وعلي اية حال لم تكن التجربه الفاشيه–حتي بعد سقوطها المروع في اوروبا- ممنوعه في مصر والشرق الاوسط: بل كان المواطن البسيط-قبل المفكر والسياسي-ينظر الي هتلر بصفته وطني "جدع" وصاحب تجربه صناعيه كبري وميول غير استعماريه كما كان ينظر اليه بصفته صديقا: وكان بعض الحضور النازي كفيلا بتدعيم هذه الذهنيه: فعلي المستوي الاقتصادي نجد اتفاقيات التجاره وبعض مشروعات البنيه الاساسيه التي اقامها النازي لكسب تعاطف الناس في الشرق الاوسط (كقطار بغداد مثلا): وعلي المستوي الثقافي والسياسي: لا يمكن تجاهل سطوة فلاسفه المان من امثال فتشه وهردر علي عقول العروبيين الاوائل: رافقه اقتراب نازي ملحوظ من بعض السياسيين المشاهير (ويقال ان فاروق نفسه كان متعاطفا مع النازي الي حد انه كان يفضل–اذا ماخير- احتلال الماني علي البريطاني!)
بل وصل الامر الي ابعد من ذلك فما ان استقبل هتلر شيخ الجامع الاقصي في مقر الرايخ ببرلين حتي انتفض البعض-بكل جوارحهم- فكتبوا المقالات ونظموا الاشعار وسموا ابناءهم باسمه (كما لو كنا بصدد احد ابطال المثولوجيات القديمه) بل واعلنوا تحوله الي الاسلام (وهو ما لم يحدث طبعا كما انه لن يزيد الدين الاسلامي شرفا ان ينتسب اليه دموي مثل هتلر: ما يذكرنا بشائعة اسلام نابليون: ما يوحي ان الذهنية لم تكن قد تغيرت كثيرا بنفس السهوله التي تغير فيها شكل الطربوش او العمامه في هذا العصر او ذاك: ولا يخفي ان النازيه لمن قرأ عنها ولو قليل تحتقر جميع الاعراق والثقافات الاخري من خارج العرق الاري (ناهيك عن نسخه محليه منها) وهي فكره سخيفه علي كل حال)
ومما يثير كل دهشه ان هذا كان يحدث فيما كان هتلر وموسوليني معا يقصفان بالطائرات احياء باكملها في القاهره والاسكندريه وبشكل شبه يومي مع كل ما كان يسببه ذلك من دمار وخسائر في الارواح
وليس غريبا طبعا ان يكون غير بعيد من هذه الماسي الفكريه–وكما هي العاده-ايدولوجيات متطرفه معروفه مسبقا بارتباكها الفكري والمعرفي ومراهقتها السياسيه مثل اعضاء حزب مصر الفتاه القديم والاخوان المسلمين الخ متخذين من هوجة النازي تلك ستارا لمعارك سياسيه
ولا يخفي اننا مازلنا-والي اليوم- نجد صدي لذلك النمط العجيب من التفكير فنجد من يكبد نفسه كل هذا العناء ليبقي علي مظاهر الاكبار والتهليل التي حصل عليها بعض الطغاه قديما بينما كان باستطاعته ان يصل الي نتائج افضل كثيرا بمزاولة القليل من الفكر او عني ولو قليلا بتفحص الحقائق والادله
وعلي هذا خذ عندك: فلان–او فلانه- "نطق الشهادتين" او "من ابناء البلاد الاصليين" او وضع علي عاتقيه اقامة "وحده عربيه" او "خلافه اسلاميه" وقد يلحق بهذا النوع من المزاعم انفعال او اعمال عنف اقل ما توصف به انها صبيانيه ثم سرعان ما تتضح الحقائق فنتبين ان الامر لا اساس له او ان ذلك الفلان–او الفلانه- تراجع عن عزمه او انتمائه الجديد (وهذا من حقه طبعا واراه طبيعيا وسط هذا الجنون) او ان فلان علماني الفكر (ليبرالي او يساري) يخالفهم التفسير: ومع ذلك قد نجد فريقا منهم -وللغرابه الشديده- حتي بعد الكشف عن الحقائق والادله-لا يضيعون الفرصه دون اتهام احد بالكفر او العماله: بما يعطي انطباعا ان دوافع هؤلاء لا تكون ابدا بمعزل عن منافع معينه: سياسيه او اقتصاديه: او ان حقيقة محتويات الفكر والاراده المقترحه نفسها مشتقه من حاله ليست اصيله بل يكون الاصيل والناضج فيها هو الاستثناء (وجدير بالذكر ان الانتماء الي ديانه او ثقافه في حد ذاته لا يفرض علي الانسان ان يعادي ديانه-او ثقافه- اخري او ان يبتلعها: خصوصا تلك الديانات والثقافات التي تشترك مع ثقافته ودينه في الايمان والجذور: فلا توجد تلك الظاهره التي يستطيع الانسان من خلالها معاداة ديانه او ثقافه او جنسيه الي الابد والايه القرانيه تقول: "وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل علي الله")
ونحن اذا ما حللنا ايدولوجية عبد الناصر من الناحيه الاستراتيجيه (بعد الدروس الخصوصيه) نجد انها اساسا مزيج من افكار هؤلاء المجانين: رغبه مكثفه في القوه والسيطره والتعصب الاعمي لعرق او ثقافه او دين
ولنتفحص الهيئه التي ظهر عليها عبد الناصر عام 1956 ولنسوق عليها مثالا بهيئته قبل ذلك بعامين فقط اي قبل نجاحه مباشرة في اقصاء محمد نجيب والغاء الحياه الحزبيه وتصفية الحركه الوطنيه وجمع السواد الاعظم من الشعب اما في حزبه او البيوت او المعتقلات: لندرك كيف يمكن للتحامل الانفعالي وعدم القدره علي استحضار الفكر او كسب اصدقاء (والانفراد بالرأي والسلطه؟) ان يتسبب في ماسي كثيره
ولنتذكر ذلك الخطاب الناري اللاذع في بداية ذلك العام والذي هاجم فيه عبد الناصر الجميع تقريبا-بل ووجه لهم السباب- ملصقا نفسه بالاشتراكيه والقوميه (النازيه؟) مذكرا الشعب بالجور الذي اصاب مصر وسائر دول الشرق الاوسط جراء الاستعمار (وهو جور مؤلم طبعا وبكل المقاييس ولكن ما هو مؤلم اكثر استخدامه تمهيدا لجور اكبر: وانا اتحدث هنا عن عمليات التأميم العشوائي التي توسعت وتجاوزت قناة السويس وكبار الاقطاعيين فطالت مشروعات متوسطه لاناس شرفاء عصاميين من الطبقه الوسطي)
ثم اعود بذاكرتي اكثر الي امين عثمان –قبل يوليو 1952-وقبل اغتياله طبعا- وهو ينادي باهمية استئناف علاقات وديه مع بريطانيا بعد الجلاء (بعد ان تحدد موعده فعلا انذاك) مذكرا بمصالح مصر علي المدي البعيد (وامين عثمان لمن لا يعلم احد اقطاب الليبراليه المصريه وله تاريخ سياسي ونضالي مهم)
والقول بان الظروف التي نشأ فيها الدكتاتور والطابع السيكولوجي لشخصيته يعكس بشكل اكثر حده عملية اختياره لايدولوجيته واسلوب حكمه هو شئ صادق تماما في رأيي ويتجاوز سوء الظن
واظن ان نجيب محفوظ هو افضل من انكب علي دراسة الشخصيه المصريه في تلك الفتره بصوره اكدت للعالم كله انه لم يكن ابدا اديب عادي وان لم يفهم البعض الرساله فانتهوا الي مشاعر سلبيه ضده او محاكاة –علي الجانب الاخر-بعض الشخصيات السلبيه التي كان يرصدها في رواياته ظنا منهم –ولا اعلم كيف توصلوا الي هذه النتيجه- انه ليس في الامكان ابدع مما كان او انه كان يقصد من تصوير تلك الشخصيات الاطراء عليها او التكيف معها (وليس كشفها وتعريتها والبحث عن وسائل تغيير) فنجد–والي اليوم-من يصر علي الصاق الاستبداد والفساد (والرغبه في الخضوع) بطبيعة الشخصية المصريه كما لو كان عملا اصيلا لابد من قبوله كما يقبل الراعي ما يولد له من خراف (طالما ان مصيرها جميعا-في النهايه- سيكون سكين القصاب!)
وازعم ان شخصية عبد الناصر تمزقت–طوال حياته-ما بين مصر التي عرفها وارادها ومصر التي عرفها وارادها الشعب والتاريخ: ما بين اعجابه–ولو بصوره سريه-بالنموذج الغربي الديموقراطي ومصالحه المعلنه مع النموذج الاستبدادي: الانفراد بقوه والخضوع لاخري
فلما كان عبد الناصر قد تربي تربيه محافظه تقليديه للغايه وفي مجتمع طبقي يشكو اثار قسوه وعنف بشكل غير عادي بل اثار عبوديه واقطاع وملكيه مستهتره شبه شموليه وحمايه-وامتيازات- اجنبيه: وبالتالي حالات تمييز صريح بين الاجنبي والمصري: العامل وصاحب رأس المال: الافندي والفلاح: الجنوبي والشمالي: الذكر والانثي: المسلم وغير المسلم (بل ان الاضطهاد كان يشمل الباشا والبيه لمجرد انه نشأ عصاميا خارج محيط العائله المالكه) لابد وان كل هذه الظروف تجمعت معا وملأته بشعور متطرف بالاحباط والتحفظ تجاه الاخر من الذين كان يذكرونه دوما–ولم يكن هذا عادلا طبعا-وبأي قدر-باحساس من العجز والدونيه: حتي "الافنديه" المتعلمين من ابناء الطبقه الوسطي المثقفه او "المتفرنجين المتأمركين"–حسب تعبيره- لم يكن يتصورهم سوي هجين زائف لمجرد انهم كانوا مختلفين (وهذا هو السبب ربما وراء ذلك الشعور الذي لازمه طوال حياته للسيطره عليهم او اضطهادهم؟) بحيث قادته الظروف الي الالتحاق بالكليه الحربيه كيما يضمن -بعد تخرجه- وظيفه وراتب شهري ثابت ومركز اجتماعي وبأقل قدر ممكن من التعليم
وهكذا وفي مناخ كهذا ومن كل هذه المشاعر المتلاطمه–والعقد التاريخيه الغائره المتراكمه- وعلي هذا الاساس الشخصي جدا- جاء شوق انفعالي لعبد الناصر لان يحكم منفردا وان يحاول تشكيل وجدان جيل كان–انذاك- في وضع سيكولوجي مقارب جدا لعبد الناصر ومن هنا جاء التوافق (وهو جيل يختلف تماما -في رأيي- عن اجيال اليوم: الي حد يجعل من التباين بين ما يحدث اليوم وبين عالم ما بعد الحرب العالميه الثانيه لمما يفوق كل تصور بل يجعل من ذلك الضرب من المقارنات نفسه عديم الجدوي اذ ان سنة الحياه هي ان يسلم جيل الرايه لجيل اخر وليس ان يتسلط جيل علي جيل)
وربما كان هذا هو السر وراء احتفاظ عبد الناصر-الي اليوم- ببصمات بضاعه عفي عليها الزمان:
ولنتذكر ان الشعب المصري لم يحكم نفسه بنفسه ابدا منذ عصور الفراعنه القدماء وحتي يوليو 1952: اما وقد فعل هذا واكثر من ذلك وجد في حاكمه الاول الجديد ما يشبهه فقد يكون هذا هو الفردوس بعينه بالنسبة له! (وانا علي المستوي الشخصي -وفي هذا المجال- اؤمن بالحكمه التي تقول: ليس كل من يشبهك ملاك)
ناهيك طبعا عن القضايا الوطنيه الرئيسيه التي شهدتها تلك الفتره والتي حركت الشعب في اتجاه التضامن معه: وان اصبح خيار الشعب الصبور هو تجاهل الشكوك والتضحيه بالاولويات من اجل الخروج من بعض المأزق المؤسفه الخطيره التي تسبب فيها نظامه: وهو خطأ استراتيجي في نظري اذ عادة ما يكون صاحب الاخطاء الكبيره غير قادر علي اصلاحها: ودليلي علي ذلك هو ما يحدث اليوم ففي ظل عدم وجود قضايا تحرر رئيسيه ظهرت قضية التحرر من الفساد والاستبداد بصفتها قضيه وطنيه في حد ذاتها لا يمكن تجاهلها والا اصبح تجاهل الشعب لها–هذه المره ايضا- شيئا لا يحتمل
وقد يبدو الحديث عن اسلوب ادارة عبد الناصر للسياسه الداخليه –وهو بالمناسبه ليس لغزا محيرا-خرافيا ان لم نتحدث عن النتائج:
ولابد وان نتفق ان عصر عبد الناصر شهد البداية الحقيقيه لانكماش الاقتصاد المصري وارتفاع معدلات التضخم: كما شهد تقلص الانتاج وبداية التوسع في الاستدانه الداخليه والخارجيه ونمو الجهل والاميه والفقر ليطال الجميع (عدا الحكومه؟): كما شهد البدايه الاولي لظاهرة الجفاف والتصحر وزحف العمران الي الاراضي الزراعيه الخصبه القديمه وبداية التلوث ومن ثم بروز مشكلات بيئيه وصحيه خطيره وليدة زمانها فيما تدهورت–وتوطنت-مشكلات قديمه بسبب انها ظلت بلا حل منها مثلا مشكلات السكان والاسكان والمشكلات الاجتماعيه (اسره ومرأه وطفل) كما تدهورت الثقافه بشكل عام وظهرت–وتصاعدت- اوجه قبح وتمييز وتعصب لم تكن رائجه: بل ان الجريمه نفسها-ويا له من نذير- اتخذت اشكالا لم تكن متداوله من قبل بين المجرمين بنفس هذا الحجم (خصوصا الجرائم المرتبطه بالاخلاق والشرف والامانه) الي جانب طبعا ظهور-وتصاعد- التطرف الديني
وبنظره واحده نجد انفسنا –وبصوره جوهريه- امام مشكلة مركزيه وبيروقراطيه في اتم صورها (ولا اتحدث بالضروره عن الفساد) حين تتحول الحكومه الي الدوله والدوله الي الحكومه وحين يتحول السواد الاعظم من الشعب الي جيش جرار من الموظفين يعمل لدي الحكومه لتتحول الحكومه الي شئ أشبه بخليه سرطانيه تنمو علي ما هو متاح لها وبلا ضابط (اي دون ان تقوم بتوزيع ما تحصل عليه من مخصصات ماليه علي المحافظات الاخري المنتشره علي الخريطه وبشكل متوازن): بل ودون أن تتخذ الخليه الرئيسيه نفسها شكلا معينا أو هيئه تميزها بما يدفعها–وبشكل متنامي-الي انشاء-بل وابتكار- خلايا جديده الي حد اصبح معه اي استئصال لاي خليه يشكل حافزا جديدا لها لكي تبدأ في الانقسام مرة اخري والتغذي والتمدد وبلا توقف (والنفور في الوقت نفسه من غيرها) كما لو ان الاستئصال في حد ذاته قد استفزها!
بحيث لم تتمكن مصر ابدا- حتي بعد استرداد قناة السويس-وبعد بناء السد- من ملاحقة النمو المتزايد في اعداد المنضمين الجدد الي سوق العمل بالنسبه لما تقدمه–او ما لا تقدمه- الحكومه من فرص وخدمات وما يدخل خزائنها من موارد وما تنفقه من نفقات (كانت دوما هائله في واقع الامر: ليس فقط بسبب الفساد والبنود السوداء (سريه ومعلنه) والمجهود الحربي والحصار الاقتصادي والاستدانه بانواعها الخ وانما بسبب–مره اخري-ضخامة حجم الحكومه وعجزها عن القيام بواجباتها: اذ ظلت الحكومه دوما كالبدين العملاق ضخم الكرش الذي لا يستطيع الحركه اوالوقوف علي قدميه (ربما بسبب ثقل وزنه مقارنة بقدرة قدميه علي التحمل؟) ومع ذلك فهو مكلف بالانتقال من مكان الي اخر ومن حجره الي اخري
ولا يخفي ان دور الحكومه الرئيسي-عبر التاريخ- هو ان تقدم اكبر قدر من الخدمات باقل قدر من النفقات والتعقيد الروتيني: بحيث لا يمكن ان نصف بلد ما بانه "متحضر" او "متمدن" دون ان تصبح الحكومه قادره علي توزيع جهودها علي كامل مساحتها الجغرافيه وبشكل عادل وبالسرعه الواجبه:
وكذلك دور كل محافظه ليس استنساخ نموذج العاصمه بحذافيره او مساعدتها في تحقيق اهدافها وانما توزيع ما تحصل عليه من سلطات ومخصصات ماليه علي المدن والقري والكفور والنجوع (او المطالبه بالمزيد من السلطات والمخصصات والاصرار عليها ان لم يكن ما تحصل عليه كافيا) علي طريق تقديم خدمات
بل ظهرت المركزيه علي مستوي وزارات الحكومه نفسها فصرنا نري وزارات اعلي رتبه من غيرها (رغم اهميتها القصوي) وفي ظل معدلات انتاج منخفضه: فيما ظهرت-علي الجانب الاخر- وزارات مفتعلة تماما بلا دور حقيقي اذ كان كل دورها هو تعيين الخريجين (وخدمة وزارات اخري؟)
في الوقت الذي تحولت فيه المدن--بما في ذلك احياء كامله داخل العاصمه- الي تجمعات عمرانيه قبيحه مهمله متراصه جنباً الي جنب ومحاصره بالعشوائيات: لا تحركها سوي تلك الرغبه في التمدد والانتشار وبلا رابط يربط بينها (وليس الامر ان يصبح لدينا اكثر من مدينه–الي جوار العاصمه- قادره علي نشر اشكال وادوات ومفاهيم الحضاره في كل محافظه: كما ان العاصمه بدورها مناره حضاريه لغيرها من المدن)
والمفارقه ان الحكومات المتعاقبه–ومنذ عبد الناصر-كانت غالبا ما تلجأ الي التعميه بل والكذب-للاسف الشديد- وتلقي بمسئولية ظهور المشكلات وتفاقمها علي اكتاف الشعب فيما كانت هي–بسبب تركيبتها الاستبداديه- المسئول الوحيد عن كل ما يحدث
في الوقت الذي لم تكف فيه الحكومه عن استدرار شعبيه: ما يذكرنا تلقائيا بالموالد الشعبيه حين يصبح علي اللاعب ان يصيح مطالبا الجمهور بتشجيعه اولا والا فانه لن يلعب!
ورأيي ان الحكومه الفاشله هي التي تبرر عجزها بتصرفات السكان والزياده السكانيه: فالمشكله لا تتمثل ابدا في الزياده السكانيه والهجره الداخليه وتكدس السكان الخ كما اوحي لنا عبد الناصر (وسار علي خطاه غيره) وانما في اهمال-وبطء- وتقصير الحكومات المتعاقبه في حل المشكلات وتقديم الخدمات (الي ان تفاقم الوضع تماما في عصر الرئيس المخلوع فتحولت الهجره الداخليه الي هجره عبر البحار)
وطبيعي في دوله قامت اساسا علي الاستبداد ان يصبح الشبح الذي يطاردها دوما هو "حماية" النظام (وليس خدمة المجتمع): ليتركز الاداء والانفاق علي الجانب العسكري والامني
وبالنسبه للانفاق العسكري والامني فنحن طبعا لا نتحدث عن طفره غير عاديه في مخصصات وزارة او اكثر علي حساب وزارات اخري (وبالتالي علي حساب المواطن العادي البسيط) والتي نعلم جميعا انه قد شابها طويلا -ومازال - الكثير من الغموض والبنود السريه والتوسع في مشروعات مدنيه: اقتصاديه وترفيهيه: وانما نتحدث عن تكريس ثلث ميزانية الدوله تقريبا-ولعقود - لصالح مؤسسه واحده (سواء في حالة وجود–او عدم وجود- مجهود حربي)
كما نتحدث عن وقت وجهد غير طبيعي قضاه كل رئيس مع هذه الوزاره بالذات اكثر من غيرها الي جوار ما قدمه لها من امتيازات وما اتاحه لها من فرص دعم مالي يأتيها من الخارج
ونتحدث عن مناصب حيويه في الوزارات الاخري والمحافظات والسفارات صارت بمثابة ارث يورث للعسكر من الجيش والشرطه يديرونها بنفس سيكلوجية العسكر تقريبا!
ما بين صعود متنامي للعسكر وصل الي اعلي ذروه له مع منتصف ستينات القرن الماضي (وبقي ثابتا علي نفس المستوي تقريبا الي منتصف تسعينات القرن الماضي ابان حرب الخليج والحرب علي الارهاب): وبين صعود للمدنيين ظهر بشكل اكبر مع معاهدة السلام الي ان تجاوز المكانه البارزه للعسكر-لاول مره- مع ظهور مشروع التوريث
بما اسهم طبعا في تعاظم دور-وثقافة- العسكر في الحياه العامه بما لا يقاس: فاصبح السلوك الشائع هو استدرار الولاء او فرضه بالقوه من خلال منح امتيازات–او حجبها- بناءا علي ما يبديه "الموظف"–او المؤسسه- من "ولاء" وما يقدمه من تنازلات وبناءا علي فائدة هذا طبعا بالنسبه للزعيم فان لم يكن له فائده فهو بلا قيمه وعلي صاحبه العوض (والملاحظ هنا انه حين اراد "ولي العهد" تكريس حكم ابيه في دوله "نصف مدنيه" (بقيادته طبعا): وبعد انتصاره الجزئي في تلك المعركه المفتعله الهزليه فيما سمي انذلك معركة الحرس القديم والحرس الجديد (اي بعد ان جمع مصر كلها تقريبا في حزبه) لم يقترب بنفس القدر من العسكر (اما بسبب انه لم يقنعهم بما يكفي فتباعدوا عنه او العكس): وليس غريبا والوضع كذلك ان تتنامي داخل نفوس العسكر مشاعر متلاطمه ما بين امتعاض واحباط وخوف من ان يكونوا او يكون الجيش قد فقد مكانته وامتيازاته التي اكتسبها مع عبد الناصر (باعتبار ان عسكرة الدوله هي الاساس): وهو احساس زائف طبعا اذ ليس معني تراجعهم الي المرتبه الثانيه وتجاوز اخرين لهم انهم فقدوا شيئا)
صحيح ان مصر في عصر عبد الناصر تمكنت من الغاء الملكيه واعلنت الجمهوريه (وهو اهم انجازاتها علي الاطلاق في رأيي): وصحيح انها استردت قناة السويس وقامت بدور حيوي في دعم الاشقاء والجيران علي طريق التحرر من الاستعمار (وهو واجب عليها) ثم اقامت علاقات تعاون متميزه معهم بعد تحررهم (وهي علاقات اخوه وجيره راسخه بين الشعوب ومنذ الازل وليست مرتبطه بالضروره بمشاريع التوسع باسم الوحده او حتي الوحده من اجل الوحده):
وصحيح انه في ذلك العصر قلت الفروق بين الطبقات واولت الحكومه اهتماما بالعامل والفلاح البسيط وسخرت جانبا كبيرا من ميزانية الدوله في مشروعات تنمويه كبري: صناعه وزراعه وطاقه وري واسكان وتعليم وقوي عامله الخ: ولكن لقاء هذا ظلت التنميه الناشئه منحصره لفترات طويله في نتائج محدوده وحلول تقليديه جامده الي ان تراجعت بل تجمدت تماما مع يونيو 1967 (مع تحفظي طبعا علي كثير من هذه المشروعات سواء من حيث الجدوي او الجوده او النتائج: وبالنسبه لمشروع السد علي سبيل المثال: صحيح ان المشروع امد مصر بالطاقه ومنع الفيضان الا انه تسبب-علي الجانب الاخر- في احتجاز طمي النيل الطبيعي الذي كان يخصب التربه (فظهرت الحاجه الي بدائل صناعيه كانت مؤذيه ومكلفه بكل المقاييس) كما تسبب في حرمان مصر من جانب كبير من حصتها من المياه اذ تجمع جزء كبير من هذه المياه في الجنوب -في بحيرة - عرضة لدرجات حراره عاليه وتبخر متزايد: كما تسبب مشكلة تراجع الثروه السمكيه النيليه ومشكلة اهالي النوبه: ولا يخفي ان تلك الاثار السلبيه للمشروع ساهمت بشكل كبير في ظهور-وتفاقم-مشكلة الجفاف التي تحدثت عنها بحيث اصبحت تشكل تهديدا خطيرا ستكون له نتائج كارثيه اذا ما ظللنا عاجزين عن ايجاد حل (اذ صرنا نتحدث اليوم عن انهيار دلتا النيل بالكامل تحت ضغط متزايد من البحر المتوسط): ويلاحظ هنا انه علي الرغم من ان مشروع توشكا كان الهدف الاساسي منه هو السيطره علي الاثار الجانبيه لمشروع السد دون استبدال السد بمشروع اخر للطاقه (كمشروعات الطاقه البديله مثلا؟) الا ان توشكا لم يضع حدا ابدا لمشكلة الجفاف وحرارة الجنوب وتبخر المياه فتراجعت اهميته رغم كل ما انفق عليه):
ورغم انني شخصيا اميل الي اليسار الا انني لا اؤمن ان التأميم واحباط الملكيه الخاصه والغاء القطاع الخاص بشكل كامل وانشاء حكومه كبيره من شأنه وصفة نجاح جاهزه للاشتراكيه والقضاء علي الاحتكارات
وهكذا ليس غريبا ان يعود العامل والفلاح البسيط -بعد وقت قليل فقط من اعتقاده بانه استعاد حقوقه وكرامته- الي استجداء حقوقه وكرامته مرة اخري وبشكل اكثر حده عن ذي قبل: وربما يكون السبب ان عملية استعادة الحقوق والكرامه كانت شكليه تماما ونسبيه اذ لم يكتسبها-ومنذ البدايه- الا بقدر ما سمح به "الزعيم" وعن طريق الانتقاص من حقوق وحريات وكرامة طبقات اخري-وعلي رأسها الطبقه الوسطي المتعلمه- فيما لم يقابل ذلك بالضروره تطور ملحوظ في نوع-وكم- الخدمات المقدمه له علي جميع المستويات: تعليم وثقافه وصحه وبيئه واجتماع واقتصاد الخ
الي ان انتهي الامر لاحقا–بعد سقوط حائط برلين-الي رأسماليه مفترسه وطائشه بلا مبادئ اتخذت من السلطه رفيق لها دون الشعب بحيث باعت من خلالها الجانب الاعظم مما أممه عبد الناصر او انشأه الشعب وباسعار زهيده: فيما بقي-علي الجانب الاخر- حجم الحكومه الضخم والانفاق والاستدانه الداخليه والخارجيه علي نفس المستوي المرتفع –بل المتضاعف-وبدون ابتكار حلول جديده فيما يخص تنمية الموارد وتحفيز الانتاج (ناهيك طبعا عن خلق فرص عمل جديده واجتذاب الاستثمارات وعلي جميع المستويات: حتي القطاع السياحي ظل نموه عشوائيا وبلا تطوير حقيقي اذ ظل مرتبطا فقط بما نعرضه-وبصوره بدائيه جدا- من اثار)
وهذا يقود الي استنتاج مؤداه ان "الضباط الاحرار"-وبعد ان تحرروا- لم يقصدوا ابدا حريه ومساواه وكرامه وعداله اجتماعيه: وانما قصدوا استبدال اقطاع باخر-وارستقراطيه باخري- هو اقطاع–وارستقراطية– الدوله: بحيث انحسرت السلطه والثروه دوما في فئة قليله من "بهوات" و"باشوات" الثوره الجدد يورثونها لغيرهم من جيل الي اخر عن طريق منصب النائب (الي ان حاول الرئيس المخلوع تعديل ذلك)
بل ان اشتراكيه "الضباط الاحرار" لم تمنعهم من ان يتمازجوا ويتزاوجوا-ويالا المفارقه- بنفس طبقة الاقطاع القديمه التي ثاروا عليها: كما لو كان الشعور بالظلم الذي حركهم انتهي باستيلائهم علي السلطه (بالضبط كما لم تمنعهم الاشتراكيه من اضطهاد اليسار المصري والتنكيل به في المعتقلات):
والحق وبنظره فاحصه -اذا ما تأملنا يوليو 1952-كما ارادها "الضباط الاحرار"- من خلال السياق التاريخي المنطقي (اي بعيدا عن "حديقة الديناصورات" او في هذه الحاله: "حديقة المومياوات") ربما نعجز عن ايجاد تبرير عقلاني لظهورها علي الرغم من وجود كل مبرر واقعي ووطني: بما يجعل البعض-حتي من بلغ مستوي معين من النضج والتفكير- كثيرا ما يتملكه شعور متناقض تجاهها علي طريقة:" نعم انا مع الثوره: واظن ان مصر كانت في حاجه اليها وفي تلك الحقبه بالذات: ولكن لست مع الاشخاص الذين اداروها": وهو تناقض او حيره–علي هذا النحو-وبهذه النتيجه- قد يكون مفهوما ومرضيا في ذاته ويشبه تناقض جديد يعيشه البعض اليوم (وهناك نكته بالمناسبه علي هذا التناقض وتلك الحيره: ان شخصا استولي علي جره زجاجيه اقترضها من جاره (بحكم مرور الزمان وتقادم وجودها معه طبعا) وعندما اصر الجار علي استعادة الجره واتهمه بالسرقه اذا بالرجل الذي استولي علي الجره دون وجه حق يحضرها ويكسرها امام عينيه قائلا: اما الجره فعوضك علي الله: واما انا فلست حرامي!)
وعلي كل حال يوليو 1952 لم تكن ابدا استكمالا -او استدراكا- لمسار الحداثه (والديموقراطيه؟) الذي عرفته مصر مع سعد زغلول في مارس 1919: ولم تكن طبعا اذعانا لارادة الشعب في 25 يناير 1952 (وان بدت كذلك في البدايه):
اقرب مثال من التاريخ لما حدث في يوليو 1952 برأيي –وبكل نزاهه وموضوعيه- هو نموذج هوجة عرابي: حلقه جديده من حلقات القرن التاسع عشر والتي غالبا ما تبدأ باهداف اقتصاديه او فئويه بحته وتنتهي باهداف سياسيه: بحيث انه لولا تأخر رواتب الضباط واقصاء البعض منهم من مناصبهم-بما في ذلك عرابي نفسه- ولولا ظهور العنصر الاجنبي علي مسرح الاحداث لما تنامت مظاهرة الضباط واقتحمت وزارة الماليه ثم ذهبت فيما بعد الي عابدين للوقوف في وجه الظالم ليتطور الامر الي المطالبه بعداله شامله-ليس علي مستوي وزارة الحربيه فقط- وانما علي مستوي تغيير شكل الحكومه وعزل الخديو حتي اتسعت الحركه وتحولت الي ثوره دعمها الشعب
ونلاحظ درجة التشابه حين نرصد الاسباب التي حركت محمد نجيب ورفاقه في البدايه والتي لم تتجاوز كثيرا الاحتجاج–وسط موجة الاحتجاجات-علي نتيجة انتخابات نادي الضباط واحساسهم بأن القصر كشف هويتهم (ومن ثم لزم المبادره)
كما ان ادارة "الضباط الاحرار" للحروب (ولن اتحدث عن يونيو 1967) كانت لا تخرج عن نفس الاسلوب الذي تبناه عرابي عام 1882 تقريبا: الكر والفر والانسحاب من منطقه–او مدينه- لتأمين اخري و"المقاومه الشعبيه المسلحه" بحيث انه لولا تكاتف المتطوعين من الشعب اولئك الذين حملوا السلاح واصروا بفدائيه منقطعة النظيرعلي الدفاع عن بلادهم لما توقفت الحرب ولوقعت مصر بالكامل-وليس قناة السويس وليس سيناء- تحت مغبة الاحتلال: ولاستسلم عبد الناصر كما استسلم عرابي
وبنفس القدر لا تختلف العمليه الدعائيه في زمن "الضباط الاحرار" كثيرا عن نظيرتها في زمن عرابي اذ غلب عليها طابع الهوايه والتعتيم بل والكذب الصريح لنجد من يتحدث عن خسائر غير حقيقيه لدي الطرف المعادي ويقلب الهزائم الي اخبار انتصارات: ما يذكرنا ايضا بما كان يكتبه مؤيدي عرابي من كتاب زمانه حين كانوا يتحدثون-وبنفس الحده- وكلما اقتربت القوات الغازيه من القاهره- عن انتصارات وغنائم الي ان استيقظ السكان ذات يوم ليروا القوات البريطانيه امامهم رأي العين تتجول في الشوارع وتقيم الكمائن والمتاريس ليتم الاحتلال والتسليم
وهذا لا يعني ان القضايا الاقتصاديه او الفئويه ليست مهمه او انها لا تستدعي ثورات وانما اعني ان هذا النوع من الثورات عادة ما يبدأ باقل القليل من المبادئ والتجارب السياسيه والوطنيه تلك التي وان تجاوزت الوظيفي (العسكري) منها ما كانت لتتجاوز المحلي (فالثوره الروسيه مثلا – رغم انها كانت ثوره شعبيه خالصه- الا انها قامت بصوره اكبر علي دوافع ومبادئ اقتصاديه بحته واقل القليل من المبادئ السياسيه)
ومع ذلك فانا اؤمن ان نموذج عرابي قد يكون اكثر منطقيه واكثر عصريه وتقدميه من نموذج "الضباط الاحرار" ولا يحمل في نفس الوقت التناقض -والغربه- الذي قد نشعر به معهم اليوم: باعتبار انه من بين مطالب عرابي–الي جوار التحرر من الوصايه الاجنبيه-الانتقال من النظام الاستبدادي الي ما سماه نظام "الشوري" (وهو ما تحقق فعلا فيما بعد مع سعد زغلول)
ورأيي انه لا يمكن لنظام قائم علي مبادئ سياسيه واضحه ان تصبح مشكلته الاولي–وبصوره جوهريه- ان يدافع عن سياساته وتشريعاته بصفتها مبادئ عامه ثابته لا تتغير لتصبح مشكلته التاليه هي كيف يورث تلك السياسات والتشريعات من جيل الي اخر (ربما قبل ان تحدث الطامه الكبري ونفهم معني لتلك المبادئ اصلا وعلاقتها بالواقع والمستقبل؟ وبمناسبة المبادئ عندي سؤال: اذا لم يكن الانتفاع من صراع قائم بين طرفين متناوئين ايدولوجيا هو ابتزاز رخيص وانتهازيه فماذا يكون؟ ثم ما هو الفارق بين "تبعيه" شرقيه واخري غربيه؟ ولمن يتحدث عن سايكس-بيكو: يكفي ان نعلم انها لم تخترع جديد وانما اكدت علي حدود قديمه كان لها وجود فعلي في كتب التاريخ وفي الخرائط القديمه بل وداخل وجدان شعوب المنطقه ولالاف السنين فقبل سايكس-بيكو كان هناك –بالتأكيد- من هو قادر علي التعرف علي دول وحضارات مثل مصر وسوريا والعراق وليبيا وتونس واليمن واثيوبيا ولبنان وتركيا وايران الخ)
والدرس المستفاد: لابد علي من يضع اللبنه الاولي للعمليه الديموقراطيه –او العمليه السياسيه بوجه عام- ان يكون منها وان يمتلك من المبادئ السياسيه الديموقراطيه ما هو مؤمنا به مدركا-في نفس الوقت- ابعاد ما يقوم-وما لا يقوم- به: باعتبار ان كل يتصدي لما يخصه ولما هو معني به
ولابد وان احذر هنا من الخلط الذي يقع فيه بعض الناس حين تكتنف بعض الحكومات الفاشله او الكسوله او اللصه او التسلطيه نزعة تبرير ما تفعله–وما لا تفعله- وذلك بالايحاء المستمر ان العاملان الاقتصادي والامني وحدهما كفيلان بالاستقرار او بنقل النظام الاجتماعي والسياسي الفاشي الفاسد الي الديموقراطيه او انهما البدايه الواجبه التي لابد وان تقوم من خلالها اي نهضه وانهما يحددان وحدهما شكل هذه النهضه كما سيحددان شخصية الانسان الفرد والمجتمع
والحق ان البناء الاقتصادي والامني لمجتمع ما لا يخلو من حاجه ملحه –وفي نفس الوقت- من تنميه سياسيه واجتماعيه وثقافيه متوازيه حسب المفاهيم الجديده (الديموقراطيه) وذلك لان الظروف الفسيولوجيه–كما شرحت- ليست هي الجانب الوحيد في طبيعة الانسان: كما ان الانتخابات ليست الجانب الوحيد في طبيعه النظام الديموقراطي: واهمال الجوانب الاخري سيتسبب حتما في فجوه او في ازدواجية حريه كما شرحت وبشكل حاد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق