تظهر علي هامش بعض الاحداث التاريخيه او العقائديه او بشكل ادق علي هامش انقاذ التاريخ والعقيده من التحريف:
وهنا يكمن جوهر "الجرم" الشنيع الذي يرتكبه نفر الديماجوجيين: خصوصا اذا ما فاقت براعتهم ضمائرهم–للاسف الشديد- ليصبحوا بحق-وهذا هو المؤلم- اساتذه لجيل جديد يصر فريق منهم -بعلم او بدون علم-بقصد او بدون قصد- علي مط شعبية "الزعيم"-حتي بعد رحيله- والي اقصي حد- كلما واتتهم الفرصه: وان اعترفوا مرات عده بنواقص هذه الحقبه او تلك والحاجه الماسه الي مراجعتها وتصحيحها (وان فشلوا في ذلك ايضا): وان انغمسوا في العديد من المغالطات خاصه فيما يتعلق بردودهم علي حالات الفساد التي حدثت في عصره: في مقابل كل هذا اللغو حول ان الزعيم كان لا يعرف او انه لم يكن قادرا علي السيطره (لارتباطه مثلا–وهذا يوضح حجم فوضي المفاهيم-بمشاعر معينه تجاه اصدقائه الذين استولوا معه علي السلطه سواء من بقي منهم فيها او من اقصي او "انتحر" في ظروف غامضه): ومع ذلك قد يعترفون علي الجانب الاخر ان "الزعيم" كان لا يترك صغيره ولا كبيره الا احصاها وانه كان يراجع "التقارير" والمراقبات والتسجيلات التي يرسلها اليه جهازه سري ويتخذ قرارا بشأنها
وفي ذلك يذكرني هؤلاء-الاساتذه والتلامذه- بصانع العاب ناريه يهم بعرض ما بذل من جهد ووقت في اعداده علي الناس–في حماس- بظن ساذج انهم لن يدركوا الفارق بين صواريخ العيد ومضاد الطائرات ثم يكتشف–بعد فوات الاوان– ان جمهوره من "الخبراء الاستراتيجيين" او من اهل المهنه –اي صانعي العاب ناريه مثله- وان اصراره علي المكابره اصبح حريا بان يفض الناس عنه (مع ملاحظة ان جيل الاساتذه-رغم تميزه- غالبا ما يخاطب جمهورا هو-بكل المقاييس–اقل انفتاحا من جمهور جيل التلامذه بحكم تطور الزمان وتعلم الانسان)
ومعلوم انه بافول كل عهد من هذه العهود عادة ما يظهر دكتاتور جديد ليكشف عن مهازل مروعه قام بها سلفه قادرة في كل مره علي صنع فيلما من عينة "الكرنك" وغيره ومن ثم تبدأ موجه جديده من مطاردة "الفلول"
ونحن عندما نتحدث عن "فلول" لا نتحدث عن مسالك فرديه وانما عن موجات اضطهاد وتعذيب وقتل جماعي ونهب منظم تليها موجات هروب (او اعتقال) بحيث يصطحب كل هارب ما خف وزنه وغلا ثمنه من "تحويشة العمر" و"مزز" و"خزانة اسرار" الخ متجها في الغالب الي دوله من تلك الدول التي كان يسميها الزعيم "دول امبرياليه استعماريه" (ربما ليحرر الامبرياليين؟)
بما يضع الراصد العليم–او ذلك الذي يملك قدر ولو قليل من الفطنه -في حيرة حقيقيه من امره واختبار صعب اشبه باختبار النبي ايوب حين قال: "الانسان ابن المرأه قصيرة هي أيامه علي هذه الأرض وطافحة بالشقاء: فهو ينمو ليقتطف كزهره وهو هارب أبدا كمن يطارده خيال لا تثابر قدماه علي درب واحد"
والحق ان استبداد بلا فساد هو قول ناقص او ساذج ان لم يكن متخفيا في هيئه لا تقوم علي اساس من ضمير: فالاستبداد والفساد هما–ومنذ البدايه-وعلي مستوي الجنس البشري كله-توأمان متلازمان لا ينفصلان ابدا اينما وجد احدهما لابد وان يكون الاخر: او كما قال القائل: "السلطه المطلقه مفسده مطلقه":
كما ان الفساد–ككل شئ-هو شئ نسبي تماما ومرتبط في صوره ودرجاته بثقافة كل عصر وظروفه والادوات المتاحه
ولنتأمل عينه من "الحكايات" لنتبين الي اي مدي استظهر هؤلاء حياة الافراد علي حياة الشعوب علي اساس من "احداث بطوليه": بما جعل حتي السطحي منها مثار اهتمام
فنجد مثلا كيف ان ذهاب انسان لمقابله افراد اخرين في مقهي او سينما او "كازينو" او محل عمل او منزل او حتي محادثته تليفونيا اصبح عملا بالغ التنوع والتعقيد امتد طولا وعرضا فيما نجد–علي الجانب الاخر-احداثا من تاريخ الحركه الوطنيه وقد شوهت او طمست او الصقت بمسميات سلبيه
بل وقد نجد ان بعض ما مجدوه من اعمال وهذا هو المضحك حقا-هو في حقيقة الامر اعمال تدين صاحبها اكثر مما تمجده بل يمكن اعتبارها بسهوله "اعمال اجراميه": اذ ما هو وجه البطوله مثلا في ان يشارك المرء في قضية تجسس او عمل تخريبي او تعذيب للحصول علي اعتراف او اغتيال شخصيه سياسيه واكثر من ذلك نجد من يعترف بانه كان شديد الحرص علي انكار ما فعل (كذب يعني) ليحافظ علي وظيفته او لينل حكم بالبراءه (قد يكون حصل عليه فعلا!)
والتاريخ الذي اميل الي اعتباره نقيضا لفن الروايه–عدا ربما في حالات قليله-هو من الحقائق ومن العام بمثابة الجغرافيا من الاوطان ولذلك ليس لانسان-او جماعه-ان يختزله في شخص او فيما قام به من اعمال (ايا كان حجم هذا العمل ونتائجه) الا بقدر ما يكون للوطن كله الحق في ذلك
ومع ذلك يبقي سلوك الانسان دالا عليه: فالانسان الوطني صاحب المبادئ لا ينتهي به الامر-بعد ان ينجح في الوصول الي السلطه- الي صدام مع رفاقه في النضال او محاولة ترويضهم او اضطهادهم وكسر شوكتهم او تلفيق التهم لهم او اتهامهم بالعماله : كما ان الانسان الوطني صاحب المبادئ لا يقلل من قيمة الشهداء
وعلي سبيل المثال: نجد هتلر بعد ان تمكن هو وحزبه من الوصول الي السلطه يستعين بجهاز امني قوي ووزارة دعايه تفند حجج السياسيين والعلماء الالمان وتصنفهم وترد عليهم وتتهم بعضهم بالعماله والحصول علي تمويل الخ بل واحيانا تتهمهم بعدم احقيتهم الانتماء للجنس الالماني نفسه (اي ليسوا المان بما يكفي) لمجرد انهم كانوا مستقلين او معارضين للفكر النازي: تمهيدا فيما بعد -وكما حدث فعلا- لدفعهم الي الهجره او تصفيتهم او قتلهم او حرقهم (وحرق كتبهم) ثم الانفراد بعقول وقلوب السواد الاعظم من الشعب
وفي حين اعطي هتلر- في خطبه وزنا كبيرا–وعلي نحو مضاعف- للجور الذي وقع علي المانيا جراء معاهدة "فرساي" وان العالم كله يتامر عليه "لمنع ظهور واعد لالمانيا متي توحدت" وما الي ذلك من شعارات عاطفيه مثل: "المانيا فوق الجميع" و "المانيا الام" و"المانيا درع اوروبا والعالم ضد المد الشيوعي" ثم "الحياد الايجابي" و"الخيار الثالث" (يقصد ما بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي) الخ: كانت الفكره نفسها–فكرة الظلم- ليس لها الا ثقل بسيط في ذهنه: فلم يكن هتلر يعبأ بعداله او سلام بل كان يكسب الوقت ليسلح الجيوش ويخوض الحروب لاخضاع اوروبا كلها-وليس المانيا فحسب- لالته العسكريه:
حتي اتفاقيات السلام والصداقه التي كان يعقدها لم تكن سوي استار يزاول من ورائها الكثير من ضروب الغدر والخداع والخسه (سماها البعض فيما بعد سياسه)
فهناك دائما الشخص الذي يكون علي استعداد لان يفعل اي شئ للتمادي في تسلطه بادعاء انه مظلوم وان الله يؤيده (فيما لا يكون لشعوره هذا عادة مبررات كافيه) وهناك–في جانب اخر-من يتنازل عن عقله ويتجاهل الاولويات والحقائق (وما تراه العين وتسمعه الاذن) بل يتجاهل واجب محاسبة الظالم واسترداد الحقوق بادعاء من "استقرار" او لصالح اهداف فرديه او فئويه
وفي كل الاحوال تعمل الة الدعايه مدعمه بالقوه الغاشمه واساليب الحرب النفسيه علي فرز الجميع والتأكيد علي تفوق الزعيم وتنمية المشاعر او الغرائز التي تفيده: وبتكرار التجربه-وهذا النوع من التجارب يمكن تكراره كثيرا وبمضامين مختلفه- قد لا يستطيع الانسان العادي-وسط الاجواء الملتهبه المشحونه- ونقص المعارف- ان يقرر-بكل مشاعر الصدق والنزاهه-من المصيب في هذه الحاله فقد يكون اي احد مخطئ!
بالضبط كما لا يستطيع المنوم مغناطيسيا ان يدرك الفارق بين ثمرة الجوافه والبطاطس فيقبل علي اكل البطاطس النيئه (بطينها) بكل الشغف الذي يأكل به الجوافه اللذيذه
وقد لا يكون من الصعب ايضا ان نجد من يصر علي ان العالم مسطحا مثلا–كما قرأ في كتب الاجداد-وليس كرويا وسوف يجادل بعنف ان الارض مسطحه مزدريا ومشككا في كل ما حصله الانسان من معارف منذ جاليليو وحتي اينشتين: فالشخص المنوم لا يستطيع ان يري او يسمع او يشعر الا ما جبل عليه او مره اخري: الغرائز والعواطف والاحكام التي يروج لها الزعيم او الامام:
وهكذا قد ينتهي الامر بان تنحصر المشاركه الشعبيه في صنع القرار السياسي بل العمل السياسي نفسه في حدود نظرية المؤامره وتظاهرات التأييد
وبالنسبه لنظرية المؤامره: فانا شخصيا اعتقد انه لا يلجأ اليها الا فريقين من الناس: من لا يعترف باخطائه-او بالحقائق–ولا ينوي الاعتراف-فيجد من التكتم والانكار بل اتهام الاخر بالتامر او العماله وسيله لابعاد الانظار واخراس الالسنه (وبالتالي اعادة تدوير ما هو رائج وتأكيد ما هو مغلوط): او من لا يعرف ولا يعرف كيف يقول: "لا اعرف"!
والسبب في ان نظرية المؤامره مثيره للاهتمام هو انها تبث في النفوس شعورا ما بالاثاره والتوحد والتجانس وتبرير الذات (مناهض -في نفس الوقت- لطرف اخر):
اما بالنسبه لتظاهرات التأييد: فانا لا افهم الفكره اصلا: بمعني لا ادرك معني دقيق للمفهوم برمته
كما لا افهم كيف تجد حكومه جاده منشغله بالكامل بالعمل والانتاج وقتا لتنظيم تظاهرات تأييد او حتي السماح بها ايا كانت حجم انجازاتها: وان بلغت السعاده بالشعب مبلغها فحسب نفسه في حديقة عدن مثلا تحفه الملائكه فلم يعد لديه من مشاكل العالم وهزائمه وانكساراته الا احصته الحكومه ووجدت له حلا
ولا افهم من اين يأتون بالميزانيه التي تمكنهم من تحريك مثل هذه التظاهرات-اذا ما فعلوا- اذا كانت رواتبهم هي كل ما يملكون (تلك التي يدفعها لهم الشعب؟)
بل لا افهم لماذا تبلغ النقمه ببعض الحكومات فينفعلون مترفعين مغاضبين حين يسألهم احد عن الارقام والحسابات او يطالبهم بعرض تقارير مفصله عن نتائج اعمالهم علي الشعب: مع كل ما يروجون له انذاك من حجج تخص الكبرياء مثل "التخوين" وخلافه (كما لو كانوا يعملون بلا مقابل)
او حين يستخدمون القوه المفرطه مع تظاهرات الاحتجاج والاعتصامات كما لو كانوا يحاربون اعداء او كما لو كانت الحكومه "الدلوعه" لا تستطيع ان تعمل تحت ضغط!
وقد تتجاوز الكوميديا كل حدود فتخرج تظاهره تأييد لمواجهة تظاهرة احتجاج او لاحتلال ميدان ردا علي احتلال ميدان اخر
وقد يحدث ذلك بعد ثوان معدوده من خروج تظاهرة الاحتجاج او بعد "تنحي" الزعيم لتطالبه بالبقاء رافعه –الي جوار صوره-ووعود التغيير-فزاعة التخويف من ان "يتزعزع الاستقرار" او ان تعصف بالبلاد "فوضي" او "تسقط الدوله" (وهم في هذه الحاله ينتقلون-وحسب الظرف -من مجرد التخويف الي التهديد المستتر وفي لمح البصر): ليعود الزعيم الي منصبه "بناءا علي ضغط الجماهير" في اليوم التالي مباشرة (قبل ان يغير احد رأيه؟)
ويباح لك ان تتخيل–وبكل حريه- معاناة اولئك القائمين علي تنظيم هذا النوع من التظاهرات عندما يتحدثون مثلا عن مطامع "الموظفين المتوحشين" الذين قد "يتصادف" انضمامهم للتظاهره وطلباتهم المبالغ بها اذ قد لا يكتفون –مع تنامي تظاهرات الاحتجاج علي الجانب الاخر- بما كانوا يحصلون عليه من قبل من وجبة طعام وبدل انتقال (بصوره وديه طبعا) بل صاروا يطالبون بمصروف يومي وتحسين نوعية الوجبات: فهم حسب رأيهم: ليسوا بصدد حضور مباراة كرة قدم مثلا لتشجيع المؤسسه التي يعملون بها وانما مهمه قوميه ذات طابع معين يخص "الامن القومي" و"الصالح العام"
وقد يلاحظ المتابع لهذا النوع من المفاوضات حجم الانسحاق الرهيب الذي يظهر علي وجوه المنظمين حين يتحول الحديث الي تفاصيل اكثر تفصيلا مثل: جمبري ام دجاج ام كفته وكباب؟ (بدلا من "الحواوشي" طبعا): ولعل هذه هي القشه التي من الممكن ان تقصم ظهور المنظمين بما لا يحتملون فتدفعهم الي نصح "الموظفين المتوحشين" بنذر انفسهم للصيام او تحذيرهم من مرض النقرس (باعتبار ان كثرة تناول اللحوم تصيب بالنقرس والنقرس سيمنعهم حتما من الخروج الي التظاهرات) او تحذيرهم من عاقبة عدم التمسك بفضيلة "القناعه"–خصوصا في ايام الجمع-فمن لا يقنع لا يأمن وقد يقع حظه العاثر-حتي في حالة قبوله "الحواوشي"-في رغيف خبز "بايت" مثلا او يظهر له "طرف ثالث" في الوقت والمكان غير المناسبين علي الاطلاق (فلا احد يدري ما الذي يمكن ان يحدث: اذ ان حالات عدم القناعه او عدم الرضا بالقليل غالبا ما يكون قرينها الشيطان وفي وجود الشيطان كل الاحتمالات مفتوحه)
والحق اننا اذا ما تتبعنا تظاهرات الشعوب-عبر التاريخ- نجد ان تظاهرات التأييد تلك ظاهره فريده تستحق الدراسه: فلم تعرف البشريه ابدا–ومنذ حادث تنافر الالسنه ببابل القديمه- تظاهرات تخرج خصيصا من اجل تأييد الحاكم (وبهذا الحجم) كما عرفتها مع الفاشيين الفاسدين بداية بالقرن العشرين:
حتي في عصور الفراعنه القدماء لم يكن الفرعون بحاجه الي تظاهرات تأييد او خلافه طالما انه مقدس فعلا كاله او ابن اله معبود عبر الاجيال وله تماثيل ومنحوتات في كافة معابد البلاد يسجد لها القاصي والداني: ولذلك كان المفهوم الوحيد للتظاهر في تلك العصور وما تلاها هو ان يخرج الناس للاحتجاج علي ظلم
وعلي اية حال فتظاهرات الاحتجاج والاعتصامات والاضرابات ظاهره موجوده بشكل شبه يومي في الدول الديموقراطيه ولعقود طويله ومع ذلك لم تتوقف الحياه ولم يعتبرها احد جلبه فارغه او شكل من اشكال التعطيل والتعطل بل علي العكس كانت دوما علامة حياه ونضج ساهمت–ومازالت تساهم-في بناء شخصية الافراد والمجتمعات وحصولهم علي حقوقهم (فيما يختفي اي اثر لتظاهرات مؤيده للحكومه بطبيعة الحال)
واظن ان الجانب الاخر لعملية تنظيم تظاهرات التأييد تلك (الي جانب تفريغ مظاهر الاحتجاج من مضمونها طبعا) واصطباغها بصبغه فرديه او فئويه: يكمن في شعور الفاشي الفاسد بالوحده بعد ان انفصل عن الناس (خشية ان يكتشف احد انه بشر؟): لقد وصل الامر به حدا انه صار لا يستطيع ان يقلب–نفسيا علي الاقل- عملية انفصاله تلك الي عملية تفاعل وتناغم وانسجام (ومحاسبه؟) بصوره طبيعيه فاضطر الي اختراع اطار زائف لها: اذ يكون قد انساق بالكامل الي ايات "التقديس" التي يجدها مع حاشيته فصار مجرد سماحه للناس بالجلوس في منازلهم لمشاهدة التليفزيون او الاستماع الي ام كلثوم مثلا (اغلبيه صامته؟) دون اظهار درجه من درجات الولاء (وان كانت مزيفه) يصيبه بالعجز ويجعله مقصرا امام نفسه:
فالروابط التي تقدم الحشد علي النتائج صارت-من وجهة نظره-اهم مما عداها: واكثر من مجرد "التسليه": بل لها علاقه بحاجته الملحه للشعور بالامان وتحقيق الذات وشهوة القوه والسيطره: الي الحد الذي يصبح معه احيانا هذا الانفصال بالمقارنه مع واجباته قويا وشديدا بشكل شبه مطلق (بالضبط كما ان الاقتراب من الشعب اصبح يثير–علي الجانب الاخر-مشاعر قلق وخوف من تهديدات محتمله حافله بالخطر وبشكل ايضا شبه مطلق): اذ لم يعد الدكتاتور جزء من عالم اكبر منه-كما هو الطبيعي- يدرك مسئولياته وحقوق الناس عنده (ومنها حق الاطلاع علي دفاتر الحسابات؟) بل اصبح فردا والعالم كله جزءا منه: لذا فانه اذا ما وقف وحده في مواجهة العالم فهو يدافع عن حق وعن مصلحه عامه
وهو الدافع نفسه الذي يجعله يزور الانتخابات وبنسبه تقترب من نسبة الاجماع فهو طبعا–وكما شرحت-لا يرضي عن الاجماع بديلا وبعد ان اصبح بديله ملعون او منبوذ
واذا عدنا الي موضوع "التنحي" فكما ان الرضيع لا يستطيع اطلاقا ان يرتد عائدا الي رحم امه سواء بيده او بيد غيره (قيسيولوجيا علي الاقل) فان الفاشي الفاسد بالمثل لا يستطيع ان يتنازل عن السلطه فهو بتنحيه لا يعرف ما الذي سيفعله بعد ذلك اذ سيصبح في نظر نفسه اشبه بجامع التحف الذي يهرب من الطبيعه من شروق الشمس وغروبها وتغريد الطيور وتراقص الاغصان ليحملق في مجموعه من النباتات الجافه وتماثيل الحيوانات المحنطه الميته او مناظر مرسومه علي قطع من نحاس هي في الغالب صور لخصومه
ولذلك ليس غريبا ان يحاول الزعيم -ولانهاء المشكله من جذورها- تصفية الطبقه الوسطي
فالطبقه الوسطي المتعلمه–وحتي ادني شرائحها- ولمن لا يعلم-هي الموكله بتحريك المجتمع وتحفيز دينامياته: وهي الطبقه المفكره المتزنه صاحبة المبادئ التي تضع علي عاتقها محاولة التوفيق بين طبقات وطوائف المجتمع فتتبني قضايا الحقوق والحريات وحقوق الانسان والمرأه والاقليات وقضايا التمييز والفساد وسوء استخدام السلطه الخ وتدافع عن الديموقراطيه بصفتها مصلحه عليا
وفي نفس الوقت تعمل الطبقه الوسطي علي ايجاد حلول مناسبه للاثار السلبيه الناتجه عن وجود طبقه ثريه متسلطه فتنحاز للعمال والفلاحين والفقراء والمستضعفين وتنادي بمواجهة الاحتكارات والطبقيه دون حرمان البلاد –في نفس الوقت-من مزايا وجود رأس مال خاص واستثمارات
وهي تفعل ذلك كله عادة بطرق هادئه وفي اطار من اسس النظام السياسي والاقتصادي والقانوني القائم: اي دون ان يقتضي ذلك بالضروره قفزات راديكاليه مفاجئه من شأنها الخروج بنتائج معقده او متناقضه او عنيفه (تبدأ عادة من القاع): ودون ان تتهم بالرومانسيه او المثاليه او العماله او الغرابه او الجنون طبعا
فالطبقه الوسطي ليست بطبيعتها طبقه ثائره بل غالبا ما تفضل الحلول الوسط
لذلك فعندما تثور الطبقه الوسطي فهذا معناه انه لم يبق امامها من وسيله للقيام بدورها الا هدم ما هو قائم وتشييد بناء جديد
وعادة ما تكون الاسباب قد تجاوزت فعلا حدود الاضطهاد والنبذ الي حد ظهور خلل خطير في بنيان المجتمع نفسه اذ غالبا ما يكون النظام القائم قد فشل بالكامل في تقديم حلول لاية مشكله وعلي كافة الاصعده بل غالبا ما يكون النظام نفسه قد انهار من داخله وتهاوت اسسه (ربما بسبب ان هناك ظلم جائر وفساد غير عادي ينخر تلك الاسس الي حد انها-وليس الاشخاص الذين سمحوا بالظلم والفساد فقط- اصبحت غير صالحه بصورتها الحاليه ومن ثم لزم تغييرها واستئصالها من جذورها؟)
والواقع ان هذا هو ما حدث بالضبط في كافة مجتمعات الشرق الاوسط-وظهر بشكل اكثر كثافه مع بداية القرن الحالي: اذ عاشت تلك المجتمعات-وبالتحديد الطبقه الوسطي - اوقاتا صعبه للغايه اوشكت فيها–وعلي الرغم من كل ما اكتسبته من معارف وخبرات وثقافة عصر- علي ان تعود كما بدأت طبقه معدمه مهمشه تماما ومحاربه في رزقها الي حد اصبح عليها ان تكافح بشده حتي تبقي حيه وموجوده
فالطبقه الثريه في هذه المجتمعات لم تستأثر بالمال والسلطه فحسب بل وانغلقت تماما علي نفسها بحيث انه كلما زادت درجة رفاهيتها زادت درجة تسلطها وتوحشها وانفصالها عن المجتمع: وبالتالي ضاعف ذلك من شعور الطبقي الوسطي-وسائر الطبقات الاخري- بالضاله والنبذ (والغضب؟) فصارت متضرره اكثر من كونها مستفيده من وجود راس المال
وهكذا صار علي الطبقه الوسطي –بعد ان ضمنت وجود عدو دائم لها في صميم اسس المجتمع- وفي ظل ظروف ازمه اقتصاديه عالميه- ان تثور لا لانها مهووسه بفكرة الثوره ولكن لانها مضطره الي ذلك
بيد ان هناك مفاجأه صنعت عامل اضاف الي الثوره الحاليه-ثورة الياسمين- زخما الي زخمها وقوه الي قوتها: فالجماهير من ابناء الطبقه الادني المعدمه (والتي تكاد تكون–في هذه الحاله-بالنسبه للطبقه الثريه المتسلطه-غير موجوده اصلا اشبه باشباح) تلك التي لم يتسن لها ابدا ان تشارك في اي شئ (وبعد ان ظننا انها رضت نهائيا بحالها وفقدت احساسها بالظلم الواقع عليها) صرنا نراها اليوم–خلاف المتوقع- تستجيب الي نداء الثوره وتخرج الي الشارع –ولاحقا الي صناديق الاقتراع- وتقدم شهداء
اكثر من ذلك اصبحت تلك الجماهير-وبسرعه قياسيه-قادره علي التعلم واكتساب مهارات وترديد مفاهيم ومصطلحات الثوره ومطالبها والتفرقه -والي حد كبير- بين الخاص والعام وبين الديموقراطي والفاشي الفاسد (وان كانت فيما يخص التفرقه بين السياسي والانتهازي الافاق الملتحف بالوطنيه والدين: الدوله المدنيه والدوله الدينيه: الديموقراطيه والانتخابات: الديموقراطيه وحكم الاغلبيه: لا تزال في حاجه الي مزيد من المحاضرات 0-×):
لقد وثقت تلك الجماهير بما وفرته لها الطبقه الوسطي من وعي وطاقه وثقافه وامل في المستقبل: واستثمرت ما اكتسبته من معارف الي حد ان مشاعرها اصبحت مستقله تماما عن القصور التي كانت تديرها منذ شهور قليله وبشكل شبه كامل:
والامر بسيط: لقد ادركت تلك الجماهير ان القصور كانت حريصه طوال الوقت علي ابقاء مظاهر الضغط والكبت والفقر والظلم والجهل لصالح استئثارها بكل مظاهر الحياه وبصوره شبه مستمره: بمعني ان تلك الجماهير ادركت ان ساكني القصور اصبحوا عقبه–ليس فقط علي طريق اشباع احتياجاتها الاقتصاديه والفسيولوجيه- وانما ايضا علي طريق تطوير الذات وتحقيق الاحلام وعلي جميع المستويات: تعليم وبيئه وصحه ودين وثقافه الخ من اجل علاقات اجتماعيه متميزه ومستقبل مشرق للاجيال التاليه
بكلمات اخري: ادرك السواد الاعظم من الشعب ان الحريه كرغيف الخبز وكالماء والهواء والدواء وان العلم كالكرامه والعداله والمساواه: مكونات اساسيه من مكونات الحياه لا يمكن استبعاد اي منها. وان قيم الديموقراطيه ومشاعرها وافكارها ليست في حاجه الي بحث او دراسه او مؤهلات او مراجع علميه وانما الي افراد يؤمنون بها وينقلونها الي غيرهم لتصبح جزءا من واقعهم:
وليس غريبا فقد اصبحت تلك الجماهير ومنذ اللحظة الاولي لخروجها الي الشارع غير محددة الكيان (اي مصدر لكل ما هو غير متوقع منها وفي اي وقت): وهو موقف –في رأيي- ثوري بامتياز
وانا اقف دوما وقفة اجلال امام قول القائل: "ان الطابع المزيف الذي يمكن ان ينتحله الانسان مرهون بالكامل باستعداد الانسان للتحكم في عواطفه وغرائزه واطلاقها في الاتجاه الصحيح: وان اشد التصرفات جمالا وكذلك اكثرها قبحا ليست جزءا من طبيعة انسانيه بيولوجيه مدفوع عليها الانسان دفعا وعلي نحو ثابت: بل هي نتيجه عمليه انسانيه واجتماعيه تشكل وجدان الانسان"
كما استنير بما ذهب اليه ارسطو من حيث ان هناك علاقه اساسيه بين الاخلاق وبين السياسه والاجتماع:
ونجد في العديد من الايات القرانيه الكريمه ما يؤكد علي ان الانسان جبل بفطرته علي الخير وان الخالق انشأه "خلق اخر" وفي "احسن تقويم" بعد ان "نفخ فيه من روحه" ففضله بذلك علي سائر خلقه وانه بتلك الروح يهديه "فييسره لليسري كما ييسره للعسري" وانه وضع علي عاتقه ان يهديه: "ان علينا للهدي وان لنا للاخرة والاولي" (قران)
بل واكثر من ذلك زرع داخله ارادة الاختيار الحر بين الخير والشر: الخطأ والصواب: الكفر والايمان
والدليل علي ان السواد الاعظم منا لا يميلون بطبيعتهم الي التعالي والشر وايذاء الناس هو انهم لا يفعلون ذلك بدافع التريض او الهوايه (كما تفعل بعض الحيوانات المفترسه الصياده) الا اذا اصابت الانسان عله نفسيه -او عقليه- معينه (مثل بعض طغاة هذه الايام) او سقط تحت تأثير ادمان الخمر او المخدر او المقامره او تحت تأثير اصدقاء السوء فزين له الشيطان عمله (وبعد الحاح) فضله عن السبيل
وحتي في الاحوال التي نكون فيها منساقين تماما وبكل جوارحنا الي اغراضنا الفرديه فاننا كثيرا ما نشعر بالذنب -واحيانا بالالم- فنتمني لو كنا قادرين علي ان نذهب الي محتاج او محروم لنقتسم معه رغيف خبز
بما يجعلنا نستطيع–وفي احلك الظروف- ان نتقدم بالمساعده لاناس قد لا نجد في صحبتهم ادني متعه او ممن لا يشاركوننا نفس الانتماء الديني او الثقافي او الوطني: واكثر من ذلك قد نتذكر من اصبناهم بمكروه ونندم ونذهب لنعتذر اليهم: ونتمني بكل قوانا لو كنا قادرين علي الا نفعل الخطأ قبل الوقوع فيه فنتبادل قدرا مقبولا من القيم الروحيه والاخلاقيه (ودون ان نستخدم تلك القيم نفسها في ان نظهر عكس ما نبطن): اذ ان مشاعر الخير كثيرا ما تهزمنا فتظهر في الوقت الذي نكون فيه قد ظننا اننا تخلصنا منها نهائيا
باختصار: حاجات الروح (فكر ومشاعر وفن وادب ومثاليات وانسانيات وجماليات وروحانيات) ليست مجرد "هلاوس" نابعه من خيال جامح او تأتي في مرتبة ادني من الغرائز كما زعم البعض بل هي جزء لا يتجزأ من الطبيعه النفسيه الموجوده في صميم الكيان–والسلوك- الانساني بحيث لا يمكن نبذه او تقليصه والا دافع هذا الجزء تلقائيا عن نفسه واعلن عن وجوده وبصوره عنيفه: وحسب القانون الطبيعي: لكل فعل رد فعل
بمعني ان هناك اتجاه اصيل لدي الانسان يدفعه تلقائيا الي الاقبال علي حب–وفعل- الخير: وبشكل حر-وبشكل شبه دائم- وعلي اساس من اختيار طوعي (ويعترف فرويد نفسه انه اذا ما وصل مستوي الضغط والكبت الي حد معين يتصاعد خطر التطرف وتظهر العصبيات Neurotics ومن ثم يميل المجتمع الي العنف: ومن المؤكد ان فرويد اكتشف العديد من الظواهر الحسيه والانفعاليه الهامه عند الفرد وقادنا داخل ثنايا النفس البشريه وجعلنا نحدق في دوافعها واستعداداتها ونفهم -وبشكل غير مسبوق- بعض ما يمكن ان يحدث من افعال وردود افعال: الا انه لم تكن لديه –في رأيي-سوي فكره ساذجه جدا–وبدائيه- عما يمكن ان يحدث علي مستوي علاقة الانسان بقدراته الاخري التي تخص الروح وعلاقة الافراد بالمجتمعات: ووجه الخطأ هو ان فرويد بني فكره كله علي ان الانسان مناهض بالفطره لما هو اجتماعي ومتحضر وجميل)
لذا ليس من وظيفة الحكومه ابدا محاولة بتر او تشذيب الاحتياجات الفسيولوجيه البدائيه للانسان الفرد وحصرها دوما في تلك الدائرة الازليه: "نقص او كفاف"
وانما وظيفة الحكومه تدعيم دوافع الانسان الايجابيه واستثمار طاقاته وتوفير البيئه المناسبه له حتي يصبح قادر-باراده حره--وبشكل شبه دائم-علي ترتيب اولوياته وانفعالاته ورغباته علي نحو منظم ومتناسق وخلاق: ناهيك عن الوصول الي صيغة اتفاق متبادل ما بين حريات الانسان وحقوقه وتطلعاته علي المستوي الشخصي وبين مسئولياته نحو مجتمعه والمجتمعات الاخري (ونحو التاريخ؟): ومن ثم يصبح الانسان الفرد قادر علي اشباع معقول لحاجاته وغرائزه الاساسيه والنهوض بمجتمعه في نفس الوقت
وبشكل تصبح معه الاهداف (خاصه وعامه) واضحه تماما في ذهنه وممكنه كما يتبدي الذهب اللامع في قاع كوب الماء الصافي: او كما يري القائد الميداني في عدساته ما يحدث بالميدان من معارك
وفي هذه الحاله تصبح عملية اشباع رغبات الانسان وحاجاته البدائيه مجرد مرحله اوليه في قاعدة الهرم تتبعها مراحل اخري من التسامي والارتقاء وباقل قدر من الضغوط (وهنا يبرز دور التربيه والتعليم والبحث العلمي وتطبيقاته)
وربما يمكن ان نضع هذا في صيغه ابسط فنقول: علي الحكومه ان تشجع الانسان علي ان يعمل وينتج ويأكل ويشرب ويتزوج وينام ويحلم ويحمي نفسه واسرته ويحافظ علي حقوقه وحرياته وكرامته ويحقق ذاته الخ ولكنه لكي يستطيع ان يفعل كل هذا عليها ان تقنعه بان يقبل ان يفعله من خلال منظومه اقتصاديه واجتماعيه وسياسيه عامه
وعلي اية حال فالمجتمع الصحيح غير المعتل لا يكون من اهدافه ابدا ان يصبح قله فيه سعداء ومثاليين واقوياء ومتميزين واصحاء ومتعلمين علي حساب الغالبيه العظمي من الشعب: المجتمع الصحيح يبذل كل ما في وسعه من اجل بيئه ترفع من قدر العلم والعمل والانتاج وفي جو من المساواه والتقدير وروح الفريق ودون جور علي المحتاج والضعيف:
والمؤكد ان مصير الانسان الحتمي والنهائي -ايا كانت قدرته علي الانعزال والانفصال والسلبيه- هو السلام: سواء علي مستوي كل مجتمع او علي مستوي المجتمعات وبعضها البعض
فالوجود الانساني هو تركيبه كيميائيه لا تكف عن التفاعل والاندماج وايضا لا تكف عن الانفجار (اذا ما غلي البركان وتصاعدت حممه )
والوجود الانساني ليس شيئا ثانويا علي الاطلاق او عديم القيمه بل له-وفي ادني صوره- وعلي مستوي كل البشر- وعلي قدر واحد من المساواه- مغزي هام للغايه وجليل لابد من احترامه ورعايته بما يستحق وبنفس الدرجه التي جعلته يستحق رعايه الله
او كما قال الملك لدانيال النبي: "اواه يا دانيال ... لو تعلم كيف هي محبة الانسان عند الله: انها محبه عظيمه لذا اسمع الكلمات واعقلها"
من اجل ذلك ظهرت نظريات اخري للاجابه عن اسئله مثل: لماذا حدثت تغيرات رئيسيه في شخصية الانسان في حقبه تاريخيه معينه بما يجعل شخصية الانسان في عصر ما اكثر عمقا ونضجا وتعقيدا من العصر الذي سبقه؟
بمعني: لماذا تظهر الي الوجود قدرات–واتجاهات- انسانيه جديده قادره علي التحضر والتطور وتختفي اخري عنيفه بحيث تضيف–او تنقص-تلك القدرات–والاتجاهات- الجديده من شخصية الانسان وروح العصر الذي يعيش فيه: ليختلف مثلا انسان–وروح-العصور القديمه عن انسان–وروح-العصور الوسطي ثم كليهما عن انسان–وروح-عصر النهضه وهكذا
وانا اطرح ذلك هنا لانه في احيان عديده كثيرا ما يستمع المرء لاقوال مثل فلان صار مثل اعلي او معلم لعلان وبالتالي يصبح علي علان ان يختار ما بين ان يصبح نسخه طبق الاصل منه (اي يحاكي كل شاردة وواردة تصدر منه سواء في مأكله او ملبسه او هيئته الخ ايا كان العصر الذي نتحدث عنه) او ان يعلن الحرب عليه ويشطب اسمه من ذاكرته ومن كتب التاريخ بل ومن شاهد قبره اذا مات فيصبح اسمه "الذي لا اسم له" او "اللهو الخفي" مثلا كما يفعل البعض اليوم للاسف الشديد: وكما كان يفعل الفراعين القدماء عندما كانوا اذا ما عاقبوا انسان عقابا شديدا كانوا يقتلونه (ايا كانت الطريقه فطرق القتل المقترن بعذاب كانت انذاك كثيره) ثم يشطبوا اسمه من الجداريات والمسلات والبرديات اي من الوجود كله كأن لم يكن: الي ان تطور الامر لاحقا فاصبحوا يحفرون اسماءهم مكان الاسم المشطوب (وتلك عاده مازالت موجوده بالمناسبه-بصوره او باخري- ولاحظتها بشكل اساسي في مصر)
وحدث ذلك مرارا في عصور مختلفه ومع ملوك عظماء اذكر منهم مثلا الملكه حتشبسوت العظيمه: الي ان توسع المدعو امون-حتب الثالث-وعلي نحو مكثف- في استخدام هذا الاسلوب فصار علامه من علامات عصره بل تحول الامر معه الي ما يشبه المنهج حاكاه فيه وزرائه وقادة جيشه فكانت النتيجه ان عاش المجتمع في ذلك العصر-ولعقود ثلاثه- ما يشبه حالة انكار جماعي غير مسبوقه الا فيما يتعلق "بالانجازات" طبعا (دع عنك الاكاذيب اذ ان حالة الانكار كثيرا ما تجبر المرء علي ان يكذب): حتي ظهر اخن-اتون بنهجه التعبيري الصادق (ماعث) فتوقفت كل هذه المظاهر (وفي سنوات قليله): اما كيف اهتدي اخن-اتون الي مخالفة ابيه هكذا دون سابق انذار: فهي من الاسرار التي صمتت عنها كتب التاريخ المقروئه (مع ملاحظة ان المكتوب كان بالنسبة لهم منحصرا فقط فيما يعتقدونه من انجازات)
في حين عادة ما تكون المسأله هي ما اذا كانت محتويات الفكر نفسه-ونتيجة نشاطه علي مستوي الواقع- مفهومه وعصريه ومناسبه وليست المسأله ان هذا الانسان او ذاك يبحث عن تقديس: اذ ان هناك فارق كبير بين المحاكاه والاقتداء: فالاقتداء هو ان يمتثل الانسان بجوهر شخصية انسان او مضمون رسالته وبشكل بعيد عن الطبيعه الشكليه للامور والمسالك الشخصيه: فالرساله هي المثل وهي المعلم وليس الشخص الزائل الذي ابلغها ايا كانت مشاعر الود والتكريم التي يستحقها (ورأيي ان جميع اطراف عملية التعليم والتعلم يستحقون نفس المشاعر الايجابيه وبصوره متبادله)
فالرساله مهيمنه ويتساوي في ذلك الجميع بما في ذلك من ابلغها ولذا لا يصح ابدا ان نساوي بين المبادئ والبشر
ويمكن ملاحظة هذه الظاهره بوضوح اكبر اذا ما حللنا اراء هذا النوع من الناس الذين يهتمون اكثر بالطبيعه الشكليه للامور والمسالك الشخصيه بخصوص موضوعات معينه: موضوعات من المفروض انها تثير اهتمامهم باعتبار انهم يتصدون لها بشكل شبه يومي: كالسياسه والاقتصاد مثلا: اسأل اي منهم عن قناعاته السياسيه والاقتصاديه البحته او ما الذي يعتقده من حلول بخصوص مشكله معينه ولماذا اختار هذا الحل او هذا المبدأ: انه سيعطيك في الغالب قدرا من الاجابات (بعضها لا علاقة له بالسؤال) بحيث لا تتجاوز تلك الاجابات ما قرأه او سمعه من اخرين: انه سيقول لك ما يقول باعتباره رأيه هو: ومع ذلك–وهذه نقطه جوهريه- فهو يؤمن فعلا انه رأيه ونتيجة تفكير!
فاذا كان يعيش في وسط ينحدر فيه الرأي من شخص الي اخر من اعلي الي اسفل او علي طريقة السمع والطاعه واحكام الثقاة فان رأيه هذا يمكن ان يكون قد انتقل عبر اناس كثيرين في رحلة الصعود والهبوط تلك وبالتالي تعرض للتحريف اكثر من مره وقد يحكم هذا الانسان-رغم ذلك- علي هذا الرأي حكما ابعد ما يكون عن الصواب فيقترب به من مرحلة الاعتقاد: فيما يكون صاحب الرأي الاصلي قد قاله في لحظه حيره او خوف الا يتطابق رأيه مع رأي محدثه
ونفس الشئ بالنسبه لرأي بعض هؤلاء في الفن او النواحي الجماليه: فقد يذهب هذا الانسان او ذاك الي الاوبرا مثلا او الي معرض رسوم فنيه فيستمع الي موسيقي او يتطلع الي رسمه ويحكم بانها جميله بل ويبتسم بكل ثقه مؤكدا علي رأيه: فاذا ما اصر شخص علي سؤاله لماذا جميله: قد يجد انه لا يملك اصلا تعاطفا داخليا حقيقيا مع الرسمه او المقطوعه او ادراك حسي بالفن او الجمال عموما يمكن من خلاله ان يميز ويشعر ويفهم ويتذوق ويحكم علي الفن والجمال ولكنه رغم ذلك مازال يعتقد انها جميله ومازال يبتسم (ربما لانه اعتاد ان يدرك انه من المفروض عليه ان يقول انها جميله؟ او لانه سمع شخص يقول انها جميله؟ او لاعتقاده ان هذا المكان لا يعرض الا كل ما هو جميل؟)
وبنفس المنطق يكون قمعه لرأي مخالف او بصيره نقديه تصرفا تلقائيا: بل ان اي مشاعر في حضوره غير الاطراء والخوف والانصياع قد تكون غير مقبوله وتدعوه الي السأم ونفاذ الصبر واحيانا تتملكه النقمه فيصف سلوك او كلام بانه يحمل تحديا او لا يعبر عن ادب واحترام ومن ثم يستحق العقاب: وقد لا يكون هناك مبرر عقلاني محدد لحكمه: وقد يكون المبرر مستترا
ولكنه بشكل عام يكون قد افتقد-علي الاقل في هذه اللحظه- الي مشاعر العداله والحق والخير والشفقه الانسانيه القويمه والي جوار ذلك كله: افتقد التفكير المنطقي المنظم: لقد تراجع كثيرا احساسه بجوهر الكرامه الانسانيه اثناء انصرافه الطويل المتواصل الي الاهتمام بالشكل والطقس والانتماءات والتصرفات الشخصيه: لقد تداعي هذا الاحساس داخله الي حد الضمور: وبذلك فقد لا يتأذي اذا ما مر بانسان يعاني من محنه وقد يرفض مساعدته: واكثر من ذلك قد يساهم في المه وعذابه علي الرغم من ان معاييره الشخصيه غالبا ما تكون اساسا اخلاقيه: علي الرغم من انه مدفوع بحكم مسئوليته-علي الاقل كبشر- بالاهتمام بالناس ومساعدتهم: لقد اصبح مدفوعا اكثر بتفسيره الشخصي جدا (الشكلي جدا؟ الوقتي جدا؟ الطقسي جدا؟) للكرامه الانسانيه
ومع ذلك قد لا اجد عذرا مع من يتعاملون مع قضايا الانتهاكات بحياد و"موضوعيه" (خصوصا تلك الانتهاكات التي تحدث اثناء ثوره نضال وطني قامت اساسا لاسقاط الاستبداد والفساد: خصوصا اذا ما تكررت الانتهاكات اكثر من مره وبنفس الطريقه: خصوصا اذا ما اقترنت بها جرائم ضد الانسانيه):
افهم تراكمات الضغط العصبي الفظيع الذي لم ينجحوا في تحمله ذلك الضغط الذي لاحقهم طويلا ربما طوال حياتهم فنسوا الفارق بين السائل والمسئول: المعتدي والمعتدي عليه: الشعب وخادمه: الضحيه والجلاد:
كما اعرف كيف انه من الصعب علي من تأبي شخصيته ان يتكيف مع افكار ومبادئ اخلاقيه جديده ان يتعرف بحسه الشخصي علي ارادة التغيير والتطوير دون ان يتضمن ذلك تجربه فذه اشبه بمعجزه او كارثه (ومثال علي ذلك ان يتحول الانسان مثلا من عادة الاكل بالطريقه الصينيه-بواسطة العصي- الي الاكل بالشوكه والسكين: ان الانسان الصيني او الكوري مثلا قد يتمكن من ان يكيف نفسه مع النموذج الجديد (الشوكه والسكين) غير ان هذا النوع من التكيف لن يكون مفيدا ولن يستمر مالم يكون الدافع من ورائه هو اضافة معالم جديده الي شخصية الانسان او تصحيح معالم –ومفاهيم- باليه عفي عليها الزمان)
نعم اعرف وافهم كل ذلك ولكنني لا استطيع ان اعذرهم
فالحياد او الانكار في هذه الحاله قد لا يكون له ما يبرره علي الاطلاق وهو ايضا شئ مهين للغايه بل مشين (بالنسبة لي علي الاقل): اشبه بمشهد التحرش الجنسي في فيلم "الشموع السوداء" حين اختبئ الاخ الخليع في حجرة حبيبة اخيه الضرير المخدوع ينتظر في خفاء فرصه للانقضاض علي فريسته حتي اذا ما انتبهت وازاحت الستائر وكشفت المستور (والمستور في هذه الحاله قد يكون اشياء كثيره) اذا به يصيح بوقاحه منقطعة النظير: مفاجأه! (كما لو ان الهدف من الاختباء هو لعبة "الغميضه" مثلا او الاحتفال بعيد ميلاد): وهكذا اذا هي تعاملت مع وقاحته ببساطه (اي دون ان تصرخ مثلا) فقد لا يبق لدي المتابع اي بقيه من تعاطف تجاهها
ففي هذه الحاله قد يتعرض الموضوع بالكامل-وبمرور الوقت- الي التحريف فلا يكون السؤال: من هو "كيس الخصي" هذا الذي يفعل ما يفعل في كل مره ثم يختفي ويظل طليقا دون محاسبه؟ كيف ترك طليقا او غير محاسبا او مستترا ؟ والي متي؟ واذا كان هناك تقصير فمن يتحمل مسئوليته؟ بقدر ما يصبح: كيف حدث ذلك؟ وكيف ارتضت هذه الفتاه توريط نفسها في هذا الموقف من البدايه؟ او اذا ما كانت الفتاه ترتدي-او لا ترتدي-ما هو لائق من الثياب قبل ان تتعرض للتحرش او الضرب!
والحق ان العقلنه ليست الحياد او امساك العصا من المنتصف: كما انها ليست اتهام الجميع بانهم مخطئين (باعتبار اننا جميعا بشر والبشر يخطئون) كما لو كنا بصدد "خناقه" مثلا وكما في الخناقات: قد يكرم المرء او يهان
وبالطبع العقلنه ليست التواطؤ والتفريط والتعميه او الخوف وايثار السلامه علي حساب الحقوق والكرامه والحريات ("غمه وتزول"؟) ثم التستر بعد ذلك وراء مظاهر توحي بالفضيله او التدين (ثم التخلي المخزي عن شهاده الحق (وهم شهود) بل واحيانا قد يصل الامر الي حد قلب الحقائق وشهادة الزور باتهام المظلوم وتبرئة الظالم: والسؤال هنا: هل اذا ما شكل هؤلاء حقا حكومه سيكون هذا حكمهم؟ وقد اجد اهمية لهذا السؤال حين يتعين علي المرء ان يبحث عن ذكر–اي ذكر -لحقوق انسان في برامجهم دون جدوي: وقد تبرز اهميته اكثر حين نكتشف ان من يشعل فتيل الازمه-في كل مره-قبل ان ينأي بنفسه بالكامل عن "ميدان" الاحداث (درءا للشبهات؟) هم هؤلاء انفسهم)
باختصار: العقلنه ليست اداه لاختراق المبادئ بل هي محاوله لايجاد تناغم بين مبادئ الانسان (وكرامته؟) والواقع المعاش
وانا عندي في هذا الصدد معيار استعرته من "جوته" Goethe: فانا اعتبر ان الانسان واضح المشاعر والمفاهيم الذي يلقاك وجها لوجه ويصارحك بقناعاته الحقيقيه هو انسان امين حري به–وان كان يختلف معك في العديد من النقاط - ان يعاملك بشرف او يتوصل معك الي تفاهم او اتفاق او حتي يعترف باخطائه ويصالحك اذا ما اخطأ في حقك اما الخصم المستتر خلف احداث تاريخيه محرفه او قناعات خفيه او مفاهيم ومشاعر مغلوطه لا يعلنها الا اذا صار يملك من اسباب القوه الباطشه: فهو انسان–اضافه الي جهله وانتهازيته- جبان بل وضيع لا يجد في نفسه الشجاعه لان يجاهر بارائه او يعترف باخطائه او نقص معارفه دون ان يخشي انكشاف امره: اذ ان المسأله بالنسبه له لم تعد رأي او مبادئ او مشاعر او افكار وانما–وكما شرحت- هي اللذه التي يجدها في الحصول علي القوه والسيطره دون ان يلقي ما هو حري به من حساب (وعقاب)
وفي حالة اذا ما كنا نتحدث عن اناس يمطون مفهوم الحريه مطا ليلائم معارفهم (وهي قليله وغامضه ولاتقوم علي اساس علمي منظم بل هي في واقع الامر نتيجة ارتجال وارث استبدادي ومنذ البدايه): ثم يخوضون الانتخابات بمفهوم "الانتخابات الاولي والاخيره" او "الانتخابات = الديموقراطيه" او "الانتخابات = الجنه" وان استباحوا لانفسهم في دعايتهم الانتخابيه استخدام-الي جوار الدين-اموال غير معلومة المصادر ولا تتناسب ابدا مع الفتره الزمنيه التي قضوها خارج السجون
واذا ما كنا نتحدث عن سلطه لصه خليعه اكتشف القاصي والداني فضيحتها ومع ذلك تصر علي الكبر والمكابره فلا تملك حتي شجاعة المصارحه بما هو مفضوح اصلا او دفع "تكاليف التوبه"
واذا كنا نتحدث عن مؤسسات باقيه علي فسادها واموال منهوبه تذهب ولا تعود ومحاكمات هزليه شكليه (سواء في صورتها السريه او العلنيه) وشهادات–ومستندات- تحتجب او تختفي ثم علي الجانب الاخر اضطهاد وقتل وضرب وسحل ودهس واتهامات بالعماله للثوار والسياسيين ومنظمات حقوق الانسان والاعلام الحر
واذا كنا نتحدث عن الاستعانه باشخاص يعملون في اي ظرف ويجيبون عن اي سؤال عادة ما تكون مبادؤهم واعمارهم واساليبهم متطابقه مع الفاشي الفاسد الذي عينهم: فيما لا تتجاوز مهامهم عادة مهمه "جس نبض الشعب" او التنبؤ باتجاه الريح ودرجة الحراره والرطوبه وحجم الضغط: اشبه بخبير الطقس (ومع ذلك فالفاشي الفاسد قد لا يعول كثيرا علي رأي خبير الطقس الذي عينه اذ كثيرا ما يعتمد علي خبراته الشخصيه (تلك التي نعرف نتائجها طبعا) للوصول الي حكم تقريبي: وهذه نقطه جوهريه: فمن المحتمل ان يحصل خبير الطقس علي صلاحيات او يأخذ الفاشي الفاسد عنه رأيا او تدعيما لرأي او نقضا له ولكن الفاشي الفاسد سيكون مستعدا وفي كل الاحوال وبيده مظلته اذ ليست الرياح كلها صيفيه كما ان خبير الطقس بشر وايا كانت قدراته قد لا يكون قادرا في كل مره علي الحكم والتنبؤ وبنفس الدقه او قد يستيقظ ضميره فيطلب الاطلاع ليس علي خارطة الاحوال الجويه فحسب وانما ايضا علي "دفاتر الحسابات" وقد يرفض دخول مكتبه–مره اخري- علي جثث الشهداء او وسط اوجاع المصابين)
واخيرا اذا ما كنا نتحدث عن حقوق وحريات وعداله اجتماعيه وكرامه انسانيه وتعدديه سياسيه وانتقال حر للسلطه
فنحن اذن نتحدث مرة اخري عن ازدواجية الحريه
وقد يكون المكسب الوحيد في هذه الحاله هو ان يسأل المرء نفسه (مرة اخري): هل اذا ما واصل الانسان المضي في هذا الطريق-وعلي هذا النحو- وفي ظل عدم وجود ضمانات-سيصل فعلا الي ديموقراطيه ؟
اذا كنا بصدد الحديث عن مصر بالتحديد: اظن انه سيكون من قبيل الغمط الا يعود الانسان بذاكرته قليلا الي الماضي: فالمثل الذي يقول لا شئ يخرج من العدم يصدق في هذا كما يصدق في اي شئ اخر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق